ج4 - ف151

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الثاني

 

151- (مِن راموت إلى جيراسا)

 

26 / 09 / 1945

 

في النور الباهر لصبيحة تهبّ فيها الريح قليلاً، تبدو في جمالها البديع تلك البلدة القابعة على هضبة صخريّة بطابعها الفريد، التي تنتصب وسط حلقة مِن القِمم المتفاوتة الارتفاع. تحسبها لوحة مِن الغرانيت توضَّعَت عليها البيوت، الكبيرة منها والصغيرة، والجسور والينابيع، والتي إنّما وُجِدَت هنا كما للترفيه عن طفل عملاق.

 

تبدو البيوت وكأنّها نُحِتَت في الصخر الكلسيّ الذي يُشكِّل المادّة الأساسيّة لهذه المنطقة. مبنيّة مِن قوالب متراكبة فوق بعضها، وهي بغير مَلاط (مادة تشبه الاسمنت)، وهي إذ تكاد تكون مُربّعة، تبدو وكأنّها لعبة بناها طفل كبير بارع بواسطة مُكعّبات.

 

حَول هذه البلدة، يتأمّل المرء ريفها الصغير الـمُحرَّج والخصيب، بمنتوجاته المتنوعة التي تبدو مِن الأعلى سجّادة، تتميّز فيها مربّعات وأشباه مُنحَرفات ومثلّثات، البعض منها أرض بُنيّة نُكِشَت بالمعول منذ مدة قصيرة، والبعض الآخر أرض خضراء فيروزيّة بسبب العشب الذي أنبَتَته أمطار الخريف، وأُخرى حمراء بسبب آخر أوراق الكَرمَة والبساتين، وأُخرى خضراء رماديّة بفضل أشجار الحور والصفصاف، وأُخرى ذات لون أخضر وكأنّه مطليّ بالمينا بفضل السنديان والخرّوب، أو أخضر برونزيّ بوجود السرو والصنوبر. إنّها جميلة، جميلة جدّاً.

 

ثمّ هناك طُرُقات تَنطَلِق ممّا يُشبه عُقدة شَريطة، مِن البلدة إلى السهل البعيد، أو صوب الجبال الأعلى، وهي تتوغّل في الغابات، أو تَفصل، بخطّ داكن، الحقول الخضراء والأراضي البنيّة المفلوحة.

 

وفيما وراء البلدة، هناك مجرى ماء ضاحك، بلون الفضّة، مِن جهة النبع، وفي الجهة المقابلة يُصبح بلون اللازورد الممتزج بالزبرجد في المنحدرات صوب الوديان بين الشُّـعَب الضيّقة والسفوح، وهو يَظهَر ويَغيب، مُتقلّباً، أكثر غزارة وأكثر ازرقاقاً كلّما تَوَسَّعَ المجرى، وهو لا يَفسَح المجال لِقَصَب القاع والأعشاب التي نمت خلال فصل الجفاف بأن تُضفي عليه اللون الأخضر. فهو يعكس الآن السماء، بعد دفن القصب تحت كثافة للماء الذي أَصبَحَ عميقاً.

 

زُرقة السماء خيالية: صَدَفة ثمينة بمينا أزرق داكن، بدون صَدْع في كتلتها الرائعة.

 

تُعاوِد القافلة المسير، والنساء ما يزلن على الجّياد، ذلك أنّ التاجر يقول إنّ الطريق فيما وراء البلدة مُتعِبة، ويجب الإسراع للوصول إلى جيراسا قبل حلول الليل. وإذ يتدثّرون ألبسة دافئة، وقد تَنشّطوا بعد الاستراحة، يتقدّمون بسرعة على الطريق التي تَصعَد وسط الأدغال البديعة المحاذية للمنحدرات الأعلى لجبل مُنفَرِد يَنتَصِب ككتلة ضخمة فوق جبـال أُخرى أَخفَض. عملاق حقيقيّ كالذي نُصادِفه في أعلى نقاط "أبنين".

 

«إنّها جلعاد» يقول التاجر الذي بقي إلى جانب يسوع، وهو يشير إليها باليد، وما يزال يقود البغل الذي تمتطيه مريم باللّجام. ويُضيف: «بعد ذلك سيكون الطريق أفضل. هل أتيتَ يوماً إلى هنا؟»

 

«أبداً. كنتُ أريد المجيء في الربّيع، ولكنّني أُقصيتُ مِن جلجالا.»

 

«إقصاؤكَ؟ يا للخطأ!»

 

يَنظُر إليه يسوع ويصمت.

 

يَجعَل التاجر مارغزيام يمتطي سـرجاً، لأنّه بالحقيقة كان يُعاني وهـو يَلحَق، بساقيـه القصيرتين، الخطوة السريعة للمطايا. وبطرس يَعلَم أنّها سـريعة! يتقدّم، وهو يَجهَد بصعوبة للّحاق بالقافلة، مقتدياً بالآخرين، ولكنّه يظلّ متأخّراً عنها دائماً. يتصبّب عرقاً، ولكنّه مسرور لسماعه مارغزيام يضحك، ورؤيته السيّدة العذراء مرتاحة والسيّد سعيداً. يتحدّث وهو يلهث مع متّى وأخيه أندراوس اللذين يبقيان في آخر القافلة مثله، ويُضحِكهم بقوله لهم إنّه كان سيسـعد في هذه الصبيحة لو كان له جناحان كما له ساقان. لقد تخلَّصَ كالآخرين مِن حمولته، وقد عُلِّقَت الحقائب على سروج مطايا النساء، ولكنّ الطريق صعبة بحقّ، خاصّة وأنّ الندى قد جَعَلَ الحجارة زَلِقَة. يعقوب ويعقوب مع يوحنّا وتدّاوس هُم أكثر إقداماً ويَتبَعون عن كَثَب مطايا النساء. سمعان الغيور يتحدّث إلى يوحنّا الذي مِن عين دور. تيمون وهرمست مُنشَغِلان كذلك بقيادة المطايا.

 

أخيراً تمّ اجتياز القِسم الأصعب، وتَظهَر لوحة مختلفة للنَّظَر الـمُندَهِش. وادي الأردن اختفى نهائيّاً. الآن تَكتَشِف العين في الشرق هَضَبة عالية ذات امتداد مَهيب، حيث بعض التجاعيد فقط، للروابي التي بالكاد ترتفع لتقطع رتابة المشهد. لم أفكّر أبداً أن يكون في فلسطين شيء كهذا. تبدو كما لو أنّها بعد عاصفة صخرية للجبال، فقد تجمّدت وسكنت بسيل عظيم بقي معلقاً بين مستوى القاع والسماء، مع ذكرى وحيدة لهيجانه الأوّليّ في خطوط الروابي تلك، زبد موجات تَصَلَّبَ هنا وهناك، بينما مياه السيل امتدّت على مساحة منبسطة بأبّهة رائعة. وفي منطقة السلام المشرق هذه، يصل المرء، عبر ممرّ أخير ضيّق، وقفر كما هي الحال في الهـوّة بين موجتين ارتطمتا، آخر موجتين مِن العاصفة. وفي القاع سيل جديد يجري وهو يزبد صوب الغرب. يصل مِن الشرق في مجرى غير مستو، هائجاً عبر الصخور والـمَساقِط، مناقضاً بذلك السلام البعيد للهضبة الضخمة. 

 

«الآن ستكون الطريق جيّدة. إذا سَمَحتَ فسوف آمُر بالإسراع.» يقول التاجر.

 

«أنا، تركتُ القياد لكَ، أيّها الرجل. فإنّكَ على بيّنة.»

 

يَهبطون جميعاً ويتفرّقون على المنحدر بُغيـة البحث عن حَطَب لطهي الطعام، وماء للأقدام التَّعِبة، والحُلوق العطشى. الدواب التي أُنزِلَت حمولتها، تقضم العشب الكثيف، أو تنـزل في ماء السيل القراح لتشرب. رائحة راتنج ولحم مشويّ تنطلق مِن النيران الصغيرة المشتعلة لطهي الحِملان.

 

يُجهِّز الرُّسُل ناراً يشوون عليها السمك المملّح، المغسول قبلاً في مياه السيل العذبة. ولكنّ التاجر يَراهُم ويُقبِل جالباً لهم حَمَلاً صغيراً أو جدياً، ويُجبِرهم على قبوله. ويأخذ بطرس على عاتقه شيّه، بعد أن يَحشوه بالتوابل.

 

جُهِّزت الوجبة بسرعة واستُهلِكت بسرعة. وتحت شمس الظهيرة، يُعاوِدون المسير على طريق أفضل، محاذية للسّيل في اتّجاه الجنوب الشرقيّ، في منطقة رائعة الخَصب، جيّدة الزرع، غنيّة بقطعان الماعز والخنازير التي تهرب أمام القافلة مخفخفة.

 

«هذه المدينة المحاطة بالأسوار، يا سيّد، هي جيراسا. مدينة المستقبل العظيم. الآن هي في طَور التوسّع، ولا أظنّني أُخطِئ إذا ما قُلتُ إنّها سَتُجاري بسرعة جبعون وأشقلون وصور ومدناً أخرى كثيرة بجمالها وتجارتها وغِناها. الرومان يَرَون أهمّيّتها مِن خلال هذه الطريق التي تأتي مِن البحر الأحمر، بالتالي مِن مصر، وتمرّ عَبْر دمشق لِتَصِل إلى البحر البنطي. إنّهم يساعدون الجيراسيين في البناء... إنّهم يتمتّعون بجودة البَصَر والبَصيرة. حاليّاً فيها فقط تجارات عديدة، إنّما فيما بعد!... آه! سوف تكون جميلة وغنيّة! روما مُصغَّـرة بمعـابد وأحواض، وحَلَبات وحمَّامات عموميّة. أنا، لم يكن لي هناك سِوى متاجر. أمّا الآن فقـد حصلتُ على أراض كثيرة أُقيم عليها مخازن ومحلّات تجاريّة، لأبيعها بأسعار أعلى بعد أن أشتريتها بأسعار متدنّية، وقد أبني بيتاً فخماً أقضي فيه شيخوختي، عندما يتمكّن أولادي بلدصار ونابور وفيلكس وسيدميا أن يُصبِحوا جديرين بإدارة متاجر صور وجبعون والاسكندريّة عند مصبّ النيل. في أثناء ذلك يَكبر الأولاد الثلاثة الآخرون، وسـأعطيهم متـاجر جيراسـا وأشقلون، وقد أُعطيهم مخازن أورشليم. أمّا الإناث، بثرائهنّ وجمالهنّ، فسوف يكنّ مطلوبات ويتزوّجن زيجات ثريّة وينجبن لي أحفاداً كثيرين...» يَحلم التاجر بعينين مفتوحتين بأسـعد مستقبل.

 

يَسأَل يسوع بهدوء: «وبعد؟»

 

ينتَفِض التاجر ويَنظُر إليه حـائراً ثمّ يقول: «وبعـد؟ هذا كلّ شيء. وبعد ذلك يأتي الموت... الأمر مُحزِن ولكنّه هكذا.»

 

«وستترك كلّ النشاطات؟ وكلّ المحلّات؟ وكلّ المشاعر؟»

 

«ولكن يا سيّد! أنا لا أريد ذلك. ولكنّني كما وُلِدتُ عليَّ أن أموت كذلك. وعليَّ أن أترك كلّ شيء.» ويُطلِق زفرة قادرة بهوائها أن تدفع القافلة إلى الأمام…

 

«ولكن مَن قال لكَ أنّ بعد الموت يترك المرء كلّ شيء؟»

 

«مَن؟ ولكن الأحداث! عندما يموت المرء... ينتهي كلّ شيء. فلا أيادي بعد ولا عيون ولا آذان...»

 

«أنتَ لستَ مجرّد يدين وعينين وأذنين فقط.»

 

«أنا إنسان. أعرف ذلك. لديَّ أشياء أخرى. إنّما كلّ شيء ينتهي مع الموت. إنّه مثل غروب الشمس. غروبها يَجعَلها تختفي...»

 

«ولكن الفجر يَجعَلها تُولَد مِن جديد، أو بالأحرى يعود بها مِن جديد. أنتَ إنسان كما قلتَ. ولستَ حيواناً كالذي تمتطي. فهو حينما يموت ينتهي بحقّ. أمّا أنتَ فلا. لديكَ النَّفْس. ألا تعرف ذلك؟ حتّى هذا لم تَعُد تعرفه؟»

 

يَسمَع التاجر هذا اللوم الحزين، الحزين واللطيف، ويَخفض الرأس وهو يُتمتِم: «هذا ما زلتُ أعرفه...»

 

«وإذن؟ أفلا تَعلَم أنّ النَّفْس خالِدة؟»

 

«أَعلَم.»

 

«وإذن؟ ألا تَعلَم أنّها تظلّ فاعلة في الحياة الأخرى؟ فاعلية مُقدَّسة، إذا كانت هي قدّيسة. وسيّئة، إذا كانت هي سيّئة. لها مشاعرها. آه! كيف هي لديها! مشاعر حبّ، إذا كانت قدّيسة. مشاعر حِقد، إذا كانت هالِكة. حِقد، تجاه مَن؟ تجاه أسـباب هلاكها. في مثل حالتكَ، الفعاليات والمتاجر والمشاعر التي هي إنسانيّة فقط. مشـاعر حُبّ، لِمَن؟ للأشياء ذاتها. وكَم مِن البركات على الأولاد وعلى فعالياتهم  يمكن أن تَحمِلها نَفْس عندما تكون في سـلام الربّ!»

 

الرجل شارد الذهن. فيما بعد يقول: «لقد فات الأوان. فأنا الآن أَصبَحتُ عجوزاً.» ويُوقِف البَغل.

 

يبتسم يسوع ويجيب: «أنا، لا أرغمكَ. بل أنصحكَ.» ويلتفت لينظُر إلى الرُّسُل الذين يُساعِدون النساء في النـّزول، ويحملون حقائبهنّ أثناء التوقّف، قبل دخول المدينة. وتمضي القافلة مِن جديد مُسرِعة لتَدخُل مِن الباب الذي يَحرِسه بُرجان في المدينة كثيرة الأشغال.

 

يَعود التاجر إلى يسوع: «هل ما زلتَ تودّ البقاء معي؟»

 

«إذا لم تطردني، فلماذا عليَّ ألّا أريد ذلك؟»

 

«من أجل ما قُلتُه لكَ. فَمِنكَ أنتَ، القدّيس، عليَّ أن أتوقّع الاشمئزاز.»

 

«آه! لا! فلقد أتيتُ مِن أجل الذين هُم مثلكَ. أُحبّكم لأنّكم أنتم مَن هُم في حاجة إلى ذلك بالأكثر. إنّكَ ما زلتَ لا تعرفني. ولكنّني الحبّ الذي يمرّ مُستجدياً الحبّ.»

 

«إذن فأنتَ لا تكرهني؟»

 

«بل أحبّكَ.»

 

بَريق يَجتاز عُمق عينيّ الرجل. ولكنّه يقول بابتسامة: «إذن فسوف نبقى معاً. سوف أتوقَّف في جيراسا ثلاثة أيّام لِأُنجِز بعض الأعمال. هنا أُبقي البِغال وآخذ الجِّمـال. لديَّ اتصالات مع القوافل الأخرى في أمكنة بعيدة، ولديَّ خادم أُبقيه للعناية بالدواب التي أُبقيها في هذا المكان. وأنتَ، ماذا ستفعل؟»

 

«سوف أُبشِّر أثناء السبت. كنتُ سأضطرّ إلى ترككَ لو لم تكن قد أَوقَفتَ القافلة، ذلك أن السبت مكرَّس للربّ.»

 

يَقطب الرجل الجّبين ويُفكّر، وكالنادِم يُبدي الموافقة: «...نعم... صحيح. إنّه مُكرَّس لإله إسرائيل. إنّه مقدَّس. إنّه مقدَّس.» ويَنظُر إلى يسوع... «سأكرِّسه لكَ لو سمحتَ.»

 

«لله وليس لخادمه.»

 

«لله ولكَ، وأنا سأسمعكَ. سأُنجِز أعمالي اليوم وفي صبيحة الغد. وثمّ، سوف أستمع إليكَ. هل تأتي الآن إلى الفندق؟»

 

«مِن كلّ بُدّ. فمعي النساء وأنا هنا غير معروف.»

 

«هوذا فندقي. إنّه فندقي لأنّ هنا اصطبلاتي مِن سنة لأخرى. إنّما لديَّ غُرَف واسعة مِن أجل البضائع. إن وافقت...»

 

«فليكافئكَ الله على ذلك. هيّا بنا.»