ج5 - ف4

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الأول

 

4- (يسوع يودّع التّلميذَين)

 

01 / 11 / 1945

 

على الطريق ذاتها، الوحيدة في ما تبقّى مِن البلدة التي تبدو مثل عشّ لنسر على قمّة جبل مُنعَزِل، يُعاوِدون الرحيل في الغد، والطقس ما يزال ماطراً بارداً يُعرقِل المسير. حتّى يوحنّا الذي مِن عين دور الذي نَزل مِن العربة، لأنّ الطريق المنحَدِر أخطر منه وهو صاعد، وإذا لم يكن الحمار بذاته في خطر، فإنّ وزن العربة الذي يدفع العربة في المنحدر يجعل الحيوان المسكين في وضع سيّئ للغاية. والذين يقودونها يَجِدون ذواتهم أيضاً في وضع سيّئ، فَهُم اليوم، لا يتوجّب عليهم التصبّب عرقاً بِسَبَب الدفع، بل إنّما ضبط المركبة التي قد تُسرِع مُسبّبة المآسي، أو على الأقلّ، خسارة الحمولة.

 

الطريق هي هكذا رهيبة حتّى ثِلثها الأخير قبل الوادي، ثمّ تتفرّع، أحد فروعها يتّجه صوب الغرب ويصبح عمليّاً أكثر ومستوياً. يتوقّفون للاستراحة ومسح العرق المتصبّب، وبطرس يكافئ الجحش الذي يَلهَث مرتعشاً ويحرك أذنيه محمحماً، بكلّ تأكيد وهو مُستَرسِل في تأمّل عميق حول ظرف الحمير المؤلم، وحول نزوات البشر الذين يختارون طرقاً معيّنة. أقلّه سمعان بن يونا الذي يولي هذه الاعتبارات اهتماماً، ولكي يُحسِّن مزاجه يُعلِّق له في عنقه كيساً ممتلئاً فولاً مصريّاً، وبينما يَهرس الحمار طعامه القاسي بمتعة ملؤها النَّهَم، يأكل الرجال أيضاً خبزاً وجبناً ويشربون الحليب الذي كان يملأ أباريقهم.

 

انتهوا مِن تناول الطعام، ولكنّ بطرس يريد تقديم الماء «لأنطوانه الذي يستحقّ التكريم أكثر مِن قيصر» حسب قوله، ويَمضي حاملاً دلواً، يأخذه معه على العربة، ليملأه مِن ماء سيل متوجّه صوب البحر.

 

«الآن يمكننا متابعة المسير... بل حتّى يمكننا أن نُهروِل، فأنا أظنّ أنّ بعد هذا المنحدر لا يبقى أمامنا سوى السهل... إنّما نحن، نحن لا يمكننا الهرولة. ومع ذلك سوف نمضي مسرعين. هيّا بنا، أنتِ أيّتها المرأة ويا يوحنّا اصعدا، ولنمضِ.»

 

«أَصعَد أنا كذلك، يا سمعان، وسأقود. وأنتم جميعاً اتبعونا..» يقول يسوع بعد أن صَعِد الاثنان.

 

«لماذا؟ هل تَشعُر بسوء؟ فإنّكَ شاحبّ جدّاً!...»

 

«كلّا، يا سمعان. أودُّ التحدّث إليهما بشكل خاصّ...» ويُشير إلى الاثنين اللَّذَين شَحبّا بدورهما، مُقدِّرين أنّ ساعة الوداع قد حانت.

 

«آه! حسناً. اصعد إذن ونحن نتبعكَ.»

 

يَجلس يسوع على الطاولة التي هي بمثابة المقعد للسائق ويقول: «تعال هنا إلى جانبي يا يوحنّا. وأنتِ، سِنْتيخي، اقتربي...»

 

يجلس يوحنّا إلى يسار السيّد وسِنْتيخي عند قدميه، على حافّة العربة تقريباً، ظهرها للطريق ووجهها إلى الأعلى صوب يسوع. بهذه الوضعية، جالسة على الكعبين المسترخيين كما لو أنّها تحمل أوزاناً مُنهِكة، اليدين على الركبتين مضمومتين بسبب الاهتزاز الذي يحرّكهما، والوجه مُتعَب، وعيناها الجميلتان السوداوان المائلتان إلى اللون البنفسجيّ، وكأنّ الدموع الكثيرة التي ذَرَفَتها تغشاهما، تحت ظلّ معطفها ووِشاحها المنسدلين إلى أسفل، تبدو وكأنّها وَرِعَة مُنعَزِلة.

 

ثمّ يوحنّا!... أظنُّ أنّه لو كان محكوماً عليه بالشنق الذي سينفّذ في نهاية الطريق لما كان بهذا الاضطراب.

 

يسير الحمار بطاعة وحَذَر بحيث لا يَجعَل يسوع في حاجة إلى مراقبة دقيقة. يَغتَنِم يسوع هذه الفرصة لِيُفلت العنان ويُمسِك بيد يوحنّا ويضع اليد الأخرى على رأس سِنْتيخي.

 

«وَلَديَّ، أشكركما على كلّ الفرح الذي منحتماني إيّاه. لقد كانت هذه السنة بالنسبة إليَّ مفروشة بزهور فَرَح، لأنّني تمكّنتُ مِن جني نفسيكما ووضعتُهُما أمام ناظريّ لحجب وحشيّة العالم عنّي، لتعطير الجوّ الذي أفسَدَتهُ خطيئة العالم، ولِتَسكُبا فيَّ العذوبة، لِتُثبّتاني في الرجاء بأنّ رسالتي ليست عديمة الجدوى. مارغزيام، أنتَ يا يوحنّاي، هرمست، أنتِ يا سِنْتيخي، ومريم أخت لعازر، واسكندر ميزاس، وآخرون أيضاً... زهور انتصار الـمُخلِّص، التي لا يعرف أن يُقيِّمها هكذا سوى القلوب المستقيمة... لماذا تهزّ رأسكَ يا يوحنّا؟»

 

«هذا لأنّكَ طيّب وتضعني بين القلوب المستقيمة، ولكنّ خطيئتي ماثلة في فكري على الدوام...»

 

«خطيئتكَ هي ثَمَرة جسد تمّ تحريضه مِن قبل شرّيرَين. استقامة قلبكَ، هي عمق الأنا النـزيهة فيكَ، التي ترغَب في الأشياء النـزيهة، وبائس أنتَ لأنّ هذه الأشياء قد انتُزِعَت منكَ بالموت أو بالخُبث، ولكنّك لم تكن أقلّ نشاطاً وأنتَ ترزح تحت كثافة ألم هائل. وقد اكتفيتَ بصوت الـمُخلِّص يتغلغل في الأعماق حيث كانت الأنا التي فيكَ خاملة، لِتَهُبَّ واقفاً، نافضاً عنكَ كلّ ثقل، لتأتي إليَّ. أليس هكذا؟ فأنتَ إذن قلب مستقيم. وأكثر استقامة كثيراً مِن آخرين لم يرتَكِبوا خطيئتكَ، إنّما فيهم ما هي أعظم، لأنّها عن سابق تفكير، وما تزال فاعلة فيهم بسبب عنادهم…

 

أنتم، إذن، أنتم زهور انتصاري كمُخلِّص، فلتكونوا مباركين. لقد مَثَّلتم الحبّ في عالم مُنغَلِق وعدائيّ، يَسقي المخلّص الـمُرّ والقَرَف. شكراً لكم! لقد احتفظتُ بكم حاضِرين في روحي لأحظى بالعزاء والدعم في الساعات الأكثر شقاء التي صادَفتَني هذا العام. وفي التي سوف تصادفني وبأكثر شقاء، سوف أحتفظ بكم أيضاً حاضرين أكثر في روحي. حتّى الموت. وستكونون معي إلى الأبد. أعدكم.

 

ها إنّي أعهد لكما بأعزّ مصالحي، أعني تحضير كنيستي في آسيا الصغرى، حيث لا يمكنني الذهاب، لأنّ ميدان رسالتي هنا في فلسطين، ولأنّ منطق عظماء إسرائيل الرجعيّ يَستَخدِم كلّ الوسائل للإساءة إليَّ إذا ما مضيتُ إلى مكان آخر. فهكذا أفعل في كلّ من البلاد الأخرى، إذا ما توفَّرَ لديَّ يوحنّا آخر وسِنْتيخي أخرى. وبهذا الشكل يَجِد رُسُلي الأرض جاهزة لِيَنثروا فيها البذور في الساعة التي ستأتي!

 

تمتّعا بالعذوبة والصبر، وفي الوقت ذاته كونا قويّين، لِتُدرِكا وتتحمّلا.سوف تَجِدان أرواحاً غليظة ومتهكِّمة. لا تحزنوا لهذا. فَكِّروا هكذا: "نأكل مِن الخبز ذاته الذي أَكَلَه ونشرب الكأس ذاتها التي شَرِبَها يسوعنا". ولستما أفضل مِن معلّمكما، ولا يمكنكما أن تتوقّعا مصيراً أفضل. هذا هو المصير الأفضل: مشاركة المعلّم مصيره.

 

أُعطيكُما أمراً واحداً فقط: ألّا تَهبُطا بنفسيكما، ألّا تترجما لنفسيكما هذا الابتعاد الذي ليس بنفي، كما يريد يوحنّا أن يَفهَمه، ولكنّه اقتراب مِن عَتَبَة الوطن قبل كلّ الآخرين، كخُدّام تمّ تكوينهم بشكل لم يسبقهم إليه أحد. لقد هَبَطَت السماء عليكما كوِشاح أُموميّ، ومَلِك السماوات يستقبلكما الآن على صدره، يحميكما تحت جناحيه، جناحي نور وحبّ، كأوّل مَن وُلِدَ في عائلة خُدّام الله التي لا حدود لها، خُدّام كلمة الله الذي، باسم الآب والروح الأزليّ، يبارككما مِن أجل هذه الساعة وعلى الدوام.

 

وَصَلّيا مِن أجلي، أنا ابن البشر الماضي إلى ملاقاة عذابات الفادي كلّها. آه! في الحقيقة، إنّ إنسانيّتي سوف تَسحَقها التجارب الأكثر مرارة!... صَلّوا مِن أجلي. سوف أكون في حاجة إلى صلواتكم... ستكون ملاطفات... سوف تكون شهادات حبّ... سوف تكون عَوناً لئلا يَصِل الأمر إلى القَول: "ليست الإنسانيّة سوى مِن الشيطان"...

 

الوداع يا يوحنّا! فلنتبادل قُبلَة الوداع... لا تبكِ هكذا... كنتُ احتفظتُ بكَ مقابل انتزاع قطعة مِن لحمي، لو لم أرَ في هذا الابتعاد كلّ الخير لكَ ولي. الخير الأبديّ…

 

وداعاً يا سِنْتيخي. نعم، قَبِّلي يديَّ، ولكن فَكِّري أنّه إذا كان اختلاف الجنس يمنعني مِن تقبيلكِ كأخت، فأنا أُقبِّل نفسكِ القُبلة الأخويّة…

 

وانتظراني بروحكما. سوف آتي. سوف تجدانني قريباً مِن أتعابكما وقريباً مِن نفسيكما. نعم، لأنّه لو كان حبّي للإنسان قد حجز طبيعتي الإلهيّة في جسد قابل للموت، فإنّه لم يستطع في تلك الأثناء أن يفرض حدوداً على حرّيتي. وأنا، كإله، حُرّ في أن أمضي إلى الذين يستحقّون أن يكون الله معهم. الوداع يا وَلَديَّ. الرب معكما...»

 

يتخلص يسوع مِن عناق يوحنّا المرتَعِش الذي يشدّ على كتفيه، وعناق سِنْتيخي التي تعلَّقَت بركبتيه، ويَقفِز مِن العربة بسرعة. يُلوِّح لِرُسُله بالوداع ويبتَعِد جَرياً، سالكاً الطريق الذي سلكوه سابقاً كغزال مُطارَد... ويقف الحمار الذي يحسّ بأنّ الأعنّة التي كانت على ركبتي يسوع قد أفلتت تماماً. ويتوقّف الرُّسُل الثمانية مشدوهين، وهم ينظرون إلى المعلّم الذي يبتعد باستمرار.

 

«كان يبكي...» يُتمتِم يوحنّا.

 

«وكان شاحبّاً كالميت...» يُتمتِم يعقوب بن حلفى.

 

«حتّى إنّه لم يأخذ حقيبته... ها هي على العربة...» يقول يعقوب الآخر.

 

«وماذا سيفعل الآن؟» يتساءل متّى.

 

ويُطلِق يعقوب بن حلفى العنان لإمكانيّات صوته القويّ كلّها لينادي: «يسوع! يسوع! يسوع!...» وصدى الروابي يجيب في البعيد: «يسوع! يسوع! يسوع!...» ولكنّ منعطفاً في الدرب غَيَّبَ المعلّم في خُضرَة أشجاره، دون أن يلتفت هو ليرى مَن الذي يُناديه…

 

«لقد مضى... ولم يبقَ أمامنا إلّا الرحيل، نحن كذلك...» يقول بطرس حزيناً وهو يَصعَد إلى العربة ويُمسِك بالأعنّة لِيُسيِّر الحمار.

 

وتبتعد العربة، وهي تصرّ، مع إيقاع الحوافر المثير للضجيج والبكاء الحزين للاثنين اللَّذَين قَبَعا في عُمق العربة وهما يئنّان: «لن نراه أبداً، أبداً، أبداً...»