ج4 - ف102
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الأول
102- (مَثَل الصيادِين)
31 / 07 / 1945
التَأَمَ الجميع في القاعة الواسعة في الطابق العلويّ. والعاصفة العنيفة تَحوَّلَت إلى مَطَر مُتواصِل الهطول، يَخفّ أحياناً وكأنّه يُوشِك على التوقّف، وأحياناً يَهطُل بِشدّة وهياج غير مُتوَقَّعين. في الحقيقة، إنّ البحيرة اليوم ليست لازورديّة، بل هي صفراء، مع سحابات مِن الزَّبَد، عندما تهبّ الرياح؛ وهي رماديّة كالرصاص مع زَبَد أبيض عندما تهدأ العاصفة. الروابي، بالمياه التي تجري فيها، وأوراقها التي تنثني أيضاً تحت ثِقل المطر، والأغصان الـمُدلّاة وقد كَسَرَتها الرياح، وكميّات كبيرة مِن الأوراق التي انتَزَعَها البَرَد، تُشكِّل سواقي مياه صفراء، تَجرف معها، مِن كلّ الجهات، إلى البحيرة، الأوراق والحجارة والتربة المنجرِفة مِن المنحدرات. وبَقِيَ النور مُغشَّى ومُخضَرّاً.
وفي الغرفة، مريم مع مرثا ومريم المجدليّة وامرأتان أُخريان، لا أعرف بالضبط مَن تكونان، جالِسات قرب النافذة الـمُطِلّة على الروابي، ولديَّ انطباع أنّ يسوع ومريم والرُّسُل يَعرفون المرأتين، ذلك أنّهما على راحتهما، بالتأكيد أكثر مِن مريم المجدليّة التي تَلبَث بلا حراك، مُطأطِئة الرأس بين مريم ومرثا، وقد استعادتا ثيابهما المجفَّفَة قرب النار، والـمُنظَّفة مِن الوَحل. ولكنّني أُسيء التعبير، فإنّ العذراء قد استعادت ثوبها الصوفيّ الأزرق الداكن، أمّا مريم المجدليّة فترتدي ثوباً مُستعاراً، ضَيِّقاً وقصيراً بالنسبة إليها، فهي طويلة وصَحّتها مُكتَنِـزة، وتُحاوِل تلافي عيوب الثوب بأن تبقى مُتدثِّرة معطف أختها، وقد ضَمَّت شَعرها في ضفيرتين كبيرتين عَقَدَتهُما عند قَفا عُنقها بشكل عشوائيّ، لأنّه يجب إيجاد بعض الدبابيس الأخرى مُجتَمِعة هنا وهناك، لِتَحَمُّل ثِقل الشَّعر. بالفعل، منذ ذلك الحين وأنا أُلاحظ، بشكل دائم، أنّ مريم المجدليّة تَختم الدبابيس بشريطة هي نوعاً ما تاج ناعم، يمتَزِج لونه التِبنيّ بِذَهَب الشَّعر.
في الجانب الآخر مِن القاعة، يَجلس يسوع والرُّسُل وصاحب البيت على مقاعد، عند أطراف النوافذ. يَغيب عنهم فقط خادِم مرثا. أمّا بطرس والصيّادون الآخرون فَيَدرسون الطقس مُتكهِّنين حالة الغد. ويسوع يَستَمِع إلى هذا وذاك، ويُجيب.
«لو كنتُ أَعلَم لقلتُ لِأُمّي أن تأتي. حَسَن أن تتعوّد تلك المرأة على صاحباتها.» يقول يعقوب بن زَبْدي وهو يَنظُر جهة النساء.
«هيه! لو عَلِمنا!... ولكن لماذا لم تأتِ أُمّنا مع مريم؟» يَسأَل تدّاوس أخاه يعقوب.
«لا أدري، فأنا كذلك أتساءل.»
«أهي مريضة؟»
«لكانت ذَكَرَت مريم ذلك.»
«سوف أسألها عن ذلك.» ويمضي جهة النساء.
ويُسمَع صوت مريم العذب يجيب: «إنّها في صحّة جيّدة، أنا مَن جَنَّبتُها ذلك التعب الهائل في تلك الحرارة. وفَرَرنَا مِثل صبيّتين، أليس كذلك يا مريم؟ وَصَلَت مريم مساء، ومَضينا عند الفجر. وقد قُلتُ لحلفى فقط: "هو ذا المفتاح. سأعود قريباً. قُل ذلك لمريم". وأتيتُ.»
«سنعود معاً، يا أُمّي، حينما يتحسّن الطقس وتَحصَل مريم على ثوب. سوف نمضي جميعنا معاً عَبْر الجليل، مُصطَحِبين الأخوات حتّى بلوغ الطرق الأكثر أماناً. وهكذا يصبحن معروفات مِن بورفيرا، وسُوسَنّة، ونسائكم، وفليبّس وبرتلماوس.»
رائعة هي تلك الكلمة: "يُصبِحنَ معروفات"، كيلا يقول: "تُصبِح مريم معروفة!" إنّها كذلك قويّة، تُزيل كلّ الظُّنون والقيود المعنويّة للرُّسُل تِجاه الـمُفتَدَاة. إنّها كلمة تَفرُض المجدليّة، مُتغلِّبة على كلّ العقبات والمضايقات التي تَختَبِرها، وكلّ شيء. مرثا مُشرِقة، مريم المجدليّة تَحمَرّ، ونَظرَتَها مُتوَسِّلة، عارِفة بالجميل، مُضطَرِبة، ما أدراني؟... ومريم الكلّيّة القداسة عَذبَة الابتسامة.
«أين نمضي لِنَبدأ، يا معلّم؟»
«إلى بيت صيدا، ثمّ، عَبْر مجدلا وطبريّا وقانا، إلى الناصرة. ومِن هناك، عَبْر جافيا وسميرون، نمضي إلى بيت لحم الجليل، ثمّ إلى سيكامينون [حيفا] والقيصريّة...» وبكاء مريم المجدليّة يُقاطِع يسوع، فيَرفَع رأسه، يَنظُر إليها، ثمّ يُتابِع وكأنّ شيئاً لم يكن: «في القيصريّة سوف تَجِدون عربتكم. لقد أَمَرتُ الخادم بذلك، وسَتَمضون إلى بيت عنيا. وسنلتقي، فيما بعد، في عيد المظالّ.»
تتمالك مريم المجدليّة نفسها ولا تجيب على أسئلة أختها، ولكنّها تَخرُج مِن القاعة، وتنـزوي في المطبخ، ربّما، لِبُرهة.
«إنّ مريم تتألّم لدى سماعها بأنّ عليها الذهاب إلى بعض المدن، ويجب تَفَهُّمها... أقول ذلك للتلاميذ أكثر منه لكَ، يا معلّم.» تقول مرثا بِتَواضُع وقَلَق.
«صحيح، يا مرثا. إنّما يجب أن تجري الأمور على هذا الشكل، فإذا لم تُجابِه العالم مباشرة، فوراً ومعنا، ولم تُحطِّم ذلك الطاغية الرهيب، الذي هو الاحترام البشريّ، فإن هِدايَتها البطوليّة تبقى مشلولة.»
«معنا، لن يقول لها أحد شيئاً. أؤكِّدُ لكِ يا مرثا، باسمي وباسم جميع الرفاق كذلك.» يَعِد بطرس.
«ولكن بالطبع، سوف نُحيط بها كأخت، وهذا ما هي عليه بالفعل، كما قالت مريم، وهذا ما ستكونه بالنسبة إلينا.» يؤكّد تدّاوس.
«ثمّ!... نحن جميعنا خَطَأَة، والعالم لَم يُوفِّرنا، ولا حتّى نحن. وكذلك هي تُدرِك صراعاتها.» يقول الغيور.
«أنا أفهمها أفضل مِن الجميع. إنّ العيش في الأماكن التي أَخطَأنا فيها لمحمود هو. يعلم الناس مَن نكون!... وهذا عذاب لنا، ولكنّه كذلك عَدل ونَصر ومُقاوَمة الأمر بالذات، لأنّ سلطان الله فينا جَليّ، ونحن بذلك نكون حافزاً للآخرين على الاهتداء، حتّى دون فَتح أفواهنا.» يقول متَّى.
«انظري يا مرثا، إنّ الجميع يَتفَهَّمون أختكِ ويَفهَمونها. وذلك ما سيكون على الدوام. سوف تكون نقطة علَّامة لِنُفوس كثيرة خاطِئة ومُضطَرِبة. إنّها قوّة عظيمة للصالحين كذلك. إذ حينما تُحطِّم مريم آخر سلاسل المشاعر الإنسانيّة، سَتُصبِح نار حبّ. فهي قد غَيَّرَت فقط وِجهة فيض مشاعرها. لقد جَعَلَت مَقدِرتها الهائلة على الحبّ فائقة الطبيعة، وبعد ذلك سوف تَفعَل الخَوارق. أؤكّد لكم ذلك. فالآن هي ما تزال مُضطَرِبة، وسوف تَرَونَها، يوماً إثر يوم، تَسكُن وتتقوّى في حياتها الجديدة. ففي بيت سمعان قُلتُ: "لقد غُفِر لها الكثير، لأنّها أَحبَّت كثيراً". أمّا الآن فأقول لكم: في الحقيقة، لقد غُفِر لها كلّ شيء لأنّها سوف تحبّ إلهها بكلّ قوّتها، بكلّ نفسها، بكلّ فكرها، بكلّ دمها، وبكلّ جسدها حتّى الـمِحرَقة.»
«يا لِغِبطتها، لِاستحقاقها هذه الكلّمات! أتمنّى لو أستَحِقُّها أنا كذلك.» يتنهّد أندراوس.
«أنتَ؟ ولكنّكَ قد استَحقَقتَها! تعال هنا، يا صيّادي، أريد أن أروي لكَ مَثَلاً، يبدو أنّه جُعِل لكَ بشكل خاصّ.»
«انتظر يا معلّم، سأبحث عن مريم، إنّ بها لَشَغف في معرفة مذهبكَ!...»
وبينما تَخرُج مرثا، يُرتِّب الآخرون المقاعد على شكل نصف دائرة حول مَقعَد يسوع.
يبدأ يسوع الحديث: «يَمخُر الصيّادون عَرضَ البحر، ويُلقُون شِباكهم، وبعد مضي الزمن اللازم، يَجُرّونها إلى الشاطئ. وقد كانوا يُتِمّون العمل بكثير مِن العناء، بأمر مِن معلّمهم الذي كَلَّفَهم تأمين سَمَك مِن النوع الأوّل إلى المدينة، قائلاً لهم: "أَمّا الأسماك الضارّة أو سيّئة النوعيّة، فلا تَحمِلوها حتّى إلى الأرض. بل أَعيدوها إلى البحر. وسيأخذها صيّادون آخرون، وبما أنّهم يَعمَلون لحساب معلّم آخر، فَسَيأخُذونها إلى مدينته، ذلك أنّهم، هناك، يَستَهلِكون الضارّ وما يَجعَل مدينة عَدوّي أكثر فظاعة. أمّا في مدينتي، الجميلة والمشرقة والمقدَّسة، فينبغي ألّا يَدخُل شيء وَبيل".
حالما تُصبِح الشَّبَكة على الشاطئ، يبدأ الصيادون الجرَّ، ذلك أنّ السمك كان كثيراً، بهيئات وقياسات وألوان مختلفة، ومنها ما كان مَظهَرها جميلاً ولكن لحمها مُمتَلِئ حَسَكاً، وهي ذات طعم كريه، والجوف مَحشوّ بالوَحل والديدان والأعشاب المتفسِّخة التي تَزيد طعم السمك سوءاً. بينما كانت أُخرى على العكس مِن ذلك، مَظهَرها غير مُستَحَبّ، والفم يبدو مِثل وَجه مُجرِم، أو وحش، أو كابوس، ولكنّ الصيادين كانوا يَعلَمون أنّ لحمها لذيذ. وأُخرى، لأنّها تافهة، فإنّها كانت تَمرُّ دون لَفت الانتباه. وكان الصيّادون يَعمَلون ويَعمَلون. وامتَلَأَت السِّلال بالسمك اللذيذ، وكان في الشِّباك سمك لا قيمة له. "هذا يكفي الآن. لقد امتَلَأَت السِّلال. لِنَرْمِ الباقي كلّه في البحر". يقول صيّادون كثيرون.
ولكنّ واحداً منهم، وقد كان قليل الكلام، بينما كان الآخرون يَمتَدِحون أو يَستَهجِنون الأسماك التي كانت تقع بين أيديهم، وهذا ظَلَّ يُفَتِّش في الشَّبَكة، فاكتَشَف وسط السمكات الصغيرة سمكتين أو ثلاثاً وَضَعَهُا فوق تلك السِّلال. "ولكن ماذا تَفعَل؟" يَسأَل الآخَرون. "السِّلال مُمتَلِئة، بل هي تَطفَح. وأنتَ تُفسِدها بوضعكَ تلك السمكات البائسة فوقها. حَسبكَ أنّكَ تريد اعتبارها الأجمل". "دعوا عنكم هذا، فأنا اعرف هذا النوع مِن الأسماك، وأَعلَم ما لها مِن أفضليّة وَجُودَة".
وينتهي الـمَثَل بِبَرَكَة مِن المعلّم للصيّاد الصَّبور العارِف والصَّامِت، الذي عَرَف تمييز أفضل السمكات بين المجموعة.
والآن استَمِعوا إلى التطبيق العمليّ الـمُستَخلَص منه.
مُعلِّم المدينة الجميلة والـمُشرِقة والمقدَّسة هو الربّ. والمدينة هي ملكوت السماوات. الصيّادون هُم رُسُلي. وسَمَك البحر، البشريّة، حيث الناس مِن كلّ الأجناس. والسَّمَكات الـمُفَضَّلة هُم القدّيسون.
مُعلِّم المدينة الفظيعة، هو الشيطان. المدينة الفظيعة هي جهنّم. وصَيّادوه هُم العالم والجَّسَد والـمُيول الشرّيرة المتجسِّدة في خُدّام الشيطان، إن يَكُن روحيّاً، أي الشياطين، وإن يكن بشريّاً وهُم مُفسِدو نُظرائِهم. أمّا السَّمكات السيّئة فهي تُمثِّل الناس المدانين الذين لا يَستَحِقُّون ملكوت السماوات.
وَسط الذين يَصطَادون النُّفوس مِن أجل مدينة الله، سوف يكون على الدوام أولئك الذين يُضاهون مَهارة الصَّياد الصَّبور، الذي يَعرِف أن يُثابِر في البَحث، بالضبط في الطَّبَقات الإنسانيّة، حيث رفاقه الآخرون، نافِذو الصَّبر، قد رَفَعوا فقط ما كان يَبدو صالحاً مِن النَّظرَة الأولى. وبكلّ أسف، سيكون هناك صيّادون، كَونهم شاردي الذهن وثَرثارين، بينما الفَرز والاختيار يَتطَلَّب انتباهاً وصَمتاً لِسماع صوت النُّفوس والإشارات فائقة الطبيعة، لَن يَروا السَّمكات الجيّدة، ويَفقِدونها. وسيكون هناك مَن، بسبب كَثرة التشدّد، يُقصُون كذلك النُّفوس غير المتكاملة ظاهريّاً، ولكنّها ممتازة في كلّ ما تَبَقّى.
ماذا يَهمُّكم لو أنّ إحدى السمكات التي تَحصَلون عليها مِن أجلي، تُظهِر إشارات صِراعَاتها الماضية، وتَكشِف عن التشوُّهات الحاصِلة لأسباب كثيرة، إن لَم تَجرَح روحها؟ ماذا يَهمُّكم لو أنّ إحداها، كي تتحرَّر مِن العدوّ، جُرِحَت، وتقدَّمَت رغم جراحاتها، إذا كان داخلها يُظهِر الإرادة الجليّة بالرغبة في الانتماء إلى الله؟ إنّها نُفوس مُبتلاة، نُفوس ثابتة، أكثر مِن أولئك الذين، كأطفال، هُم مُصانون بالقُمُط والـمَهد والأُمّ، ونائمون مُشبَعين وفي أحوال جيّدة، أو يبتسمون بِسُكون، إنّما الذين سوف يُظهِرون فيما بعد -إن بسبب الفِكر أو العُمر أو تقلُّبات الحياة التي تَفرض ذاتها- مفاجآت مؤلمة لانحرافات وجدانيّة.
أُذكِّركم بِـمَثَل الابن الشاطر. سوف تَسمَعون المزيد، لأنّني سَأَعمَل جاهداً على أن أجعل استقامة البصيرة تَنفَذ إلى داخلكم، تحت شكل فحص الضمير واختيار شكل توجيه الضمائر الفريدة، وكلّ منها، بالنتيجة، له طريقته الخاصة بالإحساس والتصرّف تجاه التجارب والتعاليم. لا تَظنّوا فَرز النُّفوس سهلاً. العكس هو الصحيح. هذا يتطلّب عيناً روحيّة مُضاءَة بالنور الإلهيّ، وهذا يتطلّب ذكاء تَختَرِقه الحكمة الإلهيّة، وهذا يتطلّب امتلاك الفضائل إلى درجة بطوليّة، وعلى رأسها المحبّة؛ وهذا يتطلّب المقدرة على التركيز في التأمّل، إذ إنّ كلّ نَفْس هي نَصّ غامض يجب قراءته والتأمّل فيه. وهذا يتطلّب اتّحاداً دائماً بالله، مع نسيان كلّ الـمَنافِع الأنانيّة. العيش مِن أجل النُّفوس ومِن أجل الله. التَّرَفُّع وتَجاوُز التَّحيُّزات والمشاعر والنُّفور. أن يكون المرء لطيفاً مثل الآباء، وصَلباً كالحديد مِثل المحارِبين. لطيفاً مِن أجل النّصح وإعادة الشجاعة. صَلباً كالحديد مِن أجل القول: "هذا غير مَسموح به ولن تَقوم به". أو "هذا يَصلُح للعمل، وسوف تَعمَله". فَكِّروا في ذلك جيّداً، لأنّ نُفوساً كثيرة تُرمَى في المستنقعات الجهنّميّة. إنّما لن يكون هناك فقط نُفوس خطاة. بل سيكون كذلك نُفوس صيّادين إنجيليّين: تلك التي تُقصِّر في وظيفتها فَتُساهم بذلك في فقدان أرواح كثيرة.
سيأتي اليوم، الذي هو اليوم الأخير مِن عُمر الأرض، والأوّل مِن أورشليم الكاملة الخالدة، حيث الملائكة، كالصيّادين في الـمَثَل، يَفصلون الأخيار عن الأشرار وفقاً لعدالة الدَّيان الـمُطلَقَة، كي يَذهَب الصَّالِحون إلى السماء، والأشرار إلى النار الخالدة. وحينذاك يُعرَف الحقّ فيما يخصّ الصيّادين ومَن صَادوا، والرّياء يَسقُط، أمّا شعب الله فَيَظهَر كما هو مع رؤسائه والـمُخَلَّصين. سوف نَرى حينئذ أنّ الكثيرين مِمَّن هُم ظاهريّاً عديمو الشأن، أو مَن هُم في الظَّاهِر قد أُسيئت معاملتهم، هُم أَلَق السماء، وأنّ الصيادين الهادئين والصَّابِرين هُم أولئك الذين عَملوا بالأكثر، والذين يتألَّقون الآن كحجارة ثمينة، بسبب كلّ الذين خَلَصُوا على أيديهم.
ذاك هو الـمَثَل وشَرحه.»
«وأخي؟!... آه! لكنّ...» يَنظُر إليه بطرس، يَنظُر... ثُمّ يَنظُر إلى مريم المجدليّة…
«لا يا سمعان. بالنسبة إليها لا فَضل لي. فالمعلّم قد تَصرَّفَ بمفرده.» يقول أندراوس بصراحة.
«ولكن هل يَأخُذ الصيّادون الآخرون إذن، صيّادو الشيطان، كلّ الباقين؟» يَسأَل فليبّس.
«يُحاولون أخذ الأفضل، أيّ النُّفوس القادرة على إيصال أعظم معجزة للنعمة، ويَستَخدِمون لذلك الناس أنفسهم، فعلاوة على تجاربهم. هناك في العالم كثيرون مِـمَّن، مِن أجل صَحفة عَدَس، يَستغنون عن حقّهم في البُكوريّة!»
«يا معلّم، كنتَ تقول سيكون، في ذاك اليوم، كثير مِـمَّن يَنساقون للفساد بأمور العالم. أَفَيكون أولئك أيضاً هُم الذين يَصطَادون للشيطان؟» يَسأَل يعقوب بن حلفى.
«نعم يا أخي. ففي هذا الـمَثَل، يَنسَاق الإنسان للفساد بواسطة الثَّروة التي يُمكِنها أن تَمنَح الكثير مِن الملذّات، فَاقِداً كلّ حقّ في كَنـز الملكوت. ولكن، الحقّ أقول لكم، إنّه مِن أصل مائة إنسان، لا يوجد سوى الثُّلث يَعرفون مقاومة تجربة الذهب أو إغواءات أخرى، ومِن هَذا الثُّلث لا يوجد سوى النصف يعرفون القيام بذلك بشكل بطوليّ. يموت العالم مُختَنِقاً، لأنّه يُقيِّد ذاته بإرادته برباطات الخطيئة. فالأفضل أن يتجرّد الإنسان عن كلّ شيء، مِن أن تكون له ثروات تافهة ووهميّة. اعرفوا كيف تتصرّفون مِثلَ الصَّائِغ الفَطِن الذي، عندما يَستَعلِم عن مكان صِيدَت فيه دُرّة نادرة، لا يعود يهمّه الاحتفاظ بجواهر صغيرة في خزانته، بل هو يبيعها جميعها لِيَشتري تلك الدُّرّة الرائعة.»
«ولكن لماذا تجعل، أنتَ ذاتكَ، فروقاً بين الرِّسالات التي تُكلِّف بها الذين يتبعونكَ، ولماذا تقول لنا إنّ علينا أن نَنظُر إلى الرِّسالات كعطيّة مِن الله؟ إذاً يجب علينا رفض تلك الرِّسالات لأنّها تافهة ولا أهميّة لها، قياساً بملكوت السماوات.» يقول برتلماوس.
«هذه ليست أموراً تافهة: إنّها وَسائل. وتكون بلا أهمّيّة، أو تكون هباء منثوراً ملطّخاً، لو أَصبَحَت هدفاً إنسانيّاً في الحياة. فالذين يَعمَلون مِن أجل الحصول على مركز في غاية إنسانيّة هامّة، يَجعَلون مِن هذا المنصِب، حتّى ولو كان مقدّساً، تفاهة مُلطَّخَة. أمّا أنتم فاجعلوا منه قبولاً طائِعاً، وواجباً مُفرِحاً، ومِحرقة كاملة، وبذلك تَجعَلون منه دُرّة نادرة. فالرِّسالة مِحرَقة، إذا ما أتممناها دونما تحفّظات تُصبِح شهادة، تُصبِح مَجداً، فهي تَجعَل الدموع تَسيل، وكذلك العَرَق والدم. ولكنّها تُشكِّل تاج الملكوت الخالد.
«حقّاً، إنّكَ تُجيد الإجابة على كلّ شيء.»
«ولكن ألم تَفهموا؟ أَتُدرِكون ما أقوله لكم مِن خلال مقارنات موجودة في الأشياء اليوميّة، وهي مع ذلك مضاءة بنور فائق الطبيعة، يَجعَل منها تَفسيراً لأمور خالِدة؟»
«نعم يا معلّم.»
«تَذكَّروا إذن الأسلوب في تعليم الجموع. فذلك هو أحد أسرار الكَتَبَة والرابّيين: التذكُّر. الحقّ أقول لكم إنّ كلّاً منكم، وقد تثقَّفَ بالحكمة التي تؤكّد امتلاك ملكوت السماوات، يُشبِه أباً لعائلة، يُخرِج مِن كنـزه أشياء مفيدة لعائلته، مُستَخدِماً الأشياء القديمة أو الجديدة في الهدف الوحيد، تأمين الحاجيات الضروريّة لأبنائه... ها قد توقَّفَ هَطل المطر. فلنَدَع النساء بسلام، ولِنَمضِ إلى طوبيّا العجوز الذي سَيَفتَح عينيّ روحه على أمور الماورائيّات. السلام لكنّ أيّتها النساء.»