ج3 - ف83
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الثاني
83- (تعليمات للرُّسُل أثناء الذهاب إلى جبنيا)
17 / 07 / 1945
«هل سنذهب بعد جبنيا إلى عَقْرُون؟» يَسأَل الرُّسُل، وهُم يَسيرون عَبْر ريف خَصيب، حيث تغفو الحبوب تحت الشمس، غفوتها الأخيرة تحت مِلء الشمس التي جَعَلَتها تَيْنَع، مُتمَدِّدة حِزَماً في الحقول، مَحصودة وحَزينة مِثل أَسِرَّة أموات كبيرة، الآن وقد فَقَدَت كِساءها كسنابل، ولم يبق منها سِوى مُخلَّفات تَنتَظِر نقلها إلى مكان آخر.
ولكن حتّى ولو جُرِّدَت الحقول، فالـمَباقِل ما تزال في ثياب العيد، وثِمارها تُسرِع في الإيناع، مُتحوِّلة مِن خُضرة الثمار الحامزة، إلى الخُضرة اللطيفة المائِلة إلى الأصفر الورديّ للثَّمَرَة التي بَلَغَت الإيناع. أشجار التين تَفتَح عُلبة حُليّ ثمّارها، بِتَفَجُّر القِشرة الـمَرِنَة، عُلبة حليّ الثمرة-الزهرة الناعمة، تحت الصّدع الأخضر-الأبيض أو الأبيض-البنفسجي، الهلام الشفاف الغارق في الحبيبات الصغيرة الأكثر قتامة مِن اللبّ. نسمة خفيفة تُحرِّك حبّات الزيتون الزبرجديّة وسط الأوراق الخضراء المفضّضة. أشجار الجوز الـمَهيبة، تَنتَصِب صلبة لِتُقدِّم ثمّارها المنتفخة تحت زغب قشرتها الخضراء، بينما تُكمِل ثمار اللوز إيناعها ضِمن غلافها، حيث يتجعّد مخملها ويتبدّل لونه. وحبّات الكُروم تنتَفِخ، وتبدأ بعض العناقيد البادية للعيان تَتَّخِذ لون الزبرجد الشفّاف، الذي سيتحوّل إلى لون الياقوت الأحمر في الحبّات اليانعة. وفي تلك الأثناء، يَلبس صبّار السهل أو السواحل المنخفضة ألواناً تزداد بهجة يوماً بعد يوم، بويضات المرجان، رَصَفَها بشكل غريب، مُزيَّن سعيد، على قمّة شفرات لحميّة، تبدو كالأيدي التي تُشكِّل، حين تَنغَلِق على بعضها مآبر شائكة، تمدّ نحو السماء الثمار التي أنمَتها وجَعَلَتها تَيْنَع.
أشجار نخيل مُنعَزِلة وأشجار خروب متجمّعة، تُذكّر بأفريقية القريبة. الأولى تُردِّد صوت صُنوج أوراقها القاسية على شكل المروحة، وأشجار الخرّوب، وقد تسربَلَت الخُضرة الداكنة، تتباهى مُتفاخِرة بثوبها البهيّ. عنـزات بيضاء وعنـزات سوداء، كبيرة ورشيقة، قرونها طويلة ملتوية، وعيونها وديعة وحيويّة، ترعى الصبّار وتَقتَحِم الأغاف اللحميّة، لدى تلك الفراشي الضخمة مِن الأوراق القاسية والكثيفة التي تُشبه الأرضي شوكي المفتوحة، وقد انتَصَبَ في وسطها شمعدان الكاتدرائيّة، عند ذلك الساق العملاق ذي الأذرع السبعة التي تَضطَرِم عليها زهرة صفراء وحمراء أريجها مُستَساغ.
أفريقيا وأوروبا، تَمدّ الواحدة يدها للأخرى لتُغطّي الأرض بروائع الخُضرة. وها هُم أفراد المجموعة الرَّسوليّة يُغادِرون السهل لِيَسلكوا درباً صاعداً في رابية مغطّاة بالكُروم بأكملها، على هذا الجانب الـمُطلّ على البحر. هذا الجانب الحَصَويّ والكلسيّ يَجعَل العنب يتحوّل إلى شيء ثمين، جاعلاً مِن النَّسغ شراباً حقيقيّاً. ها هُم يَكتَشِفون البحر، بَحري أنا، بَحر يوحنّا، بَحر الله، إنّه يتجلّى في نسيجه المثنّى غير المحدود مِن الحرير الأزرق، ويتكلّم مِن البعيد، مِن اللانهاية، مِن مَوقع السُّلطة، مُرنّماً مع السماء والشمس ثلاثيّة أمجاد الخَلق. ويَنبَسِط السهل بأكمله، في كلّ جمال تماوجاته، مع مثيلاته المرتفعات التي تعلو بضعة أمتار، وهي تَعقب مناطق مسطّحة، كثباناً مُذَهَّبة، مُدناً وبلدات تُقيم على شاطئ البحر بياضها على خلفيّة اللازورد.
«كَم هو جميل! كَم هو جميل!» يُتمتِم يوحنّا نَشواناً.
«ولكن يا سيّد، إنّ هذا الولد يتغذّى على اللازورد. يُفتَرَض أنّه قَدَرُه. فعندما يرى البحر، يبدو وكأنّه يُشاهِد العروس.» يقول بطرس الذي لا يَرى فرقاً يُذكَر بين مياه البحر ومياه البحيرة. ويَضحك مثل طفل بريء.
«نعم، لقد تَحَدَّدَ مصيره يا سمعان. ولكلّ منكم مصيره.»
«آه! حسناً! وأنا أين سَتُرسِلني؟»
«آه! أنتَ!...»
«قُلها لي. كُن مُجامِلاً!»
«إلى مكان أكبر مِن مدينتك ومدينتي ومِن مَجدلا وطبريّا مجتمعة.»
«سأتوه فيها.»
«لا تَخَف. سوف تبدو مثل نملة على هيكل عظميّ ضخم، إنّما بذهابكَ وإيابكَ بِلا كَلَل، سوف تُعيد الحياة للهيكل العظمي.»
«لَم أفهم شيئاً مِن كلّ هذا... كُن أكثر وضوحاً.»
«سَتَفهَم، سَتَفهَم!...» ويبتسم يسوع.
«وأنا؟» «وأنا؟» يريد الجميع أن يَعرفوا.
«هاكُم كيف سأفعل.» ينحني يسوع -إنّه على ضِفة حَصَويّة لسيل يجري في وسطه ماء كثير- ويأخُذ قَبضَة مِن الحَصى الناعمة جدّاً. يَرميها في الهواء، فتتبعثر في كلّ الاتّجاهات. «هاكُم. ليس سوى هذه الحُصيّة ظَلَّت عالِقة في شَعري. أنتم أيضاً ستتفرَّقون هكذا.»
«وأنتَ، يا أخي، تُمثِّل فلسطين، أليس كذلك؟» يقول يعقوب بن حلفى بِجدّيّة.
«نعم.»
«أودُّ لو أعرف مَن الذي سيبقى في فلسطين.» يَسأَل أيضاً يعقوب.
«خُذ هذه الحَصاة، على سبيل الذكرى.» ويُعطي يسوع الحَصاة التي بَقِيَت عالِقة في شَعره إلى ابن عمه، ويبتسم.
«ألا يمكنكَ أن تُبقيني في فلسطين؟» يقول بطرس. «إنّني الأكثر استئهالاً لأنّني الأقلّ حيلة؛ ففي بيتنا أعرف التَّكيُّف. أَمّا خارجاً!...»
«على العكس، فبقاؤكَ هنا هو الأقلّ احتمالاً. لكَ تحفّظاتكَ على بقيّة العالم، وتَظنّ أن التبشير في بلاد المؤمنين أسهل منه في بلاد الوثنيّين، بينما العكس هو الأصحّ.
لو تُفكِّر بما تُقدِّمه لكم فلسطين الحقيقيّة، بطبقاتها الراقية، والشعب فيها كذلك، بدرجة أقلّ، لو فكّرتم، فإنّ هنا، في مكان مكروه فيه اسم فلسطين واسم الله، بمعناه الصحيح والمجهول، لَم نُستقبل بالتأكيد بأقلّ سوءاً مِن اليهوديّة والجليل والمدن العشر. فَتَسقُط تحفّظاتكَ، وتَرَون أنّني على حَق في قَولي إنّ إقناع الذين يَجهَلون الله الحقيقيّ، أَسهَل مِن إقناع شعب الله، الوثنيّين الماكرين، الخاطئين، والذين، بكبرياء، يَعتَبِرون أنفسهم كامِلين، ويَعتَزِمون البقاء على ما هُم عليه. كَم مِن الحجارة الثمّينة، وكَم مِن الجواهر تَراها عينيّ حيث لا تَرَون سوى الأرض والبحر! أرض الطوائف الكثيرة التي ليست فلسطين. بحر الإنسانيّة التي ليست فلسطين، والتي، كَبَحر، لا تَطلب غير الباحثين، تَستَقبِلهم لتعطيهم تلك الجواهر. والتي، كأرض، تُنَقَّب للعثور على الحجارة الثمّينة. هناك كنوز في كلّ مكان، إنّما ينبغي البحث عنها. كلّ قطعة مِن الأرض يمكنها إخفاء كنـز، وتغذية بذور، وكلّ عمق فيها يمكنه إخفاء جوهرة. ولكن ماذا؟ هل تتوقَّعون أن تُقلَب أعماق البحر بواسطة عواصف رهيبة، لانتزاع محارات الجواهر مِن أَرصِفَته المرجانيّة، لِفتحها باصطدام الأمواج، وتقديمها بعدئذ على الشاطئ إلى الكسالى الذين لا يريدون بذل أيّ مجهود، إلى الجُّبَناء الذين لا يريدون مجابهة المخاطر؟ أتتوقَّعون أن تُحوِّل الأرض ذرّة الرمل إلى شجرة تمنحكم الثمّار دون زَرع؟ لا يا أصدقائي الأعزّاء. إنّ هذا يتطلَّب جهداً وعملاً وشجاعة. وفوق كلّ شيء، يجب ألّا تكون هناك أفكار مُسبَقة.
أمّا أنتم، فأعرف أنّكم تَستَهجِنون، مِنكم كثيراً ومنكم قليلاً، هذه الرحلة في البلدات الفلسطينيّة. حتّى الأمجاد التي تُذكِّر بها هذه الأراضي، أمجاد إسرائيل التي تتحدّث عن تلك الحقول الـمُخَضَّبة بدم العبرانيّين الـمُراقَة لِتَجعَل مِن إسرائيل دولة عظيمة، لِتَجعَل مِن هذه المدن التي انتُزعَت، الواحدة تلو الأخرى، مِن مالِكيها، لِتُتوّج أرض يهوذا، وتَجعَل منها أُمّة ذات سلطان، وما مِن شيء مِن هذا يمكنه جعلكم تحبّون هذا الحجّ. ولستُ أُحدّثكم كذلك عن فِكرة تهيئة الأرض لِتَقَبُّل البُشرى والرجاء بخلاص النُّفوس، فلا يمكن لهذا إقناعكم. لا أُحدِّثكم عن ذلك وسط الحُجَج التي أَعرضها على نفوسكم لأجعلكم تتأمّلون في الخير الذي أُرسِيَت دعائمه في هذه الرحلة. وهذه الفكرة أيضاً تتجاوزكم كثيراً. ستتوصَّلون إليها يوماً، وحينذاك تقولون: "كُنّا نظنّ ذلك نزوة، كُنّا نظنّ ذلك ادّعاء، كُنّا نظنّ ذلك قلّة محبّة مِن المعلّم، لقد جَعَلَنا نمضي بعيداً جدّاً، عَبْر دروب طويلة ومُضنية، مُخاطِرين بتمضية أوقات سيّئة جدّاً. وعلى العكس، فقد كان ذلك حُبّاً، كان تَبَصُّراً، كان ذلك لِيُمهِّد لنا الطريق، الآن وقد افتقدناه، نَشعُر بأنفسنا تائِهين أكثر. لقد كُنّا آنذاك كأغصان الكَرمَة الممتدّة في كلّ الاتّجاهات، إنّما، وهي على عِلم بأنّ الكرمة تُغذِّيها، وإلى جانبها، على الدوام، الدعامة القويّة التي يمكنها أن تَحمِلها، والآن على العكس، نحن أغصان مُنحَنِية، ينبغي لها أن تُشكِّل تعريشة مِن ذاتها، ساحِبة غذاءها، نَعَم، مِن جفنة الكَرمة، ولكن دونما رُجُب تتّكئ عليها". هذا ما سوف تقولونه، وحينذاك ستشكُرونني.
ثُمّ!... أليس جميلاً المضيّ هكذا، تاركين وَمَضات مُضيئة، علامات مَعزوفة سماويّة، تُويجات زهر آتية مِن السماء، عطوراً حقيقيّة لخدمة الله وتمجيده على أراض تُغَلِّفها الظُّلُمات، على قلوب بَكماء، على أرواح عقيمة كالصحارى، للتغلّب على نتانة الكذب، وللعمل معاً، أنا وأنتم، أنتم وأنا، المعلّم والرُّسُل، كَوننا قلباً واحداً، رغبة واحدة وإرادة واحدة؟ ليكون الله معروفاً ومحبوباً، لِيَجمع الله كلّ الأمم تحت رايته، لِيَتواجد الجميع معه حيث يكون. إنّه الرجاء، الرغبة، الجوع لله! وهو الرجاء والرغبة وجوع الأرواح، الذين، هُم، لَيسوا مِن أصول مختلفة، ولكنّهم ينتمون إلى أصل واحد: الأصل الذي خَلَقَه الله، إذ طالما أنّ الجميع هُم أبناء الواحد الأحد، فإنّ لهم الرغبات ذاتها، الرجاء ذاته، الجوع ذاته للسماء، للحقيقة، وللحبّ الحقيقيّ…
يَبدو أنّ دُهوراً مِن الخَطَأ قد غَيَّرَت فِطرة النُّفوس. ولكن لا. فالخطأ يُغلِّف النُّفوس لأنّ النُّفوس قد ذابت في الجسد، ويُكابِدون مِن تأثير السمّ الذي أَدخَلَه الشيطان في جسم الإنسان-الحيوان. وهكذا يمكن للخطأ أن يُغلِّف القلب، لأنّه هو كذلك مَزروع في الجسد ويُكابِد مِن تأثير السُّموم. والشهوة الثلاثيّة تَعضّ الإحساس والشعور والفِكر. ولكنّ الروح ليس مَزروعاً في الجسد، وسوف تُفقِده ضربات الشيطان والشهوة صَوابه. سيكون شِبه أعمى، بسبب الجدران التي يَنصبها أمامه الجسد، وبسبب وصمات الدم الحارّ المنتشر في الإنسان-الحيوان، ولكنّه لَم يُغيِّر تَوقه إلى السماء، إلى الله. لا يمكنه التغيير. هل تَرَون ماء هذا السيل النقيّ؟ لقد نَزَل مِن السماء، وسوف يَعود إلى السماء، عن طريق التبخّر، تحت تأثير الهواء والشمس. إنّه يَنـزِل ويُعاوِد الصعود. فالعنصر لا يفنى، ولكنّه يعود إلى أصله.
الرُّوح يَعود إلى أصله. وهذه المياه بين الحجارة، لو كان بمقدورها الكلام، لقالت لكم إنّها تتوق إلى الصعود مِن جديد، لتدفعها الرياح، عَبْر حقول القُبّة الزرقاء الجميلة، باردة، بيضاء، أو زهريّة عند الفجر، ونحاسيّة عند غروب الشمس، أو بنفسجيّة مثل زهرة عند الغسق المليء بالنجوم. لَقالَت لكم إنّها تَودّ لو تكون غِربال النجوم التي تَنظُر، عبر انقشاعات السُّحُب الصغيرة، لِتُذكِّر الناس بالسماء، أو بالأحرى وِشاحاً للقمر، لكيلا يَرى فَظائع الليالي، بَدَل التَّواجد هنا، حَبيسة حافَّتيّ السيل، مُهدَّدَة بالتحوُّل إلى وَحل، مُرغَمة على التعرّف على قِران الثعابين والعلجوم، بينما هي تحبّ كثيراً عُزلة حُرّيّة المحيط الجوّيّ. الأرواح كذلك، لو كانت تجرؤ على الكلام، لقالت كلّها الشيء ذاته: "أعطُونا الله! أعطُونا الحقيقة!" ولكنّها لا تقول ذلك، لأنّها تَعلَم أنّ الإنسان لا يُلاحِظ ولا يُدرِك، أو هو يجعل تَوَسُّل "المتسوِّلين الكبار" مُثيراً للسخرية، الأرواح التي تبحث عن الله، لتلطيف جوعها المخيف. الجوع إلى الحقيقة. أولئك الوثنيّون، أولئك الرومان، أولئك الملحدون، أولئك البؤساء الذين نُصادِفهم على طريقنا، الذين تَلتَقونهم على الدوام، أولئك الناس الـمُحتَقَرون لرغبتهم بالله، إمّا بالسياسة وإمّا بأنانيّة العائلة، أو بهرطقة وُلِدَت مِن قلب فاسد الأخلاق، وقد تَطَوَّرَت في أُمم، أولئك الناس جياع. إنّهم جائعون! وأنا أُشفِق عليهم. أَوَلا تكون لديَّ رحمة وأنا مَن أكون؟ إذا ما تَدَبَّرتُ أمر غذاء الإنسان والطَّير لأنّني أُشفِق عليهم، فلماذا لا أُشفِق على الأرواح التي انتَصَبَت أمامها العوائق كي تَمنَعها مِن أن تكون لله الحقّ، والذين تمتدّ أَذرُع أرواحهم قائلين: "إنّنا جائعون!"؟ هل تَعتَبِرونهم أنتم أشراراً، متوحِّشين، غير مؤهَّلين للتوصُّل إلى محبّة دِين الله، والله نفسه؟ إنّكم مُخطئون. إنّها أرواح تَنتَظِر حُبّاً ونوراً.
لقد استيقظنا هذا الصباح على أصوات ثُغاء التَّيس الـمُتوعِّدة، وقد كان يريد طرد ذاك الكلب الضخم الذي أتى يَتشَمَّمني. وضحكتم لدى رؤيتكم التَّيس يَنصب قَرنيه الـمُتوَعِّدين، بعد انتزاع الحبل الذي كان يربطه بالشجرة التي كنّا ننام تحتها. وبِقَفزة منه أَصبَحَ بيني وبين الكلب، دون التفكير بإمكانيّة أن يُهاجِمه كلب الحراسة الضخم، ويَقتله، في معركة غير متكافئة. والأمر ذاته بالنسبة إلى الشعوب الذين يبدون في نظركم تُيوساً متوحِّشة. سوف يَعرِفون، وبكلّ شجاعة، كيف يَنتَصِبون للدفاع عن الإيمان بالمسيح، عندما يَعلَمون أنّ المسيح حُبّ، ويدعوهم لاتّباعه. يدعوهم. نعم. وعليكم مساعدتهم لكي يأتوا.
اسمَعوا هذا الـمَثَل:
تَزَوَّج رجل، وأَنجَبَت له زوجته عدّة أولاد. إلّا أنّ واحداً منهم وُلِدَ مُشوَّه الجسم، وكان يبدو مِن سُلالة أدنى. فاعتَبَره الرجل عاراً ولم يحبّه، رغم كَون الطفل بريئاً. وشَبَّ الوَلَد، مُهمَلاً وسط الخُدّام الأدنى منـزلة، لذلك كان أدنى مرتبة مِن إخوته، حتّى في الفِكر. أمّا أُمّه، فقد ماتت وهي تَضَعه، لذلك لَم تَكُن لِتَتمكّن مِن تلطيف قَسوة الأب، ومَنع احتقار إخوته له، وتصحيح الأفكار الخاطئة، الـمُتولِّدة في فِكر الوَلَد البدائيّ. لقد كان وَحشَاً صغيراً، وكان تَحَمُّله صعباً أمام بيت الأولاد الذين كان الأب يحبّهم.
وفي ظلّ هذه الظروف، أصبَحَ الوَلَد رجلاً. ونما ذهنه مُتخلّفاً، بطيئاً. ولكنّه انتهى بالتوصّل إلى النُّضوج. وأَدرَكَ أنّه لم يكن على الوَلَد أن يعيش في الإسطبلات، ويتلقّى قطعة خبز وأسمال ثوب، وهو لم يَكن ليتلقّى قبلة أبداً، ولا كلمة ولا دعوة للدخول إلى البيت الأبويّ. وكان يتألّم، كان يتألّم وهو يئنّ في جحره: "أبتاه! أبتاه!" كان يأكل زاده، إنّما لم يكن شيء البتّة يُشبِع جوع قلبه، وكان يرتدي ثوبه، ولكنّ برداً هائلاً كان يعتري قلبه. وأصدقاؤه، وهم الحيوانات وبعض مِن أشخاص البلدة، كانوا يعطفون عليه. ولكنّ قلبه كان في عزلة ووحدة.
"أبتاه! أبتاه!"... وكان ذلك الهتاف يَصِل إلى مسامع الخُدّام وإخوته ومواطنيه. كان أنيناً دائماً، كما لو كان قد فَقَدَ عقله. وكان يُدعى بالمجنون. أخيراً تَجرَّأ أحد الخدّام ومَضى إليه، بينما كان قد أَصبَحَ كالوحش البرّيّ، وقال له: "لماذا لا ترتمي عند قدميّ والدكِ؟" "أَفعَلها عن طيب خاطر، ولكنّني لا أتجاسَر"... "لماذا لا تأتي إلى البيت؟" "أخاف". "ولكن هل تريد فِعل ذلك؟" آه! نعم! فأنا أُحِسُّ بالجوع إليه، وهذا ما يجعلني أتجمّد، وأحسّني وحيداً، منعزلاً كما في صحراء. ولكنّني لا أعرف كيفيّة العيش في بيت أبي".
وجَعَلَ الخادم الصالح يُعلِّمه، ويَجعَله في مَظهَر أكثر لياقة، ويُخلِّصه مِن الخوف مِن أن يكون مُبغِضاً لأبيه، قائلاً له: "أبوكَ يريدكَ جدّاً، ولكنّه لا يَعلَم إذا كنتَ تحبّه، فأنتَ تَهرُب منه على الدوام... فَخَلِّص أباكَ مِن تبكيت الضمير لكونه صارماً جدّاً، ومِن ألمه لرؤيته إيّاكَ تائهاً، وحيداً. تعال. حتّى إخوتكَ لَم يعودوا يُريدون احتقاركَ، لأنّني رَوَيتُ لهم عن ألمكَ". وذَهَبَ الابن المسكين، ذات مساء، إلى البيت الأبويّ، يقوده الخادم الصالح، وصاح: "أبتاه، أحبّكَ! دعني أَدخُل!..."
كان الأب العجوز والحزين يُفكِّر في ماضيه وفي مستقبله الأبديّ، وقَفَزَ لدى سماعه ذلك الصوت وقال: "ها قد سَكَنَ ألمي أخيراً. فقد سَمِعتُ صوتي في صوت ابني الـمُشوَّه، وحُبّه يُظهِر أنّ دمه هو دمي، وأنّ لحمه هو لحمي. فليأت إذن، وليأخذ مكانه بين إخوته، مُبارك هو الخادم الصالح الذي جَعَل عائلتي كاملة، بإعادته الابن المنبوذ مِن بين كلّ أبناء الأب".
هذا هو الـمَثَل. إنّما في تطبيقه ينبغي لكم التفكير بأولئك المصابين بتشوّهات روحيّة: المنشقّين والهَراطِقة والمنفصلين. الله أبوهم، ولقد اضطُرَّ إلى الصَّرامة بسبب تشوّهات إراديّة، هُم مَن أرادوها. ولكنّ حُبَّه لم يتراجع أبداً. إنّه ينتظرهم. اجلبوهم إليه. ذاك هو واجبكم.
لقد عَلَّمتُكم القول: "أَعطِنا خبزنا كفاف يومنا، يا أبانا". ولكن هل تَعلَمون ما معنى هذه الـ "نا"؟
المقصود بذلك لستم أنتم الاثني عشر، باعتباركم تلاميذ المسيح. بل المقصود هو أنتم، باعتباركم بَشَراً. الطَّلَب تُنجِزونه مِن أجل كلّ الناس، الذين يعيشون الآن، مِن أجل الذين سَيَعيشون مستقبلاً، مِن أجل الذين يَعرفون الله، ومِن أجل الذين لا يَعرفونه، مِن أجل الذين يُحبّون الله ومسيحه، ومِن أجل الذين لا يحبّونه، أو الذين يُحبّونه بشكل سيّئ. فالصلاة التي عَلَّمتُكم إيّاها، هي للجميع. هي رسالتكم. أنتم يا مَن تَعرفون الله ومسيحه وتُحبّونهما، وعليكم أن تُصَلّوا مِن أجل الجميع. لقد قُلتُ لكم إنّ صلاتي كَونيّة وستدوم ما دامت الأرض. إنّما عليكم أن تُصَلّوا بروح مَسكونيّة، ضامِّين أصواتكم وقلوبكم كَرُسُل وتلاميذ كنيسة المسيح إلى الذين واللواتي ينتمون إلى كنائس أخرى، سوف تُصبِح مسيحيّة، ولكن ليس رسوليّة. وأَلِحّوا، بما أنّكم إخوة، أنتم في بيت الآب وهُم خارج بيت الله، الأب المشترك، يَحملون جوعهم وحنينهم إلى أن يُقَدَّم لهم، كما يُقَدَّم لكم "الخبز" الحقيقيّ، الذي هو مسيح الربّ المقدَّم على الموائد الرَّسوليّة، وليس على غيرها، حيث يَختَلِط بأطعمة أُخرى دَنِسَة. أَلحّوا، طالما لَم يَقُل الآب لأولئك الإخوة المشوّهين: "يَسكُن ألمي لأنّ فيكم، في صوتكم، سَمِعتُ صوت وكلام ابني الوحيد، بِكري. مباركون هم أولئك الخُدّام الذين قادوكم إلى بيت أبيكم لِتَكمَل عائلتي". يا خُدّام الله اللامتناهي، عليكم جعل اللّاتَناهي في كلّ نواياكم.
هل فَهِمتم؟ هي ذي جبنيا. لقد مَرَّ تابوت العهد مَرَّة مِن هنا لِيَمضي إلى عَقْرُون التي لم تستطع الاحتفاظ به، وأَرسَلَته إلى بيت شمس. وعاد تابوت العهد إلى عَقْرُون. تعال معي يا يوحنّا. وأنتم امكثوا في جبنيا، واعرفوا أن تُفكِّروا وتتكلّموا. السلام معكم.»
ويمضي يسوع مع يوحنّا والتَّيس الذي يَتبَعهما مثل كلب وهو يَثغو.