ج4 - ف169

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الثاني

 

169- (يسوع في الناصرة مِن أجل عيد الأنوار)

 

15 / 10 / 1945

 

أمسية من كانون الأوّل (ديسمبر) مظلمة، باردة وعاصِفة. فيما عدا الأوراق المتساقطة عن الأشجار، والتي تحفّ في هزيز الريح، لا صوت في شوارع الناصرة، المظلمة كشوارع مدينة ميّتة. البيوت مغلقة، لا نور فيها ولا صوت. أمسية ذئاب حقيقيّة.

 

وفي المقابل، يتوجّه حَمَل الله، عَبْرَ طرقات الناصرة، مباشرة إلى بيته. ويبدو، بثوبه القاتم، وكأنّه يَتيه في ظلمات ليل بلا نجوم. بالكاد يمكن الإحساس بخطواته، عندما يطأ كومة مِن الأوراق الجافّة، حطّت على الأرض بعد أن دارت في الجوّ بفعل الهواء، وهي جاهزة للانتقال مِن جديد إلى مكان آخر.

 

يَصِل أمام بيت مريم التي لحلفى. يبقى برهة متردّداً ما بين الدخول إلى الحديقة، والطرق على باب المطبخ، أَم متابعة السير... إنّما بعدئذ، يُتابِع طريقه دون توقّف. ها هو الآن في الحارة التي فيها بيته. يُرى الآن الاهتزاز الهائج لشجر الزيتون على الـمُنحَدَر الذي يَستَنِد عليه البيت. يُنصِت بانتباه. إنّه لَفِي غاية السهولة سماع ما يجري في هذا البيت الصغير! يكفي أن تُسنَد الأذن على إطار الباب، كيلا يبقى سوى بضعة سنتيمترات مِن خشب الباب تفصل بين الذي يُنصِت والذي يتحدّث... ومع ذلك لا يُسمَع أيُّ صوت.

 

«إنّ الوقت متأخّر.» يتنهّد. «سوف أنتظر الفجر حتّى أقرع.» ولكن، في اللحظة التي يهمّ فيها بالابتعاد، يُسمَع صوت إيقاع نول النسيج. يبتسم ويقول: «لقد نَهَضَت. إنّها تَنسج. بالتأكيد إنّها هي... إنّه إيقاع أُمّي.»

 

لا يمكنني رؤية وجهه، ولكنّني متأكّدة أنّه يَبتَسِم، ذلك أنّ ضحكة تَكمُن في صوته الذي كان في البدء حزيناً، وهو الآن مبتهج.

 

يَقرَع. يتوقّف الصوت لحظة، ثمّ يُسمَع صوت كرسيّ يُزاح، ثمّ الصوت الفضّيّ الذي يَسأَل: «مَن الطارق؟»

 

«أنا يا أُمّي!»

 

«وَلَدي!» صَيحَة فَرَح عَذبَة، صَيحَة، رغم انخفاض مستوى الصوت فيها. يُسمع صوت مزلاج يتحرّك... ويُفتَح الباب، مُتيحاً المجال لظهور بقعة نور ذهبيّة على سواد الليل. وترتمي مريم بين ذراعيّ يسوع، هناك على العتبة، كما لو أنّه هو لا يستطيع الانتظار لاحتضانها، وهي لترتمي على ذاك القلب.

 

«بُنيّ! بُنيّ! بُنيّ!» قُبلات وكلمات «أُمّي ـ بُنيّ» العَذبَة... يَدخُلان بعدها، ويُغلَق الباب ثانية بهدوء.

 

وتَشرَح مريم بصوت منخفض: «الجميع نيام. وأنا كنتُ أسهر... منذ اللحظة التي جاء فيها يعقوب ويوحنّا قائلين إنّكَ كنتَ تتبعهما. كنتُ دائماً انتظركَ حتّى ساعة متأخّرة. هل تشعر بالبرد يا يسوع؟ نعم، إنّكَ متجلّد. تعال. لقد تركتُ نار الموقد مشتعلة. سأضع فيها حطباً. وسوف تتدفّأ.» وتقوده باليد كما لو كان ما يزال يسوع الصغير…

 

وتَسطَع الشُّعلة فَرِحة، وتتراقص في الموقد المتأجّج. تنظر مريم إلى يسوع الذي يمدّ يديه إلى النار ليدفئهما. «كم أنتَ نحيل! لم تكن هكذا عندما افترقنا... إنّك تَنحَل باستمرار وتَشحب، يا بنيّ. لقد كنتَ بلون الحليب والورد. أمّا الآن، فتبدو وكأنّكَ عاج عتيق. ماذا حَصَلَ معكَ مجدّداً يا بُنيّ؟ هل هُم الفرّيسيّون دائماً؟»

 

«نعم... وأشياء أخرى. إنّما الآن أنا سعيد، هنا ومعكِ، وسوف أكون على الفور بأحسن حال. هذه السنة سيكون عيد الأنوار هنا، يا أُمّي! إنّي أبلغ كمال السنّ إلى جانبكِ هنا. هل أنتِ مسرورة؟»

 

«نعم. ولكن كمال السنّ بالنسبة إليكَ، يا قلبي، ما يزال بعيداً... إنّكَ شاب، وبالنسبة إليَّ، فإنّكَ ما تزال صغيري. هاكَ، فالحليب ساخن. هل تريد شُربه هنا أو هناك؟»

 

«هناك يا أُمّي. إنّني أشعر بالحر الآن. سأشرب بينما تُغطّين النول.»

 

يَعودان إلى الغرفة الصغيرة، ويَجلس يسوع على المقعد قرب الطاولة، ويَشرب الحليب. تنظر إليه مريم وتبتسم. تبتسم عندما تأخذ حقيبته وتضعها على منضدة. تبتسم إلى درجة أنّ يسوع يَسأَل: «بماذا تفكّرين؟»

 

«أُفكّر في أنّكَ وَصَلتَ بالضبط في ذكرى رحيلنا إلى بيت لحم... حينذاك كذلك كانت هناك حقائب وصناديق مفتوحة ومليئة بالثياب وبالأخصّ بالأقمطة الصغيرة... مِن أجل وَليد كان يمكن أن يُولَد، كما كنتُ أقول ليوسف؛ الذي كان يُفتَرَض أن يُولَد في بيت لحم اليهوديّة، كما كنتُ أقول بيني وبين نفسي... كنتُ قد خبّأتُها في الأسفل، لأنّ يوسف كان يخشى مِن ذلك... لم يكن يَعلَم بعد أنّ ولادة ابن الله لم تكن خاضعة، سواء بالنسبة للمولود نفسه أو لأُمّه، للهموم الاعتياديّة للحمل والولادة. لم يكن يَعلَم... وكان يخاف أن أكون معه بعيدة عن الناصرة في تلك الحال. أنا كنتُ واثقة مِن أنّني كنتُ سأصبح أُمّاً هناك... وكنتَ أنتَ جَذِلاً جدّاً، في أحشائي، مِن شدّة الفَرَح لحلول موعد ولادتكَ، وبالنتيجة موعد ولادة الفِداء. كان الملائكة يَحومون حول المرأة التي تحملكَ، يا إلهي... لم يعد آنذاك رئيس الملائكة الأعظم، لم يعد الملاك الفائق العذوبة هو الذي يحرسني، كما كان الأمر في الأشهر السابقة. فآنذاك كانت جوقات وجوقات مِن الملائكة الذين كانوا يَمضون مِن سماء الإله إلى سمائي الصغيرة: الأحشاء التي كنتَ فيها... كنتُ أسمعهم يُرتِّلون ويتبادلون كلمات مِن نور... كلمات متلهّفة إلى رؤيتكَ، أنتَ، الإله المتجسّد... كنتُ أسمعهم أثناء تسلّلهم مِن الفردوس، بِفِعل الحبّ، ليأتوا فيعبدوكَ أنتَ، يا حُبّ الآب، المختبئ في أحشائي. وكنتُ أحاول تَعلُّم أقوالهم... تراتيلهم... وتوهّجهم... إنّما لا يمكن لكائن بشريّ قول أو اقتناء أشياء سماويّة...»

 

يُنصِت إليها يسوع، وهو جالس، وهي واقفة قرب الطاولة، حالمة بقدر ما هو مُغتَبِط... إحدى يديها على الخشب الداكن، والأخرى على قلبها... ويسوع يغطّي اليد الصغيرة البيضاء، الناعمة، بيده الطويلة والأقلّ بياضاً، ويشدّ على تلك اليد المقدّسة بيده... وعندما تَصمُت، كما لو أنّها تأسف لعدم تُعلُّمها مِن الملائكة كلامهم وتراتيلهم وتوهّجهم، يقول يسوع: «كلّ كلام الملائكة، وكلّ تراتيلهم، وكلّ توهّجهم لم يكن ليجعلني سعيداً على الأرض، لو لم يكن لي هذا الذي منكِ، يا أُمّي! لقد قلتِ لي ومَنَحتِني ما لم يَقدروا هُم أن يمنحوني. فلستِ أنتِ مَن تَعلَّم منهم، بل إنّما هُم الذين تعلّموا منكِ... تعالي هنا، يا أُمّي، إلى جانبي، واروي لي المزيد... ليس عن ذاك الوقت... بل عن هذا. ماذا كنتِ تفعلين؟»

 

«كنتُ أعمل...»

 

«أعرف ذلك، ولكن ما كان هذا العمل؟ أُراهِن أنّكِ كنتِ تتعبين مِن أجلي. دعيني أرى...»

 

تُصبِح مريم أكثر احمراراً مِن قطعة القماش التي على النول، والتي يَنظُر إليها يسوع الذي نَهَض.

 

«أُرجوان؟ مَن أعطاكِ هذا؟»

 

«يهوذا الاسخريوطيّ. حَصَلَ عليها مِن صيّادين مِن صيدون، على ما أظنّ. يُريدني أن أَصنَع لكَ ثوباً ملوكيّاً... الثوب، أَصنَعهُ لكَ، ولكنّكَ لا تحتاج إلى أرجوان لِتَكون مَلِكاً.»

 

«يهوذا أكثر عناداً مِن بغل حَرُون.» كان هذا هو التعليق الوحيد حول الأرجوان، ثمّ يلتَفِت صوب أُمّه: «وهل يمكنكِ صُنع ثوب بما أعطاكِ؟»

 

«آه! يا بنيّ! هذا يكفي لأهداب الثوب والمعطف. ليس أكثر.»

 

«حسناً. فهمتُ لماذا تَصنَعينها على شكل شرائط ضيّقة. إذن... أُمّي: هذه الفِكرة تروق لي. ستضعين هذه الشرائط على حِدة، وسوف أقول لكِ يوماً أن تستخدميها في ثوب جميل. أمّا الآن، فالوقت ليس مناسباً. لا تتعبي.»

 

«أَعمَل عندما أكون في الناصرة...»

 

«صحيح... والآخرون ماذا فَعَلوا خلال هذا الوقت؟»

 

«لقد تثقّفوا.»

 

«أو بالأحرى: أنتِ ثقّفتِهم. ما رأيكِ فيهم؟»

 

«آه! إنّهم ثلاثة تلاميذ جيّدون. فيما عداكَ أنتَ، فأنا لم أَحظَ أبداً بتلاميذ أكثر انضباطاً وأكثر انتباهاً منهم. لقد حاولتُ كذلك تقوية يوحنّا قليلاً. إنّه مريض جدّاً. لن يعيش طويلاً...»

 

«أَعلَم. إنّما هذا خَير بالنسبة له. بالإضافة إلى أنّه هو الذي يَرغَب به. لقد أَدرَكَ تلقائيّاً قيمة الألم والموت. وسِنْتيخي؟»

 

«مِن المؤسف إبعادها، إنّها تساوي مائة تلميذ في قداستها وأهليّتها لإدراك الفائق الطبيعة.»

 

«أُدرِك ذلك، إنّما عليَّ أن أفعل.»

 

«كلّ ما تفعله حَسَن هو على الدوام، يا بنيّ.»

 

«والصبيّ؟»

 

«هو كذلك يتعلّم. ولكنّه حزين جدّاً هذه الأيّام... إنّه يتذكّر الشقاء الذي كان منذ عام... آه! لم يكن الجوّ مُفرِحاً كثيراً هنا!... يوحنّا وسِنْتيخي يتنهّدان لدى تفكيرهما بوجوب الرحيل عن هنا، والصبيّ يبكي لدى تفكيره بأُمّه التي ماتت...»

 

«وأنتِ؟»

 

«أنا... أنتَ أَعلَم يا بنيّ. لا وجود للشمس وأنتَ بعيد عنّي. وكذلك هي لن تكون حتّى وإن أحبّكَ العالم، إنّما سيكون على الأقلّ السكون وهدوء البال... إنّما...»

 

«هناك الدموع. مِسكينة أنتِ يا أُمّي!... ألم تُطرَح عليكِ الأسئلة حول يوحنّا وسِنْتيخي؟»

 

«ومَن تُريده أن يَفعَل؟ مريم التي لحلفى تَعلَم وتَصمُت. حلفى بن سارة رأى يوحنّا سابقاً، وهو ليس فضوليّاً. إنّه يدعوه "التلميذ".»

 

«والآخرون؟»

 

«لا يأتيني أحد سوى مريم التي لحلفى. وبعض النساء مِن أجل عَمَل أو نصيحة. أمّا رجال الناصرة فلم يعد منهم مَن يجتاز عَتَبَة بيتي.»

 

«ولا حتّى يوسف وسمعان؟»

 

«... لا... سمعان يُرسِل لي الزيت والطحين والزيتون والحطب والبيض... كما لو أنّه يطلب العفو لعدم فهمه إيّاكَ، وكأنّه يتكلّم عَبْر هداياه. إلّا أنّه يعطيها لمريم أُمّه، ولا يأتي إلى هنا. فيما عدا ذلك، فلو كان أحد أتى، فإنّه لم يكن لِيَرى أحداً سِواي، ذلك أنّ يوحنّا وسِنْتيخي يَنسَحِبان حالما يُقرَع الباب...»

 

«حياة جِدُّ حزينة.»

 

«نعم. والصبيّ يُعاني منها قليلاً، رغم أنّ مريم تصطحبه معها عندما تمضي إلى السوق. إنّما الآن لن نكون حزانى، يا يسوعي، فأنتَ هنا!»

 

«أنا، هنا... هيّا بنا إلى النوم الآن. باركيني يا أُمّي، كما حينما كنتُ صغيراً.»

 

«باركني أنتَ، يا بنيّ، فأنا تلميذتكَ.»

 

يَتعانَقان... يُضيئان قنديلاً جديداً، ويَخرُجان لِيَمضِيا إلى النوم.