ج2 - ف68
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثاني / القسم الثاني
68- (شِفاء يُوَنّا امرأة خُوزي قرب قانا)
08 / 02 / 1945
التلاميذ يتناولون العشاء في مَشغَل يوسف الكبير خلف البيت. لقد تَحوَّلَت طاولة النِّجارة إلى طاولة سفرة، عليها وُضِع كلّ شيء. ولكنّني أرى أنّ الـمَشغَل برمّته قد تحوّل كذلك إلى غرفة مَنامة. فعلى طاوِلَتيّ النِّجارة الأُخرَيين فُرِشَت حصيرتان لتصبحا مَرقَدين. وعلى طول الجدران وُضِعت أسِرّة منخفضة (حصائر على حواجز). ويتحدّث الرُّسُل إلى بعضهم وإلى المعلّم.
«إذن هل حقّاً ستذهب إلى لبنان؟» يَسأل الاسخريوطيّ.
«أنا أتوخّى عدم قطع الوعود لكي لا ألتَزِم. أمّا هنا فقد وَعَدتُ بذلك مرّتين: للرُّعاة، ولـمُرضِعة يُوَنّا امرأة خُوزي. لقد انتَظَرتُ الأيّام الخمسة التي تَكَلَّمتُ عنها، وللحيطة أضفتُ هذا اليوم أيضاً. إنّما الآن فأنا ماضٍ. سنرحل عند بزوغ القمر. سوف يكون الدرب طويلاً، حتّى ولو استخدَمنَا المركب إلى بيت صيدا. ولكنّني أودُّ مَنحَ هذا الفرح لقلبي بإلقاء التحيّة على بنيامين ودانيال. أنتَ ترى الروح الذي لدى الرُّعاة. آه! إنّهم يستحقّون أن نمضي إليهم لتكريمهم، فالله ذاته لا يتضاءل بتكريم خادم له، بل بالعكس، إنّه ينشر بذلك عدله.»
«وفي هذا الجوّ الحارّ! كُن حَذِراً في ما تفعل. أقول ذلك مِن أجلكَ.»
«الليل أقلّ حرارة. فما تزال الشمس، ولبعض الوقت أيضاً، في مدار الأسد. والعواصف تُخفّف مِن حدّة الحرارة. ثمّ، أكرّر قولي: ليس أحد مُرغَماً على المجيء. فكلّ شيء، فيَّ كان أم حَولي، طوعيّ هو. إذا كان لديكم أعمال، أو إذا ما شعرتم بالتعب، فابقوا. وسوف نلتقي فيما بعد.»
«هو ذاك، كما تقول. ينبغي لي التفكير بمصالح العائلة. زمن الحصاد قد حان، وكانت أُمّي قد رَجَتني أن أُقابِل بعض الأصدقاء... أنتَ تَعلَم، فأنا أساساً زعيم العائلة. أقصد: أنا رَجُل العائلة.»
يُدمدِم بطرس: «لحسن الحظّ أنّه يتذكّر أنّ الأُمّ هي دائماً في المقام الأوّل بعد الأب.»
يهوذا، إن لم يكن قد سَمِعَ أَم هو لا يريد السَّماع، فهو لا يُبدي ما يشير إلى أنّه سَمِعَ بطرس يُدمدِم. أمّا يسوع، فقد أَوقَفَ بطرس بنظرة منه، بينما يعقوب بن زَبْدي الجالس إلى جانب بطرس، يشدّ له ثوبه لكي يُسكِته.
«هيّا يا يهوذا. بالعكس، يجب أن تمضي إلى هناك. ينبغي ألّا تتأخّر أبداً في طاعة والدتكَ.»
«إن سَمَحتَ لي، فسأذهب في الحال. وسوف أكون في الوقت المحدّد في ناحيم (Naïm) لِأَجد مأوى. وداعاً يا معلّم، وداعاً أيّها الأصدقاء.»
«ليرافقكَ السلام، واستَحِقّ أن يكون الله معكَ على الدوام. وداعاً.» يقول يسوع ذلك في الوقت الذي يحيّيه الآخرون بشكل جماعيّ.
لم يتألّم أحد لذهابه، وحتّى... بطرس، يساعده في حزم حقيبته وتعليقها على كتفه، خشية أن يتراجع عن قراره. يرافقه إلى باب الـمَشغَل المفتوح مثل الآخر المؤدّي إلى الحديقة لتهوية الغرفة بالتأكيد، إذ إنّ الهواء خَانِق بعد يوم مُلتَهِب. يبقى عند الـمَخرَج ليراه يمضي، وعندما يرى أنّه ابتَعَدَ حتماً، يقوم بعبسة فرحة وحركة وداع ساخرة، ويعود وهو يفرك يديه. لا يتفوّه بكلمة... بل قد قال كلّ شيء.
أحدهم، وقد رأى ذلك، يضحك. لا يكرّر يسوع قول انتبه، إذ يُلاحِظ أنّ ابن عمه يعقوب الذي امتَقَعَ لونه وبدا مظهره حزيناً، قد تَرَكَ زيتونه جانباً. فيسأله: «ما بكَ؟»
«قُلتَ: "ينبغي عدم التأخّر في طاعة الوالدة"... ونحن إذن؟»
«لا يكن لديكم حَرَج. بشكل عامّ، هكذا يجب أن نفعل عندما لا نكون سوى بَشَر وأبناء جَسَد. ولكن عندما نَتَّخِذ طبيعة أخرى وأُبوّة أخرى، فلا. فهذه أكثر سموّاً، وينبغي اتّباعها حسب ما تَتَطَلَّب. لقد وَصَلَ يهوذا قبلكَ وقبل متّى... ولكنّه ما يزال متأخّراً. يجب أن يتأهّل، وسوف يفعل ذلك ببطء شديد، فلتكن لديكم المحبّة تجاهه. فلتكن لديكَ المحبّة يا بطرس! افهم... ولكنّني أقول لكَ: كُن مُحِبّاً. تَحَمَّل الأشخاص السَّمِجين، فهذه فضيلة لا تكون غير ذات قيمة. طَبِّقها عمليّاً.»
«نعم يا معلّم... ولكن عندما أراه هكذا... هكذا... حسناً، اصمت يا بطرس، فهو يُدرِك جيّداً... يبدو أنّني شراع مُدَلّى كثيراً في الهواء... أتمزّق بفعل الدَّفع، وفي داخلي يتكسّر شيء ما دائماً... ولكن، تَعلَم، أو بالأحرى لا تدري، ذلك أنّ لا خِبرة لكَ كَمَراكِبيّ، ولذلك أقول: إذا ما تَقَطَّعَت أربطة شراع بفعل ضغط زائد، أؤكّد لكَ أنّه يَصفَع الـمَراكِبيّ عديم الخبرة صَفعَة تصمُّه... لذلك أنا أشعر أنّ... أخشى أن تكون أربِطتي كلّها قد تَقَطَّعَت... وإذن... يُفَضَّل، والحال هذه، أن يمضي. هكذا يهدأ الشراع بعيداً عن الريح، وأَتوَصَّل، في الوقت المناسب، إلى تمتين الأَربِطة.»
يبتسم يسوع ويهزّ رأسه الـمُفعَم تَسامُحاً تجاه بطرس المستقيم والذي يغلي.
جَلَبَة هائلة لحوافِر ذوات نِعال، وهتافات أطفال تُسمَع مِن الشارع. «ها هنا! ها هنا! توقّف أيّها الرجل.» وقبل أن يتنبّه يسوع وتلاميذه، يَظهَر، أمام فتحة الباب الخارجي، الشكل الـمُعتِم لحصان يتصبّب عَرَقاً، يترجّل عنه فارس يَهرَع إلى الداخل بسرعة البرق، ويرتمي عند قدميّ يسوع ويُقبّلهما بإجلال.
يَنظُر الجميع مشدوهين.
«مَن أنتَ؟ وماذا تريد؟»
«أنا يوناثان.»
تُجيب صرخة مِن يوسف الذي كان جالساً في مؤخرة الطاولة عندما دَوّى وصوله، ذلك أنّه وَصَلَ بشكل مفاجئ، ولم يتمكّن يوسف مِن التعرّف على صديقه، ويُسرِع الرَّاعي إلى الرجل الذي ما يزال على الأرض: «أنتَ، أنتَ بحقّ!...»
«نعم، أَعبُد ربّي المعبود! ثلاثين عاماً مِن الرجاء، آه! يا لِطول الانتظار! ها هي ذي السنوات الآن تُزهِر مثل زهرة الأغاف، وهي تبدو أكثر إزهاراً، فجأة، في رؤيا مغبوطة، وأيضاً أكثر سعادة مِن الأخرى البعيدة! آه! يا مخلّصي!»
نساء وأطفال وبعض الرجال، ومعهم حلفى بن سارة الطيّب، وفي يده قطعة مِن خبز وجبن، والجميع يتدافعون للدخول إلى داخل الغرفة.
«انهض يا يوناثان، لقد كنتُ على وشك الذهاب للبحث عنكَ، وعن بنيامين ودانيال...»
«أَعلَم.»
«انهض لأُقبّلكَ كما قَبَّلتُ رفاقكَ.» ويُرغِمه على الوقوف ويُقبّله.
«أَعرِف.» يُكرّرها العجوز القويّ ذو البنية الصلبة والأناقة الرائعة. «أَعرِف. لقد كانت على حقّ، ولم يكن ذلك هذيان مَن تحتضر! آه! أيّها الربّ الإله! يا للنَّفْس كيف تَسمَع عندما تناديها!» يبدو يوناثان متأثّراً. ولكنّه يستعيد رباطة جأشه ولا يضيع الوقت. إنّه هائم، ومع ذلك فهو نشيط، ينطلق فوراً صوب الهدف: «يا يسوع مخلّصنا ومسيحنا، أتيتُ أرجوكَ المجيء معي. لقد تحدَّثتُ إلى إستير وقالت لي... آه! إنّما قبل ذلك فقد كَلَّمَتكَ يُوَنّا، وهي قالت لي... لا تضحك مِن رجل سعيد، أنتَ يا مَن تسمعني، سعيد وقَلِق إلى أن أحصل منكَ على "إنّني آتٍ". أنتَ تَعلَم أنّني كنتُ مسافراً مع معلّمتي التي تحتضر. ويا لهذا السفر! مِن طبريّا إلى بيت صيدا، لقد كان مُوَفّقاً. إنّما بعد ذلك، بعد النُّـزول مِن المركب، استأجَرتُ عَرَبَة، ورغم أنّني جَهَّزتُها قدر استطاعتي، فقد كانت آلة عذاب. لقد سارت ببطء خلال الليل، إلّا أنّها كانت تتألّم. وفي قيصريّة فليبّس شارَفَت على الموت، وهي تبصق دماً. وقد تَوَقَّفنا... وفي صبيحة اليوم الثالث، منذ سبعة أيام، أَرسَلَت في طلبي، وقد كانت تبدو كالميتة، بقدر ما كانت شاحبة ومُنهَكَة. ولكن حينما ناديتُها فَتَحَت عينيها العذبتين، عينيّ غزالة تحتضر، وابتَسَمَت لي. أشارَت بيدها المتجلّدة بأن أنحني، إذ لم يكن باقياً لديها سوى أثر مِن صوت، وقالت لي: "يوناثان، خذني إلى البيت. حالاً". لقد بَذَلَت مجهوداً كبيراً جدّاً لتأمرني، وهي التي كانت على الدوام مثل طفل وديع، وقد تَلوَّن خداها ولمع بريق في عينيها. تابَعَت: "حَلِمتُ ببيتي في طبريا. وقد كان داخله رجل، وجهه مثل نجمة. وهو كبير، أشقر ذو عينين سماويّتين وصوت أعذب مِن صوت القيثارة. وكان يقول لي: ’أنا الحياة، هيّا عودي. إنّني أنتظركِ لأمنحكِ إيّاها‘. أريد أن أذهب". وكنتُ أقول لها: "ولكن يا معلّمتي! لا يمكنكِ! حالتكِ سيّئة! حالما تتحسّن حالكِ، سنرى". كنتُ أظنّه هَذَيان الموت. ولكنّها بَكَت، ثمّ -آه! إنّها المرّة الأولى مُذ أَضحَت معلّمتي منذ ما يقارب السنوات الستّ التي تقول فيها ذلك، نعم، وجَلَسَت بغضب، وهي التي لا تستطيع الحركة- وقالت لي: "أيّها الخادم، أريد ذلك. أنا معلّمتكَ فَأَطِع!" ثمّ هَوَت يغطّيها الدم. واعتَقَدتُ أنّها كانت تموت... وقلتُ: "فلنعمل على إرضائها. الموت للموت!... لن أجلب لنفسي عذاب الضمير نتيجة لإغضابها في النهاية، بعد أن عَمِلتُ على إرضائها على الدوام". يا له مِن سَفَر! لم تحصل خلاله على الراحة سوى بين الساعة الثالثة والساعة السادسة (ما يعادل الآن بين الساعة التاسعة والثانية عشرة). وقد أَنهَكتُ الجياد للإسراع أكثر. وَصَلنا إلى طبريّا الساعة التاسعة مِن هذا الصباح... وقد حَدَّثَتني إستير... عندئذ أدركتُ أنّكَ كنتَ أنتَ مَن ناداها. إذ كانت الساعة ذاتها واليوم نفسه الذي وَعَدتَ فيه إستير بمعجزة، وقد ظَهَرتَ لروح معلّمتي. وقد أرادت الانطلاق ثانية وحالاً، وأَرسَلَتني لاستعجال الساعة... آه! تعال يا مخلّصي!»
«ها أنذا آتٍ في الحال، فالإيمان يستحقّ المكافأة. مَن يرغب بي يمتلكني. هيّا بنا.»
«انتَظِر. لقد أَعطَيتُ أحد الشبان كيس نقود وقُلتُ له: "ثلاثة، خمسة، قدر ما تشاء مِن الحمير إذا لم يكن لديكم جياد، وبسرعة إلى بيت يسوع". إنّه على وشك الوصول. وبذلك سنذهب بشكل أسرع. آمل أن نلقاها قرب قانا. إذا كانت على الأقلّ...»
«ماذا يا يوناثان؟»
«على الأقلّ إذا كانت ما تزال على قيد الحياة...»
«إنّها على قيد الحياة. إنّما حتّى ولو كانت ميتة، فأنا الحياة. هي ذي أُمّي.»
العذراء، وقد أنبَأَها أحدهم بالتأكيد، تَجري بالفعل، تتبعها مريم التي لحلفى: «يا بنيّ، هل أنتَ ذاهب؟»
«نعم يا أُمّي، أمضي مع يوناثان. لقد أتى. كنتُ أَعلَم أنّني أستطيع تقديمه لكِ. لذلك انتَظَرتُ يوماً إضافيّاً.»
يقوم يوناثان أوّلاً بإلقاء تحيّة عميقة، الذراعان متصالبان على الصدر، والآن هو يجثو، وبالكاد يَرفَع طرف ثوب مريم ويُقبّله قائلاً: «السلام على أُمّ ربّي!»
ويقول حلفى بن سارة للفضوليّين: «وإذن، ماذا تقولون؟ أليس مُخجِلاً أن نكون وحدنا بدون إيمان؟»
يُسمَع مِن الشارع صوت حوافر كثيرة. إنّها الحمير. أظنُّها كلّ ما هو موجود في الناصرة، وهي كثيرة العدد، حتّى إنّه يوجد منها ما يكفي لكتيبة. يختار يوناثان أفضلها ويشتريها، ويَدفَع بلا مساومة، يأخذ معه رَجُلين مِن الناصرة مع حمارين آخرين مخافة أن يُفلِت نَعل أحدها على الطريق، ولكي يتمكنا مِن إيصال كلّ هؤلاء الخيّالة. وفي هذه الأثناء، مريم ومريم تُساعِدان في حزم الحقائب والزوّادات.
تقول مريم التي لحلفى لولديها: «سأدع سريريكما في مكانيهما، وسوف أتلمّسهما... فيتهيّأ لي أنّني ألاطفكما. كونا صالحين لتستحقّا يسوع يا وَلَديّ... وأنا... أنا سوف أكون سعيدة...» وتبكي في هذه الأثناء بدموع حارّة.
مريم، من جهتها، تساعد يسوعها. تُلاطِفه بحبّ، وهي تُوجّه إليه ألف توصية وتُحَمِّله تحيّاتها الحارّة المفعمة حُبّاً لرُعاة لبنان، ذلك أنّ يسوع قد أَعلَنَ أنّه لن يعود قبل أن يجدهم.
يَذهَبون. يَهبط الليل ويَظهر القمر في هذه الآونة في منطقته الأولى. يسوع مع يوناثان في المقدِّمة، كلّ البقية خلفهم. طالما هم في المدينة، يمضون بخطوات بطيئة نظراً لتجمهُر الناس، حتّى إذا ما خَرَجوا منها مضوا مسرعين. ويرنّ رَجْع صوت الحوافر والجَّلاجِل.
«إنّها في العربة مع إستير»، يَشرَح يوناثان. «آه! يا معلّمتي! يا لها مِن فرحة في إرضائِكِ! في إيصال يسوع إليكِ! آه! يا إلهي! أن تكون هنا إلى جانبي! أن أمتلككَ! إنّ لكَ على محيّاكَ بَريق نجمة كما رأتكَ، كما أنّكَ أشقر ذو عينين بلون السماء، وصوتكَ يشبه صوت القيثارة... آه! أمّا أُمّكَ! فهل تأخذها يوماً إلى معلّمتي؟»
«المعلّمة هي التي ستأتي إليها. سوف تصبحان صديقتين.»
«نعم؟ آه!... نعم، يمكنها أن تكون كذلك. إنّها زوجة، وقد كانت يوماً أُمّاً، يُوَنّا هذه. إنّما لديها نَفْس طاهرة مثل عذراء. بإمكانها المكوث قرب مريم المباركة.»
يلتفت يسوع لدى سماعه جَلَبَة ضحكة عذبة صَدَرَت عن يوحنّا وقَلَّدَها الآخرون.
«أنا، يا معلّم، مَن جَعَلَهم يضحكون. ذلك أنّني أشعر بارتياح على المركب أكثر مِن هرّ... إنّما على ظهر هذا! فيبدو لي أنّني برميل يتدحرج حُرّاً على جسر سفينة تؤرجحها الريح!» يقول بطرس.
يبتسم له يسوع ويُشجّعه، واعداً إيّاه بقرب انتفاء الداعي لامتطاء الحمير.
«آه! لا ضير لو ضحك الأولاد. هيّا، هيّا بنا نُفرِح هذه المرأة الطيّبة.»
يَلتَفِت يسوع مِن جديد على صوت جَلَبَة ضحك. يهتف بطرس: «لا، هذا لن أقوله لكَ يا معلّم. ولكن في النهاية لمَ لا؟ كنتُ أقول: "وزيرنا العظيم سوف يعضّ أصابعه عندما يَعلَم أنّ فرصة ظهوره كالطاووس أمام سيدة قد فاتته". وهم لذلك يضحكون. ذلك أنّني متأكّد أنّه، لو استطاع تَصوّر ذلك، لكان نسي الاهتمام بكروم أهله.»
يسوع لا يجيب.
تلك الحمير التي أُشبِعت تقطع الطريق بسرعة. لقد تجاوزوا قانا على ضوء القمر.
«لو سَمَحتَ لي، فسأتقدّمكم. أَوقِف العربة، فالارتجاجات تجعلها تتألّم كثيراً.»
«هيّا.»
يهمز يوناثان الجَواد ليجعله يجري.
مسافة أخرى لا بأس بها في ضوء القمر، وترتسم المعالم القاتمة لعربة كبيرة مغطّاة، متوقّفة على قارعة الطريق. يهمز يسوع حماره الذي يسير خَبَباً. وها هو ذا أمام العربة. ويترجّل.
«مَسيّا!» يُعلِن يوناثان.
وتَهرَع الـمُرضِعة العجوز، تهبط مِن العربة إلى الشارع، ومنه إلى التراب. «آه! أنقِذها! إنّها تحتضر.»
«ها أنا ذا.» ويرتقي يسوع إلى العربة، حيث مُدَّت كومة مِن الـمَسانِد، وعليها جسد هزيل. في إحدى الزوايا يوجد مصباح وأكواب وجِرار، إلى جانبها خادمة شابّة تبكي وهي تمسح عرق المحتضرة البارد. يَهرَع يوناثان حاملاً أحد مصابيح العربة.
ينحني يسوع على المرأة المستسلمة، وهي حقيقة تحتضر. لا فرق يُذكَر بين بياض ثوبها الكتاني وشحوب يديها ووجهها الهزيلين المائلين قليلاً إلى الزرقة. فقط الحاجبان الكثيفان والأهداب الطويلة القاتمة تُضفي لوناً على هذا الوجه الذي بلون الثلج. لم يعد لها، حتّى الاحمرار المشؤوم الذي للمسلولين، على وجنتيها اللتين هَرَبَ اللون منهما. يُرى ظلّ ورديّ يميل إلى اللون البنفسجيّ، إنّهما الشفتان شبه المفتوحتين، بسبب صعوبة التنفس.
يجثو يسوع إلى جانبها ويراقبها. تمسكها الـمُرضِعة مِن يدها وتناديها. ولكنّ النَّفْس التي أضحَت على عتبة الأبديّة لم تعد تعي لشيء.
يَصِل التلاميذ والرَّجُلان اللذان مِن الناصرة ويحيطون بالعربة.
يضع يسوع يده على جبهة المحتضرة التي تَفتَح، لبرهة، عينيها الضبابيّتين والمبهمتين، ثمّ تعود لتغلقهما.
«لقد فَقَدَت وعيها.» تتمتم الـمُرضِعة وتبكي بأكثر حِدّة.
يقوم يسوع بإشارة: «أيّتها الأُمّ ثقي، إنّها تَسمَع.» ثمّ ينادي: «يُوَنّا! يُوَنّا! هذا أنا! أنا الذي أناديكِ. أنا الحياة. انظري إليَّ يا يُوَنّا.»
وبنظرة أكثر حيويّة، تَفتَح المحتضرة عينيها الواسعتين السوداوين، وتَنظُر إلى الوجه المنحني صوبها. تقوم بحركة تنمّ عن فرح وتبتسم. تُحرّك شفتيها ببطء لتقول كلمة، لم تتوصّل مع ذلك إلى أن تكون مسموعة.
«نعم، هذا أنا. أنتِ أتيتِ، وأنا أتيتُ لأنقذكِ. هل يمكنكِ الإيمان بي؟»
تُومي المحتضرة برأسها. وتتجمّع كلّ حيويّتها في نظرتها التي تُفصِح عن كلّ ما لا تستطيع الكلمة التعبير عنه.
يسوع، مع كونه ما يزال جاثياً ويده اليسرى على جبهتها، يقف، ويأخذ وضعية اجتراح المعجزة: «إذاً، أنا أريد ذلك. فلتشفي. انهَضي.» ويرفع يده ويقف.
أجزاء مِن الدقيقة بعد ذلك، ويُوَنّا امرأة خُوزي، دون عَون مِن أيّ نوع، تجلس وتهتف، وترتمي عند قدمي يسوع وهي تهتف بصوت مُدوٍّ وفَرح في آن معاً: «آه! حبّي لكَ يا حياتي! للأبد! لكَ! للأبد لكَ! أيتّها الـمُرضِعة! يا يوناثان! لقد شُفيتُ! آه! بسرعة! أَسرِعوا لإخبار خُوزي، وليأتِ لتقديم فروض العبادة لله! آه! باركني أيضاً وأيضاً وأيضاً! آه! يا مخلّصي.» تبكي وتضحك وهي تُقبّل ثياب ويديّ يسوع.
«أبارككِ، نعم. ماذا تريدين أن أفعل لكِ بعد؟»
«لا شيء، يا ربّي. فقط أن تحبّني وأن تسمح لي أن أحبّكَ.»
«أوَلا ترغبين بطفل؟»
«آه! طفل!... ولكن، افعل ما تشاء يا سيّدي. فإنّني أترك لكَ كلّ شيء: ماضيّ وحاضري ومستقبلي. إنّني مدينة لكَ بكلّ شيء، وأعيد لكَ كلّ شيء. فامنَح ، أنتَ، خادمتكَ ما تَعلَم أنّه الأفضل.»
«إذن، فالحياة الأبديّة. كوني سعيدة. الله يحبّكِ. أنا ذاهب. أبارككِ وأبارككم.»
«لا يا ربّي. اجعَل لكَ محطّة في بيتي، فهو الآن، آه! إنّه الآن بستان ورد أَزهَر. اسمح لي أن أعود إليه برفقتكَ... آه! كم أنا سعيدة!»
«أنا آتي، ولكنّ تلاميذي معي.»
«إنّهم أخوة لي، يا ربّ. ولدى يُوَنّا لهم، كما لديها لكَ، الطعام والشراب وكلّ ما يلزم. تَكَرَّم ومُنَّ عليَّ بذلك!»
«هيّا. أعيدوا الرَّكائِب ولنتابع سيراً على الأقدام. لم يعد أمامنا الكثير للسير الآن. سنمضي ببطء لتتمكّنوا مِن المتابعة. وداعاً يا إسماعيل ويا أَشِير. أَبلِغا سلامي لأُمّي وأصدقائي.»
الناصريّان مَشدوهان. يَنطَلِقان مع حميرهما المثيرة للجَلَبَة، بينما تعود العربة الآن بحمولتها الفَرِحَة. وخلفها التلاميذ على شكل جماعة يَروُون الحَدَث.
وينتهي كل شيء.