ج9 - ف20
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.
الجزء التاسع
20- (التجديد الكامل)
02 / 04 / 1944 أحد الشعانين.
يقول يسوع:
الثنائيّ يسوع-مريم هما النقيض للثنائي آدم-حواء. فهو، المقدَّر له أن يُبطِل كلّ فِعل آدم وحواء، يعيد البشريّة إلى الحالة الّتي كانت عليها لحظة خُلِقَت: غنيّة بالنِّعَم والمواهب كلّها الّتي أغدقها عليها الخالق. لقد طرأ على البشريّة تجدّد شامل نتيجة صنيعة الثنائي يسوع-مريم، اللذيَن أصبحا بذلك الأبوين الجديدين للبشريّة. كلّ الزمن السابق قد أُبطِل. وزمن وتاريخ الإنسان يُحسَب بدءاً مِن تلك اللحظة الّتي فيها حوّاء الجديدة، بتغيير شامل للخليقة، تُخرِج مِن أحشائها الطاهرة آدم الجديد، بصنيعة الربّ الإله.
ولكن لإبطال أفعال الأبوين الأوّلين، الّتي هي السبب في الآفات المميتة، التشوّه الدائم، الافتقار، وبالأكثر: الضعف الروحيّ -بعد الخطيئة كان آدم وحواء قد تجرّدا مِن كلّ ما منحهما الآب القدّوس مِن غنىً أبديّ- فقد كان على الإثنين التاليين، العمل على كلّ شيء ومِن أجل كلّ شيء بطريقة معاكسة للإثنين الأوّليَن. وبالتالي، الدفع بالطاعة إلى حدّ الكمال الّذي يتلاشى ويضحّي بنفسه في الجسد، في الأحاسيس، في الفكر، وفي الإرادة، لقبول كلّ ما يشاؤه الله. وبالنتيجة، الدفع بالطُّهر إلى حدّ العفّة المطلقة، الّتي بها الجسد... وماذا يعني الجسد لنا نحن الإثنين الطاهرين؟ وشاح ماء على الروح المنتصرة، ملاطفة نسيم على الروح الـمَلِك، كريستال يعزل الروح-السيّد ولا يُفسِده، دافع يرفع وليس ثقلاً يُوهِن. هذا هو الجسد بالنسبة لنا. أقلّ ثقلاً وحساسية مِن ثوب كتّاني، مادّة خفيفة وُضِعت بين العالم وتألّق الذات فوق البشريّة، وسيلة لفعل ما كان يشاء الله. وليس شيئاً آخر.
هل عرفنا الحبّ؟ بالتأكيد. لقد عرفنا "الحبّ الكامل". الحبّ، أيا أيّها البشر، ليس هو الجوع الحسّيّ الّذي يدفعكم لتَشبعوا بشراهة مِن جسد. هذا شبق، ليس أكثر. فحقّاً عندما تحبّون بعضكم بهذه الطريقة -وتظنّون أنّ هذا هو الحبّ- لا تعرفون أن يكون لديكم تساهل تجاه بعضكم، تعاون، غفران. فما يكون حبّكم حينئذ؟ إنّه كراهية. إنّه حصراً رغبة هذيانيّة تدفعكم إلى تفضيل مذاق طعام عَفِن على الغذاء الصحّيّ، المقوّي للأحاسيس النبيلة. لقد امتلكنا "الحبّ الكامل"، نحن العَفيفَين التَّامَّين. هذا الحبّ كان يعانق الله في السماء ومتّحداً به كما الأغصان بالجذع الّذي يغذّيها، كان ينتشر وينـزل مُغدِقاً الراحة، المأوى، الغذاء، الرفاهية على الأرض وسكّانها. لم يكن أحد مستثنىً مِن هذا الحبّ، لا ممّن هم أمثالنا، ولا الكائنات الأدنى، ولا الطبيعة النباتيّة، ولا المياه، ولا النجوم. حتّى الأشرار أنفسهم لم يكونوا مُستَبعَدين مِن هذا الحبّ. فهم أيضاً، بالفعل، رغم أنّهم أعضاء مائتون، فقد كانوا مع ذلك أعضاء في جسد الخليقة العظيم، وكنّا نرى فيهم إذاً، رغم تشوّههم ونجاستهم بسبب شرّهم، الوجه المقدّس للربّ الّذي كَوّنهم على صورته ومثاله.
فَرِحَين مع الصالحين، باكيَين على مَن لم يكونوا كذلك، مُصلّيَين (حبّ فاعل يعبّر عن ذاته بابتغاء وإحراز الحماية مِن أجل المحبوبين) مُصلّيَين مِن أجل الصالحين كي يكونوا دائماً أفضل ويقتربوا باستمرار مِن كمال الصالح الّذي يحبّنا مِن أعلى السماوات، مُصلّيَين مِن أجل المتذبذبين بين الصلاح والشرّ لكي يتشدّدوا ويعرفوا الثبات على درب القداسة، مُصلّيَين مِن أجل الأشرار لكي يتكلّم الصلاح إلى أرواحهم، يجعلهم يهوون ربما بصاعقة سلطانه، ولكن يهديهم إلى الربّ إلههم، كنّا نحبّ كما لم يحبّ إنسان. كنّا ندفع بالحبّ إلى قمّة الكمال لكي نملأ بمحيط حبّنا الهوّة الّتي حفرها قلّة حبّ الأوّلين، اللذيَن أحبّا نفسيهما أكثر مِن الله، مُريدَين أن يكون لهما أكثر مِن المسموح لكي يتفوّقا على الله. بالتالي على الطهارة، على الطاعة، على المحبّة، على التجرّد مِن كلّ ثروات الأرض: (جسد، سلطة، مال: ثلاثيّة حدود الشيطان المتعارضة مع ثلاثيّة حدود الله: إيمان، رجاء، محبّة)؛ وبالتالي [التجرّد] من الحقد، من الفجور، من الغضب، ومن الكبرياء: الأهواء الأربعة الفاسدة المتعارضة مع الفضائل المقدّسة الأربع: قوّة، قناعة، برّ، فطنة، كان علينا توحيد ممارسة ثابتة لكلّ ما كان يخالف تصرّفات الثنائيّ آدم-حواء.
وإذا، بسبب إرادتنا الطيّبة البلا حدود، كان سهلاً علينا أن نفعل الكثير، إلاّ أنّ الأزليّ وحده هو الّذي يعلم إلى أيّ مدىً كانت البطولة في إتمام تلك الممارسة في لحظات وظروف معيّنة. لا أريد هنا أن أتكلّم سوى عن واحدة فقط، وعن أُمّي، وليس عنّي. عن حوّاء الجديدة الّتي رفضت منذ حداثة سني حياتها الإطراءات الّتي استخدمها الشيطان كي يدفعها إلى قضم الثمرة وتذوق الطعم الّذي قد كان قد دفع رفيقة آدم إلى الجنون، عن حوّاء الجديدة الّتي لم تقتصر على رفض الشيطان فقط، بل والانتصار عليه بسحقه تحت إرادة الطاعة، الحبّ، العفّة، لأقصى مدى، بحيث إنّ الملعون بقي مسحوقاً ومقهوراً منها. لا! لا يقم الشيطان مِن تحت عقب أُمّي العذراء! إنّه يرغي ويزبد، يهدر ويلعن. ولكنّ لعابه يسيل إلى أسفل، ولكنّ عواءه لم يلامس الجوّ الّذي يحيط بقدّيستي، الّتي لا تشعر بالإنتان ولا تسمع انفجارات الضحك الشيطانيّة، ولم ترَ، لم ترَ حتّى اللعاب المنفّر للدنيء الأبديّ، لأنّ التناغمات السماويّة والعطور السماويّة ترقص بعشق حول الجميلة والقدّيسة، ولأنّ عينها، الأكثر نقاء مِن الزنبق، والأكثر ولهاً مِن اليمامة الهادلة، تُحدّق فقط بربّها الأزلي الّتي هي له الابنة، الأُمّ والعروس.
عندما قَتل قايين هابيل، تَفوّه فم أُمّه بلعنات أوحت بها روحها المنفصلة عن الله، ضدّ قريبها الأكثر حميميّة: ثمرة أحشائها، الـمُدنَّسة مِن الشيطان والملوَّثة بالرغبة البذيئة. وهذه اللعنة صارت اللطخة في مملكة الأخلاق البشريّة، مثل جريمة قايين الّتي هي اللطخة في مملكة الحيوان البشريّ. دم على الأرض، سُفِك بيد الأخ. أوّل دم يَجذب مثل مغناطيس ألفيّ كلّ دم تسفكه يد إنسان ساحبة إيّاه مِن أوردة الإنسان. لعنة على الأرض، تَفوّه بها فم بشريّ، كما لو أنّ الأرض لم تكن مكتفية باللعنة الّتي تسبّب بها الإنسان الثائر ضدّ إلهه، وكان عليه أن يعاني مِن الشوك وقسوة الأرض، الجفاف، البَرَد، الصقيع، القيظ، تلك [الأرض] الّتي كانت قد خُلِقت كاملة تخدمها عناصر كاملة لكي تكون مسكناً جذّاباً وجميلاً للإنسان مَلِكها.
على مريم أن تلغي حوّاء. مريم ترى قايين الثاني: يهوذا. مريم تعلم أنّه قايين ليسوعها: هابيل الثاني. وتعلم أنّ دم هابيل الثاني هذا قد باعه قايين ذاك وقد سُفِك. ولكنّها لم تلعن، إنّها تحبّ وتغفر. تحبّ وتُذَكّر.
آه! يا لأمومة مريم الشهيدة! أمومة سامية بقدر أمومتكِ البتوليّة والإلهيّة! هذه الأخيرة الله وهبها لكِ، أمّا الأولى، أيّتها الأُمّ القدّيسة، الـمُشارِكة في الفداء، فقد وَهَبتِها من ذاتكِ، لأنّك أنتِ، أنتِ وحدكِ قد عرفتِ، في تلك الساعة، بينما كنتِ تشعرين أنّ قلبكِ المنسحق مِن الجَلْد الّذي يمزّق جسدي، أن تقولي ليهوذا تلك الكلمات، أنتِ، أنتِ وحدكِ قد عرفتِ، في تلك الساعة، بينما كنتِ تشعرين أنّ الصليب يسحق قلبكِ، أن تحبّي وتغفري.
مريم: حوّاء الجديدة. تُعلّمكم الديانة الجديدة الّتي تدفع الحبّ إلى الغفران لقاتل أحد الأبناء. لا تكونوا مثل يهوذا الّذي يغلق قلبه أمام سيّدة النعمة هذه وييأس وهو يقول: "لا يمكنه أن يَغفر لي"، مرتاباً في كلام أُمّ الحقّ وبالتالي في كلامي الّذي لم يكفّ عن تكرار أنّني أتيتُ لأخلّص لا لأفقد، لأغفر لمن يأتي نحوي تائباً.
مريم: حوّاء الجديدة، نالت هي أيضاً مِن الله ابناً جديداً "بدلاً مِن هابيل الّذي قتله قايين"، ولكنّها لم تنله في ساعة فرح فظّة تخمد الألم تحت أبخرة الشهوة وإعياءات الإشباع. لقد نالته في ساعة ألم تامّ، عند أقدام الصليب، وسط حشرجات المحتضر الّذي كان ابنها، وإهانات جمع هم قتلة الله، وحزن شديد كليّ لا تستحقّه لأنّ الله أيضاً لم يكن يعزِّيها.
الحياة الجديدة للبشريّة ولكلّ إنسان تبدأ بمريم. في فضائلها وطريقة حياتها تكمن مدرستكم. وفي ألمها المتعدّد الوجوه، حتّى في الغفران نفسه لقاتل ابنها، ستجدون خلاصكم.»
***
يقول يسوع:
«يوماً ما سأكلمك بعد عن قايين والأبوين الأوّلين. هناك الكثير للقول والتأمّل فيه.»
***
02 / 04 / 1944
يقول يسوع:
«يُقرأ في التكوين: "ودعا آدم اسم امرأته حوّاء لأنّها كانت أُمّ كلّ حيّ".
آه! نعم. كانت المرأة قد وُلِدت مِن "مساواة الرجل" حيث كوّنها الله لتكون رفيقة آدم، مُشكّلاً إيّاها مِن ضلع الرجل. كانت قد وُلِدت بمصيرها المؤلم لأنّها أرادت أن تولد هكذا. لأنّها كانت تريد أن تعلم ما خبّئه الله عنها، باحتفاظه لنفسه بفرح منحها فرح ذرّيّة دون الحطّ من قَدر حواسّها. أرادت رفيقة آدم معرفة الخير الـمُخبَّأ في الشرّ، وبالأخص، الشرّ الـمُخبّأ في الخير، الخير الظاهر. وبالفعل، إذ أغواها لوسيفورس، فقد رغبت في معارف وحده الله كان يمكنه معرفتها دونما خطر، وجعلت مِن نفسها خالقة. ولكن، باستعمالها قوّة الخير هذه بلا جدارة، فقد أفسدتها جاعلة منها عملاً سيّئاً، حيث كان ذلك عصياناً لله ومكراً وطمع الجسد.
وقد كانت منذئذ "الأُمّ". نحيب لا نهاية له للأشياء حول براءة مَلِكَتها الـمُدَنَّسة! وعويل أسى مِن الـمَلِكة على هذا التدنيس، إذ أدركت أهمّيّته واستحالة إلغائه! وإن كانت الظلمات والنكبات قد صاحبت موت البريء، فكذلك الظلمات والعاصفة صاحبت موت البراءة والنعمة في قلبَيّ الأبوين الأوّلين. كان الألم قد وُلِد على الأرض. والعناية الإلهيّة لم تشأ أن يكون أبديّاً، فمنحتكم بعد سنوات مِن الألم فرح الخروج مِن الألم للدخول إلى الفرح إن عرفتم العيش بنفوس مستقيمة. ويل للإنسان إن أراد أن يعود سيّداً على الحياة بشكل بشريّ! ويعيش مع ذكريات جرائمه وتصاعدها المستمرّ، لأنّ الحياة بلا خطيئة أكثر استحالة بالنسبة إليكم مِن الحياة بلا تنفّس. أنتم يا مَن خُلِقتم لتعرفوا النور الّذي سمّمته الظلمات جاعلة منكم ضحاياها.
الظلمات! تحيط بكم باستمرار. تغلّفكم موقظة ما محاه السرّ، ولأنّكم لا تعارضونها بإرادة الانتماء إلى الله، تنجح في تسميمكم مِن جديد بسمّها الّذي جعلته المعموديّة غير مؤذٍ.
الله الآب أبعد الإنسان، الّذي كانت دلائل عصيانه واضحة، عن مكان المسرّات الفردوسيّة كي لا يخطئ ثانية وأكثر أيضاً بمدّ يده النهمة إلى شجرة الحياة. لم يكن الآب قادراً بعد على الوثوق بأولاده ولا الإحساس بالأمن في جنّته الأرضيّة. كان الشيطان قد تسلّل إليها مرّة ليخدع المخلوقَين المحظيَّين وكان قد استطاع قيادهما إلى الخطأ عندما كانا بريئين، وكان إمكانه فِعل ذلك بسهولة أكبر الآن وهما لم يعودا بريئَين.
أراد الإنسان أن يمتلك كلّ شيء دون أن يترك لله كنـز أن يكون الـمُبدِع. فليمضِ إذن مع الثروة الّتي اكتسبها بالعنف وليصحبها معه إلى أرض المنفى كي تُذكّره دائماً بخطيئته، كمَلِك مُحتَقَر ومجرّد مِن هباته. المخلوق الفردوسيّ قد صار مخلوقاً أرضيّاً. وكان مِن المفروض أن تمرّ عصور مِن الألم كي يأتي الفريد، الّذي استطاع مدّ يده إلى ثمرة الحياة، ويقطف هذه الثمرة مِن أجل كلّ البشريّة. قَطَفَها بيديه المثقوبتين وأعطاها للبشر كي يعودوا مشاركين في إرث السماء ومالكين للحياة الّتي لا تموت إلى الأبد.
يقول التكوين أيضاً: "وعرف آدم حوّاء امرأته".
كانا قد أرادا أن يعرفا أسرار الخير والشرّ. فكان مِن العدل أن يعرفا الآن كذلك ألم وجوب تكاثرهم هم أنفسهم بالجسد، وليس لهما عون مباشر مِن الله سوى فيما لا يستطيع الإنسان خلقه: الروح، شرارة تنطلق مِن الله، نسمة ينفخها فينا الله، ختم يوضع على الجسد كعلامة للخالق الأبديّ. وحوّاء وَلدت قايين. وقد كانت حوّاء تحمل خطيئتها.
ألفت انتباهكم هنا إلى أمر يغيب عن الأغلبيّة. حوّاء كانت مثقلة بخطيئتها. لم يكن الألم قد بلغ على الفور بعد مبلغاً كافياً لتقليص خطيئتها. وكجسم محمّل بالّذيفانات (سموم قاتلة) نقلت إلى ابنها ما كان يعجّ فيها. ووُلِد قايين، الابن الأول لحوّاء، قاسياً، حسوداً، سريع الغضب، فاسقاً، فاسداً، مختلفاً قليلاً عن الضواري بالنسبة للفطرة، ويفوقها كثيراً بالنسبة لما هو فائق الطبيعة، رغم أنّه في ذاته الوحشيّة كان يرفض احترام الله حيث كان ينظر إليه كعدوّ، ظانّاً أنّه مسموح له ألاّ تكون لديه عبادة صادقة. وكان الشيطان يحرّضه على السخرية مِن الله. ومَن يسخر مِن الله لا يحترم إنساناً على الأرض. كذلك أولئك المتّصلين بمن يسخرون بالأبديّ يختبرون مرارة الدموع لأنّ ليس لهم أمل في حبّ مُبَجَّل مِن أطفالهم، ولا ثقة الحبّ الوفيّ مِن القرين، ولا يقين مِن الصداقة الصادقة لدى الصديق.
دموع ودموع غسلت وجه حوّاء وغسلت قلبها بسبب قسوة ابنها، مُلقية بذرة التوبة في قلبها. دموع ودموع حقّقت لها انكماش خطيئتها، ذلك أنّ الله يغفر للتائب المتألّم. فكان للابن الثاني لحواء نَفْس غسلتها دموع والدته، وكان وديعاً مُحتَرِماً لأبويه، ومخلصاً لربّه الّذي يشعر بقدرته الفائقة الّتي تشعّ مِن السماوات. لقد كان فرح أُمّه المنسحقة.
إنّما كان ينبغي لدرب ألم حواء أن يكون طويلاً ومؤلماً، يتناسب درب اختبارها الخطيئة. في هذا الأخير، ارتعاش الحواس؛ وفي الآخَر، ارتعاش الآلام. في الواحد، القبلات؛ في الآخر، الدم. مِن الواحد، ابن؛ ومِن الآخر، موت ابن كانت تُفضّله بسبب صلاحه. هابيل صار أداة تطهير للمذنبة. ولكن يا له مِن تطهير أليم! ملأت بصراخ ألمها الأرض الـمُروَّعة مِن قاتل الأخ ومزجت دموع أُمّ بدم ابن، بينما الّذي سفك هذا الدم، كُرهاً بالله وأخيه المحبوب مِن الله، كان يهرب يتبعه ندمه.
قال الربّ لقايين: "لمَ اغتظتَ؟" لماذا، إذاً تخلّفتَ عنّي، تغتاظ مِن أنّي لم أنظر إليكَ بعناية؟
كم مِن قايين على الأرض! إنّهم يتوجّهون إليّ بتعبّد ساخر ومُراءٍ أو إنّهم لا يعبدوني على الإطلاق، ويريدون أن أنظر إليهم بحبّ وأفيض عليهم السعادة. إنّ الله هو مَلِككم، وليس خادمكم. الله أبوكم. ولكنّ الأب ليس خادماً على الإطلاق إن نظرنا إلى الأمر بالعدل. الله عادل، وأنتم لستم كذلك. ولكنّه هو العادل. فلا يمكنه بالتأكيد، إذ يغدق عليكم مِن نعمه بغير قياس إن أحببتموه قليلاً فقط، ألاّ يؤدّبكم إن احتقرتموه لهذه الدرجة. فالعدل لا يعرف طريقين. بل وحيدة هي طريقه. كما تتصرّفون يكون لكم. إن كنتم صالحين تنالون الخير. وإن كنتم أشراراً تنالون الشرّ. وثقوا، إنّ الخير الّذي تنالونه هو على الدوام أعظم مقارنة بالشرّ الّذي ينبغي أن تنالوه بسبب طريقة حياتكم بثورتكم ضدّ الشريعة الإلهيّة.
وقال الله: "أليس صحيحاً أنّكَ إن تفعل خيراً تنل الخير وإن تفعل شرّاً تربض الخطيئة في الحال عند بابكَ؟" بالفعل، الخير يؤدّي إلى رفعة روحيّة ثابتة ويجعل القدرة على فِعل الخير أعظم على الدوام حتّى بلوغ الكمال والقداسة. بينما يكفي الخضوع للشرّ حتّى يكون الانحدار والابتعاد عن الكمال، وسيطرة الخطيئة الّتي تدخل القلب وتجعله ينحطّ تدريجيّاً إلى إثم يتعاظم باستمرار.
"ولكن"، يقول الله أيضاً: "إليكَ يكون اشتياقها وأنتَ تسود عليها". نعم الله لم يجعلكم عبيداً للخطيئة. الأهواء تحتكم وليست فوقكم. الله أعطاكم الذكاء والقوّة لتسيطروا على ذواتكم. حتّى للأبوين الأوَّلَين، المضروبين بصرامة الله، ترك لهم الذكاء والقدرة الأخلاقية. ثمّ الآن، مذ أتمّ الفادي الذبيحة مِن أجلكم، فقد أضحت لكم أنهار النعمة عوناً للذكاء والقوّة، فتقدرون، بل عليكم أن تسودوا على شهوة الشرّ. بإرادتكم المدعومة بالنعمة عليكم أن تفعلوا ذلك. لذا رتّلت الملائكة عند ميلادي على الأرض: "السلام للناس ذوي الإرادة الصالحة". لقد أتيتُ كي أعيد لكم النعمة وبواسطة تحالفها مع إرادتكم الصالحة، سيأتي السلام للناس. السلام: مجد سماء الله.
"وقال قايين لأخيه: ‘فلنخرج’." كذبة تخفي الخيانة الّتي تقتل خلف ابتسامة. الإجرام دائم الخِداع لضحاياه وللعالم الّذي يسعى إلى خداعه. ويودّ خداع الله أيضاً، ولكنّ الله يقرأ ما في القلوب. ‘لنخرج’.
بعد عصور كثيرة قال أحدهم: "السلام لكَ يا معلّم"، وقَبَّله. قايين الأوّل والثاني أخفيا جريمتهما خلف مظهر مسالم وصَبّا رغبتهما، غضبهما، عنفهما وكلّ ميولهما الفطريّة السيّئة على الضحية، لأنّهما لم يسودا على نفسيهما، بل جعلا روحهما عبداً بأناهما الفاسدة.
سَمَت حوّاء في التكفير. وهبط قايين إلى جهنّم. أخذه اليأس وألقاه فيها. ومع اليأس، آخر ضربة قاتلة للروح الّذي أضحى يحتضر بسبب الجريمة، يأتي الخوف الجسديّ، الجبان، مِن العقاب البشريّ. لم يعد كائناً يَذكر السماء، الإنسان الّذي لديه روح ميتة هو حيوان يرتجف مِن الخوف على حياته الحيوانيّة. إنّ الموت، الّذي مظهره ابتسامة للأبرار لأنّهم به هم ذاهبون إلى فرح امتلاك الله، هو رعب للّذين يعلمون أنّ الموت يعني الانتقال مِن جهنّم القلب إلى جهنّم الشيطان للأبد. وكمهلوسين يرون الانتقام في كلّ مكان جاهزاً لضربهم.
إنّما اعلموا، أتكلّم إلى الأبرار، اعلموا لو أنّ تأنيب الضمير وظلمات قلب مذنب تسمح وتثير هلوسات الخاطئ، فليس مسموح لأحد أن يُنَصّب نفسه ديّاناً لأحد الإخوة، وحتّى حسيباً. واحد فقط هو الديّان: الله. وإن أقام عدلُ الإنسان المحاكم، فيجب ائتمانها على العناية بإقامة العدل، والويل للّذين يُفسِدون هذا الاسم ويحكمون بحسب أهوائهم الشخصيّة، أو تحت ضغط السلطات البشريّة. اللعنة على مَن يجعل مِن نفسه حسيباً خاصّاً لواحد مِن أمثاله! بل ولعنة أعظم على الّذين، ليس بتأثير غضب متهوّر، بل بحساب بشريّ بارد، يحكمون بالموت أو بعار السجن بدون وجه حقّ. فإن كان يقع على مَن يقتل الّذي قَتل عقاب أكبر سبعة أضعاف، كما قال الربّ بأنّه سيحصل لمن يضرب قايين، فإنّ مَن يدين بلا عدل، مِن خلال عبوديّة للشيطان بصفة سلطان بشريّ، سيُضرب سبعة وسبعين ضعفاً مِن شدّة الله. يجب أن يكون هذا حاضراً في الأذهان على الدوام، خاصّة في هذه الساعة، أيّها الناس الّذين تتقاتلون، لتجعلوا مِن الّذين يسقطون أساس انتصاركم، دون أن تعلموا بأنّكم تحفرون تحت أقدامكم فخّاً ستُلقَون فيه، ملعونين مِن الله والناس. لأنّي قلتُ: "لا تقتل".
حوّاء ترتقي على طريق تكفيرها. تعاظمت الندامة فيها أمام اختبارات خطيئتها. كانت تريد معرفة الخير والشرّ. فكانت ذكرى الخير المفقود، بالنسبة إليها، كذكرى الشمس الّتي أظلمت فجأة، والشرّ أمامها يمثل في جثّة ابنها المقتول، وحولها بسبب الفراغ الّذي تركه ابنها القاتل والهارب.
ووُلِد شيث. ومِن شيث أنوش. الكاهن الأوّل. أنتم تنفخون أذهانكم بأنهار علمكم وتتكلّمون عن التطوّر كما إشارة لتوالدكم التلقائيّ. تقولون إنّ الإنسان-الحيوان تطوّر إلى الإنسان الأسمى. نعم، هذا حقّ. ولكن بحسب طريقتي، في ميداني، لا في الّذي لكم. كلا، ليس في التحوّل مِن مصير ذوات الأربع إلى الّذي للناس، إنّما في التحوّل مِن الّذي للناس إلى الّذي للروح. وكلّما نما الروح تطوّرتم أكثر.
أنتم يا مَن تتكلّمون عن الغدد وبملء الثقة تنسبون مركز الحياة إلى الغدّة النخاميّة والغدّة الصنوبريّة، ليس فقط في الزمن الّذي تعيشون، بل أيضاً في الأزمنة السابقة، والّتي تلي حياتكم الحاليّة، فلتعلموا أنّ غدّتكم الحقيقيّة، الّتي تجعل منكم مالكي الحياة الأبديّة هي روحكم. كلّما نما أكثر كلّما امتلكتم الأنوار الإلهيّة وتطوّرتم مِن بشر إلى آلهة، آلهة لا تموت، وهكذا، دون مخالفتكم لرغبة الله، وصيّته فيما يخص شجرة الحياة، سوف تستحقّون امتلاك هذه الحياة الحقيقيّة بحسب مشيئة الله في امتلاكها، لأنّه خلقها مِن أجلكم أبديّة ومتألّقة، عناقاً طوباويّاً مع أبديّته الّتي تجذبكم بذاتها وتشارككم ملكيّاتها.
كلّما تطوّر الروح كلّما عرفتم الله أكثر. معرفة الله تعني محبّته وخدمته، وبهذا تكونون قادرين على التضرّع إليه مِن أجل أنفسكم والآخرين. وبالتالي تصيرون الكَهَنَة الّذين يتضرّعون مِن الأرض لأجل إخوتهم. إنّ المكرّس كاهن هو، إنّها هو كذلك المؤمن الواثق، الوفيّ، المفعم حبّاً. وهو بالأخصّ النفس الضحية الّتي تبذل ذاتها بدافع المحبّة. فالله لا يراقب اللباس بل النفس. الحقّ أقول لكم، إنّ أمام عينيّ يتبدّى كُثُر مِن مقصوصي الشعر ليس لهم مِن الكهنوت سوى قصّ الشعر. وكثير مِن الأشخاص العلمانيّين، الّذين تتملّكهم المحبّة وبها يبذلون أنفسهم، وهي لهم زيت الرسامة الّذي يجعل منهم كهنة لي، يجهلهم العالم ولكنّني أعرفهم وأباركهم.»