ج6 - ف142
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الثاني
142- (في القرية التي تتقدّم إيبّو)
26 / 06 / 1946
إنّ إيبّو ليست على ضفّة البحيرة، كما اعتقدتُ حين رأيتُ بعض المنازل على الضفّة، تقريباً عند طرفها الجنوب-شرقي. وقد أدركتُ ذلك مِن خلال كلام التلاميذ: إنّ تَجمّع المنازل ذاك، كما يبدو لي، هو طليعة إيبّو، التي تقع إلى ما وراء الضفّة. أي مثل أوستيا بالنسبة لروما، أو الليدو بالنسبة للبندقيّة، إنّها تُمثّل منفذ المدينة الداخليّة على البحيرة، التي تستفيد مِن مَسالك البحيرة للاستيراد والتصدير، وأيضاً مِن أجل اختصار الرحلات مِن هذه المنطقة إلى ضفاف الجليل على الجانب الآخر، وأخيراً، كمكان للتسلية لمواطني المدينة العاطلين عن العمل، ومِن أجل إمدادات السمك التي يؤمّنها صيّادو المدينة الكُثُر.
في هذه الأمسية الهادئة يَرسون هنا، قرب مرفأ طبيعيّ تَشكَّلَ مِن مجرى سيل هو جافّ الآن، وحيث ماء البحيرة الأزرق السماويّ يَدخُل بهدوء لبضعة أمتار، حيث لم يعد يصدّه ماء السيل. على الضفّة هناك منازل كبيرة وصغيرة للصيّادين الذين يكدحون في المياه الكثيرة السمك، وللبستانيّين الذين يزرعون شريطاً مِن الأراضي الخصبة والرطبة، التي ترويها المياه القريبة، والتي تمتدّ مِن الضفّة إلى الداخل، وإلى الشمال أكثر منها إلى الجنوب، ثمّ تنقطع بشكل حادّ عند بداية الجرف العالي، الذي يهبط تقريباً بشكل عاموديّ إلى البحيرة. وهو ذات الجرف الذي ارتمت منه خنازير معجزة الجيراسيّ إلى البحيرة.
وحيث أنّه المساء، فإنّ السكّان يتناولون طعام العشاء إمّا على الشرفات أو في البساتين. وحيث أنّ البساتين والشرفات محاطة بأسيجة وأسوار واطئة، فإنّ السكّان سرعان ما يَرَون أسطول القاربين الصغير وهو يرسو في الميناء الصغير، والكثيرون ينهضون ويذهبون لملاقاة أولئك الذين وصلوا، البعض بدافع الفضول، والبعض لأنّهم يعرفونهم.
«إنّهما قارب سمعان بن يونا ومعه قارب زَبْدي. فإذن لا يمكن أن يكون سوى الرابّي الذي أتى إلى هنا مع تلاميذه» يُصرّح أحد الصيّادين.
«يا امرأة، اجلبي الطفل في الحال واتبعيني. إنّه ربّما هو. سوف يشفيه. إنّ ملاك الله قد جَلَبَه لنا» يأمر بستانيّ زوجته، التي وجهها تحرقه الدموع.
«بالنسبة لي، أنا أؤمن. إنّني أتذكّر جيّداً تلك المعجزة! كلّ تلك الخنازير! الخنازير التي أَطفَأت بالماء حرارة الشياطين التي دَخَلَتها... لا بد أنَّ العذاب كان رهيباً، كي ترتمي كلّ تلك الخنازير التي تكره النظافة في الماء...» يقول رجل كان قد هَرَعَ إلى هناك كي يدعم المعلّم.
«آه! إنّكَ على حقّ! لا بدّ أنّه كان عذاباً حقيقيّاً. أنا كنتُ هناك أيضاً، وأتذكّر ذلك. كان الدخان ينبعث مِن الأجساد، وكذلك مِن المياه. مياه البحيرة أصبحت أكثر حرارة مِن مياه حاماثا. وحيثما ركضت الخنازير احترق الخشب والنباتات.»
«لقد ذهبتُ إلى هناك، ولكنّني لم أرَ أيّة تغييرات...» يُصرّح رجل ثالث.
«ما مِن تغييرات! لا بدّ أنّ عينيكَ كانت تغطّيهما القشور! انظر! يمكنكَ رؤيتها مِن هنا. أترى هناك؟ حيث مجرى النهر الجافّ؟ انظر أبعد قليلاً وسترى ذلك...»
«لا! ذلك الخراب قد أحدثه الجنود الرومان عندما كانوا يبحثون عن ذاك المحتال خلال ليالي شهر طيبيت (ديسمبر-يناير) الباردة. لقد خيَّموا هناك وأشعلوا ناراً.»
«وهل أحرقوا كلّ الحرج كي يُشعلوا ناراً؟ انظر كم ينقص مِن الأشجار هناك!»
«أَجَعَلتَها حرجاً! إنّها لا تتعدىّ شجرتي سنديان أو ثلاث!»
«وهل ذلك بالشيء القليل؟»
«لا. إنّما أنتَ تعلم! بالنسبة لهم، إنّ أملاكنا لا تساوي شيئاً. هُم الحُكّام ونحن الـمُضطَهَدون. آه! إلى أن...» المناقشات تنتقل مِن الشأن فائق الطبيعة إلى الشأن السياسيّ.
«مَن يقودني إلى الرابّي؟ أَشفِقوا على رجل أعمى! أين هو؟ أخبروني. لقد بحثتُ عنه في أورشليم، في الناصرة، في كفرناحوم. وقد كان دائماً يُغادِر قبل أن أصل... أين هو؟ آه! أَشفِقوا عليَّ!» ينوح رجل في حوالي الأربعين مِن العمر يتلمّس حوله بعصا.
يُعنّفه أولئك الذين يتلقّون ضربات مِن عصاه على سيقانهم أو ظهورهم، إنّما ما مِن أحد يَشعُر بالشفقة تجاهه، والكلّ يَصدمونه فيما يمرّون، دون أن تُمدّ له أيّ يد كي تقوده. الأعمى المسكين يتوقّف، خائفاً ومُحبَطاً…
«الرابّي! الرابّي! أك أك، إل إل، لييي (إنّني أسعى لتحويل الصيحات الحادّة والـمُنغَّمَة التي تُطلِقها النساء إلى كلمات، لكنّها صيحات، لا كلمات! إنّها تشبه أصواتاً تصدرها الطيور أكثر ممّا تشبه كلمات بشريّة.)
«سوف يُبارِك أطفالنا!»
«إنّ كلامه سوف يجعل الثمرة التي أحملها في أحشائي تختلج، ابتهج يا ثمرة أحشائي! إنّ المخلّص سوف يكلّمكَ» تقول زوجة ممتلئة الجسم وهي تداعب بطنها المنفوخ تحت ثوبها الفضفاض.
«آه! ربّما سيجعل أحشائي خصيبة! سوف يكون الفرح والسلام بيني وبين أليشع. لقد ذهبتُ إلى جميع الأماكن حيث قالوا بأنّ المرأة تصبح خصيبة. لقد شربتُ مِن ماء البئر قرب قبر راحيل، ومِن ذاك الجدول في المغارة حيث وَلَدَته أُمّه... ذهبتُ إلى حبرون (الخليل) كي أتناول لثلاثة أيّام التراب حيث وُلِد المعمدان... أكلتُ ثمار سنديانة إبراهيم، وقد بكيتُ متضرّعة لهابيل حيث وُلِد وقُتِل... لقد جرّبتُ كلّ الأمور المقدّسة، كلّ الأمور الإعجازيّة السماويّة والأرضيّة، وأيضاً الأدوية، الأطبّاء، النذور، الصلوات، والتقدمات... لكنّ أحشائي لم تُفتَح للبذور، أليشع بالكاد يحتملني، ويجد أنّه مِن الصعب عليه ألّا يكرهني!!! واحسرتاه!» تنوح امرأة هي بالأساس واهِنة.
«إنّكِ عجوز الآن يا سيلّا! ارضخي للأمر!» تقول لها أولئك النسوة، بشفقة ممزوجة بازدراء طفيف، وبمظهر انتصاريّ واضح، واللواتي يعبرن ببطونهنّ المنتفخة بأجنّتهنّ، أو مع أطفال يَرضَعون مِن صدورهنّ العامرة.
«لا! لا تقلن ذلك! لقد أقام الأموات! ألن يكون قادراً على منح الحياة لأحشائي؟»
«أَفسِحوا المجال! أَفسِحوا المجال! أفسحوا المجال لأُمّي المريضة» يَصرُخ شاب يُمسِك بحمّالتي نقّالة، والتي تمسكها مِن الجهة الأخرى فتاة شديدة الحزن. وعلى النقّالة توجد امرأة، ما تزال شابّة، إنّما قد تحوّلت إلى هيكل عظميّ مصفرّ.
«علينا أن نخبره عن المسكين يوحنّا ونرشده إلى مكانه. إنّه أتعس الجميع، لأنّه أبرص ولا يستطيع أن يتجوّل بحثاً عن المعلّم...» يقول رجل مُسنّ مَهيب.
«نحن أوّلاً! فإذا ما ذهب باتّجاه إيبّو، فلن يعود مِن أمل لنا. فأهل المدينة سوف يستأثرون به لأنفسهم، وسوف يتمّ تجاهلنا كالمعتاد.»
«إنّما ما الذي يحدث هناك؟ لماذا تصيح النسوة هكذا هناك، عند الضفّة؟»
«لأنّهنّ حمقاوات!»
«لا. إنّها صيحات فَرَح. لنسرع...»
الطريق مكتظّ بالناس الذين يتوجّهون إلى الضفّة، والدرب الحصويّ، حيث حُوصِر يسوع ورُسُله، قد سُدّ مِن قِبَل أولئك الذين احتشدوا هناك أولاً.
«معجزة! معجزة! إنّ ابن إليز، الذي عجز الأطباء عن شفائه، قد شُفي! الرابّي شفاه بوضعه ريقاً (لُعاباً) في حلقه.»
صيحات النساء (أك أك، إل إل، لييي) تزيد وترتفع حدّتها، وقد اختلطت بهوشعنا الرجال العالية.
يسوع قد سُحِق تماماً رغم طول قامته. الرُّسُل يفعلون كلّ شيء كي يحرّروه، إنّما لا شيء يُجدي نفعاً! النسوة التلميذات ومريم في وسطهنّ مُنفَصِلات عن مجموعة الرُّسُل. الطفل الصغير خائف ويبكي بين ذراعيّ مريم التي لحلفى. وبكاؤه يجذب انتباه الكثيرين إلى مجموعة النساء التلميذات، وكما العادة، فهناك مَن يَعرِف ويقول: «آه! هناك أيضاً اُمّ المعلّم واُمّهات الرُّسُل!...»
«أيّتهنّ؟»
«الاُُمّ هي تلك الشقراء الشاحبة التي ترتدي ثوباً كتّانياً، والأُخريان هنّ المتقدّمتان بالسنّ، تلك التي تحمل طفلاً، والأخرى هي تلك التي تحمل سلّة على رأسها.»
«ومَن هو الصبيّ الصغير؟»
«ابنها، إيه! ألا تسمعينه يناديها ماما؟»
«ابن مَن؟ الـمُسنّة؟ غير معقول!»
«ابن الشابّة. ألا ترين بأنّه يريد الذهاب إليها؟»
«لا. ليس للمعلّم إخوة. إنّني على ثقة مِن ذلك.»
يسوع، الذي يتحرّك بصعوبة، ينجح بالوصول إلى المرأة المريضة الممدّدة على النقّالة التي يحملها أولادها، ويشفيها. وفي تلك الأثناء، بعض النسوة اللواتي قد سمعن الحديث، يتوجّهن بفضول نحو مريم.
إنّما واحدة منهنّ لم تكن فضوليّة. إنّها ترتمي عند قدميها قائلة: «بحقّ أمومتكِ، أشفقي عليَّ.» إنّها المرأة العاقر.
مريم تنحني وتَسأَل: «ماذا تريدين يا أختي؟»
«أن أكون اُمّاً... طفلاً!... فقط واحداً!... إنّني مكروهة بسبب عقمي. أؤمن بأنّ ابنكِ قادر على كلّ شيء، إنّني أؤمن به إيماناً عظيماً، إلى درجة أنّني أظنّ وبما أنّه وُلِد منكِ، أنّه جعلكِ قدّيسة وقادرة مثله. الآن أتوسّل إليكِ... بحقّ بهجتكِ كأُمّ أتوسّل إليكِ: اجعليني خصيبة. المسيني بيدكِ وسوف أحظى بالسعادة...»
«إيمانكِ عظيم يا امرأة. إنّما ينبغي تقديمه له، لله، فهو مَن يملك الحقّ. تعالي إذن، إلى يسوعي...» وتمسك بيدها طالبة بإلحاح لطيف السماح لها بالمرور كي تَصِل إلى يسوع.
التلميذات الأخريات يتبعنها عبر المعبر الذي ينفتح بين الجمع، وكذلك النسوة اللواتي كنّ قد اقتربن مِن مريم يفعلن الشيء ذاته، وفي ذات الوقت يسألن مريم التي لحلفى عن الطفل الذي تُبقيه مرفوعاً فوق الجمع.
«صبيّ صغير ما عادت تحبّه أُمّه. وقد جاء إلى المعلّم باحثاً عن المحبّة...»
«صبيّ صغير ما عادت تحبّه أُمّه!؟!»
«هل سمعتِ يا سُوسَنّة؟»
«مَن تكون تلك الضبعة؟»
«واحسرتاه! وأنا التي أتجرّع المرارة لأنّه ليس عندي وَلَد! أعطيني إيّاه! أعطيني إيّاه كي يُقبّلني طفل مرّة واحدة على الأقلّ!...» وسيلّا، المرأة العاقر، تنتزع الطفل الصغير مِن ذراعيّ مريم التي لحلفى، وتضمّه إلى قلبها، وتُعاود السعي لاتّباع مريم، التي انفصلت عنها في اللحظة التي تركت فيها سيلّا يد مريم كي تأخذ الطفل.
«اسمع يا يسوع. هناك امرأة تطلب نعمة. إنّها عاقر...»
«لا تُزعِجي المعلّم مِن أجلها يا امرأة. فإنّ أحشاءها قد ماتت» يقول شخص لا يعرف بأنّه يتحدّث إلى أُمّ الله. ومِن ثمّ، وقد أُحرجِ بسبب الخطأ الذي تمّ تنبيهه إليه، فإنّه يسعى إلى التواري والاختفاء، فيما يسوع يجيبه ويجيب المرأة المتوسّلة قائلاً: «أنا الحياة يا امرأة. ليكن لكِ ما قد طلبتِه» ويضع يده على رأس ستيلّا لبرهة.
«يا يسوع! يا ابن داود، ارحمني!» يصرخ الأعمى الذي تمّ ذِكره سابقاً. والذي كان قد وَصَلَ على مهل قريباً مِن الجمع، والذي يصيح متوسّلاً مِن وراء المتجمّعين.
يسوع، الذي كان قد خفض رأسه كي يسمع توسُّلات سيلّا، يرفع رأسه مجدّداً ويَنظُر في الاتّجاه الذي يأتي منه صوت الأعمى، مرتجفاً مثل صراخ شخص غريق.
«ماذا تريدني أن أفعل لكَ؟» يصيح.
«أن أرى. إنّني في الظلام.»
«أنا النور. أشاء ذلك!»
«آه! إنّني أرى! إنّني أرى مجدّداً! دعوني أمرّ! كي أُقبّل قدميّ ربيّ!»
«يا معلّم، لقد شفيتَ الجميع هنا. إنّما هناك أبرص في كوخ في الحرج. إنّه دائماً يرجونا كي نأخذكَ إليه...»
«لنذهب! أرجوكم! دعوني أذهب. لا تؤذوا بعضكم! أنا هنا مِن أجل الجميع... أرجوكم، أفسحوا المجال. إنّكم تؤذون النساء والأطفال. أنا لستُ راحلاً بعد. سوف أكون هنا غداً، وسوف أبقى في هذه المنطقة لخمسة أيّام. يمكنكم أن تلحقوا بي إذا ما شئتم ذلك...»
يسوع يعمل على ضبط الجمع، كي يضمن ألّا يؤذي الناس بعضهم بعضاً فيما يسعون للاستفادة مِن زيارته. لكنّ الجمع مثل مادّة رخوة تتوسّع ثمّ تعود لتعصره مِن جديد، إنّه كما الانهيار الجليديّ الذي ووفقاً لقوانين الطبيعة فإنّه يصبح أكثر انضغاطاً كلّما انحدر أكثر، إنّه كبرادة حديد قد جَذَبَها مغنطيس... لهذا فإنّ التقدّم بطيء، متعثِّر، مُنهِك... الجميع يتصبّب عرقاً، الرُّسُل يزعقون، يُعمِلون مرافقهم ويرفسون بأقدامهم كي يشقّوا طريقهم عبر الجمع... إنّما كلّ الجهود لا جدوى منها! فإنّهم يستغرقون مِن الزمن ربع ساعة كي يقطعوا عشرة أمتار.
امرأة تبلغ حوالي الأربعين مِن العمر تنجح بفعل مثابرة فائقة بشقّ طريق لها وصولاً إلى يسوع وتلمس مرفقه.
«ماذا تريدين يا امرأة؟»
«ذاك الطفل الصغير... لقد سمعتُ قصّته... أنا أرملة وليس لديَّ أولاد... تَذَكّرني. أنا سارة التي مِن أَفِيقَ، أرملة بائع السجّاد. تذكّر. منزلي بالقرب مِن ساحة النافورة الحمراء. وأملك أيضاً كروماً وحرجاً. يمكنني تقديم المساعدة لِمَن هم وحيدون... وسأكون سعيدة...»
«سوف أتذكّر ذلك يا امرأة. لتكن شفقتكِ مباركة.»
سرعان ما يتمّ اجتياز البلدة التي تمتدّ بشكل موازٍ للبحيرة أكثر منه بشكل عاموديّ، ويجدون أنفسهم في ريف مسالم وهادئ وقت المغيب. إنّما الظلام لم يحلّ بعد، حيث ضوء القمر يلي ضوء النهار بشكل غير محسوس. يمضون نحو صدوع الجرف العالي، التي تمتدّ على طول البحيرة بعيداً مِن جهة الجنوب، على الجرف هناك بعض الكهوف، لا أدري فيما إذا كانت طبيعيّة أو إنّها قد حُفرت في الصخر لسبب ما، فالكثير منها قد تمّت تسويتها (تطيينها) وطلاؤها بالكلس مِن الخارج، إنّها قبور بالتأكيد.
«ها قد وصلنا! لنتوقّف كي لا نصاب بالعدوى. إنّنا قريبون مِن ملجأ الأبرص، وهذا هو الوقت الذي يأتي فيه إلى تلك الصخرة كي يجمع التقدمات. لقد كان غنيّاً، أَتَعلَم؟ إنّنا نتذكّره. وكان طيّباً أيضاً. إنّما الآن فهو قدّيس. فكلّما ابتُلي بالمصائب أكثر، كلّما غدا بارّاً أكثر. لا نعرف كيف حدث ذلك. يقال بأنّ العدوى قد انتقلت إليه مِن مسافِرِين كان قد آواهم، وقد كانوا ذاهبين إلى أورشليم، هذا ما يُقال. كانوا يبدون سليمين، ولكنّهم بالتأكيد كانوا برصاً. في الواقع أنّه وبعد أن غادروا، فإنّ الزوجة والخُدّام قد أُصيبوا بالبرص أوّلاً، ثمّ الأولاد، وأخيراً أُصيب هو. كلّهم. الأوائل –وكانت أيديهم هي التي أُصيبت في البداية- كانوا أولئك الذين غسلوا أقدام وثياب المسافرين، وهذا هو السبب الذي يجعلنا نقول بأنّه لا بدّ أن يكونوا هُم الذين تسبّبوا بكلّ ذلك. الأولاد: كانوا ثلاثة، وقد ماتوا سريعاً. ثمّ الزوجة، وهي قد ماتت مِن الحزن أكثر منه مِن المرض... أمّا هو... وحينما أَعلَنَ الكاهن بأنّهم مصابون بالبرص كلّهم، فقد اشترى هذا الجزء مِن الجبل بأمواله التي أصبحت الآن بلا فائدة، وخَزَّن هناك المؤن، له ولعائلته... وأيضاً للخُدّام، وخزّن أيضاً الرفوش والمعاول... وبدأ بحفر القبور... وقد دفنهم كلّهم الواحد بعد الآخر: أولاده الصغار، ثمّ زوجته، ثمّ الخُدّام... وبقي هو فقط، وحيداً، فقيراً، لأنّ كلّ شيء ينفذ مع مرور الوقت... واستمرّ هذا الوضع لخمسة عشر عاماً... ومع ذلك... لم يشتكِ ولا لمرّة. لقد كان متعلّماً: إنّه يحفظ الكتابات المقدّسة عن ظهر قلب. إنّه يردّدها للنجوم، للنباتات، للأشجار، للطيور، إنّه يتلوها علينا نحن الذين علينا أن نتعلّم الكثير منه، وهو يعزّي أحزاننا... هو، بحر الأحزان! يعزّي أحزاننا. الناس يأتون من إيبّو وجَمَلا وحتّى مِن جرجسا وأَفِيقَ كي يستمعوا إليه. عندما سَمِع بمعجزة الممسوسَين... آه! أخذ يُبشّر بالإيمان بكَ. يا ربّ، وإذا ما أجلّكَ الرجال بصفتكَ المسيح المنتظَر، وإذا ما أجلّتكَ النساء بصفتكَ الظّافر والـمَلِك، وإذا ما عرف الأطفال اسمكَ وبأنّكَ أنتَ هو قدّوس إسرائيل، فإنّ ذلك بفضل الأبرص المسكين» يروي بالنيابة عن الجميع الرجل العجوز الذي تحدّث قبلاً عن يوحنّا (الأبرص).
«هل ستشفيه؟» يَسأَل كُثُر.
«أوَتسألونني؟ إنّني أرحم الخطأة، فكم بالأحرى الرجل البارّ؟ أيكون هو ذاك القادم؟ هناك، وسط ذاك الدغل...»
«إنّه هو بالتأكيد. يا لنظركَ الحادّ يا ربّ! إنّنا نسمع صوت خشخشة، لكنّنا لا نرى شيئاً...»
الخشخشة أيضاً تتوقّف. هناك صمت مُطبِق وترقُّب…
يسوع مرئيّ بوضوح، إنّه وحده، متقدّم بعض الشيء عن الآخرين، لأنّه تقدَّم حـتّى الصخرة التي وُضِعت عليها بعض المؤن، الآخرون اختفوا في ظلّ بعض الأشجار، أو تواروا بين الشجيرات والنباتات البرّيّة. الأطفال أيضاً صامتون، إمّا لأنّهم قد غفوا في أحضان أُمّهاتهم، وإمّا لأنّهم خائفون مِن الصمت، مِن القبور، مِن الظلال الشبحيّة التي يسبّبها نور القمر، والتي ترتسم خلف الأشجار والصخور.
إنّما لا بدّ أن الأبرص يَرَى، بل ويَرَى جيّداً مِن مخبئه. لا بدّ أنّ بإمكانه أن يرى القوام الفارع (الممشوق) والمهيب للربّ، الوسيم والغارق ببياض نور القمر. لا بدّ أنّ نَظَر الأبرص الـمُنهَك قد رأى عينيّ يسوع المتألّقتين. أيّة لغة تتحدّثها هاتان العينان الإلهيّتان الواسعتان، الساطعتان كما النجوم؟ أيّة لغة تقولها تلك الشفتان المفتوحتان بابتسامة محبّة؟ وفوق ذلك كلّه، ما هو ذاك الذي يقوله قلب المسيح؟ إنّه سرّ. إنّه واحد مِن تلك الأسرار الكثيرة التي هي بين الله والنّفوس في علاقتهما الروحيّة. الأبرص بالتأكيد يُدرِك لأنّه يصيح: «ها هو حَمَل الله! ها هو الذي أتى كي يشفي آلام العالم! يا يسوع، أيّها المسيح المبارك، يا مَلِكنا ومخلّصنا، ارحمني!»
«ما الذي تريده؟ كيف تؤمن بشخص مجهول وترى فيه المنتظَر؟ ما أنا بالنسبة لكَ؟ مجهول...»
«لا. أنتَ ابن الله الحيّ. كيف أعلم ذلك وأُدركه؟ لا أدري. هنا، في داخلي، صوت قد صَرَخ: "ها هو المنتظَر! وقد أتى ليُكافئ إيمانكَ." مجهول؟ نعم. إنّ وجه الله يجهله الجميع. وهكذا فأنتَ "المجهول" في مظهركَ. لكنّكَ المعروف بسبب طبيعتكَ وأصلكَ الملكيّ. يسوع، ابن الآب، الكلمة المتجسّد والله كما الآب. هذا مَن هو أنتَ، وأنا أُجلّك وأتوسّل إليكَ، مؤمناً بكَ.»
«وإذا لم أكن قادراً على فِعل أيّ شيء وكان إيمانكَ خائباً؟»
«سأقول بأنّها مشيئة العليّ، وسأواصل الإيمان والمحبّة، متأمّلاً دوماً بالربّ.»
يستدير يسوع نحو الجمع الذي كان يُنصت إلى الحِوار بانتباه شديد ويقول: «الحقّ أقول لكم بأنّ لدى هذا الرجل الإيمان الذي يُزحزح الجبال. الحقّ أقول لكم إنّ المحبّة الحقيقيّة، الإيمان والرجاء الحقيقيّين، هي التي تُختَبر في الحزن أكثر منه في الفرح، لأنّ الإفراط في الفرح هو غالباً هلاك للروح الذي لم يصبح بعد كاملاً. فمن السهل أن نؤمن وأن نكون صالحين عندما تكون الحياة مجرّد سلسلة متكرّرة مِن أيّام هادئة وكلّها متشابهة، حتّى وإن لم تكن سعيدة. إنّما مَن يكن قادراً على الثبات في الإيمان، الرجاء والمحبّة، حتّى عندما تتسبّب له الأمراض، الفقر، الموت، المصائب، في أن يُترك وحيداً، مهجوراً، يتجنّبه الجميع، وهو بالمقابل لا يفعل شيئاً سوى القول: "ليكن ما يعتبره العليّ مفيداً لي."، فذاك حقّاً لا يستحقّ فقط عون الله، إنّما، وأنا مَن يقول ذلك، فإنّ مكانه مُعَدّ في ملكوت السماوات، ولن يَعرف المطهر، لأنّ برّه قد ألغى كلّ ديون حياته الماضية. يا رجل، أقول لكَ: "اذهب بسلام، لأنّ الله معكَ!"»
ويستدير يسوع فيما يقول ذلك، ويبسط ذراعيه نحو الأبرص، وبحركته تلك فإنّه تقريباً يجذبه إليه، وحين يصبح قريباً تماماً ومرئيّاً بوضوح، يأمر: «أشاء ذلك! لتكن مُطَهَّراً!...» وبأشعّته الفضّيّة، يبدو القمر كما لو أنّه يُطهِّر ويزيل بثور، جروح، دمامل وقشور ذاك المرض الرهيب.
يستعيد الجسد طبيعته ويعود سليماً. إنّه عجوز وقور، نحيل كزاهد (متقشّف)، والذي، وما أن يُدرِك المعجزة مِن خلال الهوشعنا التي يُطلِقها الجمع، حتّى ينحني كي يُقبّل الأرض، حيث أنّه لا يستطيع لمس يسوع أو أيّ شخص آخر قبل الوقت المحدّد في الشريعة.
«انهض. سوف يُحضِرون لكَ ملابس نظيفة كي تتمكّن مِن المثول أمام الكاهن. إنّما دوماً أَحسِن المثول أمام الله بنقاء روحكَ. الوداع يا رجل. ليكن السلام معكَ!»
وينضمّ يسوع إلى الجمع، ويعود على مهل إلى القرية كي يرتاح.