ج10 - ف7
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء العاشر
7- (يسوع يَظهَر ليُوَنّا امرأة خُوزي)
04 / 04 / 1945
في غرفة فاخرة، حيث يصل الضوء بصعوبة مِن الخارج، يُوَنّا تبكي، في عزلة تامّة، على مقعد قرب سرير منخفض تكسوه أغطية رائعة. تبكي وذراعها مُستنِدة إلى حافّة السرير وجبينها فوق ذراعها، جسدها ينتفض بكلّيته بفعل تنهّداتها الّتي لا بدّ أنّها تُمزّق صدرها. وحين ترفع وجهها لبرهة في ضيق خضمّ دموعها، لتتنفّس، تُرى بقعة رطبة واسعة على الغطاء الثمين، ووجهها مبلّل تماماً بالدموع. ثمّ تحني رأسها مجدّداً فوق ذراعها، ولا يعود يُرى منها سوى العُنق النحيف الّذي في غاية البياض، وكتلة شعرها البنّي، وكتفيها، والجزء العلويّ مِن الجذع الممشوق. الباقي يضيع في الظلّ الّذي يُخفي الجسد المغلّف بالثوب البنفسجيّ الغامق.
ودون تحريك ستارة أو فتح باب، يدخل يسوع، يمضي إلى جوارها مِن دون أن يُحدِث أيّ صوت. يُلامِس شعرها بيده ويسألها هامساً: «لمَ تبكين يا يُوَنّا؟»
ويُوَنّا، الّتي لا بدّ أنّها ظنّت بأنّ ملاكها هو مَن يسألها، والّتي لا ترى شيئاً كونها لا ترفع رأسها عن حافّة السرير، وبدموع أكثر حزناً، تُفصِح عن عذابها: «لأنّني ما عدتُ أملك حتّى قبر الربّ لأذهب وأذرف دموعي ولا أكون وحيدة...»
«لكنّه قام. ألستِ سعيدة بذلك؟»
«آه! بلى! إنّما كلّهنّ قد رأينه، باستثناء مرثا وأنا. ومرثا سوف تراه بالتأكيد في بيت عنيا... لأنّ المنزل هناك منزل صديق. منـزلي... منـزلي لم يعد منـزلاً صديقاً... لقد فقدتُ كلّ شيء مع آلامه... فقدتُ معلّمي ومحبّة زوجي... ونَفْسه... لأنّه لا يؤمن… لا يؤمن... ويسخر منّي... بل وحتّى يفرض عليّ عدم تكريم ذكرى مخلّصي... لئلاّ أُهلِكه... بالنسبة إليه المصالح البشريّة أهمّ... أنا... أنا... أنا لا أدري إذا كان يجدر بي أن أواصل محبّته، أو أن أشعر بالاشمئزاز تجاهه. لا أدري إذا كان عليّ أن أطيعه كما زوجة، أو أن أعصاه، كما تودّ نفسي، بسبب ارتباطي الروحيّ الحميم بالمسيح الّذي سأبقى وفيّة له... أنا... أنا، أريد أن أعرف... ومَن سينصحني إن لم تعد تستطيع يُوَنّا المسكينة الوصول إليه؟ آه! بالنسبة لربّي العذاب انتهى!... إنّما بالنسبة لي قد ابتدأ يوم الجمعة، وسيستمرّ… آه! أنا ضعيفة جدّاً ولا أقوى على حَمل هذا الصّليب!...»
«إنّما لو كان هو يساعدكِ، أفتودّين حَمله مِن أجله؟»
«آه! نعم! شرط أن يساعدني... هو يعرف ما معنى أن يحمل المرء الصّليب وحده... آه! أَشفِق على شقائي!...»
«نعم. أعرف ما معنى أن يحمل المرء الصّليب وحده. لذلك جئتُ وأنا إلى جانبكِ. يُوَنّا، أتُدرِكين مَن هو الّذي يكلّمكِ؟ ألم يعد منـزلكِ صديقاً للمسيح؟ لماذا؟ إن كان هو، زوجكِ الأرضيّ، مثل نجم مغطّى بسحابة مِن الأوخام البشريّة، فأنتِ لا تزالين يُوَنّا الّتي ليسوع. المعلّم لم يفارِقكِ. يسوع لا يفارق أبداً النفوس الّتي أصبحت عرائسه. هو سيبقى دائماً المعلّم، الصّديق، العريس، حتّى الآن وهو القائم مِن الموت. ارفعي رأسكِ يا يُوَنّا. أنظري إليّ. في ساعة التعليم السريّة هذه، وبأعذب ممّا لو كنتُ ظهرتُ لكِ كما للتلميذات الأخريات، أقول لكِ ما ينبغي أن يكون عليه سلوكك المستقبليّ. ما ينبغي أن يكون سلوك الكثيرات مِن أخواتكِ. أَحِبّي بصبر وخضوع زوجكِ المضطرب. زيدي مِن لطفكِ أكثر ممّا تختمر فيه مرارة المخاوف البشريّة، زيدي مِن تألّقكِ الروحيّ أكثر ممّا تتسبّب فيه ظلال المصالح البشريّة. كوني وفيّة بشكل مضاعف. وكوني شُجاعة في زواجكِ الروحيّ. كم مِن زوجات، في الـمستقبل، سيكون عليهنّ الاختيار بين مشيئة الله وإرادة أزواجهنّ! لكنّهن سيكنّ عظيمات، حين، فوق المحبّة والأمومة، سيتبعن الله. آلامكِ تبدأ. نعم. إنّما ترين أن كلّ ألم ينتهي بقيامة...»
ترفع يُوَنّا رأسها رويداً رويداً. وقد سكنت شهقاتها. الآن تنظر وترى، وتنـزلق على ركبتيها، عابدة وهامسة: «الربّ!»
«نعم. الربّ. ترين كيف أنّني لم أكن مع أيّة واحدة كما كنتُ معكِ. لكنّني أُلاحِظ الضرورات الخاصّة، وأوازن المعونة الّتي ينبغي عليّ منحها للنفوس الّتي تترقّب مساعدة منّي. اصعدي إلى جلجلتكِ كزوجة بمساعدة ملاطفتي وملاطفة طفلكِ البريء. لقد دخل معي إلى السماء وحَـمَّلَني ملاطفته لكِ. أُبارككِ يا يُوَنّا. آمِني. لقد خلّصتُكِ. ستـخلصين إن آمنتِ.»
الآن يُوَنّا تبتسم وتجرؤ على السؤال: «ألن تذهب للطفلين؟»
«لقد قَبَّلتُهما عند الفجر فيما كانا لا يزالان نائمين في سريرهما الصغير، وقد ظنّا بأنّني ملاك الربّ. أستطيع تقبيل الأبرياء متى أشاء. لكنّني لم أوقظهما لئلاّ أُزعجهما. إنّ نفسهما تحتفظ بذكرى قُبلتي... وفي الوقت المناسب، سوف ينقلانها إلى روحهما. ما مِن شيء يخصّني يضيع. كُوني دائماً أُمّاً لهما، وكُوني دوماً ابنةً لأُمّي. لا تنفصلي عنها أبداً بالكامل. هي، بوداعتها الأموميّة، سوف تديم ما كانت عليه صداقتنا. واصطحبي إليها الطفلين. إنّها بحاجة إلى أطفال لتشعر بأنّها أقلّ انفصالاً عن ابنها...»
«خُوزي لن يوافق...»
«خُوزي سيدعكِ تفعلين ذلك.»
«سوف يُطلّقني يا ربّ؟» صيحة تَـمَزُّق جديدة.
«إنّه نجمة معتمة. أعيديه إلى النور ببطولتكِ كزوجة، وكمسيحيّة. وداعاً. باستثناء أُمّي، لا تقولي لأيّ أحد آخر عن مجيئي. فالرؤى أيضاً لا ينبغي التكلّم عنها إلاّ إلى الّذين مِن الصائِب القيام بذلك أمامهم، وفي حينه.»
يبتسم لها يسوع وهو يتألّق، وفي هذا التألّق يختفي.
تَنهض يُوَنّا، تائهة في حلم، يتنازعها الفرح والحزن، بين خوف مِن أنّها قد حَلِمَت ويقين أنّها قد رأت، إنّما إحساسها يُطمئِنها، تَقصد الصغيريَن، اللذيَن يلعبان بهدوء في الشرفة العليا، وتعانقهما.
«أما عُدتِ تبكين يا أُمّاه؟» تَسأَل مريم بحياء. فهي لم تعد تلك الطفلة البائسة المسكينة، بل أصبحت تلك الفتاة المرهفة والرقيقة، الأنيقة الـمَلبَس والحسنة التمشيط؟ وماتياس، الأسمر والرشيق، وبحماسة صبيّ صغير لطيف يقول: «قُولي لي مَن يُبكيكِ، وأنا سوف أُعاقبه.»
يُوَنّا تحتضنهما كلاهما وتضمّهما إلى صدرها وتقول، متكلّمةً مِن فوق ضفيرة مريم الكستنائية وشعر ماتياس البنّيّ: «لن أبكي. فيسوع قام ويباركنا.»
«آه! إذاً، ما عاد ينـزف؟ ما عاد يتألّم؟» تَسأَل مريم.
«أيّتها الساذجة! قولي بالأحرى: لم يعد ميّتاً! هو سعيد الآن إذاً! إنّه لأمر بشع أن يكون المرء ميتاً...» يقول ماتياس.
«إذاً، لم يعد هناك مِن داعٍ للبكاء بعد يا أُمّاه؟» تَسأَل مريم مجدّداً.
«لا. ليس بالنسبة إليكما، إيّها الطفلان البريئان، أنتما تبتهجان مع الملائكة.»
«الملائكة!... الليلة الفائتة، لا أدري في أيّ هزيع كان ذلك، أحسستُ بملاطفة واستيقظتُ وأنا أقول: "أُمّاه!" إنّما لم أكُن أناديكِ أنتِ. كنتُ أنادي أُمّي الميتة، لأنّ تلك اللمسة كانت أرقّ وألطف مِن لمستكِ، وفَتَحتُ عينيّ لبرهة. لكنّني رأيتُ فقط نوراً ساطعاً وقلتُ: "إنّ ملاكي قَبَّلني ليُعزّيني مِن الألم الشديد الّذي أصابني حيال موت الربّ".» تقول مريم.
«أنا أيضاً. إنّما كان يغلبني النعاس وقلتُ: أهذا أنتَ؟ كنتُ أفكّر بملاكي الحارس، وكنتُ أريد أن أقول له: امض وقَبِّل يسوع ويُوَنّا كي لا يعودا خائفين بعد، لكنّني لم أتمكّن مِن ذلك. وعاودتُ النوم والحلم ثانيةً، وبدا لي أنّني كنتُ في السماء معكِ ومع مريم. ثمّ حدث ذلك الزلزال واستيقظتُ مذعوراً. لكنّ إستير قالت لي: "لا تخف. لقد انتهى"، ونمتُ مجدّداً.»
يُوَنّا تعانقهما ثانيةً ومِن ثمّ تدعهما لألعابهما الهادئة وتمضي إلى منـزل العلّية. تسأل عن مريم. تدخل إلى غرفتها. تُقفِل الباب وتقول كلمتَها العظيمة: «لقد رأيتُه. لكِ أقول ذلك. إنّني مرتاحة وسعيدة. أَحِبِّيني، لأنَّه قال أنّ عليّ أن أظلّ متّحدة بكِ.»
الأُمّ تُجيب: «لقد قلتُ لكِ إنّني أحبّكِ، خلال نهار السبت. البارحة. لأنّه كان البارحة... وهو يبدو بعيداً جدّاً، نهار الدموع والظلمات ذاك، عن نهار النور والابتسام هذا!»
«نعم... الآن أتذكّر ذلك، لقد سبق أن قلتِ لي، ما ردّدهُ لي هو الآن. قلتِ: "نحن، النسوة، علينا التصرّف، لأنّنا بقينا والرجال هربوا... هي المرأة الّتي تعطي الحياة دائماً..." آه! يا أُمّاه، ساعديني على إعطاء خُوزي الحياة! لقد تخلّى عن الإيمان!...» يُوَنّا تُعاوِد البكاء.
مريم تحتضنها بين ذراعيها: «المحبّة أقوى مِن الإيمان. إنّها الفضيلة الأكثر فاعليّة. بها سوف تخلقين النَّفْس الجديدة لخُوزي. لا تخافي. لأنّني سأساعدكِ.»