ج4 - ف122

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الأول

 

122- ("الذي يسبّب لكَ الألم أدعُه ابناً")

 

21 / 08 / 1945

 

يُغادِر يسوع مُسطَّح الكرمل، ويَنـزل سالكاً الدروب التي رطَّبَها الندى، عَبْر الغابات التي تَبعَث فيها الأصوات المختلفة الحياة، تحت أشعّة الشمس التي تُذَهِّب سفح الجبل الشرقيّ في شروقها. وعندما تتبدّد السحابة الخفيفة التي سبّبتها حرارة الشمس، يَظهَر مرج بن عامر بكلّ بهائه وجمال بساتينه وكرومه المحيطة بالبيوت، ويبدو كسجّادة خضراء بشكل عام، مع واحات صفراء قليلة نُثِرَت عليها لوحات حمراء هي الحقول حيث حُصِدَ القمح ويُحرَق الآن الخشخاش، سجّادة يَحزمها خاتم الجبال المثلّث: الكرمل وطابور وحرمون الصغير، وكذلك الجبال الأبعد التي لا أعرف اسمها، وهي تُخفي نهر الأردن وتلتقي، في الجنوب الغربيّ، بجبل السامرّة.

 

يتوقّف يسوع ويَنظُر متأمّلاً كلّ هذا الجزء مِن فلسطين، ويَنظُر إليه يعقوب ويقول له: «هل تَنظُر إلى جمال هذه المنطقة؟»

 

«نعم، هذا كذلك، إلّا أنّني أُفكِّر بالأخصّ بالتنقّلات المستقبليّة، وبضرورة إرسالكم، وبإرسال التلاميذ دون تأخير، ليس إلى العَمَل الحاليّ المحدود، بل إلى عَمَل رسالة حقيقيّة. فلدينا مناطق ومناطق لم تعرفني بعد، ولا يمكنني ترك مكان بدوني، إنّه اهتمامي المستديم: الذهاب، العَمَل قَدر استطاعتي وعَمَل كلّ شيء...»

 

«هناك أمور مِن وقت لآخر تجعلكَ تتباطأ.»

 

«ليس إبطائي، بقدر ما تَفرض عليَّ تغييرات في خط السير الذي عليَّ اتّباعه، فإنّ رحلاتنا ليست بدون جدوى على الإطلاق، إنّما هناك الكثير الكثير للعمل... وكذلك، فبعد غياب، سوف أَجِد قلوباً كثيرة قد عادَت إلى نقطة الصفر، وعليَّ البدء مِن جديد»

 

«نعم فهي مُضنية، وتُثير الاشمئزاز بجمود الحسّ ذاك في الأرواح، ذاك التذبذب وإيثار الشرّ.»

 

«مُضنية، نعم. إنّما يجب ألّا يُقال "تُثير الاشمئزاز". فَعَمَل الله لا يُثير الاشمئزاز مطلقـاً. والنُّفوس المسكينة ينبغي أن تُثير فينا الشَّفَقة لا الاشمئزاز. ينبغي أن يكون لنا قلب أب على الدوام، قلب أب صالح. والأب الصالح لا يَشعُر أبداً بالاشمئزاز مِن عِلَل أبنائه. ويجب ألّا نشعر بذلك، نحن أيضاً، تجاه أيّ كان.»

 

«يا يسوع، هل تسمح لي بطرح بعض الأسئلة عليكَ؟ فأنا لم أَنَم هذه الليلة كذلك. ولكنّني فكّرتُ كثيراً وأنا أنظر إليكَ نائماً. أثناء نومكَ تبدو أكثر شباباً، يا أخي! كنتَ تبتسم، ورأسكَ متّكئ على ذراعكَ المنثني تحته، تماماً كالطفل. كنتُ أراكَ جيّداً تحت القمر الـمُنير جدّاً في هذه الليلة. كنتُ أفكّر وتبادَرَت إلى ذهني أسئلة كثيرة...»

 

«قُلها.»

 

«كنتُ أقول لنفسي: يجب أن أسأل يسوع كيف يمكننا التوصّل إلى تلك المؤسّسة التي أسميتَها الكنيسة، والتي سيكون فيها ترتيب هَرَميّ، كما فَهِمتُ، ونحن في عدم الكفاية هذه. هل ستقول لنا كلّ ما ينبغي لنا عَمَله، أو علينا أن نفعله بأنفسنا؟»

 

«أنا، حينما تأتي الساعة، سوف أُعيّن لكم رئيسها. ليس أكثر. أثناء وجودي فيما بينكم، أَشَرتُ لكم عن الفئات المختلفة بين الرُّسُل والتلاميذ، رجالاً ونساءً. بالفِعل، هذا ما لا بدّ منه. حينئذ، فكما أريد مِن التلاميذ احترام وطاعة الرُّسُل، كذلك أريد مِن الرُّسُل حُبّاً وصَبراً تجاه التلاميذ.»

 

«وماذا علينا أن نفعل؟ أفقط الكِرازة بكَ على الدوام؟»

 

«هذا هو المهمّ. ثمّ عليكم باسمي أن تَغفروا وتُباركوا وتُعيدوا الناس إلى النّعمة وتَمنحوا الأسرار التي سوف أُنشِئها.»

 

«وما تكون تلك الأمور؟»

 

«إنّها وسائل فائقة الطبيعة وروحيّة، وتُمارَس كذلك بوسائل مادّيّة، وتُستَخدَم لإقناع الناس أنّ الكاهن يقوم فعليّاً بشيء ما. فأنتَ تَرى أنّ الإنسان لا يؤمن إن لم يرَ. إنّه بحاجة دائماً لشيء يُنبِئه بأنّ هناك شيئاً ما. لهذا السبب، عندما أجترح المعجزات، أضع اليدين، أو أُبلِّل باللُّعـاب، أو أُعطي لقمة خبز مبلَّلة. بإمكاني اجتراح المعجزة بِفِكري فقط. ولكن هل تظنّ آنذاك أنّ الناس يقولون: "الله اجتَرَحَ المعجزة"؟ إنّهم يقولون: "لقد شُـفِيَ لأنّه قد آن أوان الشفاء". ويُرجِعون الفضل في ذلك إلى الطبيب، إلى الأدوية، وإلى مقاومة المريض البدنيّة. وسيكون الأمر ذاته بالنسبة للأسرار: أنماط مِن العبادة لِمَنح النّعمة، أو إعادتها أو تقويتها لدى المؤمنين. فيوحنّا مثلاً كان يَستَخدِم التَّغطيس بالماء تعبيراً عن التَّطهير مِن الخطايا. في الحقيقة، إنّ قَهر النَّفْس بمعرفة نجاسة الذات بسبب الخطايا المرتكبة، لهو أهمّ مِن الماء الذي يَغسل الأعضاء. وأنا كذلك سيكون لديَّ عِمادي الذي لن يكون رمزاً فقط، بل سيكون بحقّ تَطهيراً مِن وصمة النَّفْس الأصليّة وإعادة النَّفْس إلى الحالة الروحيّة التي كانت لآدم وحـوّاء قبل الخطيئة، بل هنا أكثر، لأنّه يكون قد مُنِحَ بفضل استحقاقات الإله المتأنِّس.»

 

«ولكن... الماء لا يَنـزِل إلى النَّفْس! النَّفْس روحيّة. ومَن يُدرِكها في المولود حديثاً أو الكهل أو العجوز؟ لا أحد.»

 

«أترى أنّكَ تُقِرُّ بأنّ الماء وسيلة مادّيّة لا تأثير لها على شيء روحيّ؟ فلن يكون الماء إذن، بل كلمة الكاهن، عضو كنيسة المسيح، الـمُكَرَّس لخدمته، أو مؤمن آخَر، في حالات استثنائية، يقوم مقامه، الذي يصنع معجزة افتداء الـمُعمَّد مِن الخطيئة الأصلية.»

 

«حسناً. ولكنّ الإنسان خَطَّاء كذلك بذاته... والخطايا الأخرى فَمَن ذا الذي يزيلها؟»

 

«الكاهن دائماً، يا يعقوب. وإذا كان الإنَّسان الـمُعمَّد بالغاً فتختفي في الوقت ذاته الخطيئـة الأصليّة والخطايا الأخرى. أمّا إذا كان الإنسان قد تعمّد وعاد إلى الخطيئة، فإنّ الكاهن يحلّه منها باسم الله الواحد والثالوث، وبفضل استحقاقات الابن المتجسّد، كما أفعل أنا مِن أجل الخَطَأة.»

 

«ولكنّكَ، أنتَ قدّيس! أمّا نحن...»

 

«ينبغي لكم أن تَكونوا  قدّيسين، لأنّكم تَلمسون أشياء مقدّسة وتَمنَحون ما هو لله.»

 

«إذاً فسوف نُعمِّد الشخص ذاته عدّة مرّات، مثل يوحنّا الذي يُغطِّس المرء بالماء كلّما أتاه؟»

 

«يوحنّا، بمعموديته، لا يُطهِّر إلّا بتواضُع الذي يَعتَمِد. وقد قُلتُ لكَ ذلك آنفاً، أمّا أنتم فلا تُعمِّدون مَن اعتَمَد سابقاً، سِوى في حالة واحدة: وهي أنّ المعمودية كانت قد تَمت سابقاً بصيغة ليست رسوليّة، بل مُنشقَّة، في هذه الحالة يُمكن تعميده مرّة ثانية، بعد سؤال محدَّد لِمَن يبغي العِماد، إذا كان بالِغاً، أن يكون الأمر بإرادته، وبعد إجابة صريحة وواضحة إنّه يريد أن يكون عضواً في الكنيسة الحقيقيّة. أمّا في المرّات التالية، فَلِإعادة الصداقة مع الله، ولإرساء السلام معه، سوف تَستَخدِمون كلمة المغفرة مُقتَرِنة باستحقاقات المسيح، والنَّفْس القادمة إليكم بندامة حقيقيّة وإقرار متواضع يُغفَر لها.»

 

«وإذا كان أحدهم مريضاً لدرجة عدم تمكّنه مِن التَّنقُّل؟ فهل يَموت وهو في الخطيئة؟ وهل سَيُضاف ألم الخوف مِن دينونة الله إلى ألم النّـِزاع؟»

 

«لا. بَل يمضي الكاهن إلى الـمُنازِع ليحلّه مِن خطيئته. بل حتّى يمنحه شكلاً مِن الحلّة أوسع، هي ليست شاملة، بل إنّما لكلّ عضو حسّي يمكن للإنسان عادة أن يخطئ بواسطته.

 

لدينا في إسرائيل الزيت المقدّس، الـمُرَكَّب حسب قاعدة مُعطاة منه تعالى، وبه يُكرَّس الهيكل، الحَبر، الكَهَنَة والملوك. الإنسـان هو بحقّ هيكل، ويُصبِح مَلِكاً باختياره للكرسيّ السماويّ. فيمكنه إذن أن يُكرَّس بزيت الـمَسح. فالزيت المقدّس وأجزاء أخرى مِن العبادة الإسرائيليّة سوف تُؤخَذ وتُمارس في كنيستي، بالإضافة إلى ممارسات أخرى. فما كلّ ما في إسرائيل سيّئ، وينبغي ألّا يُرفَض، ولكن، على العكس، سيكون هناك الكثير مِن ذكريات الممارسات القديمة في كنيستي. وإحداها سيكون زيت الـمَسح، المستخدم في الكنيسة كذلك لتكريس الهيكل والأحبار وكلّ المراتب الكنسـيّة، كلّها، ولتكريس الملوك والمؤمنين عندما يصبحون أولياء عهد الملكوت، أو بالحريّ عندما يكونون في حاجة إلى عون كبير ليمثلوا أمام الله بأعضاء وحواس مطهّرة مِن كلّ خطيئة. فنعمة الربّ تمدّ النَّفْس بالعَون وكذلك الجسد، إن شاء الله، لخير المريض.

 

غالباً ما لا يُبدي الجسم تأثّراً بالمرض حتّى بسـبب تأنيب الضمير الذي يُعكِّر سلامه، وعمل الشيطان الذي، بتلك الميتة، يأمل كَسْب نَفْس لمملكته، وحتّى حَمل الأحياء على اليأس. فالمريض ينتَقِل مِن الكابوس الشيطانيّ والاضطراب الداخليّ للسلام، بواسطة اليقين مِن غفران الله له الذي يجعله يحظى كذلك بابتعاد الشيطان عنه. وكما اقترنت النعمة الممنوحة للآباء الأوائل بنعمة المناعة ضدّ الأمراض والآلام بجميع أشكالها، والمريض المعاد إلى النعمة الأعظم حتّى مِن تلك التي لمولود جديد تَعمَّد بمعموديّتي، يمكنه كذلك أن يحظى بالغَلَبَة على المرض، تساعده في ذلك صلوات إخوته في الإيمان، المتوجِّب عليهم العطف على المريض، عطفاً ليس فقط جسديّاً، بل على الأخصّ روحيّاً، سـاعِين إلى الحصول على سـلام الأخ الجسديّ والروحيّ. فالصلاة قد أَضحَت شكلاً مِن المعجزات، يا يعقوب. صلاة البارّ، كما رأيتَ لدى إيليّا، تمتلك الكثير مِن القُدرة.»

 

«فهمي لكَ قليل، ولكن ما فَهِمتُه يملأني احتراماً لسمة الكَهَنَة الكهنوتيّة. إذا ما أجدتُ الفهم فستكون لنا معك نقاط مشتركة كثيرة: التبشير، المغفرة أو الحلّة مِن الخطايا، والمعجزة، ثلاثة أسرار إذن.»

 

«لا يا يعقوب. فالتبشير والمعجزة ليسا مِن الأسرار. بل ستكون هناك أسرار عديدة. سبعة كما شمعدان الهيكل المقدّس ومواهب روح الحبّ. وفي الحقيقة إنّ الأسرار مواهب وشعلات، تُوهَب ليضطَرِم الإنسان أمام الربّ إلى أبد الدهور. وسيكون كذلك هناك سرّ زواج الإنسان. الممثّل برمز الزواج المقدّس لسارة ابنة رعوئيل المحرَّرة مِن الشيطان. وسيُوهَب الأزواج كلّ المعونات مِن أجل حياة مشتركة مقدّسة حسب شرائع ورغبات الله. فالعروس والعروسة يُصبِحان كذلك أدوات طقس: المشاركة في عمليّة الخلق. الزوج وزوجته يُصبِحان كذلك كَهَنَة كنيسة صغيرة: العائلة. وبالتالي فينبغي لهما أن يُكَرَّسا ليُشارِكا في عمليّة الخلق مع بركة الله ولتربية نَسل يَبارَك به اسم الله الكلّيّ القداسة.»

 

«ونحن، الكَهَنَة، مَن الذي سيكرِّسنا؟»

 

«أنا، قبل أن أترككم. أنتم، بعد ذلك، تُكرِّسون الذين يأتون بعدكم، والذين تضمّونهم إليكم لنشر الإيمان المسيحيّ.»

 

«أنتَ، سوف تُعلِّمنا، أليس كذلك؟»

 

«أنا والذي سوف أرسله إليكم. وأيضاً هذا المجيء سيكون سرّاً. وقد مُنِحَ طواعيّة مِن الله الكلّيّ القداسة في ظهوره الأوّل، ويُمنَح بعدئذ مِن الذين سوف يكونون قد نالوا ملء الكهنوت. سيكون قوة وفِطنة، ويُصبح تثبيتاً في الإيمان، يُصبِح رحمة مقدّسة وخَشية مقدّسة، يُصبِح عَوناً في المشورة وحكمة فائقة الطبيعة وامتلاك برّ، وهو بطبيعته وقدرته يجعل الذي يناله بالغاً. إنّما لا يمكنكَ إدراك ذلك الآن. وهو الذي سوف يجعلكَ تُدرِكه. هو، الـمُعزّي الإلهيّ، الحبّ الأزليّ، عندما تَصِلون إلى اللحظة التي تتقبّلونه فيها في ذواتكم. وهكذا يكون سرّ آخر لا يمكنكم إدراكه الآن. تكاد الملائكة لا تُدرِكه لِسُموّه. ومع ذلك فأنتم البسطاء ستُدرِكونه بقوّة الإيمان والحبّ. الحقّ أقول لكَ: إنّ الذي سيحبّه ويتغذّى روحه به سيتمكّن مِن أن يدوس الشيطان بقدميه دون أن يصيبه أذى، لأنّني حينذاك سأكون معه. حاوِل أن تتذكّر هذه الأمور يا أخي. وسيكون مِن شأنكَ أن تقول ذلك لرفاقكَ وللمؤمنين، مرّات كثيرة جدّاً. وأنتم حينئذ سوف تُعلِّمونها بواسطة إلهيّة، ولكنّكَ ستتمكّن مِن القول: "لقد قالها لي يوماً ونحن نازلون مِن الكرمل. لقد قال لي كلّ شيء لأنّني كنتُ منذ ذلك الحين مختاراً لأكون رئيس كنيسة إسرائيل".»

 

«لديَّ سؤال آخر. كنتُ أُفكّر هذه الليلة، أيجب أن أكون أنا الذي يُخبِر الرّفاق: "أنا مَن سيصبح الرئيس هنا"؟ هذا لا يروق لي. سوف أفعله إذا ما طلبتَه أنتَ منّي، ولكنّه لا يروق لي.»

 

«لا تَخَف. سينـزل الروح المعزّي على الجميع ويمنحكم أفكاراً مقدَّسة. وستكون لكم جميعاً الأفكار ذاتها لمجد الله في كنيسته.»

 

«ولن تكون النقاشات الـ... المنفّرة التي هي الآن؟ وحتّى يهوذا بن سمعان، ألن يبقى سبباً للخلاف؟»

 

«لن يبقى كذلك، كن مطمئنّاً. ولكن ستبقى تبايُنات. لأجل هذا قُلتُ لكَ: اسهر وتيقّظ دون كلل أو تعب متمّماً واجبكَ حتّى النهاية.»

 

«لديّ سؤال آخر يا سيّدي. في أثناء الاضطهادات، كيف عليَّ أن أتصرّف؟ فحسب قولكَ، يبدو أنّه ينبغي لي أن أكون الوحيد مِن بين الإثني عشر الذي يبقى. وسيمضي الباقون إذاً هاربين مِن الاضطهاد. وأنا؟»

 

«سوف تبقى في مركزكَ. فإنّه إذا كان مِن الضروريّ ألّا تَهلَكوا حتّى تتثبّت الكنيسة جيّداً، وهذا ما يبرّر تشتّت تلاميذ كُثُر وحتّى الرُّسُل جميعهم تقريباً، فلا شيء يبرّر فراركَ وإهمالكَ كنيسة أورشليم. بالعكس، كلّما اشتدّ عليها الخطر، كلّما توجَّب عليكَ السَّهَر كما لو أنّها ابنتكَ الأحبّ إليكَ وهي مهدّدة بالموت. إنّ مَثَلكَ سوف يشدّ مِن عزيمة المؤمنين. سيكونون في حاجة إليه لتجاوز التجربة. وكلّما رأيتَهم يَضعفون، وَجَبَت عليكَ مساندتهم، برحمة وحكمة. وإذا كنتَ قويّاً، فلا تكن بغير رحمة تجاه الضعفاء، بل إنّما سانِدهم وأنتَ تفكّر: "أنا لديَّ كلّ شيء مِن الله للتوصّل إلى هذه القوّة التي هي قوّتي. ينبغي لي أن أُقرّ بذلك بتواضع، وأن أتصرّف بمحبّة تجاه الذين هُم أقلّ حظّاً بمواهب الله". وأن تَمنَح، تَمنَح قوّتكَ مع الكلمة ومع العون، بالسكون وبالـمَثَل.»

 

«وإذا كان بين المؤمنين مَن هُم سيّئون، سبب شكّ وخطر على الآخرين، فماذا عليَّ أن أفعل؟»

 

«عليكَ توخّي الحذر عند قبولكَ إيّاهم، إذ مِن الأفضل أن يكون عددهم قليلاً، ولكن صالحين، مِن أن يكونوا كثيرين وغير صالحين. تَعرِف الحكاية القديمة للتفّاحات السـليمة والتفاحّات الفاسدة. فاعمل على ألّا يكون هذا في كنيسـتكَ. ولكن إذا ما وجدتَ أنتَ كذلك خائنيكَ، فاعمل على ردّهم بكلّ الوسائل، محتفظاً بالصَّرامة كآخر وسيلة. إنّما إذا كان الأمر يتعلق بأخطاء صغيرة، شخصيّة، فلا تكن ذا صرامة تُرعِب. سامِح، سامِح... فالمسامحة المقرونة بالدموع وكلّمات الحبّ تؤثّر أكثر مِن الحزم في افتداء قلب. وإذا كانت الخطيئة عظيمة، ولكنّها ثمرّة هجوم مِن الشيطان غير متوقّع، عظيمة لدرجة أنّ الـمُذنِب يَشعُر بالحاجة إلى تحاشي حضوركَ، فامضِ باحثاً عن الـمُذنِب لأنّه حَمَل تائه، وأنتَ الرَّاعي. لا تخف أن تضع نفسكَ بنـزولكَ إلى الدروب الموحِلة، بحثاً عن النُّفوس عَبْر المستنقعات والمهاوي. وحينئذ يتكلّل جبينكَ بإكليل شهيد الحبّ، وهو الأوّل  بين الأكاليل الثلاثة... وإذا أضحيتَ، أنتَ نفسكَ، هدفاً للخيانة كما كان المعمدان وكثيرون غيره، لأنّ لكلّ قدّيس خائنه، فسامِح. سامِحه هو أكثر مِن أيّ غيره. اغفر كما غَفَرَ الله للناس وكما سوف يَغفر. وأيضاً ادعُ "ابناً" ذاك الذي يُسبِّب لكَ الألم، لأنّه هكذا يدعوكَ الآب بفمي، وفي الحقيقة ما مِن إنسان لم يُسبِّب الألم للآب السماوي...»

 

ويسود صمت طويل أثناء اجتياز المراعي حيث ترعى النِّعاج هنا وهناك.

 

أخيراً يَسأَل يسوع: «أما مِن سؤال آخر تريد طرحه عليَّ؟»

 

«لا يا يسوع. ففي هذا الصباح أدركتُ رسالتي المخيفة بشكل أفضل...»

 

«لأنّكَ أقلّ اضطراباً مِن الأمس. وعندما تأتي الساعة، ستكون في سلام أكثر، وستُدرِك أفضل أيضاً.»

 

«سوف أتذكّر كلّ هذه الأشياء... كلّها... عدا...»

 

«عدا ماذا يا يعقوب؟»

 

«عدا ما كان لا يَدَعني أنظُر إليكَ، تلك الليلة، دون أن أبكي. ما لستُ أدري إذا ما قُلتَهـا لي بالضبط، وعليَّ الوثوق بها إذا كنتَ أنتَ مَن قُلتَهـا، أو كان ذلك آتيـاً مِن الشيطان الذي كان يَبغي إخافتي. ولكن كيف يمكن أن تكون بهذا السكون إذا... إذا كان ينبغي حقّاً أن تَحصل كلّ هذه الأمور؟»

 

«وهل كنتَ ستَشعُر بالسـكون لو كنتُ قُلتُ لكَ: "هناك راعٍ يجرّ نفسه بعناء لأنّه كسيح، فاعمل على شفائه باسم الله"؟»

 

«لا، يا سيّدي. سوف أكون كما لو أنّني لستُ أنا، وسأفكّر بأنّه قد تمّ إغوائي لاغتصاب مكانكَ.»

 

«وإذا كنتُ أمرتُكَ بذلك؟»

 

«أَفعَله طاعة لكَ ولا يكون لديَّ أيّ اضطراب بَعد، لأنّني أكون على عِلم بأنّكَ أنتَ مَن يريد ذلك، فلا أخشى عدم معرفتي القيام به. لأنّه، بكلّ تأكيد، إذا ما كنتَ قد أرسَلتَني، فإنّكَ تُعطيني القوّة لأفعل ما تريد...»

 

«تقول ذلك وتُحسِن القول. فَتَرى أنّني، أنا، بطاعتي للآب، أكون بسلام على الدوام.»

 

ويبكي يعقوب خافضاً رأسه.

 

«هل تريد أن تنسى بحقّ؟»

 

«كما تريد يا سيّدي...»

 

«لديكَ خياران ممكنان: أن تنسى أو أن تتذكّر. النسيان يحرّركَ مِن الألم والصَّمت الـمُطلَق حيال رفاقكَ، ولكنّه يتركك غير مهيّأ. أمّا التذكّر، فيهيّئك للرسالة، إذ ليس هناك سوى تذكّر ما عاناه ابن الإنسان في حياته الأرضيّة، لكيلا يتشكّى المرء مُطلَقاً وليبلغ روحيّاً برؤيته كلّ شيء مِن المسيح، في النور الأكثر لمعاناً. فاختر.»

 

«الإيمان والتذكّر والحبّ، هذا ما أريدُه. والموت في أقرب فرصة يا سيّدي...» وما يزال يعقوب يبكي دون صوت. ولولا الدموع التي تَلمَع على لحيته الكستنائيّة، لما عُرِف بأنّه يبكي.

 

يَدَعه يسوع يَفعل... أخيراً يقول يعقوب: «وإذا قمتَ في المستقبل بتلميحات جديدة لـ... لشهادتكَ. فهل ينبغي لي القول إنّني أَعلَم؟»

 

«لا. بل اصمت. لقد عَرف يوسـف أن يَصمت على ألمه كزوج كان يظنّ نفسه قد تعرَّضَ للخيانة، وعلى سرّ الحَبَل بي مِن عذراء، وعلى طبيعتي. اقتَد به. فذاك أيضاً كان سرّاً مخيفاً. ومع ذلك كان لا بدّ مِن حَفظـه، لأنّ عدم حفظه، عن كبرياء أو عن طيش، كان سيُعرِّض عمليّة الفِداء كلّها للخطر. فالشيطان لا يَني يَسهَر ويَعمَل. تذكّر هذا. لو تكلّمتَ الآن لكان في ذلك ضرر كبير لكثير مِن الناس، لأسباب كثيرة. فاصمُت.»

 

«سوف أصمُت... وهذا ما سيُضاعِف ثِقل الحِمل على كاهلي...»

 

يسوع لا يُجيب. يترك يعقوب، في ظل غطاء رأسه الكتّاني، يبكي على هواه.

 

يلتَقِيان بِرَجُل يَحمِل طفلاً بائساً. «هل هو ابنكَ؟» يَسأَله يسوع.

 

«نعم، لقد وُلِدَ، متسبّباً بموت الأُمّ، على هذه الحال. والآن، وقد ماتت أُمّي كذلك، فإنّني أصطحبه معي إلى عملي لأسهر عليه. أنا حَطّاب. أُمدِّده على العُشب، على مِعطفي، وبينما انشر الأشجار، يَمرَح هو بالأزهار، طفلي البائِس!»

 

«بالنسبة لكَ، هو مصيبة عظيمة.»

 

«هي! نعم. إنّما يجب تَقبُّل ما يريده الله بسلام.»

 

«وداعاً أيها الرجل. السلام معكَ.»

 

«وداعاً. السلام لكم كذلك.»

 

يَصعَد الرجل الجبل بينما ما يزال يسوع ويعقوب يَنـزِلان.

 

«يا للبؤس! كنتُ أتمنّى لو تشفيه.» يقول يعقوب متنهّداً.

 

يبدو يسوع وكأنّه لم يَسمَع.

 

«يا معلّم، لو كان يَعلَم ذاك الرجل أنّكَ المسيح، لكان مِن المحتمل أن يَطلب منكَ معجزة...»

 

يسوع لا يُجيب.

 

«يا يسوع، هل تَدَعني أعود إلى الوراء لأقول هذا إلى ذاك الرجل؟ إنّي أُشفِق على الصبيّ. قلبي مُفعَم ألماً. فعلى الأقلّ امنحني فرح رؤية هذا الصغير وقد شُفِيَ.»

 

«هيّا إذن. وسأنتظركَ هنا.»

 

يَمضي يعقوب وهو يَجري. يَلحَق بالرجل ويناديه: «قِف أيّها الرجل واسمع! الذي كان معي هو مَسيّا. اعطني طفلكَ لأحمله إليه. تعال أنتَ أيضاً إذا أردتَ، لترى إذا ما كان المعلّم سيشفيه لكَ.»

 

«اذهب أنتَ أيّها الرجل. عليَّ قَطع كلّ هذا الحطب. ولقد تأخَّرتُ بسبب هذا الطفل. وإذا لم أعمل فلا آكُل. إنّني فقير، وهو يكلّفني الكثير. أؤمن بمَسيّا، ولكن مِن الأفضل أن تُحدِّثه بشأني.»

 

وينحني يعقوب ليأخُذ الولد الممدّد على العشب.

 

«على مهل.» ينبِّهه الحطّاب «كلّ أنحاء جسمه تؤلمه.»

 

بالفعل، فما أن شَرَعَ يعقوب بحمله حتّى بكى الولد بشكل يدعو للشفقة.

 

«آه! يا له مِن ألم!» يتنهّد يعقوب.

 

«ألم عظيم.» يقول الحطّاب وهو يَنشر جذعاً قاسياً، ويضيف: «ألا تستطيع أنتَ شفاءه؟»

 

«أنا لستُ مَسيّا. لستُ سوى تلميذ...»

 

«حسناً! الأطبّاء يتعلّمون مِن أطباء آخرين. والتلاميذ مِن معلّمهم. هيّا، كُن طيّباً. لا تدعه يتألّم. حاوِل أنتَ. لو كان المعلّم يبغي المجيء هنا لَفَعَل. ولكنّه أرسَلَكَ أنتَ، وهذا إمّا لأنّه لا يريد شفاءه، وإمّا لأنّه يريد أن تفعل ذلك أنتَ بنفسكَ.»

 

يَحار يعقوب في أمره. ثمّ يَعقد العزم. يَنتَصِب ويصلّي كما كان يَرى يسوع يَفعَل، ثمّ يأمُر: «باسم يسوع المسيح مَسيّا إسرائيل وابن الله، فلتُشفَ.» ويجثو مباشرة بعدها قائلاً: «آه! يا سيّدي، عفوكَ! لقد تصرَّفتُ بدون إذن منكَ! ولكنّني أشفقتُ على ابن إسرائيل هذا. رحمتكَ يا إلهي! له ولي أنا الخاطئ!» ويبكي كثيراً وهو مُنحَنٍ على الطفل الممدّد. وتَسقُط الدموع على الساقين الصغيرتين المشوَّهَتين والجامِدَتين.

 

يَنفَذ يسوع من المَسلَك. إنّما لا يراه أحد، ذلك أنّ الحطّاب يَعمل ويعقوب يبكي والطفل يَنظُر إليه بفضول، ثمّ يَسأَل بحنان: «لماذا تبكي؟» ويمدّ يده الطفوليّة ليلاطفه، ودون أن ينتبه يَجلِس بمفرده، ويَنهَض ويُعانِق يعقوب ليواسيه. وصَرخَة يعقوب هي التي جَعَلَت الحطّاب يلتَفِت فيرى ابنه واقفاً على قدميه اللتين لم تعودا ميّتتين ولا مشوّهتين. وأثناء التفاتته يَرى يسوع.

 

«ها هو! ها هو!» يَهتف وهو يشير خَلفَ يعقوب الذي يلتَفِت ويرى يسوع يَنظُر إليه بوجه مُشرِق بالفرح.

 

«يا معلّم! يا معلّم! لستُ أدري كيف جَرى هذا... الرحمة... هذا الرجل... هذا الطفل... عفوكَ!»

 

«انهض. التلاميذ ليسوا أفضل مِن المعلّم، ولكنّهم يستطيعون فِعل ما يَفعَل المعلّم عندما يكون المبرّر لما يَفعَلون مقدَّس. انهض وتعال معي. بورِكتُما كلاكما، وتذكَّرا أنّ حتّى خُدّام الله يَعمَلون أعمال ابن الله.» ويَمضي وهو يَجرّ إليه يعقوب الذي لا يَكفّ عن القول: «ولكن كيف استطعتُ؟ ما زلتُ لا أفهم. بماذا اجترحتُ المعجزة باسمكَ؟»

 

«بالرحمة يا يعقوب. برغبتكَ في جعلي محبوباً مِن هذا البريء وذاك الرجل الذي كان يؤمن ويشكّ في الوقت ذاته. فيوحنّا، قُرب جبنيا (Jabnia) اجتَرَحَ معجزة بفضل الحبّ شافياً إنساناً في حالة نِزاع  بمسـح الزيت وبالصلاة. وهنا شـَفيتَ أنتَ بدموعكَ وإشفاقكَ، وبثقتكَ باسمي. أترى كَم خدمة الربّ وادعة عندما تكون نيّة التلميذ مستقيمة؟ الآن فلنمش بسرعة لأنّ هذا الرجل يَتبَعنا. ومِن غير المستحسَن أن يَعلَم رفاقكَ بذلك، ليس الآن. قريباً أُرسِلكُم باسمي... (يتنهّد يسوع تنهّدا عميقاً) كما يتحرّق يهوذا بن سمعان ليفعل (ويتنهّد يسوع مجدّداً). وسوف تفعلون ذلك... ولكن ذلك لن يعود بالخير على الجميع. كن متيقّظاً يا يعقوب! إنَّ سمعان بطرس، وأخوكَ وكذلك الآخرون قد يتألّمون لمعرفة أنّ ذلك بمثابة انحياز. إنّما هو ليس كذلك. بل الأمر هو معرفة تهيئة واحد مِن بينكم، أنتم الإثني عشر، يعرف أن يقود الآخرين. فلننـزل إلى مجرى هذا السيل المغطّى بالورق. وهكذا نُضيع الأثر... ألا يرضيكَ هذا بالنسبة للطفل؟ آه! سوف نَلقاه مِن جديد...»