ج7 - ف192

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الأول

 

192- (في الريف وفي بيت سليمان)

 

18 / 09 / 1946

 

كي لا يراهم الناس، يدخلون القرية حيث البيت الصغير لسليمان، صاعدين على طول ضفّة النهر. احتراس يسعني القول أنّه عديم الفائدة، لأنّ الظلام يحلّ مبكّراً في أمسية مِن تشرين الثاني (نوفمبر) أو أواخر تشرين الأوّل (أكتوبر)، والناس هم بالفعل في المنازل. إنّ الطريق خاوية، خاوية تماماً، ولو لم يكن هناك قليل مِن ثغاء، لأمكن القول إنّه مكان قَفر.

 

يهزّون الباب الصغير. إنّه مقفل. إنّه محكم الإقفال على الحديقة الصغيرة، الّتي تَظهَر في الظِّلال حسنة التنظيم.

 

«نادوا! إنّه في المطبخ. إنّ شعاع ضوء ينفذ مِن المصاريع» يقول يسوع.

 

يتولّى توما، بصوته القويّ، مناداة العجوز، الّذي يفتح الباب على الفور ناظراً صوب الطريق. إنّه لا يميّز بسبب النور الضعيف في الخارج، هو الآتي مِن المطبخ حيث النار تضيء وحيث المصباح منار.

 

إنّما عندما يقول يسوع: «نحن» فيتعرّف العجوز فوراً على الصوت ويصيح: «المعلّم!» وينزل الدرج الريفيّ ليركض ويفتح.

 

«ربّي! أدخل، أدخل منزلكَ، وليكن مباركاً اليوم الّذي ينتهي بمجيئكَ!» يقول وهو يشتغل حول أقفال البوابة، ويشرح: «إنّني وحيد وأُغلِق بإحكام… إنّ اللصوص قادرون على كلّ شيء. هناك مَن يُحدِثون أضراراً هنا أو هناك، نازلين إلى الوادي مِن مرتفعات جلعاد. ليس لأنّني أخاف على حياتي، إنّما لأنّني قد قمتُ باستعدادات لأجلكَ و… هاك، يا معلّم، تعال. الأمسية رطبة وشعركَ مبلّل مِن الندى...»

 

«وأنتَ أكثر اجتهاداً مِن عروس النشيد، أيّها الأب. لا يثقل عليكَ أن تزعج نفسكَ لاستضافة المسافر» يقول يسوع مبتسماً.

 

«أنزعج؟ كم كان الوقت طويلاً! يوماً إثر آخر، الواحد تلو الآخر. لقد بذرتُ حبوبكم وكنتُ أرى الخضار تنمو. كنتُ أقول: "لو كان يأتي، بالتأكيد هذا يعجبه." لكنّها وصلت إلى النضوج وأنتَ لم تأتِ… كنتُ أرى الثمار تتلوّن على الأشجار وآكُل منها بأسى، لأنّكَ لم تكن تأكل منها. هذه النعجة أعطتني حملاً، أبيض تماماً. أبقيتُ عليه لمدّة طويلة، كي آكله معكَ. كنتُ آمل أن أراكَ قبل عيد المظالّ. ثمّ… حَمَل بأكمله لي… كان كثيراً! لقد قايضتُه بنعجة صغيرة، وكانوا طيّبين معي حيث لم يريدوا أخذ الفرق. إنّما مِن الثمار والأجبان فقد احتفظتُ بأكثر ما أمكنني لأجلكَ، وسمك مجفّف وبُقول، وأيضاً ما زال لديَّ بعض الشّمّام (البطيخ الأصفر)، وقليل مِن النبيذ… أنا لا أشربه، لكنّني أعددتُه مِن أجلكَ، للشتاء.»

 

يتكلّم وهو يمسح الطاولة، يضع عليها الأطباق، ويؤجّج النار، يضيف الماء إلى القِدر وينهمك، سعيداً. لم يعد بعد العجوز المسكين الّذي كان قبل بضعة أشهر.

 

يخرج، ليعود بالحليب، يعتذر: «إنّه قليل لأنّ نعجة واحدة هي الّتي تعطي حليباً. إنّما قريباً ستكونان اثنتين. إنّما هذا كافٍ لأجلكَ»

 

إنّه أَبَويّ، متفانٍ وأَبَويّ معاً. لقد أخذ الأردية الرطبة، النّعال الموحلة، وحملها إلى مكان آخر. وعاد بتفّاح ورمّان وعنب وأيضاً بعض التين نصف الجاف، ويشرح: «لقد جفّفتُها هكذا، كي أجعلكَ تتذوّقها. كنتُ أفكّر… كنتُ أفكّر بأنّ عزيزي حنانيا كان يحبّها كثيراً وهي مُعدّة هكذا!...» الصوت، الّذي كان صافياً في البدء، ينخفض إلى نبرة حزن فيما يقول تلك الكلمات، ويُنهي بالقول: «و… كنتُ أفكّر بأنّها قد تعجبكَ، وكان يبدو لي، فيما كنتُ أعدّها، بأنّني… بأنّني ما زلتُ أعدّها لابن ابني.» يهزّ رأسه، يجهد للابتسام مع لمعان دموع في عينيه.

 

يسوع، الذي كان قد جلس إلى الطاولة، ينهض ويضع ذراعاً حول عنق العجوز، جاذباً إيّاه إليه: «تعجبني كثيراً. شيء يذكّرني بطفولتي… وأبي. إنّما ما كان عليكَ حرمان نفسكَ مِن أشياء كثيرة لأجلي. إنّها تفيد كبار السنّ. يجب أن تكون سليماً وقويّاً، لتستقبلني دوماً هكذا. كم هو عذب إيجاد منزل كهذا، مع أبٍ ينتظرنا. أليس ذلك صحيحاً، يا أصدقائي؟»

 

«بالتأكيد هذا صحيح! وحسن جدّاً التكاسل دون مساعدة حنانيا» يقول بطرس الّذي ينهض قائلاً: «هيّا، لنذهب ونعدّ أسرّتنا فيما يتحدّث يسوع إلى الرجل.»

 

«آه! لا حاجة لذلك! إنّها دوماً جاهزة. وكلّ شيء نظيف… إنّما فقط، هي غير كافية. إنّكم أكثر مِن اثني عشر. لكنّني سأذهب فوق العلف و...»

 

«هذا لا، أيّها الأب. سوف أذهب أنا، إذن» يقول يوحنّا.

 

«لا، أنا» يقول أندراوس والآخرون.

 

«لا ضرورة لذلك. أنا أنام هنا فوق هذه الطاولة. هي حتماً ليست أقسى مِن قعر مركبي، ومارغزيام...» يقول بطرس.

 

«ينام معي...» يقاطع يسوع.

 

«أو معي، إن شئتَ… كما كان يفعل الصغير حنانيا» يقول العجوز، وعينه تتوسّل.

 

«نعم، يا معلّم. أنا ما زلتُ معكَ. هو… إنّني ذاهب معه» يقول مارغزيام.

 

يسوع يداعبه، مدركاً بادرته.

 

«لقد أتوا عدّة مرّات بحثاً عنكَ بعد عيد الخمسين. ثمّ ما عادوا يأتون» يقول العجوز بعد ذلك.

 

«مَن كان يبحث عنه؟»

 

«فرّيسيّون، إيه! وآخرون على شاكلتهم. كانوا يريدون أن يسألوكَ. لكنّني قلتُ: "اذهبوا إلى بلدته. هو ليس هنا، ولا أعلم متى سيأتي…" لقد كان ذلك صحيحاً. وقد تعبوا مِن المجيء. وكانوا يبحثون عن آخر، أحد ما يُدعى يوحنّا، كانوا يقولون بأنّه كان معكَ، وربّما كانوا يظنّون أنّه يختبئ هنا. لقد قلتُ: "لكنّه رسوله وهو معه" فقالوا: "أرسوله أعور ربّما؟ عجوز، مريض، يحتضر؟" وفهمتُ أنّه لم يكن أنتَ، وأجبتُ: "لا أعرف سوى الرّسول يوحنّا، هو شابّ طيّب يكاد يكون طفلاً، وهو سليم القلب والجسد" وقد هدّدوني. إنّما ماذا كان يمكنني أن قول غير ذلك؟ إنّها الحقيقة...»

 

«نعم، إنّها الحقيقة. وكن دوماً صادقاً، حتّى وإن توجّب أن تؤذيني، لا تكذب أبداً، أيّها الأب.»

 

«يا ربّ، لقد شَابَ شعري وأنا في سَعي دائم لإطاعة الربّ. ومِن بين الطاعات هناك أيضاً طاعة عدم قول أمور غير صحيحة. لكن… لماذا يبحثون عنكَ هكذا، يا ربّ؟ أنا كنتُ أعمى. وإلى أورشليم لم أكن أذهب لذلك. والآن قد عدتُ منها. لا لشيء سوى الشعائر المقدّسة. لأنّني أردتُ أن أكون هنا في انتظاركَ… وشعرتُ بكراهية ومحبّة حولكَ… وقد قَدَّرتُ أنّ هناك كراهية أكثر مِن المحبّة بين رؤساء الشعب. كنتُ في الهيكل ذاك الصباح حيث كانوا يريدون الإساءة إليكَ… وقد هربتُ، آسفاً، كي أنتظركَ وأبكي هنا. لِمَ الإنسان شرّير للغاية؟»

 

«لأنّه قَتَلَ روحه. ومع روحه، القدرة على الشعور بالندم على كونه ظالماً.»

 

«هذا صحيح!... ويبحثون عنكَ ليؤذوكَ؟»

 

«أجل.»

 

«أجل!! أإسرائيل تريد إيذاء مَلِكها؟ يا للهول! إسرائيل يدين نفسه بالعقوبات النبويّة!... آه! إنّني مسرور، الآن، أنّ ابني قد مات… وأريد أن أموت أنا أيضاً كي لا أرى خطيئة إسرائيل...»

 

يحلّ صمت مطبق. تُسمَع فقط طقطقة الحطب في الموقد.

 

«إنّما فلنتحدّث عن أمر آخر! لا نتحدّث إلاّ عن الموت! عن الكراهية! عن الخيانة! كفى! كفى! لا أستطيع سماع الكلام عنها!» يقول الاسخريوطيّ وهو مضطرب، ينظر شزراً، يحتدّ، ينتفض في المطبخ، بذراعيه، بساقيه، بكلّ جسده.

 

«يهوذا على حقّ» يقول كُثُر.

 

«لكنّ عدم الرغبة بالسماع لا تفيد. ما يجب هو عدم الموافقة» يقول يسوع بحركته المستسلمة، فاتحاً يديه، والراحتان متّجهتان للأعلى، فوق الطاولة الريفيّة.

 

«ما الّذي تقصده؟ الموافقة! مَن يوافق على هذا؟» يهوذا يشور بيديه، تقريباً فوق وجه يسوع، منحنياً للأمام، كما ليرتمي نحو الطاولة كي يقترب مِن المعلّم.

 

«مَن؟ كلّ أولئك الّذين يحلمون منذ الآن برؤيتي أهلك في دمي. دم! دم مسيحكِ! دم عليكِ، أيّتها الأرض الّتي لا تريدين ربّكِ! دم أكثر تلألؤاً مِن هذا اللَّهَب! دم، نار في جليد وفي ظلمات عالم مجرم! يأملون بقتل النور بانتزاع الدم منه. لكنّ النور هو الروح، الدمّ يبقى مادّة. المادة تُثقِل الروح. الدم على لوح رخاميّ يُضعِف النور، أليس ذلك صحيحاً، يا ترى؟ حسناً، الحقّ الحقّ أقول لكم، أنّه كما هذا الخشب الّذي لم يُنِر إلّا لـمّا صار لهباً، وأصماغه، باشتعالها، قد استحالت بهاءً، وهي الآن وميض متوهّج، فهكذا، وحينما يكون كلّ شيء قد تمّ، والدم والجسد سيكونان قد استُهلِكا بالتضحية، فهكذا، وكما تلك النار هناك، الّتي قد أحالت الآن كلّ شيء نوراً، فإنّ روحي سوف يتألّق أكثر مِن أيّ وقت على العالم، وسأكون نوراً أكثر مِن أيّ وقت. نور مِن شأنه أن يُبهِر على الدوام كارِهي النور، قاتليه. نور مِن شأنه أن يصهر الأبواب الذهبيّة للسموات المقفلة دون البشريّة منذ قرون كثيرة، والسماء سوف تنفتح للأبرار. نور مِن شأنه أن يخترق الصخور التي تشكّل قُبّة الهاوية، ونار جهنّم المستشيطة سوف تغدو غاية في الاشتياط تحت وميض أشعّتي. والويل، الويل، الويل لِمَن كانوا قد قَوَّضوا النور! دم ونور! هذان الأمران سيكونان أمامهم إلى أن يجعلاهم مجانين ويائسين. شياطين!»

 

يسوع، الذي كان قد نهض عندما كان يقول «الحقّ»، والّذي كان مخيفاً مِن فرط ما كان مهيباً في المطبخ الواطئ ذي الجدران القاتمة، وقد أحاطت به هالة مِن لهب الموقد، يجلس ويصمت.

 

الجميع يتبادلون النظر. الجميع ما عدا يهوذا، الّذي يبدو أنّه انبهر بمظهر الخشب الملتهب، مبهور ومذعور. إنّه ذُعر يعطيه قناعاً مَهولاً، شحوب مخضرّ ورماديّ، تضفي عليه النار المشتعلة صبغة حمراء. إنّه يذكّرني بوجهه المرعب في الجمعة العظيمة. ثمّ يستدير فجأة ويصرخ: «إنّما اصمت! اصمت! لماذا تعذّبنا؟!» ويخرج صافقاً الباب…

 

«على طريقته، هذا صحيح، لكنّه يحبّكَ كثيراً… ويتألّم لسماع كلمات معيّنة» يقول توما. ويختم: «إنّها تسبّب لنا الألم نحن كذلك! إنّما نحن أقلّ… غرابة، لنقل: غرابة...»

 

ما مِن أحد آخر يتكلّم. يسوع نفسه يصمت…

 

«الخضار قد نضجت، الحليب ساخن...» يقول برويّة العجوز، وقد لبث فَزِعاً، وتقريباً لا يجرؤ على قول تلك الكلمات العاديّة بعد هكذا حادث…

 

«نادوا يهوذا ولنتناول العشاء» يأمر يسوع.

 

يخرج يوحنّا لمناداة رفيقه. يدخلان… ليهوذا وجه مضطرب. إنّما اضطراب بغير سلام… لكنّه يجلس إلى المائدة وينهض مع الآخرين عندما يقدّم يسوع ويبارك، وينظر إليه خلسة عندما يَقسم يسوع الحصص محتفظاً لنفسه بالأخيرة.

 

الجميع يَودّون تبديد الحزن الّذي يسود الغرفة. لا أحد يتمكّن مِن ذلك، إلى أن يتوجّه يسوع بنفسه إلى العجوز سائلاً إيّاه فيما إذا كانت القرية المجاورة والمواضع القريبة قد قبلت كلمة الربّ.

 

«نعم، نعم، يا معلّم. وبشكل جيّد، جيّد جدّاً. أقول أنّ هنا أفضل مِن الضفّة الأخرى. تعلم… حيّة جدّاً هنا ذكرى المعمدان، وتلاميذه، الّذين هم الآن تلاميذكَ، يُبقونها يَقِظة ويُظهِرونكَ في النور بواسطة كلامه. ومِن ثمّ… هنا… في بيريه والمدن العشر هناك قلّة مِن الفريّسيّين، وبالتالي...»