ج2 - ف62
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الثاني
62- (دعوة متّى ليكون مِن التلاميذ)
04 / 02 / 1945
هذا الصباح، كنتُ أعاود التفكير بما قُلتُه لكم بالأمس، عندما كنتُ أتلو عليكم الرؤيا، وكنتم حقيقة مُندَهِشين. وقد قُلتُها ليسوع الذي كان إلى جانبي.
ولقد أجابَني: «لأجل هذا أنا أَمنَحها. لا يمكنكِ التصوّر مقدار سُروري عندما أجعل مِن نفسي نوراً لأصدقائي الحقيقيّين. هكذا أمنح ذاتي لصديقي رومولد Romuald (الكاهن الذي كان مُرشِد ماريا الروحي) لأُسعِده بفعل حبّ كي أساعده، ولأنّني أراه. لم تكن لديَّ أسرار أُخفيها عن يوحنّا. كما ليس لديَّ ما أُخفيه عن كلّ مَن هو كما يوحنّا. فقولي ليوحنّا العجوز إنّني أمنحه سلاماً عظيماً وصيداً مُوفَّقاً. أمّا لكِ، فلا صيد. لكِ عمل المرأة الوحيد، تَشبيك عيون الشِّباك بالخيط الذي أعطيكِ. اعمَلي، اعمَلي... لا تهتمّي إذا لم يتبقَّ لكِ وقت لفعل أشياء أخرى. فهذا العمل يتضمّن كلّ شيء. لا تستائي إذا لم آتِ لأقول لكِ: "السلام لكِ". فالتحيّات عند الوصول وعند الذهاب، ولا تُلقى تحيّة عندما نكون متواجِدِين على الدوام. فالتواجد الدائم هو السلام. رفقتي. وأنا لستُ ضيفاً لديكِ، فأنتِ حقيقة بين ذراعيّ، ولا أُنزِلكِ لحظة. لديَّ الكثير أقوله لكِ عن وجودي المؤقّت! ومع ذلك ها أنا ذا اليوم، لكي أرضيكِ، أقول لكِ: "ليكن سلامي معكِ".»
وبعدها بقليل رأيتُ ما يلي:
ساحة كفرناحوم، مرّة أخرى. إنّما في وقت أكثر حرارة، حيث قد انتهى التسوّق ولم يبق في الساحة سوى عاطِلِين عن العمل يتحدّثون وأطفال يلعبون.
يسوع وسط جماعته آتياً مِن البحيرة باتّجاه الساحة، يُداعِب الأطفال الذين يتراكضون لملاقاته، ويعير اهتماماً لما يَبوحون به. طفلة تُريه خدشاً كبيراً في جبهتها وتشكو أخاها الذي أحدَثَه لها.
«لماذا آذيتَ أختكَ؟ ليس هذا عملاً جيّداً.»
«لم أكن أقصد ذلك. كنتُ أريد قطف ثمار التين تلك، فاستخدَمتُ عصا، ولكنّها كانت ثقيلة جدّاً، فَهَوَت عليها... وقد كنتُ أقطفها لها كذلك.»
«هل هذا صحيح يا يُوَنّا؟»
«صحيح.»
«إذاً فأنتِ تَرَين جيّداً أنّ أخاكِ لم يقصد الإساءة إليكِ. حتّى إنّه كان يريد إسعادكِ. والآن تَسَامَحا وقَبِّلا بعضكما. فالإخوة الصالحون، وحتّى الأصدقاء الصالحون، يجب ألّا يعرفوا الحقد أبداً. هيا...»
يُقَبِّل الطفلان بعضهما ودموعهما تَنهَمِر. يبكيان كلاهما: الأولى مِن ألم الخدش، والآخر مِن ألم أنّه سَبَّبَ لها ألماً.
يبتسم يسوع أمام هذه القُبلة التي اغتَسَلَت بالدموع. «آه! الآن وقد بدوتما صالِحَين، فها أنا ذا سأقطف لكما ثمار التين، وبدون عصا.» وبما أنه كبير القامة، ذو ذراعين طويلتين، فإنّه يَصِل إليها دونما عناء. يقطفها ويوزعها.
تَهرَع امرأة: «خذ، خذ يا معلّم، سأجلب لكَ الخبز.»
«لا، لا، فهذه ليست لي. إنّها ليُوَنّا وطوبيا. لقد اشتَهَياها.»
«أَمِن أجل هذا أزعَجتُما المعلّم؟ آه! يا لكما مِن متطفِّلَين! اعذرهما يا سيّدي.»
«يا امرأة، كان هذا لإحلال السلام... وقد أَحلَلتُه بأداة النِّـزاع ذاتها: التين. أمّا الطفلان فليسا متطفِّلَين أبداً. إنّ التين اللذيذ سعادة لهما ولي، أمّا سعادتي فتكمن في نَفْس كلّ منهما البريئة. إنّها تزيل عنّي مرارات جَمّة...»
«يا معلّم، السادة هُم الذين لا يحبّونكَ، بينما نحن، الشعب، فإنّنا نحبّكَ كثيراً. وهم ليسوا سوى بضعة أشخاص بينما نحن كثيرون جدّاً!»
«أَعرِف ذلك يا امرأة. أشكركِ على تشجيعكِ. ليكن السلام معكِ. وداعاً يا يُوَنّا! وداعاً يا طوبيّا! كونا لطيفين، دون أن يؤذي أحدكما الآخر أو أن يريد الأذى للآخر. أليس كذلك؟»
ويجيب الصغيران: «نعم، نعم يا يسوع.»
يهمّ يسوع بالانصراف ويقول مبتسماً: «آه! الآن وقد تَوَضَّح كلّ شيء بفضل التين، فلنذهب... إلى أين تقترحون الذهاب؟»
الرُّسُل لا يَعلَمون، فمنهم مَن يُعيّن مكاناً ومنهم مَن يُعيّن آخر. أمّا يسوع فيهزّ رأسه ويبتسم.
يقول بطرس: «أنا لا أدري، قُل أنتَ... أفكاري سوداويّة اليوم. فلم تَرَه أنتَ عندما كنّا نهبط مِن المركب. أيلي الفرّيسيّ الذي كان هناك. لقد كان أكثر اصفراراً مِن المعتاد، وكان يَنظُر إلينا بشكل!»
«دعه يَنظُر.»
«إيه! رغماً عنّي. إنّما أؤكّد لكَ يا معلّم أنّ إحلال السلام مع هذا يلزمه أكثر مِن شجرتي تين!»
«ماذا قُلتُ لوالدة طوبيا؟ "لقد أَحلَلتُ السلام بواسطة أداة النـِّزاع ذاتها". وهكذا سوف أحاول إحلال السلام بإظهاري الاحترام لهم، إذ، حسب رأيهم، قد جَرَحتُ شعورهم، أعيان كفرناحوم. وهكذا أيّاً كان فسيكون مسروراً.»
«مَن؟»
لا يُجيب يسوع على السؤال، ويُتابِع: «مِن المرجّح ألّا أنجح، إذ تعوزهم الإرادة بإحلال السلام. إنّما اسمعوا: إذا كان الأكثر اعتدالاً، في كلّ المشاجرات، يعرف أن يتنازل ولا يتشبّث بأنّه صاحب الحقّ، ويَظهَر متساهلاً، وذلك بأن يُقَسِّم أداة النـزاع إلى اثنين، حتّى ولو كانت مَطَالِبه مُحِقّة، أودُّ التسليم بهذا، فسيكون أفضل وأكثر قداسة. فلا أحد يؤذي على الدوام بقصد الإيذاء. والتصرّفات الخاطئة تقع أحياناً دون قصد. فكّروا دائماً بذلك واغفروا. إيلي والآخرون يعتقدون أنّهم يخدمون الله باستقامة، بتصرّفهم بالشكل الذي يقومون به. سوف أعمل بصبر ومثابرة، وبكثير مِن التواضع، وعن طيب خاطر، لإقناعهم بأنّ زمناً جديداً قد حلّ، وأنّ الله، الآن، يريد أن يُخَدم بحسب تعليمي. حيلة الرَّسول طِيب خَاطِره، وسلاحه المثابرة، أمّا سرّ النجاح فالـمَثَل الصالح والصلاة مِن أجل الذين يريد هدايتهم.»
يَبلُغون الساحة، ويتوجّه يسوع مباشرة إلى مكتب الجباية، حيث متّى يضبط حساباته ويتحقّق مِن النقود التي يُورِدها حسب فئاتها، بوضعها في حقائب بألوان مختلفة، يضعها في صندوق حديدي، ينتَظِر خادِمَين لنقله إلى مكان آخر. وما كاد ظِلّ قامة يسوع الكبيرة يمتد إلى المكتب، حتّى رَفَعَ رأسه ليرى مَن الذي أتى يَدفَع متأخّراً. وفي هذه الأثناء، يقول بطرس ليسوع وهو يسحبه مِن كُمّه: «ليس هناك شيء للدفع، يا معلّم. ماذا تفعل؟»
ولكنّ يسوع لا يهتم. يُمعِن النَّظَر في متّى الذي يقف على الفور باحترام. نَظرَة أخرى نافذة. إنّما ليست كالمرّة السابقة، نَظرَة حاكِم صارِم، إنّها نظرة نِداء وَدودة، تُغلّفه، وتنفذ إلى أعماقه بحبّ. يعلو متّى احمرار. فهو لا يعرف ماذا يفعل أو ماذا يقول…
«متّى، يا ابن حلفى، لقد حان الوقت. تعال اتبعني!» يقولها يسوع بِـمَهابة.
«أنا؟ يا معلّم، يا ربّ! ولكن هل تَعلَم مَن أكون؟ مِن أجلكَ أنتَ ، لا مِن أجلي أقول ذلك...»
«متّى بن حلفى، تعال، اتبعني.» يُكرّر يسوع بأكثر هدوءاً.
«آه! كيف يمكنني أن أحظى بنعمة لدى الله؟ أنا... أنا...»
«يا متّى بن حلفى، لقد قَرَأتُ ما في قلبكَ. تعال اتبعني.» الدعوة الثالثة كانت مُلاطَفَة.
«آه! حالاً يا سيّدي!» ويَخرُج متّى باكياً مِن وراء المكتب دونما اهتمام بجمع النقود المبعثرة وإقفال الصندوق، ولا بأيّ شيء آخر. «أين نذهب يا ربّ؟» يَسأَل عندما يصبح قرب يسوع. «أين تأخذني؟»
«إلى بيتكَ. هل تستضيف ابن الإنسان؟»
«آه! ولكن... لكن ماذا سيقول الذين يبغضونكَ؟»
«أنا أُنصِت إلى ما يُقال في السماء، وهناك يقال: "المجد لله مِن أجل خاطئ خَلص". والآب يقول: "ستقوم الرحمة في السماوات وتنتشر على الأرض إلى الأبد. وبما أنّني أحبّكَ حبّاً أزلياً، حبّاً كاملاً، فها إنّني كذلك أستَخدِم الرحمة تجاهكَ". تعال. فبمجيئي، إضافة إلى القلب، يصبح بيتكَ مقدّساً.»
«لقد طَهَّرتُه بالرجاء الذي كان في نفسي... ولكنّ نفسي لم تكن تتقبّل أن يكون حقيقيّاً... آه! أنا مع قدّيسيكَ...» ويَنظُر إلى التلاميذ.
«نعم، مع أصدقائي. تعالوا. إنّي أجمعكم. فكونوا إخوة.»
التلاميذ مَشدوهون لدرجة لم يعودوا يَجِدون معها طريقة ليقولوا كلمة. ساروا جماعة خلف يسوع ومتّى، في الساحة التي تملؤها الشمس، وقد أقفَرَت الآن تماماً، عبر طريق تلتهب تحت شمس مُبهِرة. لا أحد في الطريق، فقط الشمس والغبار.
يَدخُلون البيت. إنّه بيت جميل ذو مدخَل واسع يطلّ على الطريق. دار رائعة ظليلة ومنعشة، وبعدها تُرى حديقة كبيرة ومُنَظَّمة. «ادخل يا معلّمي! هاتوا الماء والمشروب.»
يَهرَع الخدّام حاملين كلّ ما يلزم. يَخرُج متّى ليعطي أوامره، بينما يسوع وأتباعه يَغتَسِلون. ثمّ يعود. «هيّا يا معلّم، فالقاعة أَرطَب... سيأتي الآن أصدقاء... آه! أريده احتفالاً كبيراً! إنّها ولادتي الجديدة... إنّه ختاني الحقيقيّ. لقد خَتَنتَ قلبي بحبّكَ... ربي، سوف يكون آخر احتفال... لا احتفالات لمتّى العشار بعد الآن. لا احتفالات مِن هذا العالم... فقط احتفال داخلي، هو الاحتفال بالفِداء وبخدمتكَ... وبمحبّتكَ لي... كم بكيتُ... في هذه الأشهر الأخيرة... إنّني أبكي منذ ثلاثة أشهر... لم أكن أدري كيف أتصرّف... كنتُ أبغي المجيء... ولكن كيف المجيء إليكَ أيّها القدوس بنفسي الملوّثة؟...»
«لقد غَسَلتَها بندامتكَ ومحبّتكَ لي وللقريب. بطرس! تعال إلى هنا.»
بطرس، الذي لم يكن قد تكلّم، وقد كان منذهلاً جدّاً، يتقدّم. والرَّجُلان الكَهلان كلاهما، القصيران والـمُكَتَّلان، يُواجِه أحدهما الآخر، ويسوع بينهما يبتسم بهياً.
«يا بطرس، لقد سألتَني مرّات عديدة عن المجهول الذي يتبرّع بالأموال التي يَجلبها يعقوب. ها هو ذا. إنّه هنا.»
«مَن؟ هذا اللـ… (يريد بطرس قول: "هذا اللص") آه! أَعتَذِر يا متّى! ولكن مَن كان يمكنه التفكير أن تكون أنتَ، أنتَ الذي كنتَ بالحقيقة تُخيّب أملنا بالرّبى الذي كنتَ تتقاضاه، أن تكون قادراً على انتزاع قطعة مِن قلبكَ كلّ أسبوع لتُعطي هذه الصَّدَقَة السّخيّة؟»
«أعرف ذلك. لقد فَرَضتُ عليكَ ضرائب مُجحِفة. ولكن ها أنذا أجثو أمامكم جميعاً وأقول لكم: لا تطردوني! هو قد قَبِلَني، فلا تكونوا أكثر صرامة منه.»
بطرس، الذي كان متّى عند قدميه، يرفعه دفعة واحدة بقوّة وبمودّة: «قف، قف! ليس منّي ولا مِن الآخرين ينبغي طَلَب الغفران، بل منه وحده. نحن.. هيّا، نحن جميعنا لصوص مثلكَ قليلاً أو كثيراً... آه! لقد قُلتُها! لسان ملعون! إنّما أنا مجبول هكذا: كلّ ما في القلب أو الفِكر فهو على اللسان والشِّفاه. تعال ولنُقِم ميثاق سلام وَدود.» ويُقَبِّل وَجنَتي متّى.
يَفعَل الآخرون كذلك بكثير أو قليل مِن الودّ. أقول ذلك إذ يحجم أندراوس بسبب حيائه، ويهوذا الاسخريوطيّ عواطفه متجلّدة. تحسبه يُقَبِّل كوم زواحف، بقدر ما كان عناقه لا مبالياً وقصيراً.
يَخرُج متّى لسماعه صوتاً.
ويقول يهوذا الاسخريوطيّ: «ومع ذلك يا معلّم، يبدو لي ذلك غير فَطِن. إنّ فرّيسيّي هذه المنطقة بالأساس يتّهمونكَ، وأنتَ... ها هو ذا عَشّار بين أتباعكَ! عَشّار بعد زانية!... هل قَرَّرت الانهيار؟ إذا كان هكذا قُلها، إذ...»
«فلنهرب، أليس صحيحاً؟» يقولها بطرس بسخرية.
«وأنت مَن يكلّمكَ؟»
«أَعلَم جيّداً أنّكَ لا تتوجّه إليَّ بالكلام، إنّما أنا على العكس أتحدّث إلى نفسكَ، نفس سيّد كبير، إلى نفسكَ النقيّة جدّاً، نفس حكيم. أَعلَم أنّكَ أحد أعضاء الهيكل، وتشمّ رائحة الخطيئة فينا، نحن المساكين الذين لسنا مِن الهيكل. أعرف جيّداً أنّكَ يهوديّ مُتكامِل، فأنتَ مزيج مِن الفرّيسيّين والصدّوقيّين والهيروديّين، نصف كاتب وبعض مِن أسّيني -هل تريد تسميات أخرى نبيلة؟- تَشعُر أنّكَ لستَ على ما يرام فيما بيننا، مِثل شابل (نوع سمك نهري ثمين) رائع في شَبَكَة مليئة بالشبّوط. ولكن ماذا تريد أن تفعل هنا؟ هو اختارنا ونحن باقون. وإذا كنتَ على غير ما يرام... فاذهب أنتَ، ونحن سوف نتنفّس بشكل أفضل. فحتّى هو يَغتَاظ، كما ترى، منّي ومنكَ. منّي، لأنّني أفتَقِر إلى الصَّبر، وكذلك... نعم، وكذلك إلى المحبّة، إنّما منكَ أكثر، فأنتَ لا تفهم شيئاً رغم زركشتكَ بالألقاب النبيلة، وليست فيكَ المحبّة ولا التّواضُع ولا الاحترام. ليس لديكَ شيء أيّها الوَلَد. دخان كثيف فقط، لا سمح الله أن يكون مؤذياً.»
يسوع يَترُك بطرس يتكلّم، ويبقى هو واقفاً، جادّاً، ذراعاه متصالبتان، شفتاه مزمومتان، وعيناه... شبه مغلقتين. في النهاية يقول: «هل قلتَ كلّ ما لديكَ يا بطرس؟ هل حَرّرتَ قلبكَ مِن كلّ الضغينة التي كان يحتويها؟ حسناً فَعَلتَ. اليوم هو فصح مِن أجل ابن لإبراهيم. نداء المسيح يشبه دم الحَمَل بالنسبة إلى نفوسكم، وحيث يحلّ لا يعود يَنـزل الخطأ. لن ينـزل إذا كان الذي يتلقّاه أميناً. ندائي تحرير هو، وينبغي الاحتفاء به دون ضغينة مِن أيّ نوع كانت.»
لَم يُوجّه ولا حتّى كلمة واحدة ليهوذا، فيصمت بطرس مقهوراً.
يقول يسوع: «لقد عاد مُضيفنا ومعه أصدقاء. فلا نظهرنّ لهم سوى الفضيلة. وإذا كان أحدكم غير قادر فليَخرُج. لا تكونوا شبيهين بالفرّيسيّين الذين يُرهِقون الناس بتوصيات وأحكام هم أنفسهم لا يحفظونها.»
يعود متّى مع رجال آخرين، ويُبسَط الطعام، يسوع في الوسط بين بطرس ومتّى يتحدّثون في مواضيع شتّى، ويُجيب يسوع بصبر على كلّ الأسئلة التي تُطرَح عليه، إنّها كذلك شكاوى بحقّ الفرّيسيّين الذين يحتقرونهم.
يُجيب يسوع: «حسناً! هلمّوا إلى الذي لا يَحتَقِركم، ومِن ثم تصرّفوا بطريقة لا يَحتَقِركم فيها الصالحون على الأقل.»
«أنتَ صالح، ولكنّكَ الوحيد!»
«لا، فهؤلاء مثلي، وثمّ... إنّ الله الآب هو الذي يحبّ التائب، ويودّ لو يصبح صديقه. إذا نقص الإنسان كلّ شيء ما خَلا الآب، أفلا يكون سرور الإنسان كاملاً؟»
كانت الوليمة قد أصبَحَت في مرحلة تقديم الفواكه عندما يُشير خادم إلى سيّد البيت ويقول له أمراً.
«يا معلّم، إيلي وسمعان ويواكيم يطلبون الدخول والتحدّث إليكَ. فهل تودُّ رؤيتهم؟»
«بكل تأكيد.»
«ولكن أصدقائي عَشّارون.»
«مِن أجل ذلك بالتحديد قد أتوا. لندعهم يَرَون. فالتَّسَتّر لا ينفع في شيء. إنّه لا ينفع في الخير، والخُبث يَزيد الحَدَث تفاقُماً، قد يَصِل إلى حدّ القول بأنَّه كان هناك بغايا. فليَدخُلوا.»
يَدخُل الفرّيسيّون الثلاثة، ينظرون حولهم بابتسامة شرّيرة. يَهمّون بالكلام، ولكنّ يسوع الذي نَهَضَ يذهب للقائهم مع متّى، ويبادرهم، واضعاً يداً على كتف متّى، بقوله: «يا أبناء إسرائيل الحقيقيّين، أُحيّيكم، وأُعلِن لكم نبأً عظيماً، سوف يَملأ، بكلّ تأكيد، بالحبور، كإسرائيليّين لا غشّ فيكم، قلبكم الذي يَلهَث وراء تحقيق الشريعة في كلّ القلوب، ليُمَجَّد الله. ها هو ذا متّى بن حلفى، وهو منذ اليوم، لم يَعُد الخاطئ، عِثار كفرناحوم. إنّ نعجة مِن إسرائيل جرباء قد شُفِيَت. افرَحوا! بَعدَهُ نِعاج أُخرَيات خاطئات ستصبح سَليمات، وبلدتكم، بسبب القداسة التي تهتمّون بها كثيراً، تصبح بقداستها مُحبَّبَة لدى الربّ. إنّه يترك كلّ شيء في سبيل خدمة الله. فَقَبّلِوا الإسرائيليّ الضالّ الذي عاد إلى أحضان إبراهيم قُبلة السلام.»
«ويعود إليها مع العَشّارين؟ في وليمة فَرَح؟ آه! حقّاً إنّها هِداية مفيدة! انظر هنا يا إيلي: إنه يوشع القَوّاد.»
«وهذا سمعان بن إسحاق الفاسق.»
«وهذا؟ إنّه عزريا مدير نادي القمار، حيث يذهب الرومان واليهود للعب والشِّجار والانغماس في الفِسق والفُجور.»
«ولكن يا معلّم، هل تَعلَم على الأقلّ مَن هُم هؤلاء الناس؟ هل كنتَ تَعلَم؟»
«كنتُ أَعلَم.»
«وأنتم، إذن، أنتم يا أهالي كفرناحوم، أنتم أيّها التلاميذ، لماذا سمحتم بهذا؟ إنّكَ تُدهِشني يا سمعان بن يونا!»
«وأنتَ يا فليبّس، المعروف جيّداً هنا، وأنتَ يا نثنائيل! إنّني مُنذَهِل للغاية! كيف احتَمَلتَ أن يأكل معلّمكَ مع العشّارين والخَطَأَة؟»
«ولكن، ألم يعد إذن تحفّظ في إسرائيل؟» فالثلاثة (الفرّيسيّون إيلي وسمعان ويواكيم) قد صُدِموا بشدّة.
يقول يسوع: «دعوا تلاميذي بسلام. فأنا الذي أردتُ ذلك. أنا وحدي.»
«آه! نعم. مفهوم. فعندما يَرغَب أحد بأن يتظاهر بالقداسة، وهو ليس كذلك، فإنّه يَقَع سريعاً في أخطاء لا تُغتَفَر!»
«وعندما يُعَوَّد التلاميذ على قلّة الاحترام -فما زال يُلهِبني انفجار الضحك عديم الاحترام مِن قِبَل هذا اليهوديّ ورجل الهيكل، تجاهي أنا، إيلي الفرّيسيّ!- فلا يمكن أن يكونوا إلّا عديمي الاحترام تجاه الشريعة. فالإنسان يُعَلِّم ما يَعرِف.»
«أنتَ مخطئ، يا إيلي. وأنتم جميعاً مخطئون. الإنسان يُعلِّم ما يَعرِف، هذا صحيح. وأنا الذي أعرِف الشريعة، أُعلِّمها لِمَن لا يعرفها: وبالتالي للخَطَأَة. أمّا أنتم... فأَعلَم أنّكم مُعلّمو نفسكم. بينما الخَطَأَة ليسوا كذلك. لذا أبحث لهم عن نفسهم، وأعيدها لهم، لكي، بدورهم، يحملوها إليَّ كما هي: مريضة وجريحة ومُدنَّسة، لكي أعالجها وأطهّرها. فَمِن أجل هذا أتيتُ. فالخَطَأَة هم الذين يحتاجون إلى مُخلِّص، وأنا أتيت لأخلّصهم. افهموني... ولا تبغضوني بلا سبب.»
يسوع لطيف ومُقنِع ومُتواضِع... إنّما الثلاثة فإنّهم ثلاث أشواك بَعير مُنتَفِشة الأشواك... ويَخرُجون مُبَرطِمين بامتعاض.
«لقد مضوا... والآن سوف يندّدون بنا في كلّ مكان.» يُهَمهِم يهوذا الاسخريوطيّ.
«دعهم يفعلون! وتَصرَّف أنتَ فقط بالشكل الذي لا يلومكَ فيه الآب. لا تكن مقهوراً يا متّى، ولا أنتم، أصدقاءه. فالضمير يقول لنا: "لستم تفعلون سوءاً". وهذا يكفي.»
ويَجلس يسوع ثانية في مكانه، وينتهي كلّ شيء.