ج6 - ف130

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الثاني

 

130- (العذراء المباركة في طبريّا)

 

16 / 05 / 1946

 

أصبَحَت طبريّا في مرمى النّظر فيما المسافرتان المتعبتان تتقدّمان في الغسق الآخذ بالازدياد.

 

«سوف يحلّ الظلام قريباً... ونحن لا نزال في وسط الريف... إمراتان وحيدتان... وقريباً مِن مدينة كبيرة تعجّ بـ... آه! يا لهم مِن قوم! بعلزبول! بعلزبول في غالبيّتهم...» تقول مريم حلفى فيما تتلفّت حولها مذعورة.

 

«لا تخافي يا مريم. بعلزبول لن يؤذينا. إنّه فقط يؤذي أولئك الذين يستقبلونه في قلوبهم...»

 

«وأولئك الوثنيّون يمتلكونه!...»

 

«لا يوجد في طبريّا وثنيّون فقط. وحتّى وسط الوثنيّين هناك أناس أبرار.»

 

«ماذا؟ ليس لديهم إلهنا!...»

 

مريم لا تردّ لأنّها تُدرك بأنّ ذلك سيكون بلا فائدة. فسلفتها الطيّبة ليست سوى واحدة مِن الإسرائيليّات الكثيرات اللواتي يؤمنّ بأنّهنّ وحدهنّ مَن يمتلكن الفضيلة... وفقط لأنّهنّ إسرائيليّات.

 

إنّهما تصمتان: لا يُسمَع سوى صوت الصنادل التي تكسو أقدامهما المغبرّة والمتعبة.

 

«كان مِن الأفضل لو سلكنا الطريق المعتادة... فنحن نعرفها... فهي أكثر ارتياداً مِن قِبَل الناس... أمّا هذه... وسط البساتين، منعزلة، غير مرتادة... إنّني خائفة، هذا كلّ ما في الأمر!»

 

«لا يا مريم. انظري. ها هي المدينة هناك، إنّها على بُعد بضع خطوات مِن هنا. وها هي البساتين الهادئة لِـمُزارعي طبريّا، وها هي الضفّة هناك، فقط على بُعد بضع خطوات مِن هنا. أتريدين الذهاب إلى الضفّة؟ سوف نجد صيّادين هناك... ليس علينا سوى اجتياز هذه البساتين.»

 

«لا! فبذلك قد نبتعد مجدّداً عن المدينة! ومِن ثمّ... تقريباً جميع الربابنة هُم يونانيّون، كريتيّون، مصريّون، رومانيّون...» ويبدو الأمر كما لو أنّها تشير إلى طبقات جهنّم. العذراء المباركة لا تستطيع أن تمنع نفسها مِن الابتسام مِن وراء الوِشاح الذي يظلّل وجهها.

 

إنّهما تُتابِعان. الطريق تغدو درباً ضيقاً، وبذلك أكثر عتمة... ومريم التي لحلفى خائفة أكثر مِن أيّ وقت مضى، وهي تبتهل ليهوه في كلّ خطوة، فيما تمضيان ببطء أكثر فأكثر.

 

«هيّا إذن، تشجّعي! أَسرِعي، إذا كنتِ خائفة!» تقول مريم مشجّعة إيّاها بعدما كانت تجيب بـ "ماران أتا!" على كلّ ابتهال.

 

لكنّ مريم التي لحلفى تتوقّف وتَسأَل: «ولكن لماذا أردتِ المجيء إلى هنا؟ ألكي تتحدّثي إلى الإسخريوطيّ؟»

 

«لا يا مريم. أو على الأقلّ فليس لذلك الهدف بالتحديد. لقد جئتُ كي أتحدّث إلى فاليريا، السيدة الرومانيّة...»

 

«ربّاه! هل نحن ذاهبتان إلى منزلها؟ آه! لا! مريم! لا تفعلي ذلك! أنا... أنا لن أذهب معكِ! إنّما لماذا أنتِ ذاهبة إلى هناك؟ إلى أولئك... أولئك... الملعونين!...»

 

الابتسامة اللطيفة للعذراء المباركة تغدو تعبيراً صارماً فيما تَسأَل: «ألا تتذكّرين أنّه يتوجّب تخليص أوريا؟ إنّ ابني قد ابتدأ بتخليصها. وأنا سأُكمل. أهكذا تمارسين المحبّة تجاه النُّفوس؟»

 

«ولكنّها ليست مِن إسرائيل...»

 

«حقّاً إنّكِ لم تفهمي أيّة كلمة مِن البشرى السارّة! إنّكِ تلميذة ناقصة جدّاً...  إنّكِ لا تَعمَلين لأجل معلّمكِ، وأنتِ تُسبّبين لي حزناً عميقاً.»

 

مريم التي لحلفى تخفض رأسها... لكنّ قلبها، المليء بأحكام إسرائيل المسبقة، إنّما الطيّب بالفطرة، يُسيطر، وتُعانِق مريم فيما تنفجر بالبكاء وتقول: «سامحيني! لا تقولي بأنّني أحزنكِ وبأنّني لا أخدم يسوعي! نعم! أنا ناقصة جدّاً وأستحقّ اللّوم... إنّما لن أفعل ذلك مجدّداً... سوف آتي! حتّى إلى الجحيم فيما إذا كان عليكِ الذهاب إلى هناك لتخليص نَفْس ومنحها ليسوع... أعطني قبلة يا مريم، كيما تقولي بأنّكِ غفرتِ لي...»

 

مريم تُقبّلها وتستأنفان رحلتهما، تسيران بسرعة، مبتهجتين بالمحبة…

 

إنّهما الآن في طبريّا، قرب مرفأ الصيّادين الصغير. إنّهما تبحثان عن المنزل الصغير ليوسف، التلميذ الصيّاد... تَجِدانه وتقرعان الباب…

 

«أُمّ معلّمي! ادخلي يا امرأة! وليكن الله معكِ ومعي، أنا الذي أستضيفكِ. وأنتِ، ادخلي أيضاً، وليكن السلام معكِ، يا أُمّ الرّسولين.»

 

تَدخُلان فيما الزوجة والابنة الصغيرة تأتيان لتحيّتهما متبوعتين بمجموعة صغيرة مِن الأبناء الأصغر سنّاً…

 

الوجبة المتواضعة انتهت سريعاً، ومريم التي لحلفى، وكونها متعبة، فإنّها تنسحب مع الأولاد. وعلى الشرفة العليا، التي يمكن رؤية البحيرة منها -يمكن سماع مياهها تتلاطم على الضفّة أكثر ممّا يمكن رؤيتها، لأنّ القمر لم يطلع بعد- هناك العذراء المباركة، الصيّاد وزوجته، التي تجهد كي تبقى مستيقظة، لكن في الحقيقة فإنّ رأسها قد تدلّى مستسلماً للنوم…

 

«إنّها متعبة!...» يقول يوسف ملتمساً لها العذر.

 

«مسكينة! إنّ ربّات البيوت يكنّ دائماً منهكات عند المساء.»

 

«نعم، إنّهنّ يعملن. إنّهن لسن مثل أولئك هناك، اللواتي يلهون!» يقول الصيّاد بازدراء بينما يشير إلى بعض القوارب المضاءة، والتي تنطلق مِن الضفّة صادحة بالأغاني والموسيقى. «إنّهنّ يخرجن الآن! إنّهنّ يبدأن بالعمل في هذا الوقت، عندما يذهب الشرفاء إلى النوم! وبهذا يسبّبن الأذى للعمال، لأنّهنّ يذهبن إلى أفضل المواضع، مدّعين بأنّهن يصطدن، ويطردوننا، نحن الذين نكسب عيشنا مِن البحيرة...»

 

«مَن هنّ؟»

 

«نساء رومانيّات وما شابههنّ. ومِن بين الأخيرات هيروديّا وابنتها الساقطة، وبعض النساء اليهوديّات أيضاً... لأنّ لدينا الكثيرات على شاكلة مريم المجدليّة... أقصد المجدليّة قبل توبتها...»

 

«إنّهنّ بائسات...»

 

«بائسات؟ نحن البؤساء لأنّنا لا نرجمهنّ كي نخلّص إسرائيل مِن أولئك اللواتي أصبحن فاسدات، واللواتي يجلبن علينا لعنة الله.»

 

في تلك الأثناء قوارب أخرى كانت قد انطلقت، بحيث أصبح لون البحيرة ضارباً إلى الحُمرة بفعل مصابيح قوارب طالبي المتعة.

 

«هل تشتمّين رائحة أصماغ (راتنج) محروقة؟ إنّهم بداية ينتشون بالدخان، ويقومون بالباقي خلال الولائم. إنّهم قادرون تماماً على الذهاب إلى الينابيع الحارّة على الضفّة الأخرى... إلى تلك الحمّامات الساخنة... أمور جهنّمية تحدث هناك! سوف يعودون عند السَحَر، عند الفجر، وربّما بعد ذلك... سكارى، مكدّسين فوق بعضهم البعض، رجالاً ونساءً، تماماً مثل الأكياس، وعبيدهم سوف يحملونهم إلى منازلهم، كيما ينقضي مفعول العربدة... إنّ كلّ القوارب الجميلة تخرج هذا المساء! انظري! انظري!... إنّما أنا أكثر غضباً مِن اليهود الذين يختلطون بهم. فبالنسبة لهم... فنحن نعلم! إنّهم حيوانات بلا حياء. إنّما نحن!... يا امرأة، هل تعلمين بأنّ يهوذا الرّسول موجود هنا؟»

 

«أَعلَم.»

 

«إنّه لا يقدّم مَثَلاً حسناً، أتعلمين؟»

 

«لماذا؟ هل يذهب مع أولئك الناس؟...»

 

«لا... لكن... مع صحبة سيّئة... وامرأة... أنا لم أره... ما مِن أحد منّا رآه مع هكذا صحبة. إنّما بعض الفرّيسيّن قد سَخِروا منّا قائلين: "إنّ رسولكم قد بَدَّل معلمه. الآن لديه امرأة، وهو في صحبة جيّدة مع عشّارين."»

 

«لا تدِن لمجرّد سماعكَ ما يقوله الناس يا يوسف. أنتَ تعلم بأنّ الفريّسييّن لا يحبّونكم، وهم حتّى لا يُشيدون بالمعلم.»

 

«هذا صحيح... لكنّ الإشاعة تنتشر... وذلك يسبّب الأذى...»

 

«كما انتشرت فسوف تخبو. لا تخطئ بحقّ أخيكَ. أين يُقيم؟ هل تعلم؟»

 

«نعم، عند صديق، على ما أعتقد. شخص لديه متجر خمور وتوابل. إنّه المتجر الثالث على الجانب الشرقيّ للسوق، بعد نافورة الماء...»

 

«هل كلّ الرومانيّات على تلك الشاكلة؟»

 

«آه! تقريباً!... إنّهنّ يخطئن، حتّى ولو لم يَدَعن أحداً يرى ذلك.»

 

«مَن هنّ أولئك اللواتي لا يَدَعن أحداً يراهنّ؟»

 

«أولئك اللواتي ذهبن لعند لعازر في الفصح. إنّهنّ منعزلات أكثر... أقصد... إنّهنّ لا يذهبن دوماً إلى الولائم. إنّما هنّ يَقُمن بذلك بما يكفي كي يمكن للناس القول عنهّن بأنّهنّ نَجِسات.»

 

«هل تقول ذلك لأنّكَ متأكّد، أم إنّ أحكامكَ اليهودية المسبقة هي التي تجعلكَ تقول ذلك؟ فكّر بذلك بإمعان...»

 

«حسناً... في الحقيقة... لا أعرف... أنا ما عدتُ رأيتهنّ مجدّداً في قوارب أولئك القذرين... لكنّهنّ يخرجن إلى البحيرة ليلاً.»

 

«أنتَ تَخرُج، كذلك.»

 

«بالتأكيد، فيما إذا أردتُ أن أذهب للصيد!»

 

«إنّ الجوّ شديد الحرارة! وفقط خارجاً في البحيرة الجوّ منعش ليلاً. أنتَ قلتَ ذلك بنفسكَ فيما كنّا نتناول طعام العشاء.»

 

«هذا صحيح.»

 

«فإذن، لماذا عدم الأخذ بعين الاعتبار بأنّهن يذهبن إلى البحيرة لذلك السبب؟»

 

الرجل يصمت... ثمّ يقول: «لقد تأخّر الوقت. النجوم تُخبِر بأنّه الهزيع الثاني. أنا أنسحب يا امرأة. ألا تأتين؟»

 

«لا. سوف أبقى هنا وأصلّي. سوف أخرج باكراً. لا تتفاجأ فيما إذا لم ترني عند الفجر.»

 

«أنتِ حرّة في أن تفعلي ما تشائين. حنّة! هيّا! لنذهب إلى السرير!» ويهزّ زوجته التي تنام بعمق. ويمضيان.

 

مريم تبقى وحدها... إنّها تركع وتصلّي... إنّما لا يغفل نظرها عن القوارب التي تجول في البحيرة، قوارب الأغنياء، الزاخرة بالأنوار، بالزهور، بالأغاني وأدخنة البخور... الكثير منها تمضي باتّجاه الشرق، إنّها تصبح صغيرة جدّاً بسبب بُعدها، ما عاد مسموعاً صوت الأغاني. يبقى قارب وحيد يشعّ فوق صفحة الماء التي يضيئها القمر، الذي يغيب أمام طبريّا، إنّ القارب يشعّ، إنّه يروح ويجيء على مهل... مريم تراقبه إلى أن تراه يتوجّه نحو الضفّة.

 

عندها تنهض مريم قائلة: «ساعدني يا ربّ! فليتحقّق...» ومِن ثمّ تنزل الدَرَج بخفّة، تدخل إلى غرفة بابها نصف مفتوح... يمكن رؤية سرير صغير في ضوء القمر. مريم تنحني فوقه وتنادي: «مريم! استيقظي! لنذهب!»

 

مريم التي لحلفى تستيقظ، وتَسأَل وهي تفرك عينيها، وقد غلبها النوم: «هل حانت ساعة الذهاب؟ هل طلع النهار؟» إنّها مأخوذة بالنوم لدرجة أنّها لا تُدرِك بأنّه ليس نور الفجر، بل إنّما وميض القمر الخافت هو الذي يدخل عبر الباب. إلّا أنّها تدرك ذلك عندما تصبح في الخارج، في قطعة الأرض الصغيرة المزروعة أمام منزل الصياد.

 

«ولكن الوقت ليل!» تصيح.

 

«نعم. إنما هكذا سننتهي سريعاً وسنخرج مِن هذه المدينة بأسرع وقت... على الأقلّ آمُل بذلك. تعالي! مِن هنا، على طول الضفّة. بسرعة! قبل أن يرسو القارب...»

 

«القارب؟ أيّ قارب؟» تَسأَل مريم. لكنّها تركض وراء العذراء، التي تسير بسرعة على طول الضفّة الـمُقفِرة، نحو الرصيف الصغير حيث يتّجه القارب.

 

تَصِلان لاهثتين قبل القارب ببضع لحظات... مريم تراقب بانتباه. إنّها تهتف: «التسبيح للربّ! إنّهنّ هنّ! اتبعيني الآن... لأنّه علينا الذهاب إلى حيث يذهبن... فأنا لا أعلم أين هنّ يسكنّ...»

 

«لكن يا مريم... أستحلفكِ بالرحمة!... سوف يظنّون بأنّنا بائعتيّ هوى!...»

 

الأُمّ كلّية الطّهارة تهزّ رأسها وتهمس: «المهمّ هو أنّنا لسنا كذلك. تعالي!» وتجذبها إلى ظلّ أحد المنازل.

 

يَصِل القارب، وبينما يُناور كي يرسو، فإنّ محفّة (نقّالة)، والتي كانت بالانتظار في مكان قريب، تُجلَب إلى الأمام قُرب القارب. وامرأتان تصعدان إليها، فيما اثنتان تبقيان خارجها وتمشيان بالقرب منها، فيما تبتعد محمولة مِن قِبَل أربعة نوديّين يمشون بخطوات متناسقة، وهم يلبسون قمصاناً قصيرة جدّاً وبلا أكمام، والتي بالكاد تغطّي جذوعهم…

 

مريم تتبع المحفّة على الرغم مِن أنّ مريم التي لحلفى تحتجّ بصوت خافت: «إمرأتان وحيدتان! خلف أولئك الرجال! إنّهم نصف عراة... آه!...»

 

تتوقّف المحفّة بعد بضعة أمتار. تنزل منها امرأة، فيما الذي في مقدّمة المحفّة يطرق على إحدى البوابات.

 

«مع السلامة يا ليديا!»

 

«مع السلامة يا فاليريا! قبلاتي لفوستينا. مساء الغد سوف نقرأ أيضاً في سلام، فيما يلهو الآخرين...»

 

البوابة تُفتَح، وفاليريا مع عبدتها أو معتقتها على وشك الدخول.

 

مريم تتقدّم وتقول: «يا سيّدة! كَلِمة!»

 

فاليريا تنظر إلى المرأتين المتدثّرتين برداء عبريّ بسيط وقد غطّى وجهيهما، وتظنّ بأنّهما متسوّلتان. إنّها تأمر: «بربارة، أعطيهما صَدَقَة!»

 

«لا يا سيّدة. أنا لا أطلب مالاً. أنا أُمّ يسوع الناصريّ، وهذه قريبتي. لقد جئتُ كي أطلب منكِ معروفاً باسمه.»

 

«سيّدتي! أيتعرّض ابنكِ ربّما... للمضايقات»

 

«ليس أكثر مِن المعتاد. ولكنّه يودّ...»

 

«ادخلي يا سيّدتي. لا يليق بكِ أن تبقي هنا في الشارع مثل متسوّلة.»

 

«لا. بضع كلمات ستفي بالغرض إذا ما أمكنكِ الاستماع إليَّ على انفراد...»

 

«اذهبوا، كلّكم!» فاليريا تأمر عبدتها أو معتقتها والبوّاب. «ها نحن وحدنا. ماذا يريد المعلّم؟ أنا لم أذهب إليه لأنّني لا أريد أن أسبّب له أيّة مشاكل في مدينته. ألم يأتِ هو، ربّما كي لا يتسبّب لي بالمشاكل مع زوجي؟»

 

«لا. أنا نصحتُه بألّا يأتي. ابني مكروه يا سيّدة.»

 

«أنا أَعلَم ذلك.»

 

«ولا يجد عزاء له إلّا في رسالته.»

 

«أَعلَم.»

 

«إنّه لا يبحث عن المجد، ولا عن الجيوش، إنّه لا يطمح للسُّلطة ولا للغنى. لكنّه يؤكّد على حقوقه تجاه النُّفوس.»

 

«أَعلَم.»

 

«يا سيّدة... إنّ عليه أن يعيد إليكِ تلك الفتاة... إنّما لا تستائي إذا قلتُ لكِ بأنّها لن تستطيع أن تثابر هنا كي تكون نَفْسها ليسوع. إنّكِ أفضل مِن الآخرين... إنّما مِن حولكِ... هناك الكثير مِن فسق العالم.»

 

«هذا صحيح. فإذن؟»

 

«إنّكِ أُمّ... ولابني مشاعر الأب تجاه كلّ النُّفوس. أيمكن أن تسمحي بأن تترعرع ابنتكِ بين أُناس يمكن أن يتسبّبوا بهلاكها؟...»

 

«لا. لقد فهمتُ... حسناً... قولي هذه الكلمات لابنكِ: "لذكرى فوستينا، التي خلّصت في جسدها، فإنّ فاليريا تمنحكَ أوريا كي تخلّص نَفْسها." هذا صحيح! نحن فاسدون جدّاً... إنّنا لا نؤمِّن القداسة... سيّدتي، صلّي لأجلي!» وتنسحب بسرعة، قبل أن تتمكّن مريم مِن أن تشكرها. إنّها تنسحب، أودُّ القول، باكيةً…

 

مريم التي لحلفى مذهولة.

 

«لنذهب يا مريم... سوف نرحل خلال الليل، وغداً مساءً سنكون في الناصرة»

 

«لنذهب... لقد تنازَلَت عنها كما لو أنّها كانت شيئاً ما...»

 

«إنّها شيء بالنسبة لهم. بالنسبة لنا هي نَفْس. تعالي. انظري... إنّ الفجر آخذ بالظهور هناك. يمكن القول بأنّه ليس هناك ليل في هذا الشهر...»

 

تمضيان في طريق لم تعد معتمة، والتي تمتدّ أمامهما، وذلك بدلاً مِن سلوك طريق الضفّة. إنّها طريق خلف رتل مِن المنازل المتواضعة... وحين تصبحان في منتصفها، يَظهَر يهوذا مِن زاوية سكراناً على نحو ظاهر. يهوذا عائد لا أدري مِن أيّة وليمة، أشعث الشعر، بثوب مجعّد، وجهه مضروب.

 

«يهوذا! أنتَ؟ في هذه الحالة؟»

 

يهوذا لا يملك الوقت كي يتظاهر بأنّه لا يعرفها، ولا يستطيع الهرب... المفاجأة تجعله يصحو وتُسمّره في مكانه، جامداً.

 

مريم تقترب منه، متغلّبة على النُّفور الذي يسبّبه لها مظهر الرّسول وتقول له: «يهوذا، أيّها الابن البائس، ما الذي تفعله؟ ألا تفكّر بالله؟ بنفسكَ؟ بأُمّكَ؟ ما الذي تفعله يا يهوذا؟ لماذا تريد أن تكون خاطئاً؟ انظر إليَّ يا يهوذا! ليس لديكَ الحقّ بأن تقتل نفسكَ...» وتلمسه مُحاوِلةً الإمساك بيده.

 

دعيني وشأني. إنّني رجل في النهاية. و... أنا حرّ في أن أفعل ما يفعله كلّ الآخرين. قولي لِمَن أرسلكِ كي تتجسّسي عليَّ، بأنّني لم أصبح بعد روحاً كاملاً، وأنّني شاب!»

 

أنتَ لستَ حرّاً في أن تُهلِك نفسكَ يا يهوذا! أَشفِق على نفسكَ... إذا ما تصرّفتَ على هذا النحو فلن تكون أبداً روحاً مغبوطاً... يهوذا... هو لم يرسلني كي أتجسّس عليكَ. إنّه يصلّي مِن أجلكَ. فقط هذا، وأنا أصلّي معه. كرمى لأُمّكَ...»

 

«دعيني وشأني» يقول يهوذا بفظاظة. ثمّ يُدرك فظاظته، فيستدرك: «أنا لا أستحقّ شفقتكِ... وداعاً...» ويهرب…

 

«يا له مِن شيطان!... سوف أُخبر يسوع» تصيح مريم التي لحلفى. «إنّ عزيزي يوضاس على حقّ!»

 

«لن تقولي شيئاً لأيّ أحد. سوف تصلّي مِن أجله. نعم...»

 

«أتبكين؟ أتبكين لأجله؟ آه!...»

 

«إنّني أبكي... لقد كنتُ سعيدة بتخليص أوريا... والآن أنا أبكي لأنّ يهوذا خاطئ. أمّا ليسوع، المغتمّ، فسنحمل فقط الخبر الجيد. وسوف ننتزع الخاطئ مِن الشيطان بكفّارات وصلوات... كما لو أنّه كان ابننا يا مريم! كما لو كان ابننا!... أنتِ أيضاً أُمّ، وتعلمين... لأجل تلك الأُمّ التعيسة، لأجل هذه النَّفْس التي لخاطئ، لأجل يسوعنا...»

 

«نعم. سوف أصلّي... لكنّني لا أعتقد بأنّه يستحقّ ذلك...»

 

«مريم، لا تقولي ذلك!...»

 

«لن أقوله... لكنّ الأمر هكذا. ألن نذهب عند يُوَنّا؟»

 

«لا. سوف نذهب إليها قريباً، مع يسوع...»