ج5 - ف40
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الأول
40- (الأعظم في ملكوت السماوات. بنيامين كفرناحوم الصغير)
06 / 12 / 1945
يعودون إلى كفرناحوم بالضبط في اللحظة التي تتأجّج السماء والبحيرة بنيران الغسق. يتحادثون فيما بينهم. كلام يسوع قليل، ولكنّه يبتسم. يُبدون ملاحظتهم أنّ مُبلِّغ الرسالة لو كان أكثر دقّة لوفَّر عليهم طول الطريق. ولكنّهم، مع ذلك، يقولون أيضاً إنّهم نالوا أجر تعبهم لأنّ مجموعة مِن الأطفال الصغار قد شُفِيَ أبوهم في اللحظة التي كان الموت قد دنا منه وكان قد بدأ يبرد، وأيضاً لأنّهم لم يعودوا مجرّدين تماماً مِن المال.
يقول يسوع: «كنتُ قد قُلتُ لكم إنّ الآب يدبّر كلّ شيء.»
«وهذا عشيق قديم لمريم المجدليّة؟» يَسأَل فليبّس.
«يبدو ذلك... بحسب ما قيل لنا...» يُجيب توما.
«ماذا قال لكَ الرجل، يا سيّدي؟» يَسأَل يوضاس بن حلفى.
يبتسم يسوع ليتملّص مِن الإجابة.
«أنا رأيتُهُ أكثر مِن مرّة معها، عندما كنتُ أذهب إلى طبريّا مع بعض الأصدقاء. هذا أكيد.» يؤكّد متّى.
«نعم، يا أخي، أَشبِع فضولنا... هل سألكَ الرجل فقط الشفاء، أم أيضاً المغفرة؟» يَسأَل يعقوب بن حلفى.
«يا للسؤال الفارغ! متى كان السيّد لا يُصِرُّ على التوبة ليمنَح نعمة؟» يقول الاسخريوطيّ مستخفّاً بعض الشيء بيعقوب بن حلفى.
«لم يتفوّه أخي بحماقة. يسوع يُشفي أو يحرّر، ثمّ يقول: "امض ولا تَعُد تخطئ"» يُجيبه تدّاوس.
«إنّما ذلك لأنّه يكون قد رأى التوبة في القلوب» يُجيب الاسخريوطيّ.
«لدى المستحوذ عليهم، لا توبة ولا إرادة بالتحرّر. لم يُظهرها لنا أحد. تذكّر كلّ الحالات. وسوف تجد أنّهم، إمّا كانوا يهربون، أو يَبدون كأعداء، أو، على الأقلّ، يُحاولون هذه أو تلك مِن الحالتين، ولم يكونوا يتوصّلون فقط لأنّ الأهل كانوا يمنعونهم مِن ذلك» يُجيب تدّاوس.
«وسلطان يسوع» يُضيف الغيور.
«ولكنّ يسوع آنذاك يُقيم الاعتبار لإرادة الأهل الذين يُمثِّلون إرادة المستحوذ عليه الذي يَبغي التحرّر، لو لم يكن الشيطان يَحول بينه وبين تلك الإرادة.»
«آه! يا للتمحّكات! وبالنسبة إلى الخَطَأَة إذن؟ يبدو لي أنّه يستخدم الصيغة ذاتها، حتّى ولو لم يكونوا مُستحوذاً عليهم» يقول يعقوب بن زَبْدي.
«لي أنا قال: "اتبعني" ولم أكن قد قُلتُ له كلمة واحدة في ما يخصّ حالتي» يُعَقِّب متّى.
«ولكنّه كان يرى ذلك في قلبكَ» يقول الاسخريوطيّ الذي يريد أن يكون على حقّ دائماً وبأيّة وسيلة.
«وهذا حسن! ولكنّ ذاك الرجل، الذي بحسب الصيت الشائع كان فاسقاً كبيراً وخاطئاً كبيراً، لم يكن مستحوذاً عليه، أو بالحريّ، دون أن يكون كذلك كان شيطان بمثابة المعلّم له أو الممتلك له، مع كلّ خطاياه، كان يحتضر، ولكن بالنتيجة ما الذي طلبه؟ يبدو لي أنّنا نسبح في السحب... ونحن ما نزال في السؤال الأوّل» يقول بطرس.
يسوع يُرضي فضوله: «أراد الرجل أن نكون بمفردنا، هو وأنا، ليتمكّن مِن التكلّم بكلّ حريّة. لم يَعرض وضعه الصحّي مباشرة... إنّما حالة روحه. قال: "أنا مُشرِف على الموت، إنّما ليس كما جعلتُهم يعتقدون كي أحصل عليكَ بأسرع وقت ممكن. إنّني في حاجة إلى غفرانكَ كي أُشفى. ولكنّ هذا يكفيني. إن لم تشفني، سوف أُذعِن. لقد استحققتُ ذلك. إنّما خَلِّص نفسي" واعتَرَفَ لي بخطاياه الكثيرة. سلسلة مِن الخطايا تبعث على التقيّؤ...» يتحدّث يسوع هكذا، ولكنّ وجهه يتلألأ فرحاً.
«وتبتسم يا معلّم؟ هذا يُدهِشني!» يقول برتلماوس.
«نعم يا برتلماوس. أَبتَسِم لهذا لأنّه لم يَعُد مِن وجود للخطايا، ولأنّه، مع الخطايا، علمتُ اسم التي افتدته. ففي هذه الحالة الرَّسول كان امرأة.»
«أُمّكَ!» يقول البعض. ويقول آخرون: «يُوَنّا امرأة خُوزي! إن كان يمضي غالباً إلى طبريّا، فإنّه قد يَعرِفها.» يهزّ يسوع رأسه. يَسأَلونه: «مَن تكون إذن؟»
«مريم التي للعازر» يُجيب يسوع.
«هل أتت إلى هنا؟ لماذا لم تجعل أحداً منّا يراها؟»
«لم تأتِ. لقد كَتَبَت إلى شريك لها قديم. قرأتُ الرسائل. كلّها تتوجّه إليه بالرجاء ذاته: أن يستمع إليها، أن يَفتَدي نفسه كما افتدت نفسها، أن يتبعها في الخير كما تَبِعَها في الخطيئة، وبكلمات الدموع، كانت تتوسّل إليه أن يُخفِّف عن نَفْس مريم ألم عذاب الضمير بسبب إفسادها نفسه. لقد هدته لدرجة أنّه اعتَكَفَ في بيته الريفيّ ليتغلّب على تجارب المدينة. والمرض الذي سبَّبَه وخز الضمير أكثر مِن حالته الجسديّة، انتهى به إلى تهيئته لنيل النعمة. هاكم، هل أنتم مسرورون الآن؟ هل تُدرِكون الآن لماذا أبتسم؟»
«نعم يا معلّم» يقول الجميع. وبعد ذلك، إذ يَرَون يسوع يوسع الخطى، كما لينعزل، يبدأون بالحديث فيما بينهم…
لقد أَصبَحَت كفرناحوم على مرأى منهم، عندما، عند تقاطع الطريق التي يسلكونها مع تلك المحاذية للبحيرة والقادمة من مجدلة، يقابلون التلاميذ القادمين من طبريّا وهم يُبشِّرون. جميعهم عدا مارغزيام والرُّعاة ومَنَاين، الذين ذهبوا مِن الناصرة إلى أورشليم مع النساء. حتّى إنّ التلاميذ هم أكثر عدداً بسبب بعض الذين انضمّوا إليهم أثناء عودتهم مِن رسالتهم، والذين يَجلبون معهم مُنضمّين جدداً إلى المذهب المسيحيّ.
يُحيّيهم يسوع بلطف، ولكنّه مباشرة بعد ذلك يعود إلى العزلة في تأمّل وصلاة عميقة، متقدّماً عنهم بخطوات. والرُّسُل، مِن جهتهم، ينضمّون إلى التلاميذ، خاصّة الأكثر أهميّة: استفانوس، هَرْماس، الكاهن يوحنّا، الكاتب يوحنّا، تيمون، يوسف الذي مِن عِمّاوس، هرمست (الذي، بحسب ما فهمتُهُ، يطير على درب الكمال)، هابيل الذي من بيت لحم الجليل، وأُمّه موجودة بين الجمع مع نساء أخريات. يتبادل التلاميذ والرُّسُل الأسئلة والأجوبة حول كلّ ما جرى منذ أن افترقوا. وهكذا يتحدّثون عن الشفاء والاهتداء الحاصلين في هذا اليوم، وعن معجزة الإستار في فم السمكة... وهذه المعجزة، بسبب الظروف المحيطة، تولِّد نقاشاً ينتشر مِن صفّ إلى آخر انتشار النار في الهشيم…
يقول يسوع: «هنا ستضعين رؤيا (07 / 03 / 1944) "بنيامين كفرناحوم الصغير" دون الإملاء. ثمّ ستتابعين بقية الدرس والرؤيا.»
أعلمكم أولاً بأنّي أحذف الجملة الأخيرة: "الرؤيا تنتهي هنا، ألخ" فقد تبدو في غير محلها على اعتبار أن الرؤيا ما زالت مستمرة.
***
07 / 03 / 1944
...أرى يسوع يَسلك درباً ريفيّاً يتبعه ويحيط به الرُّسُل وبعض التلاميذ.
ليس بعيداً تتلألأ بحيرة الجليل ساكنة زرقاء تحت شمس ربيعيّة أو خريفيّة جميلة، ذلك أنّها ليست حادّة كشمس الصيف. ولكنّني أظنُّه الربيع لأنّ الطبيعة غضّة جدّاً وليست فيها تلك المظاهر المذهّبة والمائتة التي تُرى في الخريف.
يبدو أنّ يسوع، عندما يُقبِل المساء، يَلجَأ إلى البيت الـمُضيف، وبالنتيجة فهو يتوجّه إلى المدينة التي تَظهَر الآن. يسوع، كما في أغلب الأحيان، يسبق التلاميذ ببضعة خطوات، خطوتين أو ثلاث، ليس أكثر، ولكنها كافية لينعزل مع أفكاره، كونه في حاجة إلى الصمت بعد يوم مِن التبشير. يسير غارقاً في التفكير، وفي يده اليمنى غصن أخضر، نَزَعَه مِن أحد الأدغال، بالطبع، يَضرب به عشب المرج بشكل خفيف، وهو يغوص في أفكاره.
خلفه، على العكس مِن ذلك، التلاميذ يتحدّثون بحيوية. يتذكّرون أحداث النهار ويُقيِّمون أخطاء الآخرين وشرّهم بحركات يد عنيفة. الجميع ينتَقِدون، بشكل متفاوت، المكلَّفين بتحصيل الجزية للهيكل، كونهم أرادوا أن يدفع لهم يسوع.
بطرس، المحتدّ على الدوام، يجزم أن هذا انتهاك هو، لأنّ مَسيّا ليس ملزماً بدفع الجزية: «وكأنّي بهم كانوا يريدون أن يَدفَع الله لنفسه» ثمّ يقول: «وهذا ليس عدلاً. وإذا لم يؤمنوا بعدئذ أنّه هو مَسيّا، فإنّ ذلك يصبح انتهاكاً للقدسيّات.»
يلتفت يسوع لبرهة ويقول: «سمعان، سمعان، كثيرون سيشكّون فيَّ! حتّى بين الذين يعتقدون أنّ إيمانهم فيَّ ثابت لا يتزعزع. لا تدن إخوتكَ يا سمعان. ابدأ بإدانة نفسكَ.»
يهوذا، بابتسامة ساخرة، يقول لبطرس الذي يطأطئ رأسه باتّضاع: «هذا لكَ. ألأنّكَ الأكبر سنّاً تريد أن تُظهِر نفسكَ الحكيم دائماً؟ لم يقل أحد إنّ الاستحقاق بحسب السنّ يكون. فمنّا مَن يفوقونكَ عِلماً ووضعاً اجتماعيّاً.»
ويَحتَدِم النقاش حول استحقاقات التبجيل. هذا مَن يتفاخر لكونه مِن أوائل التلاميذ، وذاك يرتكز في استحقاقه على المكانة التي تخلّى عنها ليتبع يسوع، وآخر يقول بأنّ لا أحد يملك الحقوق التي له لأنّ أحداً لم يهتدِ مثله، بانتقاله مِن وضعه كعشّار إلى وضعه كتلميذ. ويطول النقاش، ولو لم أكن أخشى الإساءة إلى الرُّسُل، لقلتُ إنّه يتّخذ منحى محاكمة بحقّ.
يسوع لا يبالي. يبدو وكأنّه لم يعد يسمع شيئاً. وفي تلك الأثناء وَصَلوا إلى مشارف بيوت المدينة التي أعرف أنّها كفرناحوم. يتابع يسوع، بينما الآخرون خلفه يستمرّون في النقاش.
يجري طفل في حوالي السابعة أو الثامنة من عمره خلف يسوع وهو يقفز. ويلحق به متجاوزاً جماعة الرُّسُل الأكثر مِن متحمّسة. وَلَد وسيم ذو شعر كستنائيّ داكن مجعّد وقصير. في وجهه الأسمر عينان سوداوان ذكيّتان. ينادي المعلّم بدالّة، كما لو أنّه يعرفه جيّداً. يقول: «يسوع، دعني أمضي معكَ إلى بيتكَ، هل تريد؟»
«هل تَعلَم أُمّكَ بالأمر؟» يَسأَل يسوع وهو ينظر إليه بابتسامة لطيفة.
«تَعلَم.»
«حقّاً؟» ويَنظُر إليه يسوع نظرة نافذة وهو يبتسم.
«نعم يا يسوع، بحقّ.»
«إذاً هيّا تعال.»
يَقفز الولد قَفزَة فَرَح ويمسك بيد يسوع اليسرى التي يمدّها له. يضع الولد يده الصغيرة السمراء في يد يسوعي الطويلة بثقة شغوفة. وأنا وددتُ لو أفعل مثله!
«اروِ لي مَثَلاً جميلاً، يا يسوع» يقول الولد وهو يقفز إلى جانب المعلّم وينظر إليه مِن أسفل بوجه يشعّ فرحاً.
ويسوع كذلك ينظر إليه بابتسامة فَرِحَة تجعله يفتح فمه الذي تحيط به شاربان ولحية شقراء تلمع تحت الشمس وكأنّها مِن الذهب. وعيناه الزفيريّتان الداكنتان تضحكان فرحاً عندما ينظر إلى الصبيّ.
«ماذا ستفعل بالـمَثَل؟ إنّه ليس لعبة.»
«إنّه أروع مِن لعبة. عندما أمضي إلى النوم، أفكّر به، ثمّ أحلم به، وفي الغد أتذكّره وأُكرّره لنفسي كي أكون صالحاً. إنّه يجعلني صالحاً.»
«تتذكّره؟»
«نعم. هل تريد أن أقصّ عليكَ كلّ تلك التي قُلتَها لي؟»
«أنتَ هُمام يا بنيامين، أكثر مِن الرجال الذين يَنسون. وكمكافأة سأروي لكَ مَثَلاً.»
يكفّ الولد عن القفز. يسير برصانة، متنبّهاً كرجل بالغ، ولا يدع كلمة واحدة تفوته، ولا نبرة مِن صوت يسوع الذي ينظر إليه بكلّ انتباه، ودون حتّى أن يعير انتباهاً إلى مواطئ قدميه.
«عَلِمَ أحد الرعاة، وقد كان صالحاً جدّاً، أنّ عدداً كبيراً مِن النّعاج، في مكان ما، كان يُهمِلها رعاتها الذين لم يكونوا صالحين قطّ. وكانت النّعاج في خطر مِن الدرب السيّئ والعشب المسموم، وكانت تتوغّل أكثر فأكثر في وِهاد صغيرة مظلمة. فمضى إلى ذلك المكان، مضحّياً بكلّ ما يقتني، واشترى تلك النّعاج وتلك الحِملان.
كان يبغي جلبها إلى مملكته، لأنّ هذا الراعي كان مَلِكاً أيضاً كما كان كثير مِن ملوك إسرائيل. في مملكته كان لتلك النِّعاج والحِملان مراعٍ كثيرة سليمة، ومياه كثيرة منعشة ونقيّة، ودروب آمنة، وملاجئ متينة عصيّة على اللصوص والذئاب الخاطفة. حينئذ جَمَعَ ذلك الراعي نعاجه وحملانه وقال لها: "لقد جئتُ لأخلّصكِ، ولأقودكِ إلى حيث لا تعودين تعانين، ولا تعودين تعرفين المكائد والآلام. أحبّيني، اتبعيني، لأنّني أحبّكِ كثيراً، ولكي أقتنيكِ، ضحَّيتُ كلّ أنواع التضحيات. ولكن إن أحببتِني، فلا أعود أشعر بثقل التضحية. اتبعيني وهيّا بنا". وسار الراعي في المقدّمة، وتبعته النّعاج، وسلكوا الطريق المؤدّية إلى مملكة الفرح.
في كلّ لحظة كان يلتفت الراعي ليرى ما إذا كانت تتبعه، كي يحثّ التَّعِبة منها، يُشجّع التي فَقَدَت الثقة، يُسعِف المريضة منها، ويُلاطِف الحِملان. كم كان يحبّها! كان يعطيها خبزه وملحه. كان يبدأ هو فيتذوق مياه النبع ليرى ما إذا كانت سليمة ويباركها ليجعلها مقدّسة.
ولكنّ النّعاج -هل تصدّق ذلك يا بنيامين؟- النّعاج، بعد بعض الوقت تَعِبَت. في البدء واحدة، ثمّ اثنتان، ثمّ عشرة، ثمّ مائة تخلّفت لتقضم العشب حتّى التخمة، لدرجة أنّها لم تعد قادرة على الحركة، ورَقَدَت، تَعِبة وممتلئة، في التراب والوحل. أخرى تميل إلى هاوية، رغم قول الراعي لها: "لا تفعلي هذا". وبما أنّه كان يقف حيث الخطر أعظم، ليصدها عنه، فبعضها دحرته برؤوسها المتعجرفة، وحاولت أكثر مِن مرّة أن ترمي به إلى القاع. وهكذا انتهى الأمر بكثير منها إلى الهاوية لتموت بشكل بائس. أُخرى تقاتلت وتناطحت برؤوسها وقرونها، وقتلت بعضها بعضاً.
حَمَل صغير فقط لم يبتعد أبداً. كان يجري وهو يثغو ويقول بثغائه للرّاعي: "أحبّكَ". كان يجري خَلفَ الراعي الصالح، وعندما وَصَلا إلى باب ملكوته، كانا وحدهما: الراعي والحَمَل الصغير الأمين الوفيّ. حينئذ لم يقل الراعي: "ادخل"، بل قال: "تعال" وحَمَلَه على صدره، بين ذراعيه، وقاده إلى الداخل وهو ينادي كلّ أتباعه قائلاً لهم: "هوذا. هذا يحبّني. أريد أن يبقى معي على الدوام. وأنتم أَحِبّوه، لأنّه هو الذي يُفضِّله قلبي".
لقد انتهى الـمَثَل، يا بنيامين. الآن هل تستطيع أن تقول لي مَن يكون هذا الراعي الصالح؟»
«إنّه أنتَ، يا يسوع.»
«وهذا الحَمَل الصغير مَن يكون؟»
«إنّه أنا، يا يسوع.»
«ولكنّني سأمضي الآن. وسوف تنساني.»
«لا، يا يسوع، لن أنساكَ لأنّني أحبّكَ.»
«سيتلاشى حبّكَ عندما لا تعود تراني.»
«سوف أُردِّد الكلام الذي قُلتَه لي، وسيكون هذا وكأنّكَ حاضر. وسوف أحبّكَ وأطيعكَ بهذه الطريقة. وقُل لي يا يسوع: أنتَ هل ستتذكّر بنيامين؟»
«على الدوام.»
«ماذا تفعل لتتذكّر؟»
«أقول لنفسي إنّكَ وَعَدتَني بأن تحبّني وتطيعني، وهكذا أتذكّركَ.»
«وهل ستمنحني ملكوتكَ؟»
«إذا كنتَ صالحاً، نعم.»
«سوف أكون صالحاً.»
«كيف ستفعل؟ فالحياة طويلة.»
«ولكنّ كلامكَ أيضاً صالح. فإذا ما رَدَّدتُه وعَمِلتُ ما تقوله لي، سوف أحافظ على نفسي صالحاً مدى الحياة. وسوف أفعل ذلك لأنّني أحبّكَ. وعندما يُجيد المرء الحبّ، فلا يُتعِبه أن يكون صالحاً. أنا لا أتعب في طاعة أُمّي، لأنّني أحبّها كثيراً، ولن أتعب في طاعتي لكَ، لأنّني أحبّكَ كثيراً.»
يتوقّف يسوع لينظر إلى الوجه الصغير المتوهّج مِن الحبّ أكثر مِن توهّجه مِن الشمس. وفرح يسوع مضطرم حتّى لكأنّ شمساً أخرى تتأجّج في نفسه، ومتوهّج على حدقتيه. وينحني ويُقبِّل الصبيّ مِن جبهته.
لقد توقَّفَ أمام بيت متواضع، أمامه بئر ماء. ثمّ يذهب يسوع ليجلس أمام البئر حيث يُدرِكه التلاميذ الذين ما يزالون يقيسون مدى امتيازاتهم الخاصّة.
يَنظُر يسوع إليهم، ثمّ يناديهم: «تعالوا حولي، واسمعوا آخر تعليم لهذا اليوم، أنتم يا مَن لا تكفّون عن التغنّي باستحقاقاتكم والتفكير في تخصيص أنفسكم بمكان يتناسب معها. هل تَرَون هذا الصبيّ؟ إنّه في الحقّ أكثر منكم. براءته توفّر له المفاتيح التي يَفتَح بها أبواب ملكوتي. هو أَدرَكَ، في بساطته كطفل، أنّ القُدرة على الوصول إلى العَظَمَة تَكمُن في الحبّ، والقدرة على الدخول في ملكوتي تكمن في الطاعة بحبّ. كونوا بسطاء، متواضِعين، ومحبّين، ليس لي فقط، بل حبّاً تتقاسمونه فيما بينكم، مطيعين لكلامي، كلّه، حتّى هذا، إذا أردتم البلوغ إلى حيث يدخل هؤلاء الأبرياء. تعلّموا مِن الصغار. فالآب يكشف لهم الحقيقة كما لا يكشفها للحكماء.»
يتكلّم يسوع وهو ممسك ببنيامين واقفاً عند ركبتيه وبيديه على كتفيه. في هذه الأثناء، وجه يسوع مُفعَم عَظَمَة. إنّه صارم، ليس غاضباً، بل هو جادّ. إنّه المعلّم بحقّ. آخر شعاع مِن الشمس يُلامِس شعره الأشقر.
بالنسبة إليَّ، تتوقّف الرؤيا هنا، وقد مَلَأتني عذوبة وسط آلامي...
***
تتمّة رؤيا: (06 / 12 / 1945)
...إذن، لم يستطع التلاميذ الدخول إلى البيت، وهذا طبيعيّ، بسبب عددهم، ومِن باب الاحترام. وهذا ما لا يفعلونه أبداً إن لم يدْعُهُم المعلّم، جماعة أو فرادى. ألاحظ احتراماً عظيماً دائماً، ورزانة عظيمة، رغم لطف المعلّم وألفته الطويلة. حتّى إسحاق، الذي يمكنه الادّعاء بأنّه الأوّل بين التلاميذ، لا يَنعَم بحريّة الذهاب إلى المعلّم إذا لم تدْعُهُ، على الأقلّ، ابتسامة مِن المعلّم إلى قُربه.
أليس هذا مختلفاً قليلاً عن الطريقة الوقحة وشِبه الساخرة التي يُعامِل بها الكثيرون الأمور فوق الطبيعية... تلك هي واحدة مِن تعليقاتي التي أَجِدها محقّة، ذلك أنّني لا أنسجم مع كون الناس الذين لديهم أشياء تفوقنا قليلاً، يتصرّفون بأساليب لم نعهدها مع الناس المساوين لنا، عندما يكونون أعلى منّا مستوى بقليل... ولكن!... هيّا بنا…
إذاً، فقد انتَشَرَ الرُّسُل على شاطئ البحيرة لشراء السمك مِن أجل العشاء، كذلك الخبز وما يلزم. يعود يعقوب بن زَبْدي ويُنادي المعلّم الجالس على الشُّرفة مع يوحنّا المقرفص عند قدميه في حِوار مُفعَم عذوبة واستسلاماً... يَنهَض يسوع وينحني فوق الحائط-السور.
يقول يعقوب: «يا للسمك، يا معلّم! يقول أبي إنّ قدومكَ بارَكَ الشِّباك. انظر: هذا لنا.» ويشير إلى سلّة مِن السمك الفضّيّ.
«فليُغدِق الله عليه النِّعَم لجوده. حَضِّروه، وبعد العشاء سنمضي إلى الشاطئ مع التلاميذ.»
وهكذا فَعَلوا.
البحيرة سوداء في الليل، في انتظار القمر الذي يَظهَر متأخّراً. إنّها لا تُرى، إنّما تُسمع وشوشتها، وارتطام مياهها بصخور الشاطئ. وحدها نجمات ليالي الشرق فائقة التصوّر تَنعَكِس في مرآة مياهها الساكنة. يَجلسون حَلَقَة حول مَركَب مقلوب جَلَسَ عليه يسوع. فوانيس الـمَراكِب الصغيرة التي جُلبت إلى هنا، وسط الحَلَقَة، بالكاد تُضيء الوجوه الأقرب إليها. أمّا وجه يسوع فمضاء كلّه مِن الأسفل بفانوس كبير وُضِعَ عند قدميه، وبهذا الشكل يتمكّن الجميع مِن رؤيته عندما يتحدّث إلى هذا أو ذاك.
في البدء حِوار أليف ودون كلفة، أمّا بعد ذلك فقد اتَّخَذَ لهجة التعليم. يقول يسوع جِهاراً: «تعالوا واسمعوا. بعد قليل سوف نفترق، وأريد أن أُثقّفكم بعد، لتكونوا مؤهَّلين بشكل أفضل.
لقد سمعتُكم اليوم تتناقشون، ولم يكن نقاشكم بمحبّة دائماً. للأوائل منكم أَعطَيتُ التعليم. ولكنّني أريد أن أعطيكموه أنتم كذلك، ولن يضير الأوائل أن يَسمعوه مِن جديد. لم يَعُد بنيامين هنا الآن. لقد نام في سريره ويَحلم أحلامه البريئة. إنّما قد تكون نفسه الطاهرة فيما بيننا. ولكن افترضوا أنّه هو أو أيّ طفل آخر هنا الآن ليكون لكم الـمِثال. فأنتم، جميعكم، لديكم في قلوبكم فكرة ثابتة: أن تكونوا الأوائل في ملكوت السماوات؛ فضول؛ معرفة مَن سيكون الأوّل؛ وفي النهاية خطر: الرغبة البشريّة في أن يَسمَع كلّ منكم الإجابة: "أنتَ الأوّل في ملكوت السماوات" يقولها له رفاقه المجاملون، أو المعلّم، وخاصّة المعلّم، الذي تعرفون صدقه ومعرفته للمستقبل.
أليس كذلك؟ تضطرب الأسئلة على شفاهكم وتعتمر في أعماق قلوبكم. والمعلّم يَقبَل هذا الفضول مِن أجل خيركم، على الرغم مِن أنّ الاستسلام للفضول البشريّ لا يخلو مِن الخشية. معلّمكم ليس مُشعوِذاً دجّالاً يُسأل عن قطعتي نقد صغيرتين وسط ضجّة السوق. هو ليس مسكوناً بروح بيثون يجمع المال مدّعياً الألوهة ليردّ على الأرواح الضيّقة لِبَشَر يريدون استشراف المستقبل ليعرفوا كيف "يتوجّهون". لا يمكن للإنسان التوجّه بذاته. الله هو الذي يوجّهه إذا كان مؤمناً به! و لا تفيد في شيء معرفة المستقبل، أو الاعتقاد بمعرفته، إذا لم تتوفّر بعدئذ الوسيلة الكفيلة بتغيير المستقبل الذي تمّ التكهّن به. فليس هناك سوى وسيلة واحدة: التضرّع والصلاة إلى الآب والربّ لنيل العون مِن رحمته. الحقّ أقول لكم إنّ الصلاة بإيمان يمكنها استبدال العقاب بالبركة. أمّا الذي يلجأ إلى البشر ليتمكّن، كإنسان، وبوسائل بشريّة، تغيير المستقبل، فلا يعرف أن يصلّي أبداً، أو معرفته للصلاة سيّئة جدّاً.
وأنا، في هذه المرّة، لأنّه يمكن للفضول أن يوفّر لكم تعليماً جيّداً، فسأردّ عليه، رغم خشيتي مِن الأسئلة الفضوليّة وعديمة الاحترام. تتساءلون: "مَن مِنّا هو الأعظم في ملكوت السماوات؟"
أمّا أنا، فإنّني أُلغي الحدود التي لـ "منّا" ليتّسع السؤال إلى حدود العالم كلّه، الحاليّ منه والمستقبليّ، وأُجيبُ: الأعظم في ملكوت السماوات هو الأصغر بين الناس، أي الذي يعتبره الناس "الأصغر". الذي يكون بسيطاً، متواضعاً، ساذجاً، جاهلاً، بالنتيجة هو الطفل، أو الذي يَعرِف أن يَرجع إلى نَفْس طفل. فليس العِلم، ولا السُّلطة، ولا الغنى، ولا النشاط، حتّى ولو كان خيّراً، يجعلكم "الأعظم" في ملكوت الغبطة. إنّما أن يكون المرء كالأصغر بالحبّ والتواضع والبساطة والإيمان.
انظروا كيف يحبّني الأطفال واقتدوا بهم. كيف يؤمنون بي، وانهَجوا نهجهم. كيف يتذكّرون ما أقول، واحذوا حذوهم. كيف يتصرّفون بحسب ما أُعلِّم، وافعلوا مثلهم. كيف لا يتفاخرون بما يفعلون، وكونوا على مثالهم. كيف لا يحسدونني ولا يحسدون رفاقهم، وليكونوا لكم القُدوة والـمَثَل. الحقّ أقول لكم، إذا لم تغيّروا أسلوب تفكيركم وتصرّفكم وحبّكم، إن لم ترجعوا وتصيروا كالأطفال فلن تدخلوا ملكوت السماوات. فهم يعرفون ما تعرفون، ما هو أساسيّ في مذهبي. ولكن كم مِن الاختلاف في ممارستهم لما أُعلِّم! أنتم، تقولون في كلّ عمل صالح قمتم به: "فعلتُ". الطفل يقول: "يا يسوع، لقد تذكّرتكَ اليوم، وبفضلكَ أطعتُ، أحببتُ، امتنعتُ عن التعارك... أنا مسرور لأنّني أعرف أنّكَ، أنتَ، تَعلَم عندما أكون صالحاً وتفرح لذلك". وأيضاً لاحِظوا الأطفال عندما يخطئون التصرّف. بأيّ تواضع يُقرّون لي بذلك: "اليوم كنتُ شرّيراً. وهذا يزعجني لأنّني سببّتُ لكَ الألم". لا يبحثون عن مبرّرات. يعرفون أنّني أَعلَم، يؤمنون، ويتألّمون لألمي.
آه! إنّهم أحبّاء قلبي، الأطفال الذين يخلو قلبهم مِن كلّ كبرياء، مِن كلّ نفاق، ومِن كلّ فسق! أنا أقول لكم: "ارجعوا كالأطفال، إذا شئتم الدخول في ملكوتي. أحِبّوا الأطفال بحسب الـمِثال الملائكيّ الذي ما زال بإمكانكم الحصول عليه. عليكم أن تكونوا كالملائكة. كي تَجِدوا العُذر، يمكنكم القول: "نحن لا نرى الملائكة". ولكنّ الله يعطيكم الأطفال كنموذج، وهُم فيما بينكم على الدوام. وإذا صادفتم طفلاً مُهمَلاً مادّيّاً، أو وجدانيّاً، وهو معرّض للهلاك، فاقبَلوه باسمي، لأنّ الله يحبّهم كثيراً. ومَن يَقبَل طفلاً باسمي فإيّاي يَقبَل، لأنّني أنا في نَفْس كلّ طفل، النَّفْس البريئة. ومَن يَقبَلني، يَقبَل الذي أَرسَلَني، الربّ العليّ.
واحذروا أن تُشكِّكوا أحد هؤلاء الصغار الذين ترى عينهم الله. يجب ألّا تقع الشكوك عن يد المرء لأيّ كان. ولكن الويل، بل الويل الويل الويل لمن يُشوِّه براءة الأطفال الخام! دعوهم ملائكة، بقدر استطاعتكم. العالم والجسد مُثيران جدّاً لاشمئزاز النَّفْس الآتية مِن السماوات! والطفل، ببراءته، مايزال مجرّد نَفْس. احترموا نَفْس الطفل وجسده بالذات، كما تحترمون مكاناً مقدّساً. مقدّس هو الطفل كذلك لأنّ الله فيه. في كلّ جسد هناك هيكل للروح، ولكنّ هيكل الطفل هو الأكثر قداسة والأكثر عمقاً، ويتجاوز الحجاب المزدوج. فلا تهزّوا حجاب الجهل السامي للشهوة برياح أهوائكم. أريد أن يكون طفل في كلّ عائلة، وسط كلّ اجتماع للكبار، لكي يكون الكابح لأهواء الرجال.
الطفل يُقدِّس ويرمِّم ويُنعش بمجرّد إشعاع مِن عينيه الخاليتين مِن كلّ مَكر. ولكن الويل لمن ينتزع القداسة مِن الطفل بأسلوب تصرّفه المثير للشكوك! الويل للذين ينقلون خُبثهم للأطفال بخلاعة سلوكهم! الويل للذين يجرحون إيمان الأطفال بي بأحاديثهم وتهكّماتهم! فالأولى لهم أن يُعلّق حجر الرحى في عنقهم ويُلقَون في البحر ليغرَقوا مع شكوكهم. الويل للعالم الذي يُسبِّب الشكوك للأبرياء! ذلك أنّ وقوع الشكوك لا يمكن تحاشيه، والويل لمن تقع عن يده بخطيئته!
ليس لأحد الحقّ أن يُمارِس العنف على جسده وحياته، ذلك أنّ الحياة والجسد مِن الله هما، وله وحده الحقّ في أخذ جزء منهما أو الكلّ. ولكن أقول لكم مع ذلك، إذا ما شكَّكتكَ يدكَ، فالأَولى أن تقطعها، وإذا حَمَلَتكَ قدمكَ على أن تُسبّب الشكوك، فيجدر بكَ أن تقطعها. الأفضل لكم الدخول في الحياة مقطوعي اليد أو القدم مِن أن تُلقَوا في النار الأبديّة باليدين والقدمين. وإذا لم يكفِ قطع قدم أو يد، فاقطعوا أيضاً اليد الأخرى أو القدم الأخرى، كي لاتقع الشكوك على يدكم، ولكي تحظوا بالوقت اللازم للتوبة قبل إلقائكم في النار التي لا تنطفئ، وتأكل مثل الدود للأبد. وإذا شكَّكَتكَ عينكَ، فاقلعها. فالأفضل أن تَدخُل الحياة وأنتَ أعور، مِن أن تُلقى في جهنم وأنتَ بعينين. فبعين واحدة أو بغير عيون، سَتَرَون النور لدى بلوغكم السماء، بينما بعينين مُشكِّكَتين، سترون الظلمات والأهوال في جهنّم، ولا شيء غير ذلك.
تذكّروا كلّ هذا. لا تحتقروا الصغار، لا تُشكِّكوهم، ولا تسخروا منهم. إنّهم أفضل منكم، ذلك أنّ ملائكتهم لا تكفّ عن النَّظَر إلى الله الذي يقول لهم الحقائق التي عليهم الإيحاء بها للأطفال، وللذين لهم قلب طفل.
وأنتم، كالأطفال، أَحِبّوا بعضكم بعضاً، دون نزاعات، دون كبرياء. كونوا في سلام فيما بينكم. فليكن فيكم روح سلام تجاه الجميع. أنتم أخوة، باسم الربّ، ولستم أعداء. ليس هناك، بل يجب ألّا يكون هناك أعداء بين تلاميذ يسوع. العدوّ الوحيد هو الشيطان. كونوا له أعداء ألدّاء، وادخلوا في معركة ضدّه وضدّ الخطايا التي تجلب الشيطان إلى القلوب. لا تَكلّوا في الحرب ضدّ الشرّ مهما يكن الشكل الذي يتّخذه.
وكونوا صبورين. فعمل الرَّسول لا حدود له، لأنّ عمل الشرّ لا يَعرف الحدود. فالشيطان لا يقول مطلقاً: "كفى. أنا تَعِب الآن وأستريح". هو لا يعرف الكَلَل. يمرّ مِن إنسان إلى آخر بخفّة كالفكرة، بل أكثر. يُحاِول، يُهاجِم، يَغوي، يُنغّص العيش، لا يَمنح أيّة مهلة. يَنقَضّ غدراً ويَضرب، إذا لم يكن المرء أكثر مِن متيقّظ. أحياناً يستقرّ بعد غزوه بسبب ضعف الذي يَنقَضَّ عليه. أحياناً أخرى يَعقد صداقة، لأنّ أسلوب حياة الفريسة التي يبحث عنها يكون بحدّ ذاته تحالفاً مع العدوّ. وفي حين آخر، عندما يطرده أحدهم، يبحث ويقع على فريسة أسهل، لينتقم مِن الصدمة التي جعله الله أو أحد خُدّامه يتلقّاها. أمّا أنتم، فينبغي لكم أن تقولوا ما يقوله هو: "أمّا أنا، فليس لي أن أستريح". هو لا يعرف الراحة ليملأ الجحيم. وعليكم ألّا ترتاحوا كي تملأوا الجنّة. لا تمنحوه مهلة. أقول لكم منذ الآن إنّكم كلّما حاربتموه فإنّه سيُسبِّب لكم الألم، إنّما عليكم ألّا تهتمّوا لذلك. هو يستطيع أن يجوب الأرض، ولكنّه لا يَلِج السماء. وهناك لن يُسبِّب لكم المتاعب. وهناك سيكون مصير كلّ الذين حارَبوه...»
يَقطَع يسوع حديثه فجأة ويَسأَل: «ولكن، بالنتيجة، لماذا تُضايقون يوحنّا على الدوام؟ ماذا يريدون منكَ؟»
يَعتري يوحنّا احمرار كالنار، وبرتلماوس وتوما والاسخريوطيّ يُطأطِئون الرأس لعلمهم أنّهم قد اكتُشِف أمرهم.
«وإذاً؟» يَسأَل يسوع بإلحاح.
«يا معلّم، رفاقي يريدون أن أقول لكَ أمراً.»
«قُلهُ إذن.»
«اليوم، بينما كنتَ أنتَ لدى ذاك المريض وكنّا نحن ذاهبين عَبْر البلدة كما كنتَ قد أمرتَ، رأينا رجلاً ليس مِن تلاميذكَ، حتّى لم نلحظه قطّ وسط الذين يستمعون إلى تعاليمكَ، وكان يطرد الشياطين باسمك في جمع مِن الحُّجاج الذين كانوا في طريقهم إلى أورشليم. وكان ينجح في ذلك، ولقد شَفَى مصاباً برعشة تمنعه من القيام بأيّ عمل، وأعاد النّطق لفتاة هاجمها الشيطان في الغابة متّخذاً شكل كلب وعَقَدَ لها لسانها. وكان يقول له: "اذهب أيّها الشيطان الملعون باسم السيّد يسوع، المسيح، الـمَلِك مِن نسل داود، مَلِك إسرائيل. هو الـمُخلِّص والمنتصر. فُرَّ مِن أمام اسمه!" وكان الشيطان يفرّ بحقّ. فغضِبنا ومنعناه. فقال لنا: "ما الخطأ الذي أرتكبُهُ؟ إنّني أُبجِّل المسيح وأنا أُخلي دربه مِن الشياطين غير الجديرة برؤيته". وأجبناه: "أنتَ لستَ مُقسِّماً في إسرائيل، ولستَ تلميذاً للمسيح، فليس مسموحاً لكَ أن تفعل ذلك". قال: "فِعل الخير مسموح به على الدوام" وثار ضدّ إيعازنا قائلاً: "سوف أستمرّ في القيام بما أفعل". هذا ما كانوا يريدونني أن أقوله لكَ، خاصّة الآن وقد قلتَ سيكون في السماوات أولئك الذين حارَبوا الشيطان.»
«حسناً. هذا الرجل سيكون منهم. وهو كذلك. هو على حقّ، وأنتم مخطئون. دروب الربّ لا نهاية لها، ولم يُكتَب أنّ الذين يسلكون الطريق المباشرة فقط يَبلُغون السماء. في كلّ زمان وفي كلّ مكان، وبألف طريقة، سيأتي إليَّ أناس، وحتّى مِن الممكن أن تكون بداية الطريق سيّئة. ولكنّ الله يرى استقامة نيّاتهم ويقودهم إلى درب الصَّلاح. وكذلك سيكون هناك مَن يَخرُجون عَن طريق الصَّلاح بالشهوة الثلاثيّة، ويَسلُكون طريقاً تُبعِدهم أو حتّى تضلّهم كلّيّاً. فليس لكم مطلقاً أن تدينوا الذين يشبهونكم. وحده الله يرى. تصرّفوا أنتم بشكل لا تَخرُجون فيه عن طريق الصَّلاح، حيث وَضَعَتكم مشيئة الله، لا مشيئتُكم أنتم. وحينما تَرَون أحداً يؤمن باسمي وبه يَفعَل فِعله، فلا تَدْعوه غريباً، عدوّاً، مُنتَهِكاً للقدسيّات. فهو بحقّ أحد الذين يَخصّونني، هو صديق ومُخلص لي، بما أنّه يؤمن باسمي تلقائيّاً، وأفضل مِن كثيرين منكم، لذلك فإنّ اسمي على شفتيه يُجري المعجزات الشبيهة بالتي تُجرونها وقد تفوقها. الله يحبّه لأنّه يحبّني، وسينتهي به الأمر بأن يقوده إلى السماء. لا يمكن لأيّ إنسان يُجري المعجزات باسمي أن يكون لي عدوّاً أو يتكلّم عنّي بالسوء. بل، بما يَفعل، يَجلب للمسيح الإجلال وشهادة إيمان. الحقّ أقول لكم إنّ إيمانه باسمي لهو كاف ليُخلِّص نَفْسه النقيّة. ذلك أنّ اسمي خلاص هو. كذلك أقول لكم: إذا ما صادفتموه مجدّداً فلا تُقاوِموه، بل على العكس ادعوه "أخاً" لأنّه بالحقيقة كذلك، حتّى ولو كان خارج أسوار حظيرتي. مَن ليس ضدّي فهو معي. ومَن ليس ضدّكم فهو معكم.»
«هل ارتكبنا خطيئة، يا ربّ؟» يَسأَل يوحنّا نادماً.
«لا. لقد تصرّفتم بجهل، إنّما بغير خُبث. فلا خطيئة. ومع ذلك، ففي المستقبل، سوف تكون خطيئة، لأنّكم الآن عرفتم. لنمضِ الآن إلى بيوتنا. السلام معكم.»
--- نهاية القسم الأول من الجزء الخامس ---