ج5 - ف2
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الأول
2- (الرحيل عن الناصرة)
30 / 10 / 1945
إنّه المساء. أمسية وداع أخرى لبيت الناصرة الصغير وسكّانه. عشاء آخر لا تستسيغ الأفواه الطعام خلاله، والأشخاص صامتون. يجلس يسوع إلى الطاولة مع يوحنّا وسِنْتيخي وبطرس ويوحنّا وسمعان ومتّى. لم يستطع الآخرون الجلوس. فطاولة الناصرة صغيرة! ولقد صُنِعَت تماماً مِن أجل عائلة فاضلة صغيرة، حيث يمكن بالأكثر استقبال الحاج واللاجئ لاستعادة القوى بالحبّ أكثر منه بالطعام! وفي الحدّ الأقصى استطاع مارغزيام الجلوس هذا المساء، لأنّه طفل، نحيل، ولا يَشغَل سِوى مكان قليل…
ولكنّ مارغزيام، الجادّ جدّاً والصامت، يأكل في إحدى الزوايا، وهو يَجلِس على مقعد صغير عند قدميّ بورفيرا، التي أجلستها السيّدة العذراء على كرسيّ النَّول، والتي تتناول الطعام الذي قُدِّم لها بلطف وصمت، وهي تَنظُر بإشفاق إلى اللَّذَين سوف يُغادِران بعد قليل، واللَّذَين كانا يحاولان التهام طعامهما والرأس منخفض لإخفاء وجهيهما وقد أحرقتهما الدموع.
أمّا الآخرون، أي ابنا حلفى، أندراوس ويعقوب بن زَبْدي، فقد جلسوا في المطبخ قرب ما يُشبِه الـمَعجَن، إنّما يمكن رؤيتهم مِن خلال الباب المفتوح.
مريم الكلّيّة القداسة ومريم التي لحلفى تروحان وترجعان خادِمَتَين هؤلاء وأولئك بعاطفة أموميّة وقَلَق وحُزن. وإذا كانت مريم الكلّيّة القداسة تُلاطِف الذين تدنو منهم بابتسامتها، التي تخفي خلفها الكثير مِن الألم هذا المساء، فإنّ مريم التي لحلفى، الأقلّ نحفاً والأكثر ألفة، تُضيف إلى الابتسامة الفَعِل والكلمة بالإضافة إلى قُبلَة أو مُلاطَفة لكلّ حسب ما يناسبه، مُشجِّعة هذا أو ذاك على تناول الطعام، ومقدّمة الأكلات المحدّدة حسب حاجة كلّ واحد وبحسب مقتضى السفر. وأظنّها، بدافع مِن إشفاق عطوف تجاه يوحنّا الـمُنهَك، والذي ازداد هزاله خلال أيّام الانتظار هذه، تتناول هي ذاتها الطعام مُجبِرة نفسها على إقناعه بتناول هذا أو ذاك مِن الأصناف، مادحة الطَّعم والخواصّ النافعة. ولكن رغم كلّ...إغواءاتها، يبقى الطعام على حاله تقريباً في صحن يوحنّا، وتتكدّر مريم التي لحلفى كأُمّ ترى طفلها يرفض ثديها.
«ولكن لا يمكنكَ الرحيل هكذا يا بنيّ!» تهتف. وهي لا تُفكِّر في نفسها الأموميّة أنّ يوحنّا في مثل سنّها تقريباً، وأنَّ تسميته ابناً غير مناسبة مُطلقاً. ولكنّها لا ترى فيه سِوى مخلوق يتألّم، لذلك لا تجد سِوى هذه التسمية لتعزيته... «إنَّ السفر ومعدتكَ فارغة، على هذه العربة الهزّازة، في برد الليل الرَّطب، يُسبّب لكَ الضَّرَر. ثُمّ! مَن يدري كيف ستأكلون خلال هذا السفر الطويل والمريع!... يا للرحمة الأزليّة! في البحر، أميالاً كثيرة! أنا، أموت مِن الخوف. وعلى مدى السواحل الفينيقيّة، ثمّ!... وهذا أسوأ! وبالتأكيد سوف يكون الربّان فلسطينيّاً أو فينيقيّاً أو مِن جنسيّة جهنميّة... ولن تكون لديه رحمة... هيّا إذن، طالما أنتَ ما تزال بالقرب مِن أُمّ تحبّك كثيراً!... كُلْ: قطعة فقط مِن هذه السمكة الرائعة. فقط إرضاء لسمعان بن يونا الذي هيّأها في بيت صيدا بحبّ جمّ، والذي علّمني اليوم كيفيّة طهيها، لكَ وليسوع، لاستعادة قواكما جيّداً. ألا يناسبكَ هذا؟... إذن... آه! سوف تأكل هذا!» وتمضي مسرعة إلى المطبخ وتُحضِر طَبَقاً مِن الحساء الساخن. لستُ أدري ما هذا... بالتأكيد هو نوع مِن الطحين أو الحبّوب المطهيّة باللبن حتّى أَصبَحَت حساء: «انظر، لقد صنعتُ هذا لأنّني أذكر أنّكَ حَدَّثتَني يوماً عن طفولتكَ كما عن ذِكرى عذبة... هذا لذيذ ومفيد. هيّا قليلاً منه.»
يتركها يوحنّا تَسكُب له بضعة ملاعق في صحنه، ويُحاوِل تناولها، إلّا أنّ دموعاً تسقط لتمزج ملحها بالطعام بينما هو يَخفض رأسه أكثر.
يُصيب الآخرون مِن هذا الطبق نصيباً وافراً، فيُفترض أن يكون بالنسبة إليهم متعة. وتُشرِق وجوههم لدى رؤيته، وينهض مارغزيام... ولكنّه بعدئذ يختبر الحاجة لأن يَسأَل مريم الكلّيّة القداسة: «هل يمكنني أن آكل منه؟ فما زالت أمامي خمسة أيّام لأبلغ نهاية النَّذر...»
«نعم يا بنيّ، يمكنكَ أن تأكل منه» تقول مريم وهي تلاطفه.
ولكنّ الوَلَد ما يزال متردّداً، لذلك، ولكي تهدّئ مريم مِن وساوس التلميذ الصغير، تنادي ابنها: «يا يسوع، يَسأَل مارغزيام إذا ما كان بإمكانه أن يأكل مِن الشعير المقشور... بسبب العسل الذي يجعل منه طَبَقاً شهيّاً، تعرف...»
«نعم، نعم، مارغزيام. أُحِلُّكَ مِن تضحيتك هذا المساء، شرط أن يأكل يوحنّا أيضاً صحن الشعير بالعسل. أترى كم يشتهيه الصبيّ؟ ساعِده إذن على الحصول عليه» ويسوع، القريب مِن يوحنّا، يُمسِك بيده ويحتفظ بها، بينما يُرغِم يوحنّا نفسه، بفعل طاعة، على إنهاء صحن الشعير الذي سُكِبَ له.
مريم التي لحلفى هي أكثر سروراً الآن، وتعود لتقتحم الغرفة بطبق شهيّ مِن الإجاص المطهوّ بالفرن ما يزال ساخناً. تَدخُل مِن الحديقة حامِلَة الطَّبَق وهي تقول: «إنّها تُمطِر. لقد بدأ الهَطل. يا لِسوء الطَّالِع!»
«ولكن لا! على العكس، هذا أفضل! فهكذا لن يكون أناس على الطرقات. عندما نرحل، التحيّات تُسيء... والأفضل أن نذهب خِفية مع الريح وفي الأشرعة كي لا نلتقي بؤر فساد أو عَثَرات تَفرُض توقّفات ومسيرة بطيئة. والفضوليّون هُم بالضبط بؤر فساد وعَثَرات...» يقول بطرس الذي يَرَى الأشرعة والإبحار في كلّ حَدَث.
«شكراً يا مريم. ولكنّني لن آكل شيئاً آخر» يقول يوحنّا وهو يُحاوِل دفع الفواكه.
«آه! هذا لا! فمريم هي التي طَهَتها. هل تريد احتقار الطعام الذي حَضَّرَته هي؟ انظر كيف أجادت تحضيرها! مع توابلها في الثقب الصغير... والزبدة في الأساس... فهذه حلوى ملوكيّة. لقد احمرَّت، هي كذلك في نار الفرن حتّى تصبح ذهبيّة. إنّها مفيدة للبلعوم، للسعال...إنّها تُدفّئ وتشفي. مريم، قولي له أنتِ، كم كان تأثيرها على زوجي حلفى عندما كان مريضاً. ولكنّه كان يريد أن تصنعيها له أنتِ. هي ذي! نعم! ذلك أنّ يديكِ مقدّستان وتمنحان الصحّة!... مباركة هي الأطعمة التي تُحضِّرينها!... حلفاي كان يصبح أكثر سكوناً بعد تناوله هذه الإجاصات... كان تنفُّسه يُصبح ألطف... زوجي المسكين!...» وتنتَهِز مريم فرصة هذه الذكرى لتتمكّن أخيراً مِن البكاء والخروج مِن أجل البكاء. قد أكون افترضتُ افتراضاً شرّيراً، ولكنّني أظنُّ أنّها لولا إشفاقها على اللَّذَين سيرحلان، لما حظي «حلفى المسكين» بدمعة مِن زوجته، هذا المساء... كان وجه مريم التي لحلفى مبلّلاً بالدموع مِن أجل يوحنّا وسِنْتيخي، ومِن أجل يسوع ويعقوب ويوضاس الذين كانوا ماضين، لدرجة أنّها وَجَدَت مَخرَجاً لدموعها كي لا تَختَنِق.
عندها تَلَتها مريم، واضعة يدها على كتف سِنْتيخي الجالسة مقابل يسوع، بين سمعان ومتّى. «هيّا، كُلوا. هل تريدون الرحيل تاركين إيّاي في قلق لأنّكم رحلتم في شِبه صيام؟»
«أنا أكلتُ، أيّتها الأُمّ» تقول سِنْتيخي وهي ترفع وجهها التَّعِب الذي تركت الدموع التي ذرفتها منذ بضعة أيّام آثارها عليه. ثمّ تحني رأسها على الكتف حيث وَضَعَت مريم يدها، وهي تفرك وجهها على اليد الصغيرة لِتَشعُر بالملاطَفة. وتُداعِب مريم باليد الأخرى شعرها، وتشدّ إليها رأس سِنْتيخي التي أضحت تَسنُد رأسها على صدرها.
«كُلْ يا يوحنّا، فهذا يفيدكَ بحقّ. فيجب ألّا تُصاب بالبرد. وأنتَ يا سمعان بن يونا، سوف تَحرَص على إعطائه الحليب الساخن بالعسل كلّ مساء، أو، على الأقلّ، الماء الحارّ بالعسل. تَذكَّر ذلك أنتَ.»
«سوف أتدبّر الأمر أنا كذلك أيّتها الأُمّ. كوني مطمئنّة.» تقول سِنْتيخي.
«بالفعل، أنا متأكّدة مِن ذلك. ولكنّكِ سوف تفعلين ذلك عندما تستقرّان في أنطاكية، أمّا الآن فسمعان بن يونا هو مَن سيتكفّل بالأمر. وتذكَّر يا سمعان أن تُقدِّم له الكثير مِن زيت الزيتون. لأجل ذلك أعطيتُكَ هذه القارورة. احرص على ألّا تكسرها. وإذا رأيتَ صُعوبة في تنفّسه، فافعل كما قلتُ لكَ باستخدام قارورة البلسم الأخرى. خُذ ما يلزم لدهن الصدر والكتفين والكليتين، وسَخِّنه إلى الدرجة التي تستطيع معها أن تُمسِكه دون أن تَحرِق نفسك، ثمّ ادهنه وغَطِّهِ مباشرة بأحزمة الصوف التي أعطيتُكَ إيّاها. لقد حَضَّرتُه خصّيصاً. وأنتِ، سِنْتيخي، تذكري مكوناته، لكي تُعاودي تحضيره. يمكنكِ إيجاد الزنابق على الدوام، وكذلك الكافور والرياحين، والراتنج والقرنفل والغار والأرطماسية (نبات عطري) والباقي. لقد سمعتُ أنّ للعازر هناك، في أنتيجونيا، حدائق للخُلاصات.»
«وهي رائعة» يقول الغيور الذي شاهدها. ويُضيف: «أنا، لستُ بناصح، ولكنّني أقول إنّه، بالنسبة إلى يوحنّا، هذا المكان نافع له، لروحه كما لجسده، أكثر مِن أنطاكية. فهو محميّ مِن الرياح؛ والنسيم خفيف، وهو قادم مِن الغابات الراتنجيّة المتوضّعة على منحدرات هضبة صغيرة، والتي تحمي مِن رياح البحر، إنّما تسمح لأملاح البحر بالانتشار وصولاً إلى هناك؛ إنّه مكان هادئ، صامت، ومع ذلك هو مُبهِج بفضل آلاف الزهور والطيور التي تعيش فيه بسلام... في النهاية سوف تَرَون أنتم ما الذي يناسبكم أكثر. سِنْتيخي كثيرة الحصافة! لأنّه في مثل هذه الأمور، يُفَضَّل اللجوء إلى النساء، أليس كذلك؟»
«بالفعل إنّني أعهد بيوحنّاي إلى حسّ سِنْتيخي المرهَف وقلبها الطيب» يقول يسوع.
«وأنا كذلك» يقول يوحنّا الذي مِن عين دور. «أنا... أنا... أنا، لم تعد لديَّ طاقة... و... ولم أعد أنفع لشيء...»
«لا تقل ذلك يا يوحنّا! عندما يُعرّي الخريف الأشجار، فهذا لا يعني أنّها أصبحت هامدة. على العكس، إنّها تعمل بطاقة خفيّة لتهيئة نصر الإثمار القادم. بالنسبة إليكَ، الأمر ذاته. الآن قد عُرّيتَ بفعل ريح هذا الألم الباردة. إنّما في الحقيقة، في أعماق ذاتكَ، فإنّكَ تعمل مِن أجل المهمّات الجديدة. ألمكَ نفسه يدفعكَ للعمل. أنا متأكّدة. حينذاك ستكون أنتَ، أنتَ، على الدوام، مُساعِدي، أنا المرأة المسكينة، التي ما تزال في حاجة إلى الكثير لتتعلّمه كي تصبح شيئاً نافعاً ليسوع.»
«آه! ماذا تريدينني أن أكون؟! لم يعد لديَّ ما أقوم به... لقد انتهيتُ!»
«لا، لا يحسن قول هذا! الذي يحتضر فقط يمكنه القول: "لقد انتهيتُ كإنسان". وليس الآخرون. هل تظنّ أنّه لم يعد لديكَ ما تفعله؟ ما يزال عليكَ أن تقوم بما قُلتَه لي يوماً: إتمام التضحية. وكيف ذلك، إن لم يكن بالألم؟ يا يوحنّا، إنّ الاستشهاد بالحكماء، بالنسبة إليكَ أنتَ الخطيب المتمرّس، هو أمر سخيف، ولكنّني أُذكّرك بجورجياس دي ليونتين (فيلسوف يوناني). لقد كان يُعلّم أنّ المرء لا يُكفِّر في هذه الحياة أو في الأخرى إلّا بالآلام والعذابات. وأُذكِّرك بسقراط العظيم: "عِصيان مَن يفوقنا رتبة، إلهاً كان أو إنسانا ًشرّ هو ومُخجِل".إذ، لو كان ذلك صائباً مِن أجل إطاعة شريعة جائرة سَنَّها أُناس جائِرون، فماذا يكون إذا كان بخصوص أمر أُعطي مِن الإنسان كلّيّ القداسة ومِن إلهنا؟ فالطاعة هنا شيء عظيم، لمجرّد كونها طاعة. فإنّها لَعَظيمة جدّاً، الطاعة لأمر مقدَّس، أَعتَبِره أنا، وعليكَ أن تعتبره معي، رحمة عظيمة. أنتَ لا تَكُفَّ عن القول بأنّ حياتكَ أشرَفَت على النهاية، وأنّكَ لا تشعر بأنّكَ قد وَفيتَ ما تَدين به تجاه العدالة. فلماذا لا تعتبر هذا الألم الكبير بمثابة وسيلة للتوصّل إلى وفاء هذه الديون، وأن تفعل ذلك في المدّة القصيرة المتبقّية لكَ بعد؟ ألم كبير للحصول على سلام عظيم! ثِق بي، فإنّ ذلك يستحقّ تحمّل الألم مِن أجله. الشيء الوحيد المهمّ في هذه الحياة، هو بلوغ ساعة الموت بعد اكتساب الفضيلة.»
«إنّكِ تُعيدين لي حماستي يا سِنْتيخي... افعلي ذلك دائماً.»
«سوف أَفعَل. أعدكَ هنا. ولكن ساعدني أنتَ، كرجل وكمسيحيّ.»
انتهى العشاء. تلمّ مريم الإجاصات التي بقيَت وتضعها في آنية لتعطيها إلى أندراوس، الذي يَخرُج ويعود وهو يقول: «ما زال الهطل يشتد. أنا، أقول إنّه مِن الأفضل...»
«نعم، الانتظار هو إطالة لمدّة المعاناة. أنا ماضٍ على الفور لتجهيز الدابّة. وأنتم كذلك تعالوا بالصناديق وبقيّة الأغراض. وأنتِ كذلك يا بورفيرا. بسرعة! إنّكِ طويلة الأناة لدرجة أنّه حتّى الحمار يستكين ويسمح بإلباسه (يقول هكذا بالضبط) دونما عِناد. بعد ذلك يأخذ أندراوس الذي يشبهكِ المهمّة. هيّا بنا، فلنمضِ!» ويُخرِج بطرس الجميع مِن الغرفة والمطبخ، عدا مريم ويسوع ويوحنّا الذي مِن عين دور وسِنْتيخي.
«يا معلّم! آه! يا معلّم، ساعدني! إنّها ساعة الـ... ساعة إحساسي بقلبي ينفَطِر! نعم لقد أَزَفَت! آه! يا يسوع الطيّب، لماذا لا تجعلني أموت هنا، بعد أن تلقَّيتُ صكّ الإدانة الرّهيب، وبعد الجهود التي بذلتُها للقبول بذلك؟!» ويرتمي يوحنّا على صدر يسوع، وهو يبكي قَلِقاً.
تُحاوِل مريم وسِنْتيخي تهدئته، ومريم، مع احتفاظها برزانتها الدائمة، تجعله يَنفكّ عن يسوع وتُعانِقه، داعية إيّاه: «ابني الحبّيب، ابني المفضَّل»…
وفي هذه الأثناء، تجثو سِنْتيخي عند قدميّ يسوع قائلة: «باركني، كَرِّسني لأنال القوّة. يا ربّ، الـمُخلِّص والـمَلِك، هنا، وبحضور والدتكَ، أُقسِم وأَعِد بأن أَعتَنِق مذهبكَ وأن أخدمكَ حتّى آخِر رَمَق مِن حياتي. أُقسِم وأَعِد بأن أُكرِّس نفسي لخدمة مذهبكَ والذين يتّبعونه، حُبّاً بكَ، أيّها المعلّم والـمُخلِّص. أقسم وأَعِد بأنه لن يكون لحياتي هدف آخر، وأنّ كلّ ما هو عالَم وجَسَد قد مات بالنسبة إليَّ بشكل نهائيّ، بينما آمُل، بعون الله وصلوات أُمّكَ، أن أنتصر على الشيطان كي لا يجعلني أسقط فأرتكب الخطيئة، فلا يُحكم عليَّ يوم دينونتكَ. أُقسِم وأَعِد بأنّ الإغراءات والتهديدات لن تثنيني عَن عزمي، وأنّني سوف أتذكّر هذا، إلّا إذا كانت مشيئة الله بخلاف ذلك. ولكن لي رجاء عامر به وأؤمن بعطفه، ممّا يُولِّد لديَّ اليقين أنّه لن يَدَعني بين يديّ قُوى الظلمات الأقوى مِن قوّتي. كَرِّس خادمتكَ، يا ربّ، كي تكون مُحصَّنة ضدّ فخاخ كلّ الأعداء.»
يَضَع يسوع يديه على رأسها، الكَفَّان مفتوحتان كما يَفعَل الكَهَنَة كذلك، ويصلّي عليها.
وتقود مريم يوحنّا إلى جانب سِنْتيخي وتجعله يجثو قائلة: «هو أيضاً، يا ولدي، كي يخدمكَ بالقداسة والسلام.»
ويُكرِّر يسوع الحركة على رأس يوحنّا المسكين المنحني. ثمّ يُنهِضه ويُنهِض سِنْتيخي، واضعاً يديهما في يديّ مريم قائلاً: «فلتكن هي آخر مَن يُلاطِفكما هنا» ويَخرُج مسرعاً ليمضي لستُ أدري إلى أين.
«الوداع أيّتها الأُمّ! لن أنسى هذه الأيّام» يُتمتِم يوحنّا.
«وأنا كذلك لن أنساكَ، يا ابني الحبّيب.»
«وأنا كذلك، أيّتها الأُمّ... وداعاً. اسمحي لي أن أُقبِّلكِ مرّة أخرى... آه! بعد سنوات كنت متعطّشة فيها للقبلات الأموميّة!... الآن، لا شيء...» وتبكي سِنْتيخي بين ذراعيّ مريم التي تُعانِقها.
يوحنّا لا يتوقّف عن النحيب. تعانقه مريم كذلك. الآن أَصبَحَ الاثنان بين ذراعيها، الأُمّ الحقيقيّة للمسيحيّين، وتُلامِس بشفتيها الفائِقَتيّ الطُّهر خَدّ يوحنّا الخشن، قُبلة عفيفة، إنّما حنونة للغاية. ومع القُبلة، تبقى دموع العذراء على الخدّ الهزيل…
يَدخُل بطرس: «كلّ شيء جاهز، هيّا بنا...» ولا يزيد كلمة على ذلك بسبب التأثّر.
مارغزيام الذي يتبع أباه كما يتبع الظلّ الجسم، يتعلّق بعنق سِنْتيخي ويُعانِقها، يُعانِق يوحنّا ويُقبِّله يُقبِّله... ولكنّه يبكي كذلك.
يَخرُجون، مريم تُمسِك بيد سِنْتيخي ويوحنّا يُمسِك بيد مارغزيام.
«معاطفنا...» تقول سِنْتيخي وهي تبكي، وتهمّ بالعودة.
«إنّها هنا، إنّها هنا. خُذاها بسرعة...» يقول بطرس بقسوة كي لا يتأثّر، ولكنّه، خلف اللَّذَين يتدثّران بمعطفيهما، يمسح دموعه بظهر يده…
هناك، خلف السياج، نور العربة المتراقص يَطبَع بُقعة صفراء على جو العتمة... المطر يُحدِث أصواتاً على أوراق الزيتون، ويطنّ على البركة المليئة ماء... حمامة أَيقَظَها نور المصابيح التي حَمَلَها الرُّسُل مُنخَفِضة، وهم يَحمونها بمعاطفهم، لإنارة الدرب المليء بالمستنقعات، تَهدل بشكل يدعو إلى الشَّفَقة…
أَصبَحَ يسوع إلى جانب العربة التي مُدَّ عليها شرشف كغطاء.
«هيّا بنا، هيّا بنا! المطر يهطل بغزارة!» يقول بطرس ليدفعهم إلى العَجَلَة. وبينما يأخذ يعقوب بن زَبْدي مكان بورفيرا حيث يُمسِك باللّجام، فإنّه، وبدون تَكلُّف، يَرفَع سِنْتيخي عن الأرض ويُصعِدها إلى العربة، وبسرعة أكبر يُمسِك بيوحنّا ويُصعِده كذلك، ويَصعَد هو كذلك، ومباشرة يهوي بالسوط على الحمار المسكين بقوّة تجعله يتعجّل المسير بشكل كاد يَقلِب يعقوب. ويُلِحُّ بطرس على الإسراع حتّى يَبلغوا الطريق الصحيحة على مسافة لا يستهان بها مِن المنازل... وَصَيحة وداع أخيرة تتبع الرَّاحِلين الذين لا يتمكّنون من إمساك انفسهم عن البكاء…
يُوقِف بطرس المطيّة، بعدئذ، خارج الناصرة، مُنتَظِراً يسوع والآخرين الذين لا يتأخّرون في اللحاق بهم سائرين بسرعة تحت وابل المطر.
يَسلُكون طريقاً عَبْر الحدائق لِيَصِلوا مِن جديد إلى شمال البلدة دون أن يَعبُروا فيها. إلّا أنّ الناصرة غارقة في ظلمة الليل، تغطّ في نوم عميق تحت مياه ليل الشتاء الجليديّة... وأظنّ أنّ صوت حوافر الحمار، قليلة الأثر على الأرض المبلّلة في طريق مُداسَة، لا يلاحظه حتّى ولا الساهرون المحتملون…
تتقدّم الجماعة في الصمت المطبق. لا يُسمع سوى صوت نحيب التلميذين، ممتزجاً بصوت المطر على أوراق الزيتون.