ج3 - ف76

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الثاني

 

76- (في بيت يهوذا في إسخريوط)

 

10 / 07 / 1945

 

يسوع على وشك أن يَجلس إلى الطاولة، في بيت يهوذا الجميل، هو وأتباعه. يقول لأُمّ يهوذا، القادمة مِن بيتها الريفيّ لِتَستَقبِل المعلّم بما يليق: «لا، أيّتها الأُمّ، أنتِ أيضاً ينبغي أن تجلسي معنا. فهنا نحن عائلة. وهي ليست وليمة متكلّفة لضيوف غُرباء. أنا قد أَخَذتُ لكِ ابناً، وأريد أن تَعتَبِريني ابناً، كما أَعتَبِركِ أنا أُمّاً، فأنتِ أهل لذلك. أليس كذلك يا أصدقائي؟ وهكذا نَشعُر جميعنا أنّنا أكثر فرحاً وأكثر راحة؟»

 

يُؤيِّد كلامه الرُّسُل والـمَدعوَّتان مريم بحرارة، أمّا أُمّ يهوذا، والدمعة تلمع في عينيها، فتضطر إلى الجلوس بين ابنها والمعلّم الذي جَلَسَ قُبالة الـمَدعوَّتين مريم وبينهما مارغزيام. تَجلب الخادمة الطعام، فيباركه يسوع ويقدّمه، ثمّ يوزّعه، لأنّ أُمّ يهوذا غير بارعة في ذلك. يُوزِّع مبتدئاً بها، ممّا يُثير المرأة أكثر، ويَجعَل يهوذا فخوراً، وفي الوقت نفسه مُنشَغِل البال.

 

تَدور المناقشات حول مواضيع كثيرة، ويُحاوِل يسوع إثارة اهتمام أُمّ يهوذا، وإنشاء علاقة بينها وبين الـمَدعوَّتين مريم. وكان لمارغزيام في ذلك فائدة كبيرة بإعلانه أنّه يحبّ كذلك أُمّ يهوذا لأنّ اسمها مريم، مثل كلّ النساء الطيّبات.

 

«وتلك التي تَنتَظِرنا عند البحيرة، أَفَلَن تحبّها أيّها الشرّير الصغير؟» يَسأَل بطرس شِبه جاد.

 

«آه! كثيراً إذا كانت طيّبة.»

 

«يمكنكَ أن تكون على يقين مِن ذلك. فالجميع يقولون هذا، وعليَّ أنا كذلك أن أقول إنّها إذا ما كانت لطيفة على الدوام مع أُمّي ومعي، فهذا بحقّ إشارة على أنّها طيّبة. ولكنّها لا تحمل اسم مريم. يا بنيّ. إنّ اسمها غريب، ذلك أنّ أباها قد أَطلَقَ عليها اسم الشيء الذي أَغنَاه، وشاء أن يسمّيها بورفيرا، فالأرجوان جميل ونفيس. زوجتي ليست جميلة، ولكنّ صَلاحها يجعلها نَفيسة. وأنا قد أحببتُها لأنّها وديعة وعفيفة وصامتة. ثلاث فضائل... ليس مِن السهل إيجادها! لقد لَفَتَت انتباهي مُذ كانَت طفلة صغيرة. كنتُ أنزِل إلى كفرناحوم مع السمك، وكنتُ أراها تُصلِح الشِّباك بصمت، أو على النبع، أو في حديقة البيت. لم تكن الفراشة الطيّارة التي تمضي هنا وهناك، ولا أيضاً الدجاجة الطائشة التي تتلَفَّت لكلّ صياح ديك. لم تكن ترفع رأسها أبداً، حتّى حينما كانت تَسمَع أصوات رجال، وعندما بادَرتُها بِأُولى تحيّاتي، أنا الهائم بطيبتها وبِجَدائلها الرائعة، وهذه كانت كلّ ثروتها، وكذلك... نعم، وكذلك مُشفِقاً على ظروفها، وهي كالعَبدة وسط العائلة -وكان عمرها آنذاك سِتّ عشرة سنة- بالكاد رَدَّت، وهي تُنـزِل حجابها، وتَحتَجِب أكثر داخل البيت. هيه! لَزِمَني وقت لِأُدرِك أنّها لَم تَكُن تَعتَبِرني غُولاً!... ولكنّني لستُ نادماً على ذلك. فلو كنتُ دُرتُ الأرض كلّها لما كان بإمكاني إيجاد أُخرى تُشابِهها. أليس كذلك يا معلّم، أنّها طيّبة؟»

 

«إنّها طيّبة للغاية. وإنّني على يقين بأنّ مارغزيام سوف يحبّها، حتّى ولو لم يكن اسمها مريم. أليس كذلك، مارغزيام؟»

 

«نعم. فهي اسمها "ماما"، والأُمّهات طيّبات ومحبوبات.»

 

ثُمّ يَروي يهوذا ما فَعَلَه خلال النهار. أُدرِك أنّه مضى لإخطار أُمّه بمجيئهم، ثُمّ بَدَأَ بالتحدّث في ريف إسخريوط، يُرافِقه أندراوس. ثمّ يقول: «ومع ذلك أودُّ لو تأتون جميعكم غداً. لستُ أريد أن أتألّق وحدي. سوف نمضي، قدر المستطاع، يهوديّ مع جليليّ. أنا مثلاً مع يوحنّا، وسمعان مع توما. ولو كان باستطاعة سمعان الآخر أن يأتي! أمّا أنتما، (ويشير إلى ابنيّ حلفى) فيمكنكما الذهاب معاً. لقد قُلتُ للجميع، حتّى لأولئك الذين لم يكونوا يريدون معرفة ذلك، إنّكما أَخَوا المعلّم. وكذلك أنتما (ويشير إلى فليبّس وبرتلماوس) يمكنكما الذهاب معاً. لقد قُلتُ إنّ نثنائيل رابّي وقد تَبِعَ المعلّم. وهذا أمر له تأثيره. و... وتبقون أنتم الثلاثة. إنّما، ما إن يَصِل الغيور حتّى نُشكِّل زوجاً إضافيّاً. ثمّ نَتبادَل لأنّني أريد أن يَعرِفوكم جميعاً...» يهوذا مُفعَم حماساً. «لقد تحدَّثتُ عن الوصايا العشر، يا معلّم، مُحاوِلاً، بشكل خاصّ، إبراز النقاط التي أَعرِف أنّها عَصيّة على هذه المنطقة...»

 

«لا تكن يدكَ قاسية وثقيلة يا يهوذا، أرجوكَ. فليكن حاضراً في ذهنكَ على الدوام أنّ اللُّطف يُؤتي ثمّاره أكثر مِن التشدُّد، وأنّكَ إنسان، أنتَ كذلك. افحص ضميركَ، وفَكِّر كم هو سهل أن تَقَع، وكَم تَغضَب لاتّهامات سافرة جدّاً.» يقول يسوع، بينما تُخفِض أُمّ يهوذا رأسها، وقد اصطَبَغَت بالحُمرة.

 

«لا تخف يا معلّم، إنّني أحاول جاهداً الاقتداء بكَ في كلّ شيء. في الوقت الحاليّ، في تلك البلدة التي نراها مِن هذا الباب (إنّهم يأكلون والأبواب مفتوحة، ويمكن اكتشاف أُفُق جميل مِن هذه الغرفة المرتَفِعة) هناك مريض يودُّ لو يُشفى، ولا يمكن حمله. هل تريد المجيء معي؟»

 

«غداً يا يهوذا. غداً صباحاً مِن كلّ بُدّ. وإذا كان هناك مرضى آخرون قُل لي وخُذني إليهم.»

 

«هل صحيح أنّكَ تريد أن تملأ موطني بِحُسن صنيعكَ يا معلّم؟»

 

«نعم، كي لا يُقال إنّني كنتُ ظالماً تجاه الذين لَم يُؤذونَي. أَفعَل الخير حتّى للأشرار‍! فلمَ لا إذن للناس النَّـزيهين مِن إسخريوط؟ أريد أن أجعَل لي ذِكرى لا تُمحى...»

 

«ولكن كيف؟ ألن نعود أبداً إلى هنا؟»

 

«سوف نعود، ولكن...»

 

«هي ذي الأُمّ، الأُمّ ومعها سمعان!» يَهتف الصبيّ الذي يرى مريم وسمعان يَصعَدان السُلّم المؤدّي إلى الشُّرفة التي فيها الغرفة.

 

يَنهَض الجميع ويَمضون للقائهما. أصوات تَعَجُّب وتحيّات، وكراسي تتحرّك. إنّما لا شيء يُلهي مريم عن تحيّة يسوع أوّلاً، ثُمّ أُمّ يهوذا التي انحَنَت انحناءة كبيرة، بينما مريم على العكس تُنهِضها وتُعانِقها كما لو كانت صديقة عزيزة التَقَتها بعد غياب طويل.

 

يُعاوِدون الدخول إلى الغرفة، وتَطلب مريم أُمّ يهوذا مِن الخادمة تقديم طعام جديد للقادمين الجُّدُد.

 

«هاكَ يا بنيَّ سلام إليز.» تقول مريم ذلك وتُعطِي يسوع لفافة يَفتَحها ويَقرَأ. ثمّ يقول: «كنتُ أَعلَم، كنتُ متأكّداً مِن ذلك. شكراً يا أُمّاه، مِن أجلي ومِن أجل إليز. فأنتِ بحقّ صَحّة الـمُعتَلّين!»

 

«أنا؟ بل أنتَ يا بنيَّ لا أنا.»

 

«أنتِ أعظَم مُساعِدة لي.» ثُمّ يلتَفِت إلى الرُّسُل وإلى النساء التلميذات، ويقول: «تَكتُب إليز: "عُد يا سلامي. لستُ أريد أن أحبّكَ فقط، بل أن أخدمكَ". وهكذا أَخرَجنَا مِن الضِّيق والاكتئاب إنسانة، وكَسِبنا تلميذة. سوف نعود، نعم.»

 

«هي تريد أن تتعرّف كذلك على النساء التلميذات. إنّها تعود ببطء، ولكن دون توقّف، عزيزتي المسكينة! ما زالت لديها لحظات ضعف وخوف. أليس كذلك يا سمعان؟ لقد حاوَلَت يوماً الخروج بِرِفقتي، ولكنّها رَأَت صديقاً لابنها دانيال... ولقد عانينا الكثير في تهدئة حزنها. ولكنّ سمعان طيّب جدّاً! فقد اقتَرَح عليَّ، بما أنّها تُحِسُّ برغبة في العودة إلى العالم، ولكنّ عالَم بيت صور مليء جدّاً بالذكريات بالنسبة إليها، اقتَرَحَ استدعاء يُوَنّا. ومضى لاستدعائها. وعادَت بعد الأعياد إلى بِتّير، إلى حدائق ورودها الرائعة في اليهوديّة. يقول سمعان إنّه كان يبدو له أنّه يَحلُم بينما هو يجتاز تلك الروابي المغطّاة بشجيرات الورد، وكان يحسب نفسه في الجنّة. لقد أتت حالاً. واستطاعَت إدراك ومشاطرة أُمّ تبكي بَنيها! وتعلَّقَت إليز بها كثيراً، وأتيتُ أنا. يُوَنّا تريد إقناعها بالخروج مِن بيت صور والذهاب إلى قصرها. ونَجَحَت في ذلك لأنّها وديعة كالحمام، ولكنّها صَلبة كالصوّان عندما تريد ذلك.»

 

«سوف نمضي إلى بيت صور أثناء العودة، ومِن ثمّ نفترق. أنتنّ، النساء التلميذات، تمكثن بعض الوقت مع إليز ويُوَنّا. أمّا نحن فسوف نجوب اليهوديّة، وبعد ذلك نلتقي في أورشليم في العنصرة.»

 

مريم الكلّيّة القداسة ومريم أُمّ يهوذا معاً. ليس في بيت المدينة، إنّما في بيت الريف. إنّهما بمفردهما. يسوع والرُّسُل خارجاً. النساء التلميذات والصبيّ في بستان التفّاح الرائع، وتُسمَع أصواتهنّ التي تمتزج بصوت الغسيل الذي يُضرَب في الـمَغسَل. قد يَكُنَّ يَغسِلن بينما الولد يلعب.

 

تَجلُس أُمّ يهوذا في غرفة ظليلة إلى جانب مريم، وتُحدِّثها: «ستظلّ ذكرى هذه الأيّام لديَّ كحلم لطيف. هي قصيرة جدّاً! جدّاً! أُدرِك أنّه ينبغي على المرء ألّا يكون أنانيّاً، وأنّه مِن العدل أن تذهبوا إلى تلك المرأة المسكينة وإلى بائِسِين كثيرين آخَرين. إنّما لو كنتُ أستطيع! لو كان بإمكاني إيقاف الزمن أو المجيء معكم!... ولكنّني لا أستطيع. وليس لي أهل سوى ابني، وينبغي لي الاعتناء بِخَيرات البيت...»

 

«أُدرِك... أَلَمٌ هو التفريق بينكِ وبين ابنكِ. نحن الأُمّهات، نودُّ لو نبقى على الدوام مع أولادنا. ولكنّنا نَهِبهُم مِن أجل أمر جَلَل، ولسنا نفقدهم أو نخسرهم. فحتّى الموت لا يَنتَزِع منّا أبناءنا، لو كانوا هُم، وكنّا نحن في حالة النِّعمة في نَظَر الله. ولكنّنا ما زلنا نمتلكهم على الأرض، حتّى ولو كانت إرادة الله تَنتَزِعهم مِن صدرنا لِتُقَدِّمهم للعالم، مِن أجل خير هذا العالم. يمكننا اللّحاق بهم دائماً، وحتّى صدى أفعالهم هو لنا بمثابة الـمُلاطَفَة للقلب، إذ إنّ أفعالهم هي عِطر نفوسهم.»

 

«ما يكون ابنكِ بالنسبة إليكِ يا امرأة؟» تَسأَل مريم أُمُّ يهوذا بلطف.

 

وتُجيب مريم الكلّيّة القداسة: «إنّه فَرَحي.»

 

«فَرَحكِ!!!» ثمّ تذوب أُمّ يهوذا في دموعها، وهي تنطوي على نفسها لإخفاء حزنها. ويكاد جبينها يُلامِس ركبتيها لشدّة انطوائها على نفسها.

 

«لماذا تبكين يا صديقتي المسكينة؟ لماذا؟ أخبريني. أنا سعيدة في أمومتي، ولكنّني مع ذلك أجيد فَهم اللواتي لَسنَ كذلك...»

 

«نعم، الأُمّهات غير السعيدات! وأنا منهنَّ. ابنكِ هو فرحكِ... وابني هو ألمي. كان كذلك على الأقلّ. آه! وبين كُلّ الذين يُصَلّون مِن أجل ابنكِ القدّيس، مِن أجل خيره ونصره، ما مِن أحد، بعدكِ أيّتها المغبوطة، يُصلّي أكثر مِن هذه البائِسة التي تُكَلِّمكِ... أَصدِقيني القول: ما رأيكِ بابنيّ؟ نحن أُمّان، الواحدة قُبالة الأخرى، والله بيننا، ونتحدّث عن ابنينا. أنتِ، لا يمكنكِ إلّا أن تَجِدي الحديث عن ابنكِ سهلاً. أمّا أنا... فعليَّ أن أَبذل مجهوداً عظيماً لأتحدّث عن ابني. إنّما، مع ذلك، فَكَم مِن الخير وكَم مِن الألم يمكنه أن يَلحَق بي مِن هذا الحوار! وحتّى ولو كان ألماً، فسيكون الحديث عنه عزاء دائماً…

 

كادت امرأة بيت صور تلك تُجَنّ لموت ابنيها، أليس كذلك؟ ولكنّني أُقسِم لكِ أنّني فَكَّرتُ، في بعض الأحيان، وأُفكّر وأنا أَنظُر إلى ابني يهوذا، الجميل، الـمُفعَم عافية، ولكنّه غير صالح ولا فاضل، وليست نفسه مستقيمة، ومشاعره ليست سليمة، أُفكِّر أنّني أُفَضِّل أن أبكيه ميتاً على أن أَعلَم... على أن أَعلَم أنّ لا اعتبار له في نَظَر الله. أنتِ أخبِريني ما هو رأيكِ بابني؟ كوني صريحة. فإنّ هذا السؤال يَحرق قلبي منذ أكثر مِن عام. ولكن لِمَن أُوَجِّه السؤال؟ أَلِلسُكّان؟ فَلَم يكونوا بَعد قد أَخَذوا عِلماً بوجود مَسيّا وبرغبة يهوذا في اتِّباعه. أنا كنتُ أَعلَم. كان هو قد أَخبَرَني بذلك لدى مجيئه هنا بعد الفصح، وهو مُنفَعِل، عنيف، كما هي حاله دائماً عندما تكون لديه نزوة ما، وكما هو حاله على الدوام، مِلؤُهُ الاحتقار لنصائح أُمّه. أَأَسأل أصدقاءه في أورشليم؟ إنَّ حَذَراً مُقَدَّساً وأَملاً وَرِعاً مَنَعاني مِن فِعل ذلك. لم أكن أريد أن أقول لهم، وهُم الذين لا يمكنني أن أحبّهم، لأنّ لديهم كلّ شيء عدا القداسة: "يهوذا يَتبَع مَسيّا". وكنتُ آمُل أن تَسقُط نزوته كما نزوات أخرى كثيرة، وجميعها قد سَبَّبَت لي، بالتأكيد، دموعاً وتكديراً، كما لِأكثر مِن صبيّة، هنا وفي أمكنة أخرى، أَلهَبَ فيها مشاعر العِشق ولم يتزوَّجها أبداً.

 

ألا تَعلَمين أنّ هناك أماكن لَم يَعُد يَقصِدها لأنّه قد يَجِد نفسه مُعاقَباً فيها؟ فحتّى التزامه بالهيكل كان نزوة. فهو لا يدري ما الذي يريده. أبداً. لقد أَفسَدَهُ أبوه، سامَحَه الله، لقد أَفسَدَه. لَم يَستَمِع رَجُلا البيت إليَّ أبداً. ولم يكن لي سوى البكاء والإصلاح بِمَذلّات مِن كلّ نوع... عندما ماتت يوحنّه -رغم أنّ أحداً لَم يُخبِرني بذلك، فأنا أَعلَم أنّها ماتت حزناً، عندما صَرَّحَ لها، بعد انتظار دام شبابها كله، بأنّه لَم يَكُن ينوي الزواج بها، بينما كان شائِعَاً أنّه أَرسَلَ أصدقاءه في أورشليم لطلب ابنة امرأة غنية كانت تمتلك متاجر حتّى في قبرص- وقد بَكيتُ كثيراً بسبب الملامة التي رَمَتني بها أُمّ الشابّة المائتة، كما لو كُنتُ شريكة لابني. لا. أنا لستُ كذلك، ولكنّني لستُ بشيء بالنسبة إليه.

 

العام الماضي، عندما كان المعلّم هنا، تَنَبَّهتُ إلى أنّه كان قد أَدرَكَ... وكنتُ على وشك أن أتكلّم. ولكنّه مؤلم لِأُمّ وجوب قولها: "اخشَ ابني، إنّه شَرِه، وهو قاسي القلب. إنّه خَليع، متكبِّر ومُتقَلِّب". وهو هكذا. فأنا... أُصلّي مِن أجل حدوث معجزة، وهو الذي يَجتَرِح منها الكثير، فَليفعَل ابنكِ ذلك بابني يهوذا... أمّا أنتِ، أنتِ، فقولي لي: ما رأيكِ به؟»

 

مريم التي ظَلَّت صامتة طوال الوقت، وعلى محياها تعابير الشَّفَقة المتألِّمة، أمام تلك التَّفَجُّعات الأموميّة، التي لا يمكن لنفسها المستقيمة تكذيبها، تقول بلطف: «يا لكِ مِن أُمّ مسكينة!... ما رأيي؟ نعم، فابنكِ ليس نَفْس يوحنّا الصافية، ولا أندراوس الـمُرهَف، وليس لديه ثبات متّى الذي أراد الاهتداء وفَعَلَ. إنّه... مُتقلِّب، نعم، هو ذاك. إنما سوف نُصلّي مِن أجله كثيراً، أنتِ وأنا. لا تبكي. قد تكونين تَرَينَه أسوأ مِمّا هو عليه بسبب حبّكِ له كأُمّ تريد الافتخار بابنها...»

 

«لا! لا! إنّني أرى الصواب، وأنا خائفة جدّاً...»

 

مليئة هي الغُرفة بشكايات أُمّ يهوذا، وفي شِبه الظلّ، يُصبِح وجه مريم الشاحب أكثر بياضاً، بعد تلك الاعترافات الأُموميّة التي هَيَّجَت كلّ ظنون أُمّ الربّ. ولكنّها تسيطر على نفسها. تَشدُّ الأُمّ البائسة إليها وتُلاطِفها، بينما تلك، حالما تَحَطَّمَت الحواجز، تَروي بارتباك، وبحرارة، كلّ الغلاظات والمتطلَّبات، وفي الختام: «إنّني أَحمَرُّ خجلاً بسببه، عندما أرى نفسي سبباً لاهتمام ابنكِ المحبّ تجاهه! لَم أَطلُب منه، ولكنّني متأكّدة أنّه، فضلاً عن الطِّيبة والصَّلاح اللذين تُعَبِّر عنهما تلك الاهتمامات، فإنّه يتصرّف هكذا ليقول ليهوذا، مِن خلال تصرّفاته: "تَذَكَّر أنّه هكذا تُعامَل الأُمّ". الآن، الآن يبدو لي مُفعَماً طِيبة... آه! لو كان ذلك صحيحاً وحقيقيّاً! ساعِدِيني، ساعِدِيني بصلاتكِ، يا مَن أنتِ قِدّيسة، لكيلا يكون ابني غير أهل للنِّعمة العظيمة التي حَبَاه إيّاها الله! إذا لم يُرِد أن يحبّني، إذا لم يُرِد أن يعترف بجميلي، أنا التي أنجَبتُهُ، فلا يهمّ. إنّما فليعرف أن يحبّ يسوع بحقّ، فليعرف أن يخدمه بأمانة وعرفان. وإذا لم يكن ذلك، إذن... إذن فَليَقصِف الله عمره. إنّني أُفَضِّل أن يكون في القبر... إنّما لي... أن يكون لي في النهاية، إذ مُذ بَلَغَ سنّ الرشد، لَم يَعُد لي إلا فيما نَدَر. فأن يكون ميتاً، لهو أفضل عندي مِن أن يكون رسولاً سيّئاً. هل يمكنني الصلاة هكذا؟ ما رأيكِ؟»

 

«صلّي إلى الله أن يَفعَل ما هو الأفضل. لا تعودي تبكين. فلقد شاهَدتُ عاهِرات وَوَثنيِّين عند قدميّ ابني، ومعهم عَشَّارين وخَطَأَة، ولقد أَصبَحوا جميعاً حِملاناً بِنِعمته. فتأمّلي يا مريم، تأمّلي. إنّ آلام الأُمّهات تُخَلِّص الأولاد. ألا تَعلَمين ذلك؟»

 

وينتهي كلّ شيء بهذا الطلب الـمُفعَم رحمة.