ج6 - ف128

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الثاني

 

128- (قبل أن أكون أُمّاً، أنا ابنة الله وأَمَته)

 

14 / 05 / 1946

 

ويستمر السّبت. إنّه سبت حقيقيّ.

 

إنّه لأمر ممتع الجلوس معاً بسلام أخويّ، في روعة الصباح، في حين ما يزال الهواء منعشاً وبارداً، تحت العريشة الظليلة، أو حيث شجرة التفّاح، قريباً مِن شجرتي التين واللوز، التي تُشكّل معهما مساحات مِن الظلّ تُطيل ظلّ العريشة حيث العنب الآخذ بالنضوج عليها. وأيضاً ممتع التجوّل في الممرات بين أحواض الزهور قادِمِين مِن قفير النحل وماضيين نحو برج الحَمْام، ومِن ثمّ إلى المغارة الصغيرة، مروراً خلف النسوة: مريم، مريم التي لحلفى وكنّتها سالومة التي لسمعان، أوريا، والمضيّ باتّجاه تجمّع أشجار الزيتون، التي تنحني مِن المنحدر صوب البستان الساكن.

 

وهذا ما يفعله يسوع ورُسُله ومريم والنسوة الأخريات، ويسوع يُعلّم بتلقائيّة، وكذلك تفعل مريم. وتلاميذ يسوع وتلميذات مريم يُنصتون بانتباه إلى كلام معلِّمَيهِما.

 

أوريا، الجالسة على مقعدها المعتاد عند قدميّ مريم، الجاثية تقريباً، تسند ركبتيها بيديها المتشابكتين، وجهها مرفوع، وعيناها الجاحظتان تحدّقان بوجه مريم. إنّها تبدو كطفلة صغيرة تُنصت إلى أسطورة مدهشة. ولكنّها ليست أسطورة. إنّها حقيقة جميلة. فمريم تقصّ على وثنيّة الأمس الصغيرة قصص إسرائيل القديمة، والنسوة الأخريات، ومع أنّهنّ يعرفنها جيّداً، فهنّ ينصتن بانتباه. فإنّه لأمر مبهج سماع قصّة راحيل، قصّة ابنة يفتاح، قصة حنّة التي لإلقانة، وهي تَخرُج مِن بين شفتيها!

 

يوضاس بن حلفى يقترب على مهل ويستمع باسماً. إنّه خلف مريم وبالتالي فهي لا تراه. لكنّ النَّظرَة الباسمة لمريم التي لحلفى لمحبوبها يوضاس تكشف لمريم أنّ هناك شخصاً ما خلفها فتلتفت: «آه! يوضاس؟ هل تركتَ يسوع لتستمع إليَّ، أنا المرأة البسيطة؟»

 

«نعم. وإن كنتُ قد تركتكِ كي أذهب إلى يسوع، إنّما أنتِ معلّمتي الأولى، وإنّه لَمِن المفرح لي أن أتركه وآتي إليكِ، وأن أعود طفلاً مجدّداً كما حين كنتُ تلميذكَ. تابعي، أرجوكِ...»

 

«أوريا تريد مكافأتها كلّ سبت. والمكافأة هي أن أروي لها بشكل مفصّل مِن أكثر ما أثّر بها مِن القليل الذي أشرحه لها كلّ يوم عن تاريخنا بينما نكون نعمل.»

 

الآخرون قد اقتربوا أيضاً... يَسأَل تدّاوس: «وما الذي يعجبكِ أيّتها الفتاة؟»

 

«الكثير مِن الأمور، يمكنني أن أقول كلّها... إنّما تعجبني كثيراً راحيل وحنّة التي لإلقانة، ثمّ راعوث... ثمّ... آه! جميل جدّاً! طوبيت وطوبيا مع الملاك، ومِن ثمّ العروس التي تصلّي كي تُخلَّص...»

 

«وموسى، لا؟»

 

«إنّه يخيفني... إنّه جليل جدّاً... ومِن الأنبياء يعجبني دانيال الذي دافع عن سُوسَنّة.» تنظر حولها ثمّ تهمس: «أنا أيضاً قد دافع عنّي دانيالي» وتنظر إلى يسوع.

 

«إنّما أسفار موسى هي أيضاً جميلة!»

 

«نعم. حيث تُعَلِّم عدم فِعل ما هو سيّئ. وحيث تتحدّث عن تلك النجمة التي سوف تُولَد مِن يعقوب. إنّني أعرف اسمها الآن. لم أكن أعلم شيئاً قبلاً. وأنا محظوظة أكثر مِن ذاك النبيّ لأنّني أستطيع أن أراها، وعن قرب. هي أخبرتني بكلّ شيء، وها أنا ذا أعلم» تختم بنبرة انتصار.

 

«ألا يعجبكِ الفصح أيضاً؟»

 

«بلى... إنّما... أيضاً أبناء المخلوقات الأخرى هُم أيضاً أبناء لأُمّهات. فلماذا قتلهم؟ إنّني أُفضّل الله الذي يُخلّص على الله الذي يَقتُل...»

 

«معكِ حقّ... مريم، ألم تروِ لها أيّ شيء عن ولادته بعد؟» يَسأَل يعقوب مشيراً إلى الربّ الذي يُنصِت بصمت.

 

«ليس بعد. أريدها أن تعرف الماضي جيّداً قبل الحاضر. فهي هكذا سوف تفهم الحاضر الذي له علّة وجوده في الماضي. وعندما تعرفه، فإنّها سوف تدرك أنّ الله الذي يخيفها، إله سيناء، ليس سوى إله حبّ صارم، إنّما الذي هو دوماً إله محبّة.»

 

«آه! أُمّاه! أخبريني الآن! فسوف يكون أقلّ صعوبة عليَّ أن أفهم الماضي عندما أعرف الحاضر، والذي، على حدّ علمي، هو جميل جدّاً ويجعل المرء يحبّ الله دونما خوف. فأنا بحاجة إلى عدم الشعور بالخوف!»

 

«الفتاة على حقّ. يتوجّب عليكم تذكُّر هذه الحقيقة عندما سوف تُبشِّرون بالإنجيل. فالنُّفوس بحاجة إلى عدم الخوف كيما تمضي إلى الله بثقة مطلقة. وهذا ما أسعى إلى فِعله، وخصوصاً عندما الناس، عن جهل أو عن خطأ، ينزعون أكثر إلى الخوف مِن الله. ولكنّ الله، حتّى الذي ضَرَبَ المصريّين، والذي يخيفكِ يا أوريا، هو دوماً صالح. وخذي بعين الاعتبار: أنّه عندما ضرب المصريّين القساة، فقد كان رحيماً مع أولئك الأبناء، الذين لم يكبروا ولم يصبحوا خطأة مثل آبائهم، وأعطى أهلهم الوقت كي يتوبوا عن أفعالهم الشرّيرة. إذن فقد كان صلاحاً قاسياً. وينبغي التفريق بين الصلاح الحقيقيّ والتراخي في التربية. أيضاً عندما كنتُ أنا طفلاً صغيراً، فقد قُتِل العديد مِن الأطفال في أحضان أمّهاتهم. والعالم بكى برعب. ولكن عندما ينتهي الزمن بالنسبة لأفراد أو لكلّ البشر، فسوف تُدرِكون للمرّة الأولى وللمرة الثانية بأنّهم كانوا محظوظين، مباركين في إسرائيل، في إسرائيل زمان المسيح، الذين وقد قضوا في طفولتهم، فإنّهم قد حُفِظوا مِن الخطيئة الأعظم، خطيئة أن يكونوا شركاء في موت المخلّص.»

 

«يسوع!» تصيح مريم التي لحلفى فيما تهبّ واقفة، مذعورة، تتلفّت حولها كما لو أنّها خائفة مِن أن تَرَى قتلة الله يَظهَرون مِن خلف الأسيجة وجذوع الأشجار. «يسوع!» تكرّر ناظرة إلى يسوع بتألّم.

 

«ماذا؟ ألعلّكِ لا تعرفين الكُتُب المقدّسة كي تتفاجئي إلى هذا الحدّ ممّا أقول؟» يَسأَل يسوع.

 

«لكن... لكن... إنّه غير ممكن... يجب ألّا تسمح بذلك... أُمّكَ...»

 

«إنّها كما الـمُخلِّص، وهي تَعلَم، انظري إليها واقتدي بها.»

 

إنّ مريم رصينة بالفعل، مَلَكيّة في شحوبها الغامض. إنّها لا تُظهِر أيّة مشاعر، يداها متشابكتان في حضنها كما للصلاة، رأسها مرفوع، تنظر إلى الفراغ…

 

مريم التي لحلفى تنظر إليها. ثمّ تُخاطب يسوع ثانية: «على الرغم مِن ذلك، فيجب ألّا تَذكُر هذا المستقبل الرهيب! إنّكَ تطعن قلبها بسيف.»

 

«إنّ ذاك السيف هو في قلبها منذ اثنين وثلاثين عاماً.»

 

«لا! هذا غير ممكن! مريم... الهادئة دوماً... مريم...»

 

«اسأليها، إن كنتِ لا تصدّقين ما أقول.»

 

«سوف أسألها! هل هذا صحيح يا مريم؟ أنتِ تعلمين؟...»

 

وبصوت لطيف إنّما حازم تقول مريم: «هذا صحيح. كان عمره أربعين يوماً، وقد أخبرني بذلك شخص قدّيس... إنّما حتّى قبل ذلك... آه! عندما أخبرني الملاك أنّه مع بقائي عذراء، فسوف أَحبَل بابن، والذي سوف يُدعى ابن الله، وهذا بفعل أصله الإلهيّ، وعندما قيل لي هذا، وعندما تَكوَّنَت في الرحم العقيم لأليصابات ثمرة بمعجزة مِن الآب الأزليّ، فلم يكن صعباً عليَّ تذكّر كلمات إشَعياء: "ها العذراء تحبل وتلد ابناً ويُدعى اسمه عمّانوئيل"... إنّ إشَعياء، كلّ إشَعياء! كتاباته عن السابق... كتاباته عن رجل الأوجاع... الملطّخ بالدماء، المنبوذ... الأبرص... مِن أجل خطايانا... مِن وقتها والسيف في قلبي، وكلّ شيء ساهَمَ في غرزه أعمق فأعمق: نشيد الملائكة، كلمات سمعان، وزيارة ملوك الشرق (المجوس)، وكلّ الأمور الأخرى...»

 

«إنّما أيّ مِن كلّ الأمور الأخرى يا مريم؟ فيسوع أيضاً ينتصر، يسوع يَجتَرِح المعجزات، والجموع التي تتبع يسوع تصبح أكثر فأكثر عدداً... أليست تلك الحقيقة؟» تقول مريم التي لحلفى.

 

ومريم، مع محافظتها على تماسكها، فإنّها تُجيب على كلّ سؤال بـ: «نعم...» دونما حزن، دونما فرح، فقط برضوخ هادئ، لأنّ تلك هي الحقيقة…

 

«فإذن؟ أيّ مِن كلّ الأمور الأخرى تطعن قلبكِ بسيف؟»

 

«آه!... كلّها...»

 

«وأنتِ بهذا الهدوء؟ بهذا الصفاء؟ إنّكِ هكذا منذ أن وصلتِ إلى هنا، عروساً شابّة، منذ ثلاثة وثلاثين عاماً. وأذكر ذلك جيّداً بحيث يبدو لي كما لو أنّه حَدَثَ البارحة... إنّما كيف يمكنكِ؟ أنا كنتُ لأجنّ... أنا لكنتُ... لا أعرف ما الذي كان يمكن أن أفعله... أنا لا! يستحيل على أُمّ أن تعرف ذلك وتبقى هادئة!»

 

«قبل أن أكون أُمّاً، أنا ابنة الله وخادمته... أين أجد راحتي؟ بإتمام مشيئة الله. مِن أين يأتي صفائي؟ مِن إتمام تلك المشيئة. إذا ما كان عليَّ إتمام مشيئة إنسان، لكنتُ قد شعرتُ بالاضطراب، لأنّ إنساناً، حتّى الأكثر حكمة، يمكنه أن يفرض مشيئة خاطئة. إنّما مشيئة الله! وفيما إذا أرادني أن أكون أُمّ مسيحه، فهل عليَّ يا ترى أن أُفكّر بأنّ تلك قسوة، وأن أفقد بالتالي صفائي بفعل تفكيري بتلك الطريقة؟ هل عليَّ أن أكون غاضبة بالتفكير بما سيكونه الفِداء بالنسبة له وأيضاً بالنسبة لي، وبالتفكير بما سأفعل كي أتخطّى تلك الساعة؟ آه! سوف تكون رهيبة...» مريم ترتجف فجأة بشكل لا إراديّ، إنّها تُطبِق يديها لمنعهما مِن الارتجاف، كما لو أنّها تريد أن تصلّي بحرارة أكثر، فيما يغدو وجهها أكثر شحوباً، وجفناها الرقيقان ينغلقان على عينيها اللطيفتين اللتين بلون زرقة السماء، بتعبير ملؤه القلق. وبعد تنهيدة قلق عميقة، فهي تختَتِم بصوت متماسك: «إنّما هو، الذي فَرَضَ مشيئته عليَّ، والذي أخدمه بمحبّة واثقة، سوف يمنحني عونه في تلك الساعة. سوف يمنحه لي، له... لأنّ الآب لا يفرض مشيئة تفوق قدرة الإنسان... وهو يُنجِد... دوماً... وسوف ينجدنا يا بنيّ... هو سوف ينجدنا... ولن يكون هناك إلّا هو، بقدراته اللامتناهية، مَن يستطيع نجدتنا...»

 

«نعم يا أُمّي، المحبّة سوف تُنجدنا، وبالمحبّة سوف نُنجد بعضنا البعض. وبالمحبّة سوف نُخلِّص...» يسوع يذهب إلى جانب أُمّه ويضع يده على كتفها، وهي ترفع رأسها كي تَنظُر إليه، كي تنظر إلى يسوعها الوسيم والمعافى، المعدّ كي يشوّهه التعذيب، الذي سيُقتَل بفعل ألف مِن الجروح، وتقول: «في المحبّة وفي الألم، نعم. ومعاً...»

 

ما عاد أحد يتكلّم مجدّداً، إنّهم يتجمّعون حول الشخصيّتين الرئيسيّتين لفاجعة الجلجلة المستقبليّة، والرُّسُل والنّسوة التلميذات يبدون كما تماثيل متأمِّلة…

 

أوريا، متسمّرة على مقعدها... لكنّها الأولى التي تتمالك نفسها، وتنزلق على ركبتيها مِن دون أن تَنهَض، وهكذا تجد نفسها بمواجهة مريم. إنّها تحتضن ركبتيها وتضع رأسها على حضنها قائلة: «كلّ ذلك مِن أجلي أنا أيضاً!... كم سأُكلّفكما، وكم أُحبّكما مقابل تلك التكلفة! آه! يا أُمّ إلهي، باركيني، كي لا تبقى تكلفتي بلا ثَمَر...»

 

«نعم يا ابنتي. لا تخافي. الله سوف يساعدكِ أنتِ أيضاً، إذا ما رضيتِ بمشيئته دوماً.» وتُداعِب شعرها وخدّيها وتُدرك بأنّهما مبلّلان بالدموع. «لا تبكي! وعلى اعتبار أنّ أوّل شيء عرفتِه عن المسيح هو مصيره المؤلم، نهاية رسالته كإنسان. فليس مِن العدل، وقد عرفتِ ذلك المصير، ألّا تعرفي الساعة الأولى مِن حياته في العالم. اسمعي... أيضاً الكلّ سوف يكونون مسرورين للخروج مِن التأمُّل المرّ والقاتم بتذكّر الساعة العذبة لميلاده، المليئة بالنور، بالأناشيد، بالأوشعنا، اسمعي...» وبصوت لطيف وناعم، تشرح مريم سبب رحلتها إلى بيت لحم في قضاء يهوذا، المدينة المتنبّأ بها لتكون مكان ولادة المخلّص، وتروي قصّة ليلة ميلاد المسيح.