ج3 - ف53
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الثالث / القسم الثاني
53- (مِن مرج ابن عامر إلى عين غنيم مروراً بمجدو)
17 / 06 / 1945
«سيّدي، هل هذا هو جبل الكرمل؟» يَسأَل ابن عمّه يعقوب.
«نعم يا أخي. إنّها سلسلة جبال الكرمل، والقمّة الأعلى هي التي أَضفَت عليه الاسم.»
«يُفتَرَض أن يكون العالم جميلاً مِن ذاك الموقع كذلك. ألم تذهب إليه أبداً؟»
«مرّة واحدة، وقد كنتُ وحيداً. كان ذلك في بداية التبشير. وفي أسفل هذا الجبل شَفَيتُ أَبرَصي الأوّل. ولكنّنا سنذهب معاً لاستدعاء إيليّا...»
«شكراً يا يسوع. فلقد فَهِمتَني كالمعتاد.»
«وكالمعتاد أجعلكَ أفضل يا يعقوب وأكْمَل.»
«لماذا؟»
«الـ لماذا هذه مكتوبة في السماء.»
«ألا تقولها لي، يا أخي، وأنتَ الذي تقرأ ما هو مكتوب في السماء؟» ويَسير يسوع ويعقوب جنباً إلى جنب، وفقط يَعْبيص الذي ما يزال يسوع يمسكه بيده، يمكنه سماع مناجاة ابني العمّ اللّذين يتبادلان الابتسامة والنَّظَر إلى عينيّ الآخر.
ويَسأَل يسوع يعقوب مُمرِّراً يده على كتفيه ليُقرِّبه إليه أكثر: «هل تريد حقّاً أن تعرف؟ حسناً سأقول لكَ، إنّما على شكل لغز، وعندما سَتَجِد المفتاح، ستُصبح حكيماً. اسمَع: "أثناء اجتماع الأنبياء الكَذَبَة على الكرمل، اقترب إيليّا وقال للشعب: “حتّامَ تَتَردَّدون بين الفريقين؟ إذا كان الربّ هو الله فاتبعوه، وإذا كان بَعْل هو الله فاتبعوه”. ولم يُجِب الشعب. ويُتابع إيليّا: “مِن بين أنبياء الربّ، بقيتُ أنا وحدي” ، والقوّة الوحيدة للذي كان وحيداً كانت صَرخَة: “استَجِبني يا ربّ، استَجِبني ليَعرف هذا الشعب أنّكَ الربّ الإله، وأنّكَ مِن جديد تهدي قلوبهم”. حينئذ هَبَطَت نار الربّ والتَهَمَت الذبيحة". فاحزِر يا أخي.»
يُفكِّر يعقوب ورأسه منحنٍ. ويَنظُر إليه يسوع مبتسماً. ويستمرّون هكذا لبضعة أمتار، ثمّ يقول يعقوب: «هل يتعلّق بإيليّا أم بمستقبلي؟»
«بالطبع بمستقبلكَ.»
يُفكِّر يعقوب مرّة أخرى، ثمّ يُتمتِم: «هل يكون قَدَري دعوة إسرائيل لأن يتّبع بحقّ صِراطاً واحداً؟ هل أكون مدعوّاً لأكون وحدي الباقي في إسرائيل؟ إذا كان نعم، فيعني أنّكَ تريد القول بأنّ الآخرين سيكونون مضطَهَدين ومُشتَّتِين، وأن... وأن... سأتوسّل إليكَ مِن أجل هِداية هذا الشعب... كما لو كنتُ كاهناً... كما لو كنتُ... ضحيّة... ولكن إذا كان الأمر هكذا، فَأَلهِب مشاعري منذ الآن يا يسوع...»
«أنتَ الآن كذلك. ولكنّكَ سوف تُرفَع بالنار مثل إيليّا. ولأجل ذلك نذهب أنا وأنتَ وحدنا، نتحدّث على الكرمل.»
«متى؟ بعد الفصح؟»
«بعد فصح واحد، نعم، وحينئذ سأقول لكَ أشياء كثيرة...»
مَجرَى مائيّ بديع يجري بسرعة صوب البحر، وقد امتَلَأَ بمياه الربيع وذوبان الثلوج، يُوقِف مسيرتهم.
يَهرَع بطرس ليقول: «الجسر في مكان أعلى مِن النهر، هو هناك حيث تمرّ الطريق التي تذهب مِن بتولمايس [عَكّا] إلى عين غنيم...»
يَعود يسوع طواعيّة إلى الخلف، ويَعبُر مجرى الماء على جسر مِن الحجارة صُلب. وبعدها مباشرة تَظهَر مجموعة أخرى مِن الجبال الصغيرة والروابي، ولكنّها قليلة الأهميّة.
«هل سنَصِل مساءً إلى عين غنيم؟» يَسأَل فليبّس.
«بالتأكيد، ولكن... الآن مَعَنا الصغير. هل أنتَ تَعِب يا يَعْبيص؟» يَسأَله يسوع بحنان. «كُن صريحاً كملاك.»
«قليلاً يا سيّدي. ولكنّني سأبذل جهدي في السير.»
«لقد أصاب الوَهَن هذا الصبيّ.» يقول الرجل الذي مِن عين دور بصوته الحَلْقيّ.
«طبعاً!» يقول بطرس. «مع تلك الحياة التي يعيشها منذ بضعة أشهر! تعال لأحملكَ بين ذراعيَّ.»
«آه! لا يا سيّدي. لا تُتعِب نفسكَ. أستطيع السير بعد.»
«تعال، تعال؛ فبالتأكيد لستَ ثقيلاً. إنّكَ أَشبَه بعصفور سيّئ التغذية.» ويجعله بطرس كَمَن يمتطي حصاناً، على كتفيه الـمُربَّعين، ويُمسِك بساقيه.
يسيرون بسرعة، فالشمس ساطعة الآن وتدعو إلى تنشيط الحركة في السير نحو الروابي الظليلة.
يتوقّفون في بلدة، أَسمَعهُم يُسمّونها مجدّو، لتناول الطعام والاستراحة قرب نبع بارد جدّاً وصاخب، بسبب غزارة مائه الذي يصبّ في بركة مِن الحجارة الداكنة. ولكنّ أحداً مِن البلدة لا يَكتَرِث بالمسافِرِين، المجهولين وسط الحجّاج الآخرين الأثرياء كثيراً أو قليلاً، الذاهبين سيراً على الأقدام أو على الحمير أو البِغال إلى أورشليم مِن أجل الفصح. فالجوّ جوّ عيد، ومع المسافرين أولاد كثيرون فَرِحون جدّاً لفِكرة الاحتفال الجماهيريّ.
يُقبِل صبيّان صغيران، مِن عائلات ميسورة، للّعب قرب النبع، بينما كان هناك يَعْبيص برفقة بطرس الذي يأخذه معه إلى كلّ مكان، مُرَغِّباً إيّاه بألف شيء صغير، ويَسألان الصبيّ: «هل تذهب أنتَ أيضاً إلى هناك لتصبح ابناً للشريعة؟»
يجيب يَعْبيص بِتَهَيُّب: «نعم.» ولكنّه يكاد يختبئ خلف بطرس.
«هل هذا أبوكَ؟ أنتَ فقير، أليس كذلك؟»
«نعم أنا فقير.»
والوَلَدَان اللّذان قد يكونان ابنَيْ فرّيسيّين، يُمعِنان النَّظر فيه باستخفاف وفضول ويقولان له: «واضح.»
بالفِعل إنّه جليّ... فثوبه القصير تعيس للغاية! قد يكون الصبيّ نَمَا، ورغم أنّ كفّة الثوب البنّي، الذي بَهَتَ لونه بسبب تقلّبات الجوّ قد فُتِقَت، يكاد الثوب لا يَصِل إلى منتصف ساقيه الصغيرتين الأسمرين، تاركاً القدمين الصغيرتين مكشوفتين، وقد انتَعَلَتا حذاء مُهتَرِئاً مربوطاً بأربطة تؤلم القدمين.
والصبيّان، وقد تجرّدا مِن الشَّفَقَة بسبب الأنانيّة الخاصّة بكثير مِن الأطفال، وشراسة أولاد لم يتمرّسوا على الصَّلاح أصلاً، يقولان: «آه! لن يكون لكَ إذن ثوب جديد للعيد! أمّا نحن فعلى العكس!... أليس كذلك يا يواكيم؟ أنا أَحمَر بالكامل وكذلك المعطف. وهو بلون السماء، وستكون لنا أحذية لها حلقات فضّيّة وحِزام ثمّين وشال محصور بقطعة ذهب مُبَسَّطة و...»
«وقلب مِن حَجَر. أقولها أنا!» يقول بطرس الذي انتهى مِن ترطيب قدميه لإنعاشهما، ومَلَأَ الـمَطَرات. «أنتما شرّيران! فلا قيمة للثوب والاحتفال إذا لم يكن القلب صالحاً. أنا أُفضِّل وَلَدي. اغربا عن المكان أيّها المتكبِّران! اذهبا إلى الأثرياء واحتَرِما مَن هُم فقراء ونزيهين، هيّا يا يَعْبيص! هذه المياه مفيدة للأقدام المتعَبَة. تعال لأغسلهما لكَ، وستمشي بعدها أفضل. آه! هذه الأربطة، كم تُسبّب لكَ مِن الألم! يجب ألاّ تمشي بعد ذلك. سأحملكَ على ذراعيّ حتّى نَصِل إلى عين غنيم. وهناك سَنَجِد حَذَّاء أشتري لكَ منه زوج أحذية جديدَين.» ويَغسل بطرس ويُنشِّف القدمين الصغيرتين اللّتين لَم تَلقيا مثل هذه الملاطفة منذ زمن بعيد.
يَنظُر إليه الصبيّ، يَتردَّد، إنّما بعدئذ ينحني على الرَّجُل الذي يُعيد عَقدَ أربطة الحذاء. يُعانقه بذراعيه الصغيرين النحيلين، ويقول: «كم أنتَ طيّب!» ويُقبِّل شعره الرماديّ.
يتأثّر بطرس. يجلس على الأرض، على الأرض الرطبة، كما هو. يجعل الصبيّ في حضنه ويقول له: «إذن، قل لي "بابا".»
إنّهما يُشكِّلان مجموعة صغيرة فاتِنة. يتقدّم يسوع مع الآخرين. إنّما قَبلَ ذلك، يَسأَل المتكبِّران الصغيران السابقان، اللّذان كانا قد مَكَثَا بشكل فُضوليّ: «ولكن، أليس أباكَ؟»
«إنّه لي الأب والأُمّ.» يقول يَعْبيص بكلّ ثقة.
«نعم يا حبيبي، أَحسَنتَ قولاً: الأب والأُمّ. ويا سيّديَّ الصَغيرَين العَزيزَين، أؤكّد لكما أنّه لن يكون في الاحتفال سيّئ اللّباس. بل سيكون له ثوب مَلِك أحمر مثل النار، مع حزام أخضر مثل العشب وشال أبيض مثل الثلج.»
رغم أنّ المجموعة غير متناغِمة، إلّا أنّها تُدهِش المغرورَين، وتجعَلهُما يَلوذَان بالفرار.
«ماذا تفعل يا سمعان في هذه الرطوبة؟» يَسأَل يسوع مبتسماً.
«رطوبة؟ آه! نعم، الآن تَنبَّهتُ. ماذا كنتُ أفعل؟ أعود حَمَلاً مع البراءة في القلب. آه! يا معلّم! يا معلّم! حسناً، لنذهب. ولكن دعني مع هذا الصغير. فيما بعد سأتنازل عنه، ولكن طالما لم يصبح إسرائيليّاً حقيقيّاً بعد، فهو لي.»
«بالطبع! ستكون على الدوام وصيّاً عليه كجدّ. اتّفقنا؟ لنذهب كي نكون في عين غنيم هذا المساء، دون جعل الصبيّ يركض كثيراً.»
«سوف أحمله، إنّه أخفّ وزناً مِن شَبَكَتي. وهو لا يستطيع السير بحذائه المهترئ. تعال.» وهكذا، حاملاً الصبيّ، يُعاوِد بطرس السير مُتهلِّلاً على الطريق التي أَصبَحَت ظليلة وسط الغَيضات ذات الثمّار المتنوّعة. يَصعَدون الروابي ذات المنحدرات البسيطة والتي يمتدّ النَّظر فيها على سهل مرج ابن عامر الخصيب.
ها هُم على تخوم عين غنيم. يُفترض أن تكون مدينة صغيرة جميلة، لوفرة المياه فيها، وقد كانت تَصِلها مِن الروابي عَبرَ قناطر مياه هوائيّة، شَيَّدَها الرومان، بلا شكّ. تَصِل مَفرَزَة مِن الجنود تجعلهم يَحتَمون بطرفي الطريق. وتُجلجِل حوافر الخيل على الطريق التي هي هنا، في تخوم المدينة، تُبدي رَصفَاً بدائيّاً يُثير غباراً يتراكم، مع حتّ الصخور على الطريق التي لم تَعرف الـمِكنَسة يوماً.
«سلاماً يا معلّم! أأنتَ هنا؟» يصيح بوبليوس كينتيليانوس، وهو يترجَّل عن حصانه ويدنو مِن يسوع، يبتسم بصدق ممسكاً بلجام الحصان. يتنبّه الجنود، آخِذِين تَوقُّف قائدهم بعين الاعتبار.
«إنّني ذاهب إلى أورشليم مِن أجل الفصح.»
«وأنا كذلك. إنّنا نُعزِّز الحامية مِن أجل الأعياد، لأنّ بيلاطس البنطيّ يأتي إلى المدينة خلاله، وكلوديا هنا. نَحرسها. الطُّرُقات ليست كثيرة الأمان! فالنسور تجعل أبناء آوى يَفرّون!» يقول الجنديّ ضاحكاً. ويَنظُر إلى يسوع. ثمّ يتابع على مهل: «الحامية مُضاعَفَة هذه السنة لحماية ذلك الأنتيباس الذي يثير الاشمئزاز. فهناك الكثير مِن الاستياء بسبب إلقاء القبض على النبيّ. استياء في إسرائيل و... بالنتيجة استياء فيما بيننا. ولكن... ولكن... فَكَّرنا في استقدام مَن يَنفخ النَّايات في أُذُنَي كبير كَهَنَة هؤلاء الـمَكّارين.» ويَختم بصوت خافت: «امضِ بكلّ أمان. فجميعهم قد أَخفُوا مخالبهم. آه! يخافون منّا. يكفي أن نَسعُل لنوضح صوتنا، حتّى يَعتَبِروا ذلك زئيراً. هل ستتحدّث في أورشليم؟ تعال قرب المحكمة. فكلوديا تتحدّث عنكَ كما عن فيلسوف عظيم، وهذا حَسَن بالنسبة إليكَ لأنّ... لأنّ كلوديا هي والي الإقليم.» يَنظُر حوله فيرى بطرس وهو يحمل الصبيّ، وقد اصطَبَغَ باللون الأحمر، وهو يتصبّب عَرَقَاً. «وهذا الصبيّ؟»
«إنّه يتيم اصطَحَبتُه معي.»
«ولكنّ رَجُلَكَ تَعِب جدّاً! أيّها الصغير، هل تخشى امتطاء الحصان لبضعة أمتار؟ سأضعكَ تحت عباءتي، ونسير على مهل. وسأعيدكَ إلى هذا الرَّجُل لدى وصولنا إلى الأبواب.»
لا يُقاوِم الصبيّ. إنّه وديع كَحَمَل، ويجعله بوبليوس يمتطي الحصان معه على السرج. وبينما يُصدِر أوامره للجنود بالسير البطيء، يُلاحِظ كذلك الرجل الذي مِن عين دور. يُمعِن النَّظَر إليه ويقول: «أنتَ هنا؟»
«نعم أنا. لقد توقَّفتُ عن بيع البيض إلى الرومان. ولكن الدجاجات ما زالت هناك. الآن أنا مع المعلّم...»
«هذا أفضل، وسيكون أكثر عزاء لكَ. وداعاً! سلاماً أيّها المعلّم. أَنتَظِرُكَ عند غيضة الأشجار تلك.» ويَهمز الحصان.
«أتعرفه؟ ويعرفكَ؟» يَسأَل كثيرون يوحنّا الذي مِن عين دور.
«نعم، كمُربّي دجاج. في البداية لم يكن يعرفني. ولكنّني استُدعيتُ مرَّة إلى مكتب القيادة في نائين لتثبيت الضرائب، وكان هو هناك. ومنذ ذلك الحين، وكلّما كنتُ أذهب لشراء الكُتُب والعُدَد مِن القيصريّة، كان يُحيّيني على الدوام، وهو يدعوني سيكلوب أو ديوجين. هو ليس شرّيراً، ورغم كُرهي للرومان، لم أُسئ إليه، لأنّه كان بمقدوره إسداء خدمة لي.»
«أرأيتَ يا معلّم؟ حديثي مع قائد مائة كفرناحوم لم يَذهَب سُدى. الآن أنا أكثر اطمئناناً في اجتياز الطريق.» يقول بطرس.
يَبلُغون غيضة الأشجار التي تَرَجَّلَ عناصر الدورية عن جيادهم في ظلّها.
«هاكَ، أعيد إليكَ الصبيّ. أما مِن أوامر تُكَلِّفني بها يا معلّم؟»
«لا يا بوبليوس. فليتَجَلَّ الله لكَ.»
«سلاماً.» ويمتطي الجَّواد مِن جديد ويَهمِزه. يَتبَعه مَرؤوسوه وسط جَلجَلَة الحوافر الـمُنتَعِلة الحديد والدروع.
يَدخُلون المدينة، ويمضي بطرس، بصحبة صديقه الصغير، ليشتري له الأحذية.
«يموت هذا الرجل ليحصل على ابن.» يقول الغيور ويضيف: «إنّه على حقّ.»
«سأمنحُكم ألوفاً. فلنمضِ الآن لتأمين مأوى لنا، لنتابع السير غداً عند مَطلَع النهار.»