ج4 - ف105

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الأول

 

105- (المعرفة ليست فساداً عندما تكون تديّناً)

 

03 / 08 / 1945

 

يتوقّف الـمَركَب في مرفأ طبريّا الصغير، فَيَهرَع بعض العاطلين عن العمل الذين يتنـزّهون قرب الرصيف الصغير. هناك أناس مِن كافّة الطبقات، ومِن كلّ الجنسيّات. كذلك الثياب الطويلة، واليهود مِن كلّ الألوان. شَعر الإسرائيليّين الأشعث ولِحاهم الـمَهيبة تختَلِط بالأثواب الصوفيّة البيضاء الأقصر التي للرومان الأشِدّاء، وأيضاً الثياب الأكثر اختزالاً التي تُغطّي أجساد اليونانيّين الرشيقة والـمُخنَّثة. وهم يَبدون وكأنّهم يتشبّهون بفنّ موطنهم البعيد، حتّى في وضعيّاتهم، فيبدون كتماثيل آلهة هَبَطَت على الأرض في أجساد بَشَر، متدثّرة قمصاناً ناعمة، وُجوه كلاسّيكيّة تحت شعر مُجعّد ومُعطَّر، وسواعد تزيّنها أساور تتلألأ في حركات مدروسة.

 

عاهِرات كثيرات يَختَلِطن بالفئتين الأخيرتين مِن الناس، ذلك أنّ الرومان واليونانيّين لا يتردّدون في الإعلان عن علاقاتهم على الملأ، في الساحات والشوارع، بينما يُحجِم الفلسطينيّون عن ذلك، ويُطلِقون العنان، بعد ذلك، لعلاقاتهم مع العاهِرات داخل البيوت. وهذا واضح، إذ إنّ العاهرات، رغم التهديدات التي يُطلِقها الذين ينادونهنّ، فإنّهنّ ينادينهم بتودُّد بأسمائهم اليهوديّة المختلفة، ومنهم فرّيسيّ مُزيَّن بالشَّرائِط.

 

يتوجّه يسوع إلى المدينة، وبشكل أدقّ إلى حيث يَجتَمِع الرَّهط الأكثر أناقة بكثافة أكبر. الجماعة الأنيقة، أي الرومان واليونانيّون، وهُم الأكثريّة، مع حفنة مِن حاشية هيرودس، وأشخاص آخرين، أظنّهم تجّاراً أغنياء مِن الشاطئ الفينيقيّ، ناحية صيدون وصور، ذلك أنّهم يتحدّثون عن تلك المدن وعن المخازن والـمَراكِب.

 

للحمَّامَات العموميّة أَروِقتها الخارجيّة المزدحمة بتلك الجماعة الأنيقة والعاطلة عن العمل، التي تضيّع وقتها هكذا في مناقشة مسائل قليلة الأهميّة، كالحديث عن رامي القُرص، أو الرياضيّ الأكثر رشاقة والأكثر انسجاماً في المباراة اليونانيّة والرومانيّة؛ أو إنّهم يتحدّثون عن الموضة والولائم، ويَضربون المواعيد لنـزهات فَرفَشة، مع دعوة أجمل العاهرات أو السيّدات اللواتي يَخرُجن مِن الحَمَّامات أو مِن القُصور مُعطَّرات ومُجعَّدات الشعر، ويتفرّقن في مركز طبريّا ذاك، حيث كلّ ما فيه مَرمَر، والمزيَّن بشكل فنّيّ مثل صالون.

 

طبيعيّ أن يُثير مرور الجماعة الرَّسوليّة فُضولاً بالغاً يُصبِح غير عاديّ، عندما يتعرّف أحدهم على يسوع، إذ قد رآه في القيصريّة، أو حينما يتعرّف آخر على مريم المجدليّة. وهي مع ذلك تَسير مُلتَحِفة بمعطفها، مُتَّشِحة بوشاح أبيض يُغطّي جبينها وخَدَّيها، بشكل أنّها، بهذا الوشاح وبانحناءة رأسها، لا يعود يُرى وجهها جيّداً.

 

«إنّه الناصريّ الذي شَفَى بنت فاليريا.» يقول أحد الرومان.

 

«أودُّ لو أرى معجزة.» يُجيبه رومانيّ آخر.

 

«أنا أودُّ لو أَسمَعه يتحدّث. كأنّي به فيلسوف عظيم. هل نطلب منه أن يتحدّث؟» يَسأَل أحد اليونانيّين.

 

«لا تَشغل نفسكَ بذلك يا تيودات. إنَّ كِرازَته كلام فارغ. إنّه يوافق التراجيديا في قصيدة هِجاء.» يُجيب يونانيّ آخر.

 

«لا عليكَ يا اريستوبول. يبدو وكأنّه يَهبط مِن الغيوم ويمضي على الأرض الصلبة. أَتَرى أنّ له حرّاساً مِن النساء الشابّات والجميلات.» يَمزَح أحد الرومانيّين.

 

«ولكنّ هذه هي مريم المجدليّة!» يَهتف رومانيّ آخر، ثمّ ينادي: «لوشيوس! كورنيليوس! تيطس! انظروا! إنّها مريم!»

 

«ولكنّها ليست هي! مريم في هذا الـمَظهَر! هل أنتَ سكران؟»

 

«أقول لكَ إنّها هي. لا يمكن أن أُخطِئ حتّى ولو كانت مُتنكِّرة هكذا.»

 

يتجمَّع الرومان واليونانيّون في جهة الجماعة الرَّسوليّة التي تجتاز دوّار الساحة ذات الأروقة الكثيرة والينابيع. وتنضمّ بعض النساء إلى جماعة الفُضوليّين. وتمضي إحداهنَّ إلى تحت وشاح مريم لِتَراها بشكل أفضل، وتَنذَهِل عندما تتأكّد إنّها هي. وتَسأَل: «ماذا تفعلين بهذا الشكل؟» وتَضحَك ساخِرة.

 

تتوقّف مريم وتَنتَصِب، ترفع يدها لِتَكشف عن وجهها، رامية وشاحها إلى الخلف. فَتَظهَر مريم المجدليّة، السيّدة المطلقة على كلّ ما هو حقير، والمعلّمة، وهي الآن معلّمة على طِباعها «هي أَنا، نعم.» تقول بصوتها الرائع، وبوميض في عينيها البالِغَتيّ الجمال. «هذه أنا، وإنّني أَنزَع وشاحي كي لا تَظنّوا أنّني أَخجَل مِن كوني مع هؤلاء القدّيسين.»

 

«آه! آه! مريم مع قِدّيسين! ولكن دعكِ منهم! لا تتصاغري!» تقول المرأة.

 

«وَضيعَة، هذا ما كُنتُه حتّى الآن. أمّا الآن فلم أعد كذلك.»

 

«ولكن هل أنتِ مجنونة؟ أَم إنّها نزوة؟» تقول المرأة.

 

ويقول أحد الرومان بِلَهجة تهكّمية، وهو يَرمقها: «تعالي معي. فأنا أكثر جمالاً ومَرَحاً مِن ذاك الكئيب ذي الشارِبَيَن الـمُستَأجَرَيَن، الذي يُذِلّ الحياة ويجعلها كالمأتَم. فالحياة حلوة! انتصار! حفلة فرح! تعالي. بإمكاني التفوّق عليهم جميعاً في إسعادكِ.» يقولها رجل مائل إلى السُّمرة. ذو وجه رفيع، وهو مع ذلك مُحبَّب، ويَهمّ بلمسها.

 

«ارجع! لا تلمسني. حسناً قُلتَ إنّ الحياة حَفلة، وهي الأكثر خزياً، وتُسبِّب لي الغَثَيان.»

 

«آه! آه! ولقد كانت، مع ذلك، حياتكِ حتّى وقت قريب.» يُجيب أحد اليونانيّين.

 

«والآن هي تَلعَب دور العَذراء.» يتهكَّم أحد الهِيروديّين.

 

«أنتِ تُدمِّرين القِدِّيسين! وسوف يَفقد الناصريّ هالتَهُ معكِ. تعالي معنا.» يُلِحّ أحد الرومان.

 

«تعالوا أنتم معي لِنَتبَعه. كُفّوا عن كونكم حيوانات، وصِيروا على الأقلّ مِن البشر.»

 

ويَردّ عليها كورس مِن انفجارات الضحك والسخرية.

 

فقط رومانيّ عجوز يقول: «احتَرِموا المرأة. إنّها حُرّة في أن تَفعَل ما تشاء. أنا أُدافِع عنها.»

 

«الديماغوجيّ! اسمعوه! هل تأذّيتَ مِن خَمرّة ليلة الأمّس؟» يَسأَل أحد الشبّان.

 

«لا، بل هو مريض بالوَهم. ظَهره يؤلمه.» يُجيبه آخر.

 

«اذهب إلى الناصريّ فيحكّه لكَ.»

 

«أنا ذاهب إليه لِيَكشط عنّي الوحل العالق بي مِن جرّاء اتّصالي بكم.» يُجيب العجوز.

 

«آه! إن كريسبوس قد فَسَقَ في الستّين!» يتفكَّه عدد كبير وهُم يحيطون به كدائرة.

 

ولكنّ الرجل المدعوّ كريسبوس لا يُبالي بالتهكُّمات، ويسير خلف مريم المجدليّة التي تَلحَق بالمعلّم الذي تَفيَّأَ في ظلّ بيت جميل ممتدّ على شكل قاعة محادثات على جانِبيّ الساحة.

 

يسوع الآن في صِراع مع أحد الكَتَبَة الذي يُكيل له التُّهَم لكونه في طبريّا ومع تلك الصحبة.

 

«وأنتَ لماذا هنا؟ لماذا تتّهمني لكوني في طبريّا؟ أقول لكَ إنّه حتّى في طبريّا كذلك، بل هنا أكثر مِن أماكن أخرى، توجد نُفوس ينبغي تخليصها.» يجيبه يسوع.

 

«لا يمكنها أن تَخلص، لأنّ الناس هنا وَثنيّون، مُلحِدون، وخَطَأة.»

 

«وأنا مِن أجل الخَطَأَة أتيتُ. لأجعلهم يَعرفون الله الحقّ. لأجل الجميع، ولأجلكَ أيضاً، أنا أتيتُ.»

 

«لستُ في حاجة إلى معلّم، ولا إلى الفادي. فأنا طاهِر ومُثقَّف.»

 

«ليتكَ كنتَ كذلك، أقلّه لِتَعرف وضعكَ!»

 

«وأنتَ، لِتَعرف كم هي مؤذية لكَ، صحبة مومس.»

 

«أسامحكَ كذلك باسمها. فهي، بِتَواضُعها، مَحَت خطيئتها. وأنتَ بكبريائكَ تُضاعِف أخطاءكَ.»

 

«لا أخطاء لديَّ.»

 

«لديكَ أعظَمَها. إنّكَ خالٍ مِن الحُبّ.»

 

فيقول ذاك الذي مِن الكَتَبَة: «راكا» (كلمة سريانيّة وهي كَلِمَة احتقار) ويُدير له ظهره.

 

«إنّها غلطتي يا معلّم.» تقول مريم المجدليّة، وحين ترى شحوب مريم العذراء تُهَمهِم: «سامحيني، فأنا أُسبِّب الإهانات لابنكِ. سوف أنسَحِب.»

 

«لا، ابقي حيث أنتَ. هذا ما أريده أنا.» يقول يسوع بصوت مُهَيمِن مع سطوع في عينيه، وسيطرة في شخصه كلّه، تكاد تَمنَع النَّظَر إليه. ثمّ يقول بأكثر رِقّة: «أنتِ، ابقي مكانكِ. وإذا لَم يَحتَمِل أحد قُربَكِ، فليذهب، هو فقط.»

 

ويُتابِع يسوع المسير متوجِّهاً إلى الجزء الغربيّ مِن المدينة.

 

«يا معلّم!» يَهتِف الرومانيّ البدين والـمُسِنّ الذي دافَعَ عن مريم المجدليّة.

 

يَلتَفِت يسوع.

 

«يدعونكَ معلّماً، وأنا كذلك أُسمّيكَ بهذا الاسم. أودُّ سماعكَ تتحدّث. فأنا نِصف فيلسوف ونِصف ماجِن. إنّما بإمكانكَ أنتَ أن تجعل منّي رَجُلاً نزيهاً.»

 

يُمعِن يسوع فيه النَّظَر ويقول: «إنّني مغادر المدينة التي تسودها الدَّناءة والحيوانيّة البشريّة، وحيث الاحتقار هو السُّلطان.» ويُعاوِد المسير.

 

الرجل، في الخلف، يتصبَّب عَرَقاً وقد أَخَذَ منه التَّعَب كلّ مَأخَذ، لأنّ خطوات يسوع سريعة، وهو بدين وعجوز، ومُثقَل بالرَّذائِل. وبطرس الذي التَفَتَ يُنبّه يسوع.

 

«دعه يسير، لا تكترث به.»

 

بعد قليل يقول الاسخريوطيّ: «ولكن هذا الرجل يَتبَعنا، وهذا ليس حسناً!»

 

«لماذا؟ إشفاقاً عليه أَم لِسَبب آخر؟»

 

«إشفاقاً عليه؟ لا. بل لأنّ خلفه قليلاً يَتبَعنا الرَّجُل إيّاه الذي مِن الكَتَبَة ومعه يهود آخرون.»

 

«دعهم يَفعَلون. إنّما الأجدر بكَ أن تُشفِق عليه مِن أن تُشفِق على نفسكَ.»

 

«إنّني أُشفِق عليكَ يا معلّم.»

 

«لا، بل على نفسكَ يا يهوذا. كُن صريحاً لِتتنبَّه على مشاعركَ وتتعرَّف عليها.»

 

«في الحقيقة أنا أُشفِق على هذا العجوز. فالمرء يَتعَب في اتِّباعكَ، هل تَعلَم؟» يقول بطرس وهو يتصبّب عَرَقَاً.

 

«دائماً يَتعَب المرء في اتِّباع الكمال، يا سمعان.»

 

يَتبَعهُم الرجل بِلا كَلَل، مُحاوِلاً البقاء قريباً مِن النساء اللواتي، مع ذلك، لَم يوجِّه لهنَّ كلمة واحدة.

 

تبكي مريم المجدليّة بصمت تحت وشاحها.

 

«لا تبكي يا مريم.» تقول لها السيّدة العذراء لِتؤاسيها، ممسِكة يدها. «فيما بعد، سوف يُجلّكِ العالم، إنّ الأيّام الأولى هي الأكثر إيلاماً.»

 

«آه! ليس مِن أجلي! بل مِن أجله. لو كان عليَّ أن أُسيء إليه فلن أسامح نفسي أبداً. هل سَمِعتِ ذاك الرجل الذي مِن الكَتَبَة ماذا قال؟ إنّني أُوَرِّطه.»

 

«أيّتها المسكينة! ألا تَعلَمين أنّ تلك الكلّمات تُصفِّر حوله مِثل فحيح الحَيَّات، حتّى قبل أن تُفكِّري بالمجيء إليه؟ لقد قال لي سمعان إنّهم كانوا يُدينونه منذ العام الماضي لأنّه شَفَى مَجذومة، كانت في السابق خاطئة، لَم يَرَها سِوى في وقت اجتراح المعجزة. ولَم يَعُد يراها بعد ذلك، وهي امرأة أكبر مِنّي سِنّاً، أنا أُمّه. ولكن ألا تَعلَمين أنّه اضطُرَّ إلى الفرار مِن منطقة المياه الحلوة لأنّ إحدى أخواتكِ البائسات ذَهَبَت إلى هناك لتُفتَدى؟ كيف تريدين أن يُدينوه إذا كان هو بغير خطيئة؟ بالأكاذيب. وأين إيجادها؟ في رسالته بين الناس. فِعل خَير يتحوّل دليلاً على ارتكاب الخطيئة. وأيّ شيء يَفعَله ابني هو دائماً بالنسبة إليهم خطيئة. فإن اعتَكَفَ في صومعة، اتَّهَموه بإهمال شعب الله. وإن نَزل وسط شعب الله، فهو مُذنِب لذلك. فبالنسبة إليهم هو مُذنِب على الدوام.»

 

«إذن، فَهُم أشرار بشكل شنيع!»

 

«لا، بَل هُم مُنغَلِقون عن النور بِتَعنُّت. وهو، يسوعي، هو غير الـمُدرَك الأزليّ، وسيبقى هكذا، ويستمرّ على الدوام باطّراد.»

 

«ألا تتألّمين لذلك؟ إنّكِ تَبدين في غاية الصفاء.»

 

«اسكُتي. إنّ قلبي، وكأنّ أشواكاً واخِزة تُغلِّفه، وتَجرَحني لدى كلّ عملية تنفُّس، إنّما لا يعرفنَّ هو ذلك! إنّني أتظاهر بالصفاء لِأُسانِده به. فإذا لم تُشدِّد أُمّه مِن عزيمته، فأين يمكن ليسوعي أن يَجِد العَزاء؟ على أيّ صدر يمكنه إسناد رأسه، دون أن يَجِد نفسه وقد جُرِحَ، أو افتُرِيَ عليه لأنّه فَعَلَ ذلك؟ فَمِن الصواب إذن، بغضّ النَّظر عن الأشواك التي تُمزّق قلبي، والدموع التي أَجرَعها في أثناء ساعات الوحدة، أن أضع معطفاً مِن الحبّ الناعم، أن أمنحه ابتسامة، مهما كَلَّفَ ذلك، لأجعله أكثر اطمئناناً، أكثر سَكينة... حتّى اللحظة التي يَبلُغ فيها سيل الحقد حدّاً لا يعود يَنفَع معه أيّ شيء، ولا حتّى حُبّ الأُمّ...» وتَنهَمِر دمعتان كبيرتان على وجه مريم الشاحب.

 

تَنظُر إليها الأختان، وقد تأثَّرَتا كثيراً: «ولكنّنا مِلك له، ونحن نحبّه؛ والرُّسُل...» تقول مرثا لتواسيها.

 

«أنتما له، نعم. وله الرُّسُل... وهُم ما يزالون أدنى كثيراً مِن مُستوى رسالتهم... وألمي أشدّ، لأنّني على عِلم بأنّه لا يَجهَل شيئاً...»

 

«إذن، فالمفروض أنّه يَعلَم كذلك أنّني أريد أن أُطيعه حتّى التضحية بنفسي لو لَزِم الأمر؟» تَسأَل مريم المجدليّة.

 

«هو يَعلَم ذلك. وأنتِ فَرَح عظيم على دربه القاسي.»

 

«آه! أيّتها الأُمّ!» وتأخذ مريم المجدليّة يد مريم وتُقبِّلها بِفَيض مِن المشاعر.

 

تَنتَهي طبريّا في حدائق الضاحية. وبعدها تأتي الطريق الترابيّة المؤدّية إلى قانا، يحدّها، مِن جهة، البساتين، ومن الأخرى مروج وحقول أَحرَقَتها شمس الصيف.

 

يَدخُل يسوع أحد البساتين، ويَقِف في ظلّ أشجار كثيفة. تَلحَق به النساء، وبعد ذلك الرومانيّ اللّاهِث الذي لَم يَعُد قادراً على المتابعة، في الحقيقة. يَأخُذ مكاناً مُحايِداً قليلاً، لا يتكلّم، ولكنّه يَنظُر.

 

«لِنَتناول الطعام أثناء استراحتنا.» يقول يسوع. «هناك بئر، وبالقرب منه فَلَّاح. امضوا واطلبوا منه ماء.»

 

يَمضي يوحنّا وتدّاوس إليه. ويَعودان بِجرّة مليئة ماء حتّى الجَّمام، يتبعهما الفَلَّاح الذي يَحمِل للمجموعة تيناً رائعاً.

 

«ليكافئكَ الله في صحّتكَ ومحصولكَ.»

 

«حَفِظَكَ الله. أنتَ المعلّم، أليس كذلك؟»

 

«أنا هو.»

 

«أتتحدّث هنا؟»

 

«لا أحد يَرغَب بذلك.»

 

«أنا أرغَب يا معلّم. وأكثر مِن الماء الذي لا أَلذَّ منه ساعة العطش.» يَهتف الرومانيّ.

 

«أأنتَ ظمآن؟»

 

«كثيراً. لقد تَبِعتُكَ مِن المدينة.»

 

«في طبريّا ينابيع كثيرة تتدفّق ماء زلالاً.»

 

«لا تَغلَط يا معلّم، أو بالحري لا تتظاهر بذلك. لقد تبعتكَ لِأَستَمِع إليكَ تتحدّث.»

 

«ولكن لماذا؟»

 

«لستُ أدري لماذا ولا كيف. لدى رؤيتي إيّاها (ويُشير إلى مريم المجدليّة)، لستُ أدري، شيء ما قال لي: "سوف يقول لكَ أشياء لا تَعرِفها". وأتيتُ.»

 

«أعطوا الرجل ماء وتيناً. ولِيَستَعِد قوّة بَدَنه.»

 

«والروح؟»

 

«الروح يستعيد قوّته في الحقّ.»

 

«لأجل ذلك تَبِعتُكَ. لقد بحثتُ عن الحقّ في العِلم، ووجدتُ الفساد؛ في المذاهب، حتّى أَفضَلها، وهناك دائماً افتقار ما إلى الصَّلاح. ولقد انحدرتُ حتّى أصابني الغثيان، وأَصبَحتُ رجلاً مقزِّزاً، لا مستقبل لي سوى الساعة التي أعيشها.»

 

يُمعِن يسوع فيه النَّظَر، وهو يأكل الخبز والتين المقدَّم له مِن الرُّسُل.

 

انتهى الطعام بسرعة.

 

يسوع، وقد ظَلَّ جالساً، يبدأ الحديث، وكأنّه يوجِّه مجرَّد تثقيف بسيط لِرُسُله. ويبقى الفلّاح كذلك قريباً منهم.

 

«كثيرون هُم الذين يبحثون عن الحقّ، طوال حياتهم، فلا يَجِدونه. يَبدون كمجانين، يريدون رؤية كلّ شيء، وهم يضعون صفيحة برونزيّة على عيونهم، ويتلمَّسون بتشنّج، بشكل يَبتَعِدون معه باطّراد عن الحقّ، أو بالحريّ يُخفونه بما يكدّسونه فوقه مِن الأشياء التي يزحزحها بحثهم المجنون ويَقلِبها. لا يمكن أن يحصل معهم غير ذلك، لأنّهم يبحثون عن الحقّ حيث لا يمكن أن يوجد.

 

لإيجاد الحقّ، يجب ضَمّ الذكاء إلى الحبّ. والنَّظَر إلى الأشياء، ليس فقط بعينين حكيمتين، بل إنّما بعينيّ صلاح كذلك، لأنّ الصَّلاح أكثر قيمة وجدارة مِن الحِكمة. فإنّ الذي يحبّ، يتوصّل، على الدوام، إلى إدراك الدرب المؤدّي إلى الحقّ. الحبّ لا يعني أبداً التمتّع بالجسد وبواسطة الجسد؛ فهذا ليس حبّاً، بل هو شهوانيّة. الحبّ هو عاطفة نَفْس تجاه نَفْس، عاطفة جزء أسمى تجاه جزء أسمى. بهذه العاطفة نرى في شريكة الحياة، في رفيقة العمر، ليس عَبدة، بل التي تُعطي النور للأولاد، فقط ذلك، أي النصف الذي يُشكِّل، مع الرجل، الكلّ القادر على خَلق حياة، بل حيوات عديدة؛ أي الرفيقة التي هي أُمّ وأُخت وابنة للرجل، التي هي أضعف مِن طفل وليد أو أقوى مِن سَبع غَضنفَر، حسب الحالات، والتي، كأُمّ وأُخت وابنة، يجب أن تُحَبَّ باحترام مطمئن وحافِظ. وكلّ ما هو خلاف لما أقول فهو ليس بحبّ، بل هو رذيلة. وهو لا يقود إلى أعلى، بل إلى أسفل، ليس إلى النور، بل إلى الظُّلُمات، ليس إلى النجوم، بل إلى الوحل. حبّ المرأة مِن أجل معرفة حبّ القريب. حبّ القريب مِن أجل معرفة حبّ الله. وهكذا يَعثُر على طريق الحقّ. الحقّ هنا، يا مَن تبحثون عنه. الحقّ هو الله، وهنا مفتاح إدراك العِلم.

 

ما مِن مَذهَب خالٍ مِن الأخطاء سوى مَذهَب الله. كيف يمكن لإنسان إعطاء إجابات لتساؤلاته، إذا لم يكن الله معه لِيجيبه؟ مَن ذا الذي يستطيع الكشف عن أسرار الخَلق، حتّى مجرّد هذه، وبكلّ بساطة، إذا لم يكن معه العامل الأسمى الذي صَنَعَ كلّ هذه الخليقة؟ كيف يمكن إدراك المعجزة الحيّة، التي هي الإنسان، حيث يمتَزِج الكمال الحيوانيّ بالكمال الخالِد، الذي هو النَّفْس، التي بها نكون آلهة، إذا كانت فينا نَفْس حيّة، أي متحرِّرة مِن الأخطاء التي يرتكبها الإنسان، والتي تجعله بمنزلة البهيمة، ومع ذلك، فهو يتفاخر بارتكابها؟

 

أيّها الباحثون عن الحقّ، أُردِّد لكم ما قاله أيّوب: "سَلْ البهائم فَتُعلِّمكَ، وطيور السماء فَتُخبِركَ. استَفهِم الأرض فَتُلقنِّكَ، وأسماك البحر فتحدِّثكَ."

 

نعم الأرض، تلك الأرض الـمُخضوضِرة والـمُزهِرة، تلك الثمار التي تَنتَفِخ على الأشجار، تلك الطيور التي تتكاثر، وتيّارات الريح التي تُبدِّد الغيوم، تلك الشمس التي لا تُخطِئ أبداً في شروقها منذ مئات السنين، بل منذ آلاف السنين، كلّ شيء يتحدّث عن الله، كلّ شيء يُفسِّر كِنه الله، كلّ شيء يزيح الستار ويَكشِف عن الله. إن لم يَعتَمِد العِلم على الله، يُصبِح الخطأ الذي لا يَرفَع، بل يَحطّ مِن قَدر المرء. فالمعرفة ليست فساداً عندما تكون تَديُّناً. مَن كان عالِماً بالله لا يَسقُط، إذ لديه إحساس بكرامته، لأنّه يؤمن بِخُلوده. إنّما يجب البحث عن الله الحقيقيّ، وليس عن الأشباح التي ليست آلهة، بل هي هَذَيانات الناس الذين لا يزالون مُغلَّفين في قُمُط الجَّهل الروحيّ، التي بسببها لا ظِلّ للحكمة في دينهم، ولا ظِلّ للحقّ في إيمانهم.

 

كُلّ عُمر يَصلُح كي يُصبِح المرء فيه حكيماً. وهذا كذلك قيل في سِفر أيوب: "في المساء يُشرِق عليكَ نور يُشبِه نور الظَّهيرة، وعندما تَظنُّ نفسكَ قد انتهيتَ، سوف تَطلَع مِثل نجمة الصبح، وسوف تكون مُفعَماً ثِقة بالرجاء الذي ينتظركَ".

 

تَكفي الإرادة الصالحة لإيجاد الحقّ، وسوف يُكشَف، إن عاجلاً أو آجلاً. ولكن حينما يُكشَف، فالويل لِمَن لا يَتبَعه، مقتدياً بالإسرائيليّين متصلّبي الرأي، الذين إذ قبضوا على الخيط الموصل إلى اكتشاف الله: أيّ كلّ ما قيل عنّي في الكتاب، لا يريدون اللجوء إلى الحقّ، بل ويكرهونه، مُكدِّسين على ذكائهم وعلى قلبهم، جفاف الحقد والشكليّات. إنَّهم لا يَعلَمون أنّ الأرض سَتُفتَح تحت ثِقل خطواتهم التي يعتقدون أنها تقودهم نحو الانتصار، بينما هي تقودهم نحو عبودية الشكليات والحقد والأنانيّات. سوف يُبتَلَعون، واقعين حيث يمضي المذنبون المدركون بوثنيّة أكثر ذنباً مِن التي اتّخذتها تلك الشعوب بذاتها للحصول على دين ينظّمون بموجبه سلوكهم.

 

أمّا أنا، فكما أنّني لا أرفُض التَّائِبين مِن أبناء إسرائيل، كذلك لا أستَبعِد الوثنيّين الذين يؤمنون بما أُعطي لهم ليؤمنوا به، والذين يقولون في أعماقهم وهُم يَئنّون: "أعطُونا الحقّ!"

 

قُلتُ: لنسترح الآن في هذه الخُضرة، إذا سَمَحَ لنا الرجل بذلك. وفي المساء سوف نمضي إلى قانا.»

 

«سيّدي، أَترككَ. ولكن بما أنّني لا أريد تَدنيس العِلم الذي مَنَحتَنيه، فسأمضي هذا المساء إلى طبريّا. أُغادِر هذه الأرض. سأمضي مع خادِمي إلى ليقونية، فلديَّ هناك بيت. لقد مَنَحتَني الكثير. أُدرِك أنّه لا يمكن إعطاء المزيد لعجوز شهوانيّ. إنّما، بما مَنَحتَني، أَصبَحَ لديَّ ما أُعيد به بناء فِكري. و... أنتَ صَلِّ إلى إلهكَ مِن أجل العجوز كريسبوس، الـمُستمع الوحيد لكَ في طبريّا. صلِّ لكي أستطيع الاستماع إليكَ مرّة أخرى. قبل أن تَستَحوِذ عليَّ ليبيتينا (Libitina آلهة الجنازات والدفن عند الرّومان، وقد استُخدِمَت هنا كِناية عَن الموت)، وبالوسائل التي أعتَقِد إمكانيّة خلقَها فيَّ مِن خلال كلامكَ، قد أفهمكَ بشكل أفضل، وأفهم الحقّ بشكل أفضل. سلاماً أيّها المعلّم.»

 

ويُحيّي على الطريقة الرومانيّة. إنّما، بعد ذلك، وبينما يمرّ بجانب النساء الجالسات على حدة، ينحني أمام مريم المجدليّة ويقول لها: «شكراً يا مريم، فمعرفتي بكِ كانت خيراً. فلقد منحتِ رفيق مآدبكِ القديم الكنـز الذي كان يُفتِّش عنه. وإذا ما توصَّلتُ أنا إلى ما أنتِ عليه الآن، فيكون بفضلكِ أنتِ. وداعاً.»

 

ويمضي.

 

وتَجمَع مريم المجدليّة يديها بشدّة على صدرها، وبوجه مُندَهِش ومُشعّ، وتجثو وتزحف أمام يسوع: «آه! سيّدي! سيّدي! هل حقّاً أنّني أستطيع أن أقود إلى الخير؟ آه! سيّدي! هذا كثير!» وخافِضة رأسها في العشب، تُقبِّل قدميّ يسوع، غاسِلة إيّاهما مِن جديد بدموع عاشقة مجدلا العظيمة، اعترافاً بالجميل.