ج6 - ف85
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الأول
85- (حنّة ومريم الاسخريوطيّة. وداع أُمّ يهوذا)
28 / 02 / 1946
«يا ربّ، ألا تأتي معي، معي وحدك، إلى أُمّ بائسة؟ هذا ما أرغب به أكثر مِن أيّ شيء آخر.» تقول مريم التي لسمعان، وهي تقف باحترام في مواجهة يسوع، بينما تَفرَّقَ الرُّسُل بعد الغذاء للاستراحة، قبل مواصلة السير في المساء. يسوع، مِن جهته، يستظلّ بشجرة تفّاح تحمل تفّاحاً أخضراً قد باشر الإيناع. يبدو أنّ مريم عاوَدَت حديثاً كانت قد بدأته.
«نعم، يا امرأة. أنا كذلك أرغب في البقاء معكِ، بمفردنا في الساعات الأخيرة هذه، كما كنتُ في أُولاها. هيّا بنا.» يعودان إلى البيت، يسوع ليأخذ معطفه، ومريم لتأخذ وشاحها ومعطفها.
يمضيان في دروب تجتاز الحقول، وسط أشجار التفّاح وأخرى ضخمة. ما يزال الجوّ حارّاً. مِن الحقول والمواسم اليانعة تأتي هبّات حارقة. ولكنّ نسيم الجبل يُلطّف حرارة السهل غير المحتَمَلة.
«لا يروقني جعلكَ تسير في هذه الحرارة. إنّما فيما بعد... لا يعود بإمكاننا ذلك. وكم رغبتُ في ذلك، ولم تكن لي الجرأة على الطلب منكَ. لقد قلتَ لي للتوّ: "يا مريم، كي أُظهِر لكِ أنّني أحبّكِ كما لو كنتِ لي أُمّاً، أقول لكِ: اطلبي منّي ما ترغبين، وسأرضيكِ". حينئذ تجرّأتُ. يا ربّي، هل تعلم أين نحن ذاهبان؟»
«لا، يا امرأة.»
«نحن ماضيان إلى التي كان يُفتَرَض أن تكون حماة يهوذا... (تتنهّد مريم بألم). كان مِن المفروض... هي ليست كذلك ولن تكون أبداً، إذ إنّ يهوذا قد هَجَرَ الفتاة التي ماتت مِن الحزن... والأُمّ تحقد عليَّ وعلى ابني. وهي لا تكفّ عن شتمنا... ويهوذا جدّاً... جدّاً... جدّاً ضعيف أمام الشرّ الذي لا يحتاج سوى لبركات!... أودُّ لو تُكلِّمها... يمكنكَ إقناعها... القول لها نعمة كانت عدم حصول العرس... القول لها بأنّ لا دخل لي في ذلك... القول لها أن تموت بغير حقد، ذلك أنّ المرأة تموت ببطء، وقد نُحِرَت نفسها. أودُّ لو يحلّ بيننا السلام... إذ إنّني تألّمتُ لذلك، خَجِلة ممّا حصل، وبألم أن أرى صداقة تتمزّق مع امرأة كانت بالنسبة إليّ رفيقة منذ اللحظة التي أتيتُ فيها إلى هنا كعروس. خلاصة القول، أنتَ تعرف، يا ربّ...»
«نعم، لا تقلقي. طلبكِ حقّ، وأنا سأتكفّل بهذا المسعى الحَسَن.»
بعد اجتياز وادٍ صغير، يرتقيان إلى مرتفع آخر مِن الأرض حيث تتربّع إحدى القرى.
«حنّة تقيم هنا، في ملكيّتها، منذ وفاة ابنتها. قبل ذلك كانت في اسخريوط. ولكن طالما كانت تعيش هناك وكنّا نلتقي، فقد كانت ملاماتها تمزّق لي القلب.»
ينحرفان عبر مَسلَك يسبق القرية قليلاً ويبلغان بيتاً منخفضاً وسط الحقول.
«هاك! آه! قلبي يضطرب الآن وقد أصبحتُ هنا! لن تقبل رؤيتي... ستطردني... ستغضب، وسيعاني قلبها أكثر... يا معلّم...»
«نعم. أمضي أنا إليها. وامكثي أنتِ حتّى أناديكِ. وصلّي لتساعديني.»
يتقدّم يسوع، وحيداً، حتّى يبلغ باب البيت المفتوح على مصراعيه حيث يَدخُل مع تحيّته العذبة.
تهرع امرأة: «ماذا تريد؟ مَن أنتَ؟»
«أتيتُ حاملاً ما يسكّن ألم معلّمتكِ. خذيني إليها.»
«طبيب؟ لا فائدة! لم يعد مِن أمل، فقلبها يموت.»
«ما تزال هناك النَّفْس للعناية بها. أنا الرابّي.»
«كذلك لا فائدة في هذا الصدد. هي لا تعوّل على الأزليّ، ولا تريد سماع المواعظ. دعها وشأنها.»
«لأنّها في هذه الحال أنا أتيتُ. دعيني أمرّ وستكون أقلّ بؤساً في أيّامها الأخيرة هذه.»
ترفع المرأة كتفيها وتقول: «ادخل!»
ممرّ شبه مظلم ورطب، أبواب. في العمق، الباب الأخير مُوارَب، وتصدر منه تفجّعات. تذهب المرأة إليه وتدخل قائلة: «يا معلّمة، رابّي يريد التحدّث إليكِ.»
«لماذا؟... ليقول لي إنّني ملعونة؟ وإنّني لن أحصل على السلام حتّى ولا في الحياة الأخرى؟» تقول لاهثة، غاضبة.
«لا. بل ليقول لكِ إنّ سلامكِ سيكون كاملاً، على أن تريدي أنتِ ذلك، وستكونين سعيدة مع حبيبتكِ يوحنّه إلى الأبد.» يقول يسوع وهو يظهر على العتبة.
المريضة، صفراء، متورّمة، لاهثة على سريرها، مستندة على العديد مِن الوسادات، تنظر إليه وتقول: «آه! يا له مِن كلام! إنّها المرّة الأولى التي لا يوجّه لي فيها رابّي الملامات... يا له مِن رجاء!... ابنتي يوحنّه... معي... في الغبطة... لا يعود هناك ألم... ألم سبّبه أحد الملعونين... ولم تمنعه تلك التي أَنجَبَته... والتي خانتني... بعد أن تملّقتني... ابنتي المسكينة...» وتلهث بشدّة متزايدة.
«أترى، تُمرِضها. كنتُ أعلم ذلك. اخرج.»
«لا. اذهبي. دعيني وحدي...»
تَخرُج المرأة وهي تهزّ رأسها. يدنو يسوع مِن السرير على مهل. يمسح بلطف العَرَق المتصبّب مِن المريضة التي تجد صعوبة في فِعل ذلك بيديها المتورّمتين بشكل هائل، ويجعل مَروَحة مِن سعف نخيل تمنحها الهواء. يُقدِّم لها ما تشربه، ذلك أنّها كانت تحاول ترطيب نفسها بالشراب الذي كان على الطاولة الصغيرة. يبدو كابن أمام أُمّه المريضة. ثمّ يجلس، بهدوء إنّما بتصميم على إتمام مهمّته.
تنظر إليه المرأة وهي تهدأ، وبابتسامة ألم، تقول له: «أنتَ جميل وطيّب. مَن تكون أيّها الرابّي؟ لكَ رقّة ابنتي المحبوبة بمنحي المواساة.»
«أنا يسوع الناصريّ!»
«أنتَ؟! أنتَ؟!... في بيتي؟... لماذا؟...»
«لأنّني أحبّكِ. لي أُمّ، أنا كذلك، وفي كلّ أُمّ أرى أُمّي، وفي دموع كلّ الأُمّهات أرى دموع أُمّي...»
«لماذا؟ أتبكي أُمّكَ؟ لماذا؟ هل فَقَدَت ابناً آخر؟»
«ليس بعد... أنا ابنها الوحيد وما زلتُ على قيد الحياة. ولكنّها تبكي الآن لأنّها تعلم أنّه ينبغي لي أن أموت.»
«آه! آه! يا للبائسة! المعرفة المسبقة بأنّ الابن سوف يموت! ولكن كيف تعلم ذلك؟ أنتَ سليم معافى. أنتَ قويّ. أنتَ طيّب. أنا، أوهمتُ نفسي كثيراً حتّى مماتها وقد كانت مريضة جدّاً!... فكيف يمكن لأُمّك أن تعرف أنّه ينبغي لكَ أن تموت؟»
«لأنّني ابن الإنسان، الذي تنبّأ عنه الأنبياء. أنا إنسان الآلام الذي رآه إشَعياء، مَسيّا الذي تغنّى به داود ووصف عذاباته كفادي. أنا المخلّص، الفادي، أيّتها المرأة. والموت ينتظرني، رهيباً...وستحضر أُمّي ذلك... وأُمّي تعلم، منذ ولادتي، أنّ قلبها سيتفطّر مِن الألم مثل قلبي... لا تبكي... فبموتي سأفتح لابنتكِ يوحنّه أبواب الفردوس...»
«ولي كذلك! ولي كذلك!»
«نعم. في حينه. إنّما عليكِ أوّلاً أن تتعلّمي أن تحبّي وتغفري. أن تعودي إلى الحبّ، أن تكوني بارّة، وأن تغفري... وإلاّ فلن تذهبي إلى السماء، مع يوحنّه، ومعي.»
تبكي المرأة بضيق. تئنّ: «الحبّ... الحبّ في حين عَلَّمنا الناس الحقد... في حين توقّف الله عن حبّنا بإحجامه عن الرحمة بنا، ذلك صعب... كيف الحبّ في حين عَذَّبَنا الناس وجَرَحَنا الأصدقاء، وفي حين تخلّى الله عنّا؟...»
«لا. لستم مُهمَلين. أنا، هنا. لكي أقول لكِ الوعود السماويّة. لأمنحكِ اليقين بأنّ ألمكِ سينتهي بالفرح على أن تريدي أنتِ ذلك. أنصتي إليَّ يا حنّة... أنتِ تبكين بسبب العرس الذي أُلغي، تجعلين مِن ذلك سبب ألمك كلّه، تتّهمين رجلاً بالإجرام لهذا السبب، وبالتواطؤ أُمّاً بائسة. اسمعي يا حنّة. لن تمضي شهور قليلة حتّى تري أنّ عدم كون يوحنّه عروسة يهوذا كانت نعمة مِن السماء...»
«لا تذكر اسمه!» تصيح المرأة.
«أَذكر اسمه. ولأقول لكِ أنّ عليكِ أن تشكري الربّ وسوف تشكرينه خلال أشهر قليلة...»
«سأموت قريباً...»
«لا. ستكونين حيّة وستتذكّرينني، وستدركين أنّ هناك آلاماً أعظم كثيراً مِن آلامكِ...»
«أعظم؟ مستحيل!»
«وما ستكون آلام أُمّي التي ستراني أموت على الصليب؟» ونهض يسوع. إنّه مهيب. «وألم أُمّ الذي سيخون يسوع المسيح، ابن الله؟ فَكّري، يا امرأة، بهذه الأُمّ... أنتِ... اسخريوط كلّها، والأرياف وما وراءها، قد أشفَقَت على ألمك! استطعتِ التمجّد بذلك كما بإكليل الشهادة. ولكنّ تلك الأُمّ! مثل قايين، ولكنّ كون هابيل: ضحيّة ابنها الخائن، قاتل الله، منتهك الحرمات، الملعون، لن تتمكّن مِن تحمّل نظرة مِن إنسان، ذلك أنّ كلّ نظرة ستكون بمثابة حجر يرجمها، وفي صوت كلّ إنسان، في كلّ كلمة، سيبدو لها أنّها تَسمَع لعنة، شتيمة، ولن تجد لها ملجأ على الأرض، أبداً، حتّى مماتها، إلى أن يأخذ الله العادل معه الشهيدة، جاعلاً إيّاها تنسى أنّها أُمّ قاتل الله، مانحاً إيّاها امتلاك الله... أليس ألم هذه الأُمّ هو الأعظم؟...»
«آه! يا للألم الهائل!»
«أترين... كوني صالحة، يا حنّة. اعلمي أنّ الله كان صالحاً في طريقة تصرّفه...»
«ولكنّ ابنتي ماتت! ويهوذا جعلها تموت ليبحث عن مهر (دوطة) أعلى... وقد أيّدته أُمّه في ذلك.»
«لا. هذا، لا. أنا من يقول لكِ ذلك، أنا الذي أرى ما في القلوب. يهوذا -إنّه رسولي، ولكنّني أقول ذلك- لقد أساء التصرّف وسيُعاقب على ذلك. ولكنّ الأُمّ بريئة. هي تحبّكِ، وتودُّ لو تحبّينها... حنّة، أنتما أُمّان بائستان. ولكن إن كنتِ تعتزّين أنتِ بابنتكِ الميتة، البريئة، الطاهرة، والعالم يكرّمها بفخر... فمريم التي لسمعان لا يمكنها أن تفتخر بابنها. والناس يذمّون أفعاله.»
«صحيح. ولكن لو كان تزوّج ابنتي يوحنّه، لما كان ليُذَمّ.»
«ولكنّك كنتِ سترين ابنتكِ يوحنّه بعد مدة وجيزة تموت مِن الحزن، ذلك أنّ يهوذا سيقضي بميتة عنيفة.»
«ماذا تقول؟ آه! يا لمريم البائسة! متى؟ كيف؟ أين؟»
«قريباً. وبطريقة رهيبة... حنّة! حنّة! أنتِ صالحة! أنتِ أُمّ! تعرفين ماذا يعني ألم أُمّ! حنّة، عودي صديقة لمريم! فليجمعكما الألم كما كان على الفرح أن يجمعكما. اسمحي لي أن أَمضِي فَرِحاً لمعرفة أنّ صديقة ستكون لها، واحدة فقط، واحدة على الأقلّ...»
«ربّي... أن أحبّها... هذا يعني أن أغفر لها... هذا شاقّ جدّاً... يبدو لي وكأنّي أدفن ابنتي مِن جديد... أن أقتلها، أنا أيضاً...»
«إنّها أفكار تأتي مِن الظُّلمات! لا تنصتي إليها. أنصتي إليَّ، أنا نور العالم. والنور يقول لكِ إنّ مصير ابنتكِ يوحنّه أن تموت عذراء أقلّ مرارة مِن موتها أرملة ليهوذا. ثقي بي، يا حنّة. وفكّري أنّ مريم التي لسمعان أكثر تعاسة منكِ...»
تفكّر المرأة، تفكّر، تصارع، تبكي، وتقول: «ولكنّي، قد لعنتُها، هي وثمرة أحشائها! لقد خطئتُ...»
«وأنا، أغفر لكِ. وكلّما أحببتِها، كلّما غَفَرَت لكِ السماء.»
«ولكن إن كنتُ صديقتُها... فسأقابل يهوذا. لا يمكنني، يا ربّ، فِعل ذلك!...»
«لن تقابليه. أنا لن أعود أبداً إلى اسخريوط، وكذلك يهوذا. لقد قمنا بوداع السكّان بالفعل...»
«آه! لقد قلتَ...»
«بأنّني لن أعود بعد. يهوذا قال بإنّه لن يستطيع القدوم حتّى ما بعد ارتقائي. ولكنّه يظنّ أنّه سيراني ارتقي على عرش، وما ينتظرني، على العكس، هو الموت على الصليب. ويظنّ أنّه سيصبح أحد وزرائي. وعلى العكس، هو الموت الذي ينتظره. أمّا أنتِ، فلا تقولي هذا. أبداً. فلتنسَ الأُمّ إلى أن يتمّ كلّ شيء. أنتِ قلتِ: "البائسة! المعرفة المسبقة أنّ على الابن أن يموت." ولكن إذا كانت آلام أُمّي، كذلك لأجل هذا، تسهم في زيادة استحقاقات تضحيتي، فبالنسبة إلى مريم التي لسمعان إنّ الصمت هو مِن قبيل الرحمة. لذا فأنتِ لن تتكلّمي.»
«لا، يا ربّ. أقسم بابنتي يوحنّه.»
«أريد منكِ وعداً آخر! كبيراً! مقدّساً! أنتِ صالحة. إنّكِ الآن تحبّينني...»
«نعم. كثيراً. فأنا أشعر بالسلام مذ أتيتَ أنتَ هنا...»
«عندما ستفقد مريم التي لسمعان ابنها، ويغلّفها العالم... بالاحتقار، أنتِ، أنتِ وحدكِ ستفتحين لها بيتكِ وقلبكِ. هل تعدينني بذلك؟ باسم الله وابنتكِ يوحنّه. هي كانت ستفعل ذلك لأنّ مريم كانت بالنسبة لها على الدوام أُمّ الذي كانت تحبّه دائماً.» يتابع يسوع.
«...نعم!» وتبكي…
«فليبارككِ الله، يا امرأة، ويمنحكِ السلام... والصحّة... تعالي، ولنذهب للقاء مريم، لإعطائها قبلة السلام...»
«ولكن... يا ربّ... أنا، لا أستطيع السير. ساقاي متورّمتان وجامدتان. أترى؟ أنا هنا، مرتدية ثيابي، ولكنّني لستُ سوى جذع...»
«كنتِ كذلك. تعالي!» ويمدّ لها يده ليدعوها.
المرأة، عيناها بعينيّ يسوع، تُحرِّك ساقيها، تُخرِجهما مِن السرير، تضع قدميها الحافيتين على الأرض، تنهض، تمشي... تبدو مسلوبة اللبّ. لم تنتبه حتّى إلى الشفاء الذي حَصَل... تَخرُج ويدها في يد يسوع، في الممرّ شبه المظلم... تمشي صوب الباب. وما تكاد تبلغه حتّى تلتقي الخادمة السابقة التي تطلق هتاف فرح مُروَّعة... يهرع الخُدّام الآخرون، خشية أن تكون إشارة موت. يَرَون معلّمتهم، التي كانت تنازع منذ قليل وهي حاقدة على مريم التي لسمعان، وهي تجري، باسطة ذراعيها، بعد ترك يسوع، صوب مريم الذليلة، تُنادِيها، تضمّها إلى صدرها، وتبكي الاثنتان…
...أثناء العودة إلى بيتها، بعد وداع السلام، تشكر مريم التي لسمعان الربّ وتَسأَل: «متى ستعود لتقوم بأفعال خير أخرى؟»
«على الإطلاق، يا امرأة. ولقد قلتُ ذلك للسكّان. إنّما سيكون قلبي معكِ على الدوام. تذكّري، تذكّري على الدوام أنّني أحببتُكِ وأنّني أحبّكِ. تذكّري أنّني أعرف أنّكِ صالحة، وأنّ الله يحبّكِ لذلك. تذكّري ذلك على الدوام. حتّى في أوان الساعات الرهيبة. ألاّ تراودكِ على الإطلاق فكرة أنّ الله يدينكِ مذنبة. فنَفْسكِ ستبدو في عينيه دائماً مزيّنة بأحجار كريمة مِن فضائلكِ وبلآلئ مِن ألمك. مريم التي لسمعان، أُمّ يهوذا، أريد أن أبارككِ، أريد أن أعانقكِ وأقبّلكِ لتكون قبلتكِ الأموميّة، الصادقة، الوفيّة، تعويضاً لي عن كلّ شيء آخر... ولتكون قبلتي تعويضاً لكِ عن كلّ ألم. تعالي، يا أُمّ يهوذا. وشكراً، شكراً لكلّ ما منحتِني مِن حبّ وإكرام.» ويعانقها ويُقبّلها مِن جبهتها، كما يفعل مع مريم التي لحلفى.
«ولكن سوف نرى بعضنا مرّة أخرى! سآتي في الفصح...»
«لا. لا تأتي. أرجوكِ. هل تريدين أن ترضِيني؟ لا تأتي. النساء في الفصح القادم، لا!»
«ولكن لماذا؟...»
«لأنّ جَيَشاناً رهيباً سيحصل في أورشليم، في الفصح القادم. ولن يكون مِن مجال للنساء! وحتّى... يا مريم، سآمر قريبتكِ أن تأتي إليكِ. امكثا معاً. فأنتِ في حاجة لذلك، لأنّ... يهوذا لن يتمكّن مِن مساعدتكِ، ولا المجيء إليكِ...»
«سأفعل كما تقول... وإذاً أبداً، أبداً لن أرى وجهكَ الذي يشعّ منه سلام السماء؟ يا له مِن سلام تدفَّقَ مِن عينيكَ في قلبي المتألّم...» وتبكي مريم.
«لا تبكي. الحياة قصيرة. بعد ذلك سترينني على الدوام في ملكوتي.»
«إذاً فأنتَ تظنّ أنّ خادمتكَ المتواضعة سَتَلِجه؟...»
«أرى منذ الآن مكانكِ في جماعة الشهداء والشركاء في الفِداء. لا تخافي، يا مريم. سيكون الربّ مكافأتكِ الأبديّة. هيّا بنا. أَقبَلَ المساء وحانت ساعة الرحيل...»
ويسلكون الطريق عبر الحقول وبساتين التفّاح إلى البيت حيث ينتظر الرُّسُل. ويسوع يتعجّل الوداع، يُبارِك، ويمضي على رأس أتباعه... ومريم تبكي، جاثية...