ج3 - ف50

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الثاني

 

50- (إحياء ابن أرملة نائين)

 

14 / 06 / 1945

 

يُفتَرَض أن تكون نائين ذات أهميّة أيّام يسوع. فالمدينة ليست كبيرة، ولكنّ أبنيتَها فخمة، وهي محاطة بسور، وممتدّة على رابية مُنخَفِضة وباسمة، جبل صغير داعم لِحرمون الصغير، وهي تطلّ مِن الأعلى على سهل خصيب جدّاً ممتدّ إلى الجنوب الغربي.

 

يَصِلون إليها، قادِمِين مِن عين دور، بعد اجتيازهم لمجرى مائي، هو بالتأكيد أحد فروع الأردن. ومع ذلك، فإنّ الأردن يَغيب عن الأنظار مِن ذلك المكان، حتّى واديه، لأنّ ما يُخفيه هِي روابي مِن جهة الشرق تُشكِّل قوساً يُشبه إشارة الاستفهام.

 

يَسلك يسوع إليها طريقاً رئيسيّة تَصِل منطقة البحيرة بحرمون وبلداته. ويسير خلفه عَدَد غفير مِن أهالي عين دور، لا يتوقّفون عن التحدّث فيما بينهم.

 

لا يَفصل الآن جماعة الرُّسُل عن السُّور سِوى مسافة قصيرة جدّاً: مائتي متر على الأكثر. والطريق الرئيسيّة تَدخُل إلى المدينة، بشكل مباشر، مِن خلال باب مفتوح على مِصراعيه. ذلك أنّ النهار ما يزال في أوجه. ويمكن رؤية ما يجري خلف السور بجلاء. وهكذا، يَرى يسوع، الذي كان يتحدَّث إلى رُسُله والـمُهتَدي الجديد، مَوكِباً جنائزيّاً مُقبِلاً، تُرافِقه أصوات بكاء نساء كثيرات، بِشبه أبّهة شرقية.

 

«أنمضي لنرى يا معلّم؟» يقول كثيرون. ويتهافت الكثير مِن أهالي عين دور لِيَروا ماذا في الأمر.

 

«هيّا بنا.» يقول يسوع.

 

«آه! يُفتَرَض أن يكون وَلَداً. إذ هل تَرى كَم مِن الزهور والأشرطة على النَّعش؟ يقول يهوذا الاسخريوطيّ ليوحنّا.

 

«أو قد تكون عذراء.» يجيب يوحنّا.

 

«لا، بالتأكيد هو فتى، بسبب الألوان الموضوعة، ثمّ لا يوجد آس...» يقول برتلماوس.

 

يَخرُج الموكب الجنائزيّ مِن الأسوار. ويَتعَذَّر رؤية مَن هو الكائن على النَّعش الذي يَرفَعه حامِلوه على أكتافهم. يمكن التخمين بأنّ الجسد الممدَّد داخل أكفانه والمغطّى بشرشف، مِن خلال شكله فقط، ويُقدَّر بأنه جَسَد بَلَغَ نموه الكامل، فهو أطول مِن النَّعش.

 

إلى جانبه امرأة مُوَشَّحة، يَسندها أقارب أو أصدقاء، تسير وهي تبكي. إنّها الدموع الحقيقيّة الوحيدة في هذه الـمَلهاة الدَّامِعة. وعندما صادَفَ أحد حَملة النعش حجراً، حفرة أو تحدّباً في الطريق، ممّا سبّب هزّة للنَّعش، أَنَّت الأُمّ: «آه! لا! على رِسْلكم! فلقد تألَّمَ صغيري كثيراً!» وترفع يداً مرتجفة لتمسح طرف النَّعش. لا تعرف أن تفعل أكثر، وفي عجزها ذاك، تُقَبِّل الأوشحة التي تَخفق والأشرطة التي يرفعها الهواء أحياناً، وتأتي لِتُلامس الشَّكل الممدَّد بلا حَراك.

 

«إنّها أُمّه» يقول بطرس متأثّراً، وقد تلألأت الدمعة في عينيه. ولكنّه ليس الوحيد الذي ظَهَرَت الدموع في عينيه أمام انفطار القلب هذا. فالغيور وأندراوس ويوحنّا وحتّى توما دائم الغبطة قد تلألأت الدمعة في عيونهم. فالجميع، الجميع متأثّرون بعمق. ويتمتم يهوذا الاسخريوطيّ: «لو كنتُ أنا! آه! أُمّي المسكينة...»

 

وَداعة في عينيّ يسوع لا تُوصَف، لشدّة عمقها، ويتوجّه إلى النَّعش.

 

ما إن يدور النَّعش صوب القبر المفتوح، حتّى تنتَحِب الأُمّ وبشكل أقوى. وحين ترى يسوع مُزمِعاً على لمس النعش، تُبعِده بِعُنف. مَن يدري مِن أيّ شيء يمكنها أن تخاف في هَذَيانها؟ وتصيح: «إنّه لي!» وتَنظُر إلى يسوع بعينين تائِهَتَين.

 

«أَعلَم أيّتها الأُمّ. إنّه لكِ.»

 

«إنّه ابني الوحيد! لماذا الموت له، له هو الذي كان صالحاً وكان حبيباً لي وفَرَحي كأرملة؟ لماذا؟» وتُردِّد رَهط الباكيات صيحاتهنّ الجنائزيّة المأجورة ليجعلن منها صدى للأُمّ التي تُكمِل: «لماذا هو وليس أنا؟ ليس عدلاً أن تَرَى التي أنجَبَت ثَمَرَتها تهلك. يجب أن تعيش الثَّمَرة، إذ، خلاف ذلك، ما فائدة الأحشاء التي تتمزَّق لتضع في العالم إنساناً؟» وتَضرب بطنها بوحشيّة ويأس.

 

«لا تفعلي هذا! لا تبكي أيّتها الأُمّ!» ويمسك يديها ويشدّهما بقوّة، ويبقيهما في يده اليسرى، بينما يَلمس النعش بيمناه قائلاً للحَمَلَة: «قِفوا، وأَنزِلوه أرضاً.»

 

يُطيع حَمَلَة النَّعش، ويُنـزِلون المحفّة التي تبقى محمولة على أرجلها الأربع.

 

يُمسِك يسوع بالشرشف الذي يغطّي الميت ويرميه إلى الخلف، كاشفاً عن الجثمّان. وتصرخ الأُمّ ألماً، وهي تنادي باسم ابنها، على ما أظنّ: «دانيال!»

 

يسوع، الذي ما يزال يمسك بيدي الأُمّ في يده، يَنتَصِب مِن جديد، فارِضَاً نفسه مِن جديد، فارِضَاً نفسه ببريق نظرته، وبوجهه الذي للمعجزات الأكثر سلطاناً، ومُنـزِلاً يده اليمنى، يأمر بكلّ سلطان صوته وقدرته: «أيّها الشاب! لكَ أقول: قُم!»

 

ويَنهَض الميت، كما هو، بِعُصاباته، ليَجلس على المحفّة وينادي: «أُمّاه!» يناديها بصوت مُتلَعثِمّ خائف لطفل مُرَوَّع.

 

«إنّه لكِ يا امرأة. أُعيدُه لكِ باسم الله. ساعِديه في التَّخَلُّص مِن الكَفَن. وكُونا سعيدين.»

 

يُزمِع يسوع على الانسحاب، ولكنّ الجموع تصدّه عند المحفّة حيث تنحني الأُمّ وتضيع وسط العُصابات، لتعمل بسرعة، بسرعة، بينما هَمهَمات الابن لا تَني تُردِّد: «أُمّاه! أُمّاه!»

 

انتُزِع الكَفَن وأُزيلت العصابات، وأَصبَحَ بإمكان الأُمّ وابنها أن يَتَعانَقا، ويَفعَلان ذلك دون إعارة أيّ انتباه إلى الطِّيب الذي تمسحه الأُمّ بعدئذ على الوجه الحبيب واليدين العزيزتين بالعصيبات ذاتها. ثمّ، بما أنّ لا شيء لدى الأُمّ لِتُلبِسه، تَخلَع معطفها وتُلبِسه إيّاه، وكلّ ذلك يَسمَح بملاطفته…

 

يَنظُر إليها يسوع... يَنظُر إلى ذلك الجمع الـمُتعاطِف، المتزاحِم حول المحفّة التي لم تَعُد الآن جنائزية، ويبكي. ويرى يهوذا الاسخريوطيّ دموعه فيسأله: «لماذا تبكي يا معلّم؟»

 

يُدير يسوع وجهه صوبه ويقول: «أُفكِّر بأُمّي...»

 

تلك المحادثة القصيرة تَجعَل المرأة تنتبه مِن جديد إلى الـمُحسِن إليها. وتأخذ بيد ابنها وتسنده. بالفعل إنّه كَمَن لا يزال تحت تأثير بقيّة مِن خَدَر. فتجثو وهي تقول: «أنتَ كذلك يا بنيّ، بارِك هذا القدّيس الذي أعادكَ إلى الحياة وإلى أُمّكَ.» وتنحني لتُقبِّل ثوب يسوع، بينما يُنشِد الجميع "أوشعنا" لله ولمسيحه الذي أَصبَحَ معروفاً الآن. بالفعل فإنّ الرُّسُل وأهالي عين دور قد اهتمّوا بالإفصاح عَمَّن اجتَرَحَ المعجزة.

 

يَهتف الجمع الآن: «تبارَكَ إله إسرائيل! تبارَكَ مَسيّا مُرسَله! تبارَكَ يسوع بن داود! لقد قام فينا نبيّ عظيم، وافتَقَدَ الله شعبه حقّاً! هللويا! هللويا!»

 

أخيراً يتمكّن يسوع مِن التخلُّص مِن الضغط، والدخول إلى المدينة. يتبعه الجمع ويلاحقه، مُتطلِّبين الكثير مِن حبّه.

 

يَهرَع إليه رجل ويحيّيه بعمق: «أتوسّل إليكَ أن تبقى تحت سقفي.»

 

«لا يمكنني ذلك. فالفصح يمنعني مِن كلّ التوقّفات ما عدا تلك المقرَّرَة مُسبَقاً.»

 

«خلال ساعات يَحلّ الغَسَق، واليوم هو الجمعة...»

 

«بالضبط، وعليَّ إتمام المرحَلَة قبل الغَسَق. أشكركَ على كلّ حال، ولكن لا تتمسّك بي.»

 

«ولكنّني رئيس المجمع.»

 

«وبهذا تريد القول إنّكَ تملك الحقّ بذلك. يا رجل: كان يكفي أن أتأخّر ساعة واحدة فقط حتّى لا تتمكّن تلك الأُمّ مِن استعادة ابنها. إنّني أمضي إلى حيث ينتظرني بؤساء آخرون. فلا تؤخّر فَرَحَهم بأنانيّة منكَ. سآتي مرّة أخرى، أكيد، وسأقيم عندكَ في نائين عدّة أيّام. أمّا الآن فَدَعني أذهب.»

 

لَم يَعُد الرجل يلحّ، بل يقول فقط: «وَعد. أنتظركَ.»

 

«نعم، السلام لكَ ولأهالي نائين. ولكم أيضاً يا أهالي عين دور السلام والبركة. عودوا إلى بيوتكم. لقد كَلَّمَكم الله بالمعجزة. واعمَلوا على أن تَحدُث فيكم، بفضل الحبّ المتواتر، الكثير مِن عمليّات الإحياء للخير الذي في القلوب.

 

جوقة أخيرة مِن "أوشعنا". ثمّ يَدَع الجمع يسوع يذهب، فيجتاز المدينة قُطريّاً، ويَخرُج إلى الريف صوب مرج بن عامر.