ج7 - ف203
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الأول
203- ("أنا نور العالم")
28 / 09 / 1946
يسوع ما يزال في أورشليم، إنّما ليس داخل الهيكل. مع ذلك فهو بالتأكيد في قاعة واسعة ومزيّنة بشكل جيّد، واحدة مِن القاعات الكثيرة الموجودة داخل النطاق الكبير بمقدار قرية.
لقد دَخَلَها منذ قليل، إنّه لا يزال يسير إلى جانب مَن دعاه للدخول، ربّما لحمايته مِن الريح الباردة الّتي تهبّ على جبل موريا، وخلفه يسير الرُّسُل وبعض التلاميذ. أقول "بعض" لأنّه بالإضافة إلى إسحاق ومارغزيام، هناك يوناثان، وبين الناس، الّذين هم كذلك يدخلون خلف المعلّم، هناك ذاك اللاويّ زكريّا، الّذي قال له قبل أيّام قليلة بأنّه يريد أن يكون تلميذه، وهناك أيضاً اثنان آخران قد سبق أن رأيتُهما مع التلاميذ، إنّما لا أعرف اسميهما. ولكن وسط هؤلاء، العطوفين، لا يغيب الفرّيسيّون المعتادون، المحتومون وغير القابلين للتغيير. إنّهم واقفون تقريباً عند الباب، كما لو أنّهم قد وُجدِوا هناك بالصدفة لمناقشة أعمال، بينما هم هناك كي يسمعوا. حيّ هو بين الحاضرين انتظار كلمة الربّ.
ينظر إلى هذا التجمّع مِن الناس الّذي مِن الواضح أنّه مِن جنسيّات مختلفة، ليسوا كلّهم فلسطينيّين، رغم كونهم مِن الديانة العبرانيّة. ينظر إلى تجمّع الأشخاص هذا، الّذي كُثُر مِن أفراده ربّما سينتشرون غداً في المناطق الّتي أتوا منها، وسوف يحملون إليها كلمته قائلين: "لقد سمعنا الإنسان الّذي يقال إنّه مسيحنا". هو لا يتحدّث إليهم، هم الدارسين الشريعة، عن الشريعة، كما يفعل غالباً، حينما يدرك بأنّ أمامه جَهَلة أو مَن كان إيمانهم متزعزعاً، إنّما يتحدّث عن نفسه، كي يعرفوه.
يقول: «أنا نور العالم، ومَن يتبعني لن يمشي في الظلمات، بل سيكون له نور الحياة.» ويصمت، بعد إعلانه لموضوع الموعظة الّذي سيتوسّع فيه، كما يفعل عادة حين يهمّ بإلقاء موعظة عظيمة. يصمت كي يمنح الوقت للناس كي يقرّروا فيما إذا كان الموضوع يهمّهم أم لا، وأيضاً لإعطاء الوقت لأولئك الّذين لا يهمّهم الموضوع الـمُعلَن عنه للرحيل. لا أحد مِن الحاضرين يرحل، حتّى إنّ الفرّيسيّين الّذين كانوا عند الباب، منشغلين بحديث قسريّ ومُصطَنَع، قد صمتوا واستداروا نحو داخل المجمع عند أوّل كلمة ليسوع، ويدخلون شاقّين لهم طريقاً بغطرستهم الدائمة.
حينما توقّف كلّ صوت، يكرّر يسوع العبارة الّتي سبق أن قيلت بصوت أقوى بعد. يبدأ ويتابع: «أنا نور العالم، كوني ابن الآب الّذي هو أبو النور. الابن يشبه دوماً الأب الّذي ولده، وله الطبيعة نفسها. كذلك أنا أشبه مَن ولدني ولي الطبيعة ذاتها. إنّ الله، العليّ، الروح الكامل واللامتناهي، هو نور محبّة، نور حكمة، نور قدرة، نور صلاح، نور جمال. إنّه أبو الأنوار، ومَن يحيا منه وفيه فإنّه، لأنّه في النور، يرى كما هي رغبة الله بأن تَرى المخلوقات. لقد مَنَحَ الإنسان الذكاء والشعور كي يتمكّن مِن رؤية النور، أي هو نفسه، ويفهمه ويحبّه. وأعطى الإنسان العينين كي يتمكّن مِن رؤية الشيء الأكثر جمالاً بين الأشياء المخلوقة، كمال العناصر، الّذي يجعل الخليقة مرئيّة، الّذي هو أحد أوّل أعمال الله الخالق، والّذي يحمل العلامة الأكثر وضوحاً للّذي خلقه: النور: غير المادّي، المضيء، المبهِج، المعزّي، الضروريّ، كما هو كذلك أبو الكلّ: الله الأزليّ والعليّ.
بأمر مِن فِكره، خَلَقَ القبّة السماويّة والأرض، أي الكتلة الهوائيّة والكتلة الترابيّة، غير المادّي والمادّي، الخفيف والثقيل، إنّما كلتاهما كانتا قاصرتين وخاويتين، كانتا ما تزالان ناقصتين، لأنّهما كانتا مغلّفتين بالظلمات، بلا نجوم وبلا حياة. ولكن كي يعطي الأرض والسموات مظهرهما الحقيقيّ، كي يجعل منهما شيئين جميلين، مفيدين، مهيّئين لمتابعة عمل الخلق، فإنّ روح الله -الّذي كان يرفّ على وجه المياه، والّذي كان واحداً مع الخالق الّذي كان يخلق، والـمُلهِم الّذي كان يدفع إلى الخلق، كي يتمكّن مِن أن يحبّ ليس نفسه في الآب والابن فقط، بل كذلك عدداً لا متناهياً مِن المخلوقات، تحمل اسم نجوم، كواكب، مياه، بحار، غابات، نباتات، زهور، حيوانات تطير، تتحرّك، تزحف، تركض، تقفز، تتسلّق، وأخيراً الإنسان، الأكمل بين المخلوقات، الأكمل مِن الشمس، لأنّ له نَفْساً علاوة على المادّة، الذكاء علاوة على الغريزة، الحريّة علاوة على النظام، الإنسان الشبيه بالله بالروح، الشبية بالحيوان بالجسد، نصف الآلهة الّذي يغدو آلهة بنعمة الله وبإرادته الذاتيّة، الكائن البشريّ الّذي إن أراد يستحيل ملاكاً، الّذي هو المحبوب بالأكثر بين الخليقة المادّية، الّذي مِن أجله، مع علمه بأنّه خاطئ، منذ ما قبل أن يوجد الزمن، قد هيّأ له المخلّص، الضحيّة، في الكائن المحبوب بلا قياس، في الابن، في الكلمة، الّذي مِن أجله عُمِل كلّ شيء- كنتُ أقول: إنّما كي يمنح الأرض وقبّة السماء مظهرهما الحقيقيّ، فها هو روح الله، المقيم في الكون، يصرخ، وكانت الكلمة الّتي تتجلّى للمرّة الأولى: "ليكن نور" فكان نور، خَيِّراً، ناجعاً، قويّاً في النهار، خافتاً خلال الليل، إنّما الّذي لن يفنى ما دام الزمن موجوداً. وِمن محيط الروائع الّذي هو عرش الله، حضْن الله، يُخرِج الله الجوهرة الأجمل، الّتي هي النور، الّتي تسبق الجوهرة الأكمل، الّتي هي خلق الإنسان، الّذي فيه لا جوهرة لله، إنّما الله ذاته، بنفخته الّتي نفخها على الطين، ليجعل منه جسداً وحياة، ووارثه في الفردوس السماويّ، حيث ينتظر الأبرار، أبناءه، كي ينعم بهم وهم به.
إن كان الله قد شاء عند بدء الخلق النور على صنائعه، وإن كان لعمل النور قد استخدم كلمته، وإن كان الله يمنح مَن يحبّهم بالأكثر شبهه الأكمل: النور، النور المادّيّ المبهج، وغير المحسوس، النور الروحانيّ الحكيم والمقدّس، هل يمكنه ألاّ يُعطِي ابن محبّته ما هو ذاته؟ الحقّ أنّ العليّ قد أعطى كلّ شيء لِمَن يُسرّ به إلى الأبد، ومِن هذا الكلّ قد شاء أن يكون النور هو الشيء الأوّل والأقدر، كي يعرف البشر، مِن دون انتظار الصعود إلى السماء، روعة الثالوث، الّذي يجعل السماوات تُنشِد في أجواق المغبوطين، تُنشِد بفعل تناغم الفرح المفتون الّذي يأتي إلى الملائكة مِن تأمّل النور، أي الله، النور الّذي يملأ الفردوس ويجعله غبطة كلّ قاطنيه.
أنا نور العالم. مَن يتبعني لا يمشِ في الظلمات، بل سيكون له نور الحياة! وكما أنّ النور على الأرض عديمة الشكل قد سمح بالحياة للنباتات والحيوانات، هكذا يسمح نوري للأرواح بالحياة الأبديّة. أنا، النور الّذي أكونه، أخلق فيكم الحياة وأحفظها، أنمّيها، أعيد خلقكم فيها، أحوّلكم، أقودكم إلى مسكن الله عبر دروب حكمة، محبّة، تقديس. مَن لديه النور في ذاته يمتلك الله فيه، لأنّ النور هو واحد مع المحبّة، ومَن لديه المحبّة يمتلك الله. مَن لديه النور في ذاته يمتلك الحياة، لأنّ الله يكون حيث يُستَقبل ابنه الحبيب.»
«إنّكَ تقول كلاماً مجرّداً مِن العقلانيّة. مَن رأى كُنْهَ الله؟ فحتّى موسى لم يرَ الله، فعلى جبل حوريب، وما إن عَلِمَ مَن كان يتكلّم مِن الدغل الـمُضطَرِم، حتّى غطّى وجهه؛ وكذلك في المرّات الأخرى لم يستطع رؤيته وسط البروق الـمُبهِرة. وأنتَ تقول بأنّكَ رأيتَ الله؟ وقد بقي لموسى، الّذي فقط سمعه يتكلّم، بهاء على وجهه. إنّما أنتَ، أيّ نور لكَ على وجهكَ؟ إنّكَ جليليّ مسكين بوجه شاحب كما معظمكم. إنّكَ مريض، متعب ونحيل. في الحقيقة، لو أنّكَ رأيتَ الله وهو كان يحبّكَ، لما كنتَ كمن هو مشرف على الموت. أتريد أن تعطي الحياة أنتَ الّذي لا تمتلكها حتّى لنفسكَ؟» ويهزّون رؤوسهم بشفقة ساخرة.
«إنّ الله نور وأنا أعرف ماهيّة نوره، لأنّ الأبناء يعرفون أباهم، ولأنّ كلّ واحد يعرف نفسه. أنا أعرف أبي وأعرف مَن أكون. أنا نور العالم. أنا النور لأنّ أبي هو النور وقد ولدني مانحاً إيّاي طبيعته. إنّ الكلمة ليست مختلفة عن الفِكر، لأنّ الكلمة تعبّر عمّا يفكّر به العقل. وعلاوة على ذلك، أما عدتم تعرفون الأنبياء؟ ألا تتذكّرون حزقيّال، وبالأخصّ دانيال؟ ففي وصف الله، حيث كانت له الرؤيا على مركبة الحيوانات الأربعة، يقول الأوّل: "كان على العرش شخص يبدو مظهره شبيهاً بإنسان، ورأيتُ فيه وحوله نوعاً مِن كهرمان أصفر عسليّ كان له مظهر النار، وعند حقويه مِن فوق ومِن تحت رأيتُ نوعاً مِن النار ولها لمعان مِن حولها، لها مظهر قوس قزح حين يتشكّل في السُّحُب في يوم ماطر، هكذا كان منظر اللمعان مِن حوله" ويقول دانيال: "كنتُ أتابع النّظر إلى أن رُفِعَت عروشٌ وجلس ‘القديم الأيّام’. لباسه كان أبيضاً كالثلج، وشعره كصوف ناصع البياض، وعرشه لهيب نار، وعجلات عرشه كانت ناراً متّقدة، وكان نهر نار يجري بسرعة أمام وجهه" هكذا هو الله، وهكذا سأكون حين سآتي لأدينكم.»
«شهادتكَ غير مقبولة. إنّكَ تشهد لنفسكَ. فأيّة قيمة لشهادتكَ إذن؟ بالنسبة لنا هي غير صحيحة.»
«على الرغم مِن أنّني أشهد لنفسي، فشهادتي حقيقيّة هي، لأنّني أعلم مِن أين أتيتُ وإلى أين أمضي. إنّما أنتم فلا تعلمون مِن أين آتي ولا إلى أين أمضي. إنّ حكمتكم هي فيما ترون. أنا على العكس أعلم كلّ ما هو مجهول بالنسبة للإنسان، وقد أتيتُ كي تعرفوه أنتم كذلك. لذلك قلتُ بأنّني نور. لأنّ النور يجعل معروفاً ما كانت تحجبه الظلمات. في السماء هناك نور، على الأرض تسود الظلمات وتحجب الحقائق عن الأرواح، ذلك أنّ الظلمات تكره أرواح البشر ولا تريدها أن تعرف الحقيقة والحقائق كي لا تتقدّس. ولذلك أنا قد أتيتُ. كي يكون لكم النور وبالتالي الحياة. لكن أنتم لا تريدون استقبالي. أنتم تريدون أن تحكموا على ما لا تعرفونه والذي لا تقدرون أن تحكموا عليه، لأنّه أسمى منكم للغاية، وهو عصيّ عن الفهم لِمَن لا يتأمّله بعين الروح، روح متواضع ومُشبَع بالإيمان. إنّما أنتم تحكمون بحسب الجسد ولا يمكنكم أن تكونوا صائبين في الحكم. أنا، على العكس، لا أحكم على أحد طالما أمكنني الامتناع عن الحكم. إنّني أنظر إليكم برحمة وأصلّي مِن أجلكم. كيما تنفتحوا على النور. إنّما حين يتوجّب عليَّ حقيقة أن أحكم، إذّاك يكون حكمي حقّ، لأنّي لستُ وحدي، بل مع الآب الّذي أرسلني، وهو يرى مِن مجده ما في داخل القلوب. وكما يرى قلبكم، يرى قلبي. وإذا ما رأى في قلبي حكماً ظالماً، فهو يخطرني به حبّاً بي وكرامةً لعدله. إنّما أنا والآب نحكم بطريقة واحدة، لذلك فنحن اثنان، ولستُ أنا وحدي مَن يحكم ويشهد. في شريعتكم مكتوب أنّ شهادة شاهدين يؤكّدان الأمر ذاته يجب أن تُحسَب صحيحة ومقبولة. أنا أشهد على طبيعتي، ومعي الآب الّذي أرسلني للشهادة بالأمر ذاته. لذلك فإنّ ما أقوله صحيح.»
«إنّنا لا نسمع صوت العليّ. أنتَ مَن تقول إنّه أبوكَ...»
«لقد كَلَّمَكم عنّي عند نهر الأردن...»
«حسناً. لكنّكَ لم تكن وحدكَ عند نهر الأردن. كان هناك يوحنّا أيضاً. يمكن أن يكون قد تحدّث عنه. لقد كان نبيّاً عظيماً.»
«إنّكم بشفاهكم تدينون أنفسكم. قولوا لي: مَن يتكلّم على شفاه الأنبياء؟»
«روح الله»
«وبالنسبة إليكم، أكان يوحنّا نبيّاً؟»
«أحد الأكثر عظمة، إن لم يكن الأعظم.»
«فلماذا إذن لم تصدّقوا كلامه ولا تؤمنون به؟ لقد أشار إليَّ كَوني حَمَل الله، الآتي لمحو خطايا العالم. ولِمَن كان يَسأَله إذا ما كان هو المسيح كان يقول: "أنا لستُ المسيح، إنّما مَن يسبقه. وبعدي هو في الحقيقة مَن يتقدّمني، لأنّه كان موجوداً قبلي، وأنا لم أكن أعرفه، لكن مَن أخذني مِن بطن أُمّي، وأقامني في الصحراء وأرسلني كي أُعمِّد قد قال لي: ‘ذاك الّذي سترى الروح نازلاً عليه، هو مَن سيُعمِّد بالروح القدس وبالنار’" ألا تتذكّرون ذلك؟ مع أنّ كُثُر منكم كانوا حاضرين… فلماذا إذن لا تصدّقون النبيّ الّذي أشار إليَّ بعدما سمع كلام السماء؟ أهذا ما يتعيّن عليَّ قوله لأبي: أنّ شعبه لم يعد يصدّق الأنبياء؟»
«وأين هو أبوكَ إذن؟ إنّ يوسف النجار يرقد في القبر منذ أعوام. أنتَ لم يعد لديكَ أب.»
«أنتم لا تعرفونني ولا تعرفون أبي. إنّما لو كنتم تريدون أن تعرفوني، لكنتم قد عرفتم أبي الحقيقيّ أيضاً.»
«أنتَ ممسوس وكاذب. أنتَ مجدّف عندما تصرّ على أنّ العليّ هو أبوكَ. وتستحقّ أن تُضرَب وفقاً للشريعة.»
الفرّيسيّون وآخرون مِن الهيكل يُطلِقون صيحات وَعيد، فيما الناس ينظرون إليهم شزراً للدفاع عن المسيح.
يسوع ينظر إليهم مِن دون أن يضيف كلمة، ومِن ثمّ يَخرج مِن القاعة عبر باب جانبيّ صغير يؤدّي إلى رواق.
--- نهاية القسم الأول مِن الجزء السابع ---