ج4 - ف168
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الثاني
168- (مِن عين دور إلى مجدلا)
14 / 10 / 1945
ماء، ماء، ماء... والرُّسُل، غير الرّاضين كثيراً عن هذا المسير تحت المطر، يُلمِحون ليسوع أنّ مِن الأفضل أن يبيتوا في الناصرة غير البعيدة... ويقول بطرس: «بعدئذ يمكن الذهاب مِن هناك مع الصبيّ...»
«لا.» يسوع جازم لدرجة أنّ لا أحد يجرؤ على الإلحاح. يسوع في المقدّمة، وحده... والآخرون خلفه في مجموعتين، يَسيرون عابِسِين.
لَم يَعُد بطرس قادراً على المقاومة، فيقترب مِن يسوع: «يا معلّم، هل تريدني؟» يَسأَل وهو مقهور قليلاً.
«أنتَ عزيز على قلبي دائماً، يا سمعان. تعال.»
يعود السكون إلى بطرس. يُهروِل إلى جانب يسوع الذي، لطول ساقيه، يقطع مسافات طويلة بسهولة. بعد بُرهة، يقول: «يا معلّم... جميل أن يكون الصبيّ معنا في العيد...»
لا يُجيب يسوع.
«يا معلّم، لماذا لا تعمل على إرضائي؟»
«يا سمعان، إنّكَ تُعرّض نفسكَ لِخَطر نَزع الصبيّ منكَ.»
«لا! ربّي! لماذا؟» يُصيب بطرس الهَلَع مِن هذا الخطر، ويَحزَن.
«لأنّني لا أريد لأيّ شيء أن يُقيِّدكَ. قُلتُ لكَ ذلك عندما عَهدتُ إليكَ بمارغزيام. أمّا أنتَ، فعلى العكس، تغوص في هذه العاطفة.»
«الحبّ ليس خطيئة، وبالذات حبّ مارغزيام. فأنتَ كذلك تحبّه...»
«ولكنّ هذا الحبّ لا يمنعني مِن أن أَهِب ذاتي بكلّيّتها لرسالتي. ألا تتذكّر كلامي حول العواطف البشريّة؟ نصائحي، الواضحة لدرجة أنّها أَصبَحَت الآن أوامر، لِمَن يريد أن يضع يده على المحراث؟ هل بَدَأتَ تتعب، يا سمعان بن يونا، مِن أن تكون تلميذي بشكل بطوليّ؟»
يَخشَوشِن صوت بطرس بسبب الدموع عندما يُجيب: «لا، يا معلّم، إنّني أتذكّر كلّ شيء، ولم أتعب. إنّما لديَّ انطباع بأنّه العكس... أنّكَ أنتَ مَن تَعِب منّي، أنا سمعان المسكين الذي تَرَكَ كلّ شيء ليتبعكَ...»
«الذي وَجَدَ كلّ شيء باتّباعه إيّاي، هذا ما تريد قوله.»
«لا... نعم... يا معلّم... إنّني رجل مسكين، أنا...»
«أَعلَم ذلك. ولأجل هذا بالضبط أعتني بكَ. لكي أجعل مِن الرَّجُل المسكين رَجُلاً، ومِن هذا قدّيساً، يا رسولي، يا صخرتي. إنّني أقسو كي أجعلكَ صُلباً. لا أريدكَ أن تكون رَخواً كهذا الطين. أريدكَ صخرة منحوتة، كاملة: حجر أساس. ألا تُدرِك أنّ هذا مِن قبيل الحبّ؟ ألا تَذكُر الحكيم؟ فهو يقول إنّ مَن يُحبّ صارِم هو. ولكن افهمني! افهمني، أنتَ على الأقلّ! ألا ترى كم أنا مُنهَك وحزين بسبب الكثير مِن سوء الفهم، الكثير مِن الـمُوارَبات، الكثير مِن الافتقار إلى الحُبّ، وخيبات أمل أكثر وأكثر؟»
«أأنتَ...أأنتَ هكذا، يا معلّم؟ آه! يا للرحمة الإلهيّة! وأنا لم أكن ألاحظ ذلك! كم أنا حيوان كبير!... ولكن منذ متى؟ ولكن بسبب مَن؟ قُل لي...»
«عبثاً. لا يمكنكَ فِعل شيء. ولا حتّى أنا أستطيع...»
«أحقّاً لا يمكنني فعل شيء لأخفّف عنكَ؟»
«لقد قُلتُها لكَ: إدراك أنّ صرامتي هي مِن قبيل الحبّ. رؤية الحبّ في كلّ تصرّفاتي معكَ.»
«نعم، نعم، لن أقول المزيد، يا معلّمي الحبيب! لن أتكلّم. وأنتَ، سامحني أنا الحيوان الكبير. بَرهِن لي أنّكَ تسامحني...»
«البرهان! في الحقيقة ينبغي أن تكفيكَ كلمتي، ولكنّني أعطيكه. اسمع: لا يمكنني الذهاب إلى الناصرة، لأنّ يوحنّا الذي مِن عين دور وسِنْتيخي في الناصرة إضافة إلى مارغزيام. وينبغي ألّا يَعرِف أحد ذلك.»
«حتّى نحن؟ لماذا؟ آه! يا معلّم؟ يا معلّم؟! هل تشكّ في أحد منّا؟»
«الحيطة تُعلِّم أنّه إذا ما شاء المرء إبقاء أمر ما سرّاً، فكثير أن يَعلَم به اثنان. ذلك أنّه مِن الممكن أن تَحدُث الإساءة حتّى مِن خلال كلمة تُفلِت عن غير قصد. فلستم جميعكم تُحسِنون التفكير دوماً.»
«حقّاً... ولا أنا كذلك. ولكن حينما أريد، أعرف أن أحافظ على الصمت. والآن سوف أصمت. آه! نعم، سوف أصمت. ولا يكون اسمي سمعان بن يونا إن لم أعرف أن أصمت. شكراً لكَ، يا معلّم، لتقديركَ إيّاي. إنّه لبرهان عظيم على الحبّ. إذن أإلى تريشة نحن ماضون؟»
«نعم. مِن هنا إلى مجدلا بالـمَراكِب. عليَّ استبدال الجواهر بالذهب...»
«أنتَ ترى ما إذا كنتُ أعرف أن أصمت. لم أقل شيئاً مطلقاً ليهوذا، هل تَعلَم؟»
لا يُعلّق يسوع على المقاطعة. يُتابِع: «حالما أَحصَل على الذهب، أجعلكم جميعكم أحراراً حتّى غداة عيد الأنوار. وإذا ما أردتُ أحداً منكم، أُرسِل في طلبه إلى الناصرة. اليهود، عدا سمعان الغيور، سيرافقون أُختَيّ لعازر وخادماتهما بالإضافة إلى إليز التي مِن بيت صور إلى البيت في بيت عنيا. وبعد ذلك يمضون إلى بيوتهم مِن أجل عيد الأنوار. يكفيني أن يعودوا في نهاية العيد لمتابعة الرحلة. أنتَ وحدكَ مَن يَعرِف هذا، أليس كذلك يا سمعان بطرس؟»
«أنا فقط أعرفه. ولكنكَ... سوف تُضطرّ إلى قوله...»
«سوف أقوله في اللحظة المناسبة. أمّا الآن فامضِ إلى رفاقكَ وكُن متأكّداً مِن حبّي.»
يطيع بطرس بكلّ سرور، ويستغرق يسوع، مِن جديد، في تفكيره.
تتكسّر الأمواج على شاطئ مجدلا الصغير، عندما يرسو فيه الـمَركَبان، في نهاية فترة ما بعد الظهر ليوم مِن تشرين الثاني (نوفمبر). هي ليست أمواجاً قويّة، ولكنّها، مع ذلك، لا تَروق لِمَن هُم على الـمَراكِب، ذلك إنّها تتسبّب في بَلَل ثيابهم. ولكنّ فكرة التواجد قريباً في بيت مريم المجدليّة تجعلهم يتحمّلون هذا الحَمّام غير المرغوب فيه بدون تذمّر.
«ضَعوا الـمَراكِب في مكان آمن، ولننضمّ إلى بعضنا.» يقول يسوع للصبيان. ويَشرَع مباشرة بالسير على طول الشاطئ، إذ قد رسوا في حوض صغير خارج المدينة، حيث مَراكِب أُخرى لصيّادين مِن مجدلا.
«يهوذا بن سمعان ومتّى، تعاليا هنا معي.» يناديهما يسوع.
يَهرَع الاثنان.
«لقد قرّرتُ أن أعهد إليكما بمهمّة ثِقة، ستكون كذلك فَرَحاً. المهمّة هي مُرافَقَة أُختَيّ لعازر إلى بيت عنيا، ومعهما أليز. إنّني أُقدِّركما بما فيه الكفاية لأعهد إليكما بالتلميذات. وفي الوقت ذاته ستحملان رسالة منّي إلى لِعازر. ثمّ، بعد الانتهاء مِن المهمّة، ستمضيان إلى بيتيكما مِن أجل عيد الأنوار... لا تُقاطِعني، يا يهوذا، فجميعنا سنُمضي عيد الأنوار في بيوتنا، هذا العام. إنّه شتاء ماطر جدّاً ويعيق السفر. تَرَون كذلك أنّ المرضى قليلون. سنغتنم الفرصة إذن لنأخذ قسطاً مِن الراحة ونُفرِح عائلاتنا. أنتظركم في كفرناحوم في نهاية العيد.»
«ولكن هل ستبقى أنتَ في كفرناحوم؟» يَسأَل توما.
«لستُ متأكّداً بعد أين سأبقى. هنا أو هناك سِيّان، بالنسبة إليَّ. يكفيني أن تكون أُمّي قريبة منّي.»
«أُفضِّل الاحتفال بعيد الأنوار معكَ.» يقول الاسخريوطيّ.
«أُصدِّق ذلك. ولكن، إن أردتَ مَرضاتي فأَطِع. عليكَ أن تساعدني قدر ما يمكن لطاعتكَ أن تؤمّن إمكانيّة مساعدة التلاميذ العائدين وهُم مُشتَّتون هنا وهناك! ضمن العائلات، الأبناء البِكر يُساعِدون الأهل في تنشئة الإخوة الأصغر. وأنتم الأبناء البِكر بالنسبة إلى التلاميذ الذين هُم إخوتكم الأصغر، وينبغي لكم أن تكونوا سعداء لثقتي بكم. وهذا يؤكّد مدى سروري مِن عملكم السابق.»
يقول توما بكلّ بساطة: «إنّكَ طيّب للغاية، يا معلّم. أمّا بالنسبة إليَّ، فإنّني سوف أعمل بشكل أفضل. لا يروق لي أن أترككَ... ولكنّ ذلك سوف يمرّ بسرعة... وسيَفرَح والدي العجوز برؤيتي أثناء العيد... وكذلك أخواتي... وأُختي التوأم!... قد تكون رُزِقَت، أو على وشك أن تُرزَق بِوَلَد... ابن أختي الأوّل... إذا كان صبياًّ، وإذا وُلِدَ وأنا هنا، فأيّ اسم سأُطلِق عليه؟»
«يوسف.»
«وإذا كانت بنتاً؟»
«مريم. فما مِن اسم أعذب منه.»
ولكنّ يهوذا، الفَخور بالمهمّة، أَصبَحَ يَختال ويُخطّط لمشاريع ومشاريع... ونَسِيَ تماماً أنّه كان يبتعد عن يسوع، وأنّه منذ وقت قريب، في حوالي عيد المظالّ، إذا لم تخنّي الذاكرة، كان قد تأفَّفَ وتبرَّمَ مِثل مُهر برّيّ مِن أمر الافتراق عن يسوع لبعض الوقت. ويختفي عنه تماماً الشكّ الذي بدا عليه في السابق بأنّ رغبة لدى يسوع في إبعاده. ينسى كلّ شيء... وهو سعيد لكونه اعتُبِرَ مِن الذين يمكن الاعتماد عليهم في المهامّ الدقيقة. ويَقطَع وعداً: «سوف أجلب لكَ الكثير مِن المال للفقراء.» ويُخرِج كيسه ويقول: «هاك، خُذ. هذا كلّ ما لدينا، ولا أملك أكثر. أعطني المؤونة لسفرنا مِن بيت عنيا إلى البيت.»
«ولكن، لن نمضي هذا المساء.» يعترض توما.
«لا يهمّ. لا حاجة إلى المال في بيت مريم، وإذن... لحسن الحظّ أن لم يعد لدينا ما نتعاطى به... ولدى عودتي، سوف أجلب لأُمّكَ بُذور وَرد. سأجعل أُمّي تعطيني إيّاها. أريد جلب هديّة كذلك لمارغزيام...» إنّه متحمّس.
يَنظُر إليه يسوع.
إنّهم الآن في بيت مريم المجدليّة. يُعرِّفون عن أنفسهم ويَدخُلون جميعاً. تَهرَع النساء لملاقاة المعلّم القادم للمبيت في بيتهنّ…
بعد العشاء، وبعد انصراف الرُّسُل، يَنقُل يسوع إلى النساء التلميذات الجالسات على شكل دائرة في إحدى القاعات، وهو في وسطهنّ، رغبته في أن ينصرفن في أقرب وقت. لم تحتجّ واحدة منهنّ، على عكس الرُّسُل. يَحنين رؤوسهن للتعبير عن موافقتهنّ، ثمّ يخرجن لتحضير حقائبهنّ. ولكنّ يسوع ينادي مريم المجدليّة التي ما تزال عند العَتَبَة.
«حسناً، يا مريم، لماذا همستِ لي، لدى وصولي: "عليَّ التحدّث إليكَ سرّاً"؟»
«يا معلّم، لقد بعتُ الأحجار الثمينة. في طبريّا. إنّ مارسيل هي التي باعتها بمساعدة إسحاق. لديَّ المبلغ في غرفتي. ولقد وددت ألّا يَرَى يهوذا شيئاً...» وتَحمرّ بشدّة.
يُمعِن يسوع النَّظر إليها، ولكنّه لا يَنبَس ببنت شفة.
تَخرُج مريم المجدليّة، لتعود ثانية، ومعها كيس نقود ثقيل تعطيه ليسوع قائلة: «ها هو. لقد دُفِع ثمنها بشكل جيّد.»
«شكراً لكِ، يا مريم.»
«الشكر لكَ، يا سيّدي، لأنّكَ طلبتَ منّي هذه الخدمة. هل مِن شيء آخر تطلبه منّي؟...»
«لا، يا مريم. وأنتِ هل لديكِ شيء آخر تقولينه لي؟»
«لا، يا ربّ. باركني يا معلّمي.»
«نعم، أبارككِ... يا مريم... هل أنتِ مسرورة في العودة إلى لعازر؟ فَكِّري في أنّني لم أعد في فلسطين. هل تعودين إلى البيت إذن، عن طيب خاطر؟»
«نعم، يا ربّ. ولكن...»
«أَكمِلي يا مريم. لا تخافي مِن الإفصاح لي عمّا يَجول في فِكركِ.»
«ولكنّني أعود برضى أكبر لو استبدلتَ يهوذا الاسخريوطيّ بسمعان الغيور، وهو صديق عظيم لعائلتنا.»
«إنّني أحتاجه في رسالة مهمّة.»
«فليكن أحد إخوتكَ إذن، أو يوحنّا صاحب قلب الحمامة. أيّاً كان منهم، ما عداه... يا ربّ، لا تَنظُر إليَّ بِصَرامة... مَن ذاق الفجور يحس باقترابه... أنا لا أخشاه. وبإمكاني أن أكون مع مَن هو أكثر مِن يهوذا. جُلّ ما أخشاه هو ألّا أنال المغفرة، فهذه هي الأنا فيَّ، وهذا هو الشيطان الذي يحوم حولي، وهذا هو العالم... ولكن إذا كانت مريم ثيوفيلوس لا تخشى أحداً، فإنّ مريم يسوع تشمئزّ مِن الرذيلة التي كانت قد أذلَّتها، والـ... يا ربّ... إنّني أشمئزّ مِن الرجل الذي يستسلم للشهوات...»
«لستِ وحدكِ في السفر، يا مريم. ومعكِ، أكون أكيداً أنّه لن يُعاود الرّجوع... تذكّري أنّ عليَّ أن أجعل سِنْتيخي ويوحنّا يَرحَلان إلى أنطاكية، وأنّه يجب ألّا يَعلَم بالأمر إنسان متهوّر...»
«صحيح. إذن سأذهب... يا معلّم، متى نلتقي ثانية؟»
«لستُ أدري، يا مريم. قد يكون ذلك في الفصح فقط. اذهبي بسلام الآن. أبارككِ هذا المساء وكلّ مساء، ومعكِ أختكِ ولعازر الصالح.»
وتنحني مريم لتقبيل قدميّ يسوع، وتَخرُج تاركة يسوع وحيداً في الغرفة الساكنة.