ج5 - ف68
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الثاني
68- (مَثَل العصافير)
06 / 02 / 1946
يسوع في بيت عنيا، الغنيّة والـمُزهِرة كلّها في شهر نيسان (أبريل) الجميل هذا، الصافي، النقيّ كما لو كانت الخليقة قد اغتسلت مِن كلّ قذارة. ولكنّ جموع الناس الذين بحثوا عنه بالتأكيد في أورشليم يلحقون به، وهم لا يريدون الذهاب قبل الاستماع إليه. فهم يريدون التمكّن مِن حمل كلمته في قلوبهم معهم. هُم كثيرون جدّاً حتّى إنّ يسوع يَأمُر أن يُجمعوا كي يتمكّن مِن إعدادهم للتعليم. الاثنا عشر والاثنان والسبعون، الذين شكّلوا مجموعة هي تقريباً بقدر هذا العدد، أو بأقلّ قليلاً، مع التلاميذ الجدد الذين انضمّوا إليهم في الآونة الأخيرة، يتفرّقون في كلّ الاتّجاهات لتنفيذ الأمر الذي تلقّوه.
في هذه الأثناء، يسوع، في حديقة لعازر، يتحرّر مِن النساء وخاصّة مِن أُمّه. وبأمر منه يَعدن إلى الجليل يرافقهنّ سمعان بن حلفى، يائيروس، حلفى بن سارة، مارغزيام، وزوج سُوسَنّة وزَبْدي. سلامات ودموع. وهناك كذلك رغبة عارمة لعدم الإطاعة، رغبة مُستوحاة مِن حُبّ المعلّم. ولكنّ قوّة الحبّ الكامل أعظم، لأنّه فائق الطبيعة بشكل مطلق، تجاه الكلمة الكلّيّ قُدسه، وهذه القوّة تجعلهم يطيعون، متقبّلين الفراق المؤلم.
مريم، الأُمّ، هي الأقلّ كلاماً. ولكنّ نظرتها تقول أكثر مِن كلّ ما قالته النساء الأخريات مجتمعات. يؤوّل يسوع تلك النَّظرة ويطمئنها ويواسيها ويُشبِعها ملاطفات، إن يكن ممكناً إشباع أُمّ منها، وبشكل خاصّ هذه الأُمّ، المفعَمة حبّاً وقلقاً على ابنها الـمُضطَهَد. وتمضي النساء أخيراً، ملتفتات مرّة أخرى لتحيّة المعلّم وتحيّة أبنائهنّ والتلميذات اليهوديّات السعيدات اللواتي يمكثن مع المعلّم.
«لقد تألّمن مِن الذهاب...» يُبدي سمعان الغيور ملاحظته.
«ولكنّه حسن أنّهنّ قد ذهبن، يا سمعان.»
«هل تتوقّع أيّاماً حزينة؟»
«هي مضطربة، على الأقلّ. والنساء لا يمكنهنّ تحمّل التعب مثلنا. والآن بما أنّ عدد اليهوديّات والجليليّات متساوٍ، فيفضّل أن ينقسمن. وأكون لهنّ بالتناوب، وبالتناوب يكون لهنّ فرح خدمتي؛ وأنا أكون سلوى عاطفتهنّ المقدّسة.»
في هذه الأثناء يتزايد عدد الناس باطّراد. في البستان الواقع بين بيت لعازر وذلك العائد للغيور هناك جمع فيه مِن كلّ الطبقات وكلّ الظروف، كذلك فيه فرّيسيّون مِن اليهوديّة، أعضاء مِن السنهدرين ونساء محجّبات.
مِن بيت لعازر يَخرُج على شكل جماعة، تحيط بمحفّة يُنقَل عليها لعازر، أعضاء مِن السنهدرين كانوا في سبت الفصح زائرين لديه في أورشليم، وآخرون أيضاً. لعازر، أثناء مروره، يوجّه إلى يسوع حركة وابتسامة فرح. يردّ له يسوع لباقته بأن يتبع الموكب الصغير إلى حيث ينتظره الجمع.
ينضمّ إليه الرُّسُل. يهوذا الاسخريوطيّ المظفّر منذ بضعة أيّام وفي أحسن حالاته، يلقي هنا وهناك نظرات مِن عينيه السوداوين اللامعتين وينبئ يسوع في أذنه عن اكتشافاته.
«آه! انظر، هناك كَهَنَة كذلك!... هاك، ها هُم! وكذلك هناك سمعان مِن السنهدرين، وكذلك حِلقِيّا. انظر أيّ كاذب! منذ بضعة أشهر فقط، كان يقول عن لعازر كلّ سوء، والآن يُشيد به كما لآلهة!... وهناك دورو الشيخ وتريسون. أترى كيف يحيّي يوسف؟ والكاتب صموئيل مع شاول... وابن غَمَالائيل! وهناك مجموعة مِن أتباع هيرودس... ومجموعة النساء المحجّبات هنّ بالتأكيد الرومانيّات. إنّهنّ متنحّيات، ولكن هل تَرَى كَم يراقبن الوجهة التي تقصد للتمكّن مِن تغيير المكان والاستماع إليكَ؟ أتعرَّف على الأشخاص رغم المعاطف. هل ترى؟ اثنتان ضخمتان، واحدة قويّة أكثر منها ضخمة، الأخريات متوسّطات القامة، إنّما متناسقات. هل أذهب لتحيّتهنّ؟»
«لا. لقد أتين كمجهولات، مجهولات راغبات في كلمة الرابّي. وهكذا علينا اعتبارهنّ.»
«كما تشاء، يا معلّم. كنتُ أُفكِّر... في تذكير كلوديا بوعدها...»
«لا حاجة إلى ذلك، وحتّى في الحالة المعاكسة، فلا نُصبِح لجوجين، يا يهوذا. أليس كذلك؟ ينبغي أن تتشكّل بطولة الإيمان وسط الصعوبات.»
«ولكنّ ذلك مِن أجل... مِن أجلكَ، يا معلّم.»
«مِن أجل فكرتكَ المتصلّبة بإحراز ظَفَر بشريّ. يا يهوذا، لا تَخلق لنفسكَ أوهاماً، لا عن طريقتي المستقبليّة في التصرّف، ولا عن الوعود التي تُقطع. تؤمن بما تقوله لنفسكَ. إنّما لا شيء يمكنه أن يُغيّر فِكر الله الذي هو أن أكون الفادي والـمَلِك على ملكوت روحيّ.»
يهوذا لا يردّ في شيء.
يسوع في مكانه، وسط الرُّسُل. قريباً مِن قدميه لعازر على محفّته. وعلى مسافة قريبة منه، التلميذات اليهوديات، أختا لعازر وإليز وأنستاسيا ويُوَنّا مع الأولاد وأناليا وسارة ومارسيل ونِيقي.
الرومانيّات، أو بالحريّ اللواتي دعاهنّ يهوذا هكذا، متأخّرات، يكدن يكنّ في الآخِر، مختلطات بمجموعة مِن الشعب. أعضاء السنهدرين، الفرّيسيّون، الكَتَبَة والكَهَنَة هُم، بشكل حتميّ، في الصفّ الأوّل. ولكنّ يسوع يرجوهم إفساح المجال لمحفّات ثلاث عليها مرضى. يَطرَح يسوع عليهم الأسئلة ولكنّه لا يشفيهم مباشرة.
يسوع، كي يُقدِّم لفكرة حديثه، يَلفت انتباه المستمعين إلى العصافير الكثيرة العدد التي تُعشّش في إيراقات حديقة لعازر والبستان الذي فيه اجتمع المستمعون.
«لاحِظوا: هنا موجود مِن أهل البلد ومِن الأجانب، مِن كلّ الأعراق ومِن كلّ القامات. وعندما يهبط الليل، سوف يُستَبدلون بعصافير ليل، وهي كذلك كثيرة هنا، رغم أنّه مِن السهل نسيانها لمجرّد أنّنا لا ننظر إليها. لماذا كلّ هذه العصافير هنا؟ لأنّها تَجِد ما يجعلها تعيش سعيدة. فهنا الشمس، وهنا الراحة، هنا الغذاء وفير والمأوى آمن والماء عذب. وهي تجتمع مُقبِلة مِن الشرق والغرب والشمال والجنوب إذا كانت مهاجرة، وتبقى وفيّة لهذا المكان إذا كانت مقيمة. وماذا؟ هل سنرى إذن أنّ العصافير تفوق بالحكمة أبناء البشر؟ كَم مِن هذه العصافير وليدة عصافير هي الآن ميتة، ولكنّها عَشَّشَت، منذ سنة أو أكثر، هنا حيث كانت تجد ما يلزمها. وهي قالت ذلك لأبنائها قبل أن تموت، لقد دَلَّتها على هذا المكان، والصغار، مطيعة، وفدت إليه.
الآب الذي في السماوات، أب كلّ البشر، لعلّه لم يَقُل لقدّيسيه هذه الحقائق، ولم يُعطِ كلّ الإرشادات الممكنة مِن أجل خير أولاده؟ كلّ الإرشادات. تلك التي تخصّ خير الجسد والتي تخصّ خير الروح. ولكن ماذا نرى؟ نرى أنّ كلّ ما تمّ تعليمه مِن أجل الجسد -منذ ثوبيّ الجلد اللذين صنعهما هو للأبوين الأوّلين اللذين وجدا نفسيهما عاريين مِن ثوب البراءة الذي مزّقته الخطيئة، حتّى آخر الاكتشافات التي اكتشفها الإنسان بفضل أنوار الله- نتذكّره، نتناقله، نُعلّمه؛ أمّا ما يخصّ الروح، ما تمّ تعليمه، ما أُمِر به، ما تَعيَّن، فهذا لم يُحفَظ ولا تمّ تعليمه ولا ممارسته.»
يُتمتِم كثيرون مِن رجال الهيكل، ولكنّ يسوع يُهدّئهم بحركة منه.
«الآب، صالح كما لا يستطيع إنسان أن يتخيّله، يُرسِل خادمه ليُذكِّر بتعليمه، ليجمع العصافير في الأماكن الناجعة ليمنحهم معرفة دقيقة لما هو نافع ومقدّس، ليؤسّس الملكوت حيث كلّ عصفور ملائكيّ، كلّ روح، يَجِد نِعمة وسلاماً، حِكمة وخَلاصاً. والحقّ الحقّ أقول لكم: كما العصافير التي خرجت إلى الحياة في هذا المكان في الربيع ستقول لأخرى هي في أمكنة أخرى: "تعالي معنا، فهناك مكان تنعمي به بالسلام والوفرة مِن الله"، وسوف تُرى في السنة القادمة عصافير جديدة تتوافد إلى هنا، بالطريقة نفسها، مِن كلّ مكان، كما قال الأنبياء، سنرى أرواحاً وأرواحاً تتوافد إلى المذهب الآتي مِن عند الله، إلى الـمُخلِّص مؤسِّس ملكوت الله.
ولكنّ العصافير النهاريّة تختلط في هذا المكان بالطيور الليليّة، الجوارح، المعكِّرة للنظام، القادرة على إلقاء الرعب والموت وسط الفِراخ الطيّبة. إنّها طيور لم تتغيّر منذ سنوات وأجيال، ولا شيء يمكنه جعلها تترك أعشاشها، لأنّ أفعالها تتمّ في الظلمات وفي الأماكن التي لا يمكن لإنسان أن يَلِجها. تلك الطيور، بعينها الوحشيّة، طيرانها الذي مِن غير صوت، نَهَمها، وحشيّتها، تعمل في الظلام، وبنجاستها تَنشُر النجاسات والألم. بماذا نقارنها؟ بكلّ الذين، في إسرائيل، لا يريدون قبول النور الآتي لينير الظلمات، الكلمة الآتي ليُعلِّم، العدل الآتي ليُقدِّس. بالنسبة إليهم، فعبثاً كان مجيئي. بل حتّى أنا سبب خطيئة بالنسبة إليهم، لأنّهم يضطهدونني ويضطهدون الأوفياء لي. ماذا سأقول إذن؟ أقول أمراً قُلتُه مرّات كثيرة: كثيرون سيأتون مِن المشارق والمغارب ويجلسون مع إبراهيم ويعقوب في ملكوت السماوات. أمّا أبناء هذا الملكوت فسيُلقون في الظلمات البرّانيّة".»
«أبناء الله في الظلمات؟ أنتَ تُجدِّف!» يصيح أحد أعضاء السنهدرين الذين يعارضونه. أوّل مقذوفة مِن لُعاب الزواحف، بعد صمت طويل، ولم يعودوا قادرين على الصمت لأنّ سمّهم يخنقهم.
«ليس أبناء الله.» يُجيب يسوع.
«أنتَ مَن قُلتَ ذلك! لقد قُلتَ: "أبناء هذا الملكوت سيُلقون في الظلمات البرّانيّة".»
«وأكرّر: أبناء هذا الملكوت. الملكوت حيث المعلّمون هُم الجسد والبُخل، والغشّ والزنى والجريمة. ولكنّه ليس ملكوتي. فمملكتي هي مملكة النور. أمّا مملكتكم فهي مملكة الظلمات. إلى مملكة النور يُقبِلون مِن المشارق والمغارب، ومِن الشمال والجنوب، الأرواح المستقيمة، حتّى الذين هُم الآن بالنسبة إلى الإسرائيليّين وثنيّون، أمميّون، أناس محتقرون. وسوف يَحيون في اتّحاد مقدّس مع الله، لتقبُّلِهم نور الله في ذواتهم، في انتظار الصعود إلى أورشليم الحقيقيّة، حيث لا بكاء ولا آلام ولا أكاذيب بشكل خاصّ. فالكذب الذي يوجِّه الآن عالم الظلمات ويُشبِع أبناءه إلى درجة أن لا يَلِج إليهم أيّ شعاع مِن النور الإلهيّ. آه! فليأتِ الأبناء الجُّدد ليأخذوا مكان الأبناء المارقين! فليأتوا! ومهما كان المنشأ الذي قَدِموا منه، فسينيرهم الله، وسيملكون إلى أبد الآبدين!»
«تكلّمتَ لتشتمنا!» يصيح اليهود الأعداء.
«لقد تكلّمتُ لأقول الحقّ.»
«قدرتكَ تكمن في لسانكَ الذي تستخدمه، أيّها الأفعى الجديدة، لتغوي الجموع وتضلّلهم.»
«بل قدرتي تكمن في السلطان الذي يأتيني مِن اتّحادي بأبي.»
«مُجدِّف!» يصيح الكَهَنَة.
«بل مُخلِّص! أنتَ يا مَن تتمدّد عند قدميّ، ما الذي يجعلكَ تتألّم؟»
«مُذ كنتُ طفلاً، كُسِر عمودي الفقري، ومنذ ثلاثين عاماً وأنا مستلقٍ على ظهري.»
«قُم وامشِ! وأنتِ، يا امرأة، ممَّ تتألّمين؟»
«ساقاي تتدلّيان جامدتين مُذ رأى هذا الذي يحملني مع زوجي النور.» وتشير إلى مُراهِق عمرة يتجاوز الستّة عشر عاماً.
«أنتِ أيضاً انهضي وسبّحي الربّ. وهذا الولد لماذا لا يمشي بمفرده؟»
«لأنّه وُلِد أبلهاً، أصمّ وأعمى وأبكماً. قطعة جسد تتنفّس.» يقول مرافقو البائس.
«باسم الله فلتنل الذكاء والنطق والرؤية والسمع. أنا أشاء!» وبعد إتمام معجزته الثالثة يلتفت إلى أعدائه ويقول لهم: «وما قولكم في هذا؟»
«معجزات مشكوك فيها. لماذا لا تُشفي صديقكَ والـمُدافِع عنكَ، إذن، إذا كنتَ قادراً على كلّ شيء؟»
«لأنّها ليست مشيئة الله.»
«آه! آه! حسناً! الله! عذر سهل! فلو جلبنا لكَ مريضاً أو اثنين، فهل ستشفيهما؟»
«نعم، إذا استحقّا ذلك.»
«انتظرنا إذن.» ويمضون مسرعين وهُم يستهزئون.
«يا معلّم، انتبه! إنّهم ينصبون لك فخّاً.» يقول كثيرون.
يقوم يسوع بحركة وكأنّه يقول: «دعوهم يفعلون!» وينحني ليداعب الأطفال الذين تركوا أهلهم ودنوا منه على مهل. بعض الأُمّهات فعلن مثلهم حاملات له الأطفال الذين لم يُصبِح مشيهم أكيداً، أو الذين لا يزالون يَرضَعون.
«بارِك أطفالنا، أنتَ أيّها المبارك، كي يكونوا أصدقاء النور!» تقول الأُمّهات.
ويضع يسوع يديه عليهم ليباركهم. وهذا يُحدِث جَلَبة في الجمع. فكلّ الذين لديهم أطفال يريدون البركة ذاتها. يدفعون ويصيحون لإفساح مكان لهم.
الرُّسُل، مِن جهة لأنّهم متوتّرون بسبب إساءات الكَتَبَة والفرّيسيّين الاعتياديّة، ومِن جهة أخرى إشفاقاً على لعازر الذي قد يُسقِطه سيل الأهل الذين يجلبون الصغار إلى البَرَكَة الإلهيّة، يَغضَبون ويَصيحون، موبّخين هذا أو ذاك، دافِعين الواحد أو الآخر، خاصّة الأطفال القادمين بمفردهم. ولكنّ يسوع، الوديع والعطوف يقول لهم: «لا، لا! لا تفعلوا هذا! لا تمنعوا الأطفال أبداً مِن أن يأتوا إليَّ، ولا أهلهم مِن أن يجلبوهم لي. فبالتحديد لِمِثل هؤلاء الأبرياء ملكوت السماوات. فهم سيكونون أبرياء مِن الجريمة العظمى، وسيكبرون على الإيمان بي. فدعوهم إذن لأكرّسهم له. فملائكتهم هُم مَن يقودونهم إليَّ.»
يسوع الآن وسط إكليل مِن الأطفال ينظرون إليه في نشوة؛ كَمّ مِن الوجوه الصغيرة تنظر إلى أعلى، كَمّ مِن العيون البريئة، كَمّ مِن الأفواه المبتسمة…
استغلّت النساء المحجّبات فرصة الفوضى ليدرن خلف الجمع ويأتين خلف يسوع كما لو أنّ الفضول هو الذي كان يدفعهنّ.
الفرّيسيّون والكَتَبَة وصحبهم يعودون ومعهم رجلان يبدوان كأنّهما يتألّمان بشدّة. أحد الاثنين يئنّ على محفّته يغطّيه معطفه. الآخر، في الظاهر، أقلّ تألّماً، ولكنّه مريض للغاية، ذلك أنّه هزيل ويلهث.
«ها هما صديقانا، اشفهما! إنّهما مريضان بحقّ، خاصةّ هذا!» ويشيرون إلى الذي يئنّ.
يَخفض يسوع بصره على المريضين ثمّ يرفعه لينظر إلى اليهود. يحدج بأعدائه بنظرة رهيبة. مستقيماً خلف حاجز الأطفال الذين لا يصلون إلاّ إلى أسفل خصره، يبدو وكأنّه يَنهَض مِن دغل طهارة، ليكون المنتقم، كما لو أنّه يستمدّ قوّته مِن تلك الطهارة. يفتح ذراعيه ويهتف: «كذبة! هذا ليس مريضاً! أنا أقول لكم ذلك. اكشفوا عنه! أو إنّه سيكون خلال لحظة في عداد الأموات مِن أجل هذا الاحتيال على الله.»
يَقفز الرجل خارج محفّته وهو يقول: «لا، لا! لا تضربني! وأنتم، الملعونون، خذوا دراهمكم!» ويرمي كيس نقود عند أقدام الفرّيسيّين، ويفرّ مُطلِقاً ساقيه للريح…
الجمع يُتمتِم، يضحك، يُصفّر ويُصفّق…
المريض الآخر يقول: «وأنا، يا ربّ؟ لقد أخذوني مِن سريري بالقوّة، ومنذ هذا الصباح وأنا أتلقّى هذا العنف... ولكنّني لم أكن على عِلم بأنّني بين أيدي أعدائكَ...»
«أنتَ، أيّها الابن المسكين، فلتُشفَ وتُبارَك!» ويضع يديه عليه شاقّاً حاجز الأطفال الحيّ.
يَرفَع الرجل للحظة الغطاء المنبسط على جسده، ينظر إلى لستُ أدري ماذا... ثمّ ينتصب واقفاً. وهكذا يَظهَر عارياً مِن الفخذين حتّى القدمين. ويصيح، يصيح حتّى يفقد صوته: «قدميّ! قدميّ! ولكن مَن تكون؟ مَن تكون حتّى تُعيد الأشياء المفقودة؟» ثمّ يَسقُط عند قدميّ يسوع، ثمّ يعود فينهض، ثمّ يقفز بتوازن على السرير ويصيح: «كان المرض ينخر عظمي. بَتَرَ لي الطبيب أصابعي، حَرَقَ جلدي، لقد بَتَرَ لي حتّى عظم الركبة. انظروا! انظروا الآثار. ومع ذلك كنتُ سأموت. والآن... كلّ شيء قد شُفي! قدميّ! قدميّ أُعيد تكوينها!... ولم أعد أتألّم! تلك هي القوّة، الصحّة الجيّدة... الصدر محرَّر!... القلب سليم!... آه! ماما! ماما! أنا قادم لأحمل لكِ الفرح!»
يتهيّأ لأن يمضي جرياً، إنّما بعدئذ يوقفه العِرفان. يعود مِن جديد إلى يسوع ويُقبِّل، يُقبِّل القدمين المباركتين إلى أن قال له يسوع مداعباً شعره: «اذهب! اذهب إلى أُمّكَ وكُن صالحاً.» ثمّ ينظر إلى أعدائه المنكمشين على أنفسهم، وبصوت كالرعد: «والآن؟ ماذا ينبغي لي أن أفعل بكم؟ ماذا ينبغي لي أن أفعل، أيّها الجموع، بعد حُكم الله هذا؟»
يصيح الجمع: «إلى الرجم، أولئك الذين يُهينون الله! إلى الموت! كفى نصب الشِّراك للقدّيس! فلتكونوا ملعونين!» ويتناولون كُتلاً مِن الأرض وأغصاناً وحصى، جاهزين للبدء بالرجم.
يوقفهم يسوع. «تلك هي كلمة الجمع، تلك إجابتها. إجابتي مختلفة. فأنا أقول: «اذهبوا! لا أريد أن أتنجّس بضربكم. فليتولّ العليّ أمركم. فهو دفاعي ضدّ الكافرين.»
بدل أن يَصمت المذنبون، ورغم خشيتهم مِن الشعب، يستمرّون في إهانة المعلّم، ومُزبدين مِن الغضب، يَصيحون: «نحن يهود وأصحاب نفوذ! نحن نأمركَ بالذهاب. نمنعكَ مِن التعليم. نطردكَ. اخرج مِن هنا! لقد ضقنا بكَ ذرعاً. السُّلطة في أيدينا ونستخدمها؛ وسوف نفعل أكثر، أيّها الملعون، أيّها الغاصب، أيّها...»
إنّهم على وشك قول أشياء أخرى وسط جلبة صيحات وبكاء وصفير، بينما تأتي إلى الأمام لتقف حائلاً بين يسوع وأعدائه، وبحركة سريعة ومتعالية، والنَّظرة والصوت أكثر تعالياً، امرأة محجبّة تكشف عن وجهها وبصوت حادّ، لاذع أكثر مِن السُّوط على المحكومين بالأشغال الشاقة، مِن المقصلة على العُنق، تُطلِق جملتها: «مَن الذي ينسى أنّه عبد لروما؟» إنّها كلوديا. تُعيد إنزال وشاحها. وتنحني انحناءة خفيفة أمام المعلّم، وتعود إلى مكانها. ولكنّ ذلك كان كافياً.
فجأة يهدأ الفرّيسيّون. واحد فقط باسم الجميع، بخنوع ذليل، يقول: «دومينا، عفوكِ! إنّما هو يجعل روح إسرائيل العتيق يضطَرب. وأنتِ، صاحبة السُّلطة، عليكِ أن تصدّيه، وتمنعيه عن طريق القنصل العادل والمقدام. له طول العمر والصحة!»
«هذا لا يعنينا. يكفي أنّه لا يُعكِّر نظام روما. وهو لا يفعلها!» تُجيب الشريفة (مِن عليّة القوم) باحتقار. تُصدِر أمراً قاطعاً لمراِفقاتها، يبتعدن صوب حُزمة مِن الأشجار تقع في طرف الدرب، يغبن خلفها ليعدن بالظهور على العربة المغطّاة التي تصرّ والتي أَسدَلَت كلوديا كلّ ستائرها.
«أمسرور أنتَ بجعلنا نُهان؟» يَسأَل اليهود والفرّيسيّون والكَتَبَة ومَن بصحبتهم وقد عادوا للهجوم.
يَصرخ الجمع مُحتَقِراً. يوسف، نيقوديموس وكلّ الذين بدوا أصدقاء -ومعهم، دون الانضمام، إنّما بنفس التفكير، هناك ابن غَمَالائيل- الجميع يشعرون بالحاجة للتدخّل وهُم يَذمّون الآخرين الذين تجاوزوا الحدود. ويتحوّل النقاش مِن أعداء يسوع إلى المجموعتين المتعارضتين، تاركين جانباً مَن هو الأكثر شأناً.
ويَصمت يسوع، ذراعاه متصالبتان، أظنّ حينئذ أنّه يُطلِق قوّة لضبط الجمع، وبشكل خاصّ الرُّسُل الذين ازرورقوا مِن الغضب.
«علينا أن نُدافع عن أنفسنا ونمنع.» يهتف يهوديّ به مسّ مِن الشيطان.
«يكفي رؤية الجموع مسلوبي اللبّ في إثره.» يقول آخر.
«نحن أصحاب النفوذ! نحن فقط! وينبغي عدم سماع واتباع غيرنا.» يُجاهِر أحد الكَتَبَة.
«فليرحل مِن هنا! أورشليم لنا!» يَزعَق كاهن، أحمر كديك روميّ.
«أنتم خونة!»
«أنتم أكثر مِن عميان!»
«الجموع تترككم لأنّكم تستحقّون ذلك.»
«إذا أردتم أن تكونوا محبوبين، كونوا قدّيسين. فالاحتفاظ بالسُّلطة لا يكون في ارتكاب المظالم، ذلك أنّها تستند إلى تقدير الشعب للذين يحكمونه!» يصيح بدورهم أولئك الذين في الفريق المقابل مع العديد مِن الجمع.
«صمتاً!» يَفرض يسوع. وعندما يسود الصمت يقول: «لا يمكن للطغيان والإكراه تغيير العواطف ونتائج الخير المتلقَّى. أنا، أَحصُد ما مَنَحتُ: الحبّ. وأنتم، باضطهاداتكم، لا تفعلون سوى إنماء هذا الحبّ الذي يبغي تعويضي عن قلّة حبّكم. ألا تعلمون، مع كلّ حكمتكم، أنّ اضطهاد مَذهَب لا يجدي إلاّ في إنماء قدرته، خاصّة إذا كان متوافقاً في الواقع مع ما تمّ تعليمه؟ أَنصِتوا إلى واحدة مِن نبوءاتي، يا أيّها الإسرائيليّون. كلّما اضطهدتم رابّي الجليل وأتباعه، مُحاوِلين جعل مذهبه الإلهيّ يتلاشى بالطغيان، كلّما ازدهر وانتشر في العالم. كلّ نقطة دم مِن الشهداء الذين تجعلونهم كذلك، أملاً بالانتصار والسيطرة بقوانينكم وشرائعكم الفاسدة والمنطوية على رياء، والتي لا تتوافق مع شريعة الله، كلّ دمعة مِن القدّيسين الذين سوف تدوسونهم بأرجلكم ستكون بذاراً لمؤمنين مستقبليّين. وسوف تُقهَرون عندما تظنّون أنفسكم منتصرين. اذهبوا. وأنا أيضاً سأمضي. وليلاقني الذين يحبّونني على حدود اليهوديّة وما وراء الأردن، أو فلينتظروني هنا، إذ كالبرق الذي ينطلق مِن الشرق إلى الغرب، سيكون تحرّك ابن الإنسان سريعاً، إلى أن يحين وقت صعوده إلى الهيكل وعلى العرش، حَبراً ومَلِكاً جديداً، ويثبت بصلابة بوجود العالم وخليقة السماوات، في واحد مِن ظهوراته الكثيرة التي لا يجيد إدراكها إلّا الصالحين فقط.»
«يا معلّم، أنتَ ألن تمقتنا لأنّنا مِن الطبقات نفسها؟» يَسأل اليعازر.
«أنا لا أرشق بالحرم شخصاً محدّداً لأن طبقته مذنبة. لا تخف.» يُجيب يسوع.
«الآن سوف يكرهوننا...» يُتمتِم يواكيم.
«شرف لنا أن نكون كذلك!» يُعلِن يوحنّا عضو السنهدرين.
«فليقوِّ الله المضطربين، ويُبارك الأقوياء. أبارككم جميعاً باسم الربّ.» ويفتح ذراعيه ويعطي البركة الموسويّة لكلّ الحاضرين.
ثمّ يودّع لعازر وأختيه ومكسيمين والنساء التلميذات ويبدأ مسيرته.
وتستقبله الأرياف الخضراء التي تحدّ الطريق في اتّجاه أريحا بخضرتها التي يجعلها غسق مَزهوّ حمراء.