ج7 - ف197
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الأول
197- (الظلمات لا تريد النور)
23 / 09 / 1946
صباح خريفيّ جميل. وباستثناء الأوراق الصفراء-الحمراء الّتي تغطّي الأرض وتذكّر بالفصل، فالعشب أخضر جدّاً، مع بعض زهور تفتّحت على كُتل عشبيّة قد عادت للحياة مِن جديد بفعل أمطار تشرين الأوّل (أكتوبر)، ورائق للغاية هو الهواء الّذي يسري بين الأغصان المعرّاة جزئيّاً، ممّا يحمل على التفكير ببداية ربيعٍ، سيّما وأنّ الأشجار الدائمة الخضرة، الّتي تتداخل مع تلك ذات الأوراق الموسميّة، تعطي علامات فرح بأوراقها الزمرّديّة الجديدة، الّتي نبتت عند نهايات الأغصان، قريباً مِن الأغصان العارية للأشجار الأخرى، وهكذا تبدو بأنّها تُنبِت وريقاتها الأولى. النّعاج تخرج مِن حظائرها وتنطلق ثاغيةً مع حِملان الولادات الخريفيّة صوب المراعي. ماء نبع عند أوّل البلدة، يلمع كما ماسٍ سائل في الشمس الّتي تقبّله، وفيما يعاود السقوط في حوض داكن، يُحدِث بريقاً متعدّد الألوان على منزل صغير قد اسودّت جدرانه بفعل الزمن.
يسوع يجلس على جدار صغير يحدّ الدرب مِن جهة، وينتظر. إنّ جماعته يحيطون به وكذلك سكّان البلدة، بينما الرّعاة، الّذين تجبرهم قطعانهم على عدم الابتعاد كثيراً، وبدل الصعود إلى أعلى، ينتشرون على جانبيّ الطريق عند السهل.
حاليّاً لا أحد يأتي مِن الطريق الّتي تصعد مِن الوادي إلى جبل نيبو.
«هل سيأتي؟» يَسأَل الرُّسُل.
«سيأتي. ونحن سوف ننتظره. لا أريد أن أخيّب رجاء يتكوّن وأُدمّر إيماناً مستقبليّاً» يجيب يسوع.
«ألستم مرتاحين بيننا؟ لقد قدّمنا أفضل ما لدينا» يقول مُسِنّ يتدفّأ في الشمس.
«أفضل مِن أيّ مكان آخر، أيّها الأب. وسوف يُكافئ الله إحسانكم» يجيبه يسوع.
«إذن حدّثنا بعد. إلى هنا يأتي في بعض الأحيان فرّيسيّون مندفعون وكَتَبَة متكبّرون. إنّما ليس لديهم ما يتحدّثون به إلينا. وهذا عدل. يترفّعون على… كلّ شيء، وهم المنعزلون والحكماء. نحن... إنّما نحن إذاً ألا يجدر بنا أن نعرف شيئاً، لأنّ القَدَر قد جعلنا نولد هنا؟»
«في منزل أبي لا توجد انعزالات ولا اختلافات لِمَن يتوصّلون إلى الإيمان به وإلى تطبيق شريعته الّتي هي رمز لمشيئته، طالما يحيا الإنسان ببرّ كي ينال مكافأة أبديّة في ملكوته.
اسمعوا. كان لأب عدّة أبناء. البعض عاشوا دوماً على اتّصال وثيق به، آخرون، لأسباب مختلفة، كانوا نسبياً أكثر بُعداً عن أبيهم. إنّما مع ذلك، ولعلمهم بالرغبات الأبويّة، رغم بُعدهم عنه، كانوا يجيدون التصرّف كما لو كان حاضراً. آخرون أيضاً، كانوا أكثر بُعداً بعد، ومنذ اليوم الأوّل لولادتهم، وقد ترعرعوا وسط خُدّام يتكلّمون لغات أخرى ولديهم عادات أخرى، فقد كانوا يَجهدون لخدمة الأب، بحسب القليل، الّذي، عن حدس أكثر منه عن معرفة، عرفوا أن يكونوا مُحبَّبين لأبيهم. ذات يوم، الأب الّذي لم يكن يجهل كيف أنّ خُدّامه، رغم أوامره، قد امتنعوا عن جعل أفكار الأب معروفة لأولئك البعيدين، لأنّ الخدّام بكبريائهم كانوا يعتبرونهم أقلّ شأناً وغير محبوبين، فقط لكونهم لم يكونوا يسكنون مع الأب، وقد أراد لمّ شمل كلّ ذريّته. ودعاهم إليه. والحال هذه، أتعتقدون أنّه كان ليحكمَ وفق منظور قانون بشريّ، مانحاً حقّ حيازة أملاكه فقط لأولئك الّذين كانوا دوماً في منزله، أو أولئك البعيدين قليلاً بحيث لا يمتنع عليهم معرفة أوامره ورغباته؟ هو، على العكس، اتّبع مفهوماً في الحُكم مغايراً تماماً. بمراقبته أفعال مَن كانوا مستقيمين محبّة بالأب، الّذي كانوا قد عرفوه فقط بالاسم، والّذي كرّموه بكلّ أفعالهم، فقد دعاهم إلى جانبه ليقول لهم: "استحقاقكم مضاعف لكونكم صالحين، كونكم كذلك فقط بإرادتكم الذاتيّة ودونما عَون. تعالوا وأحيطوا بي. لديكم تمام الحقّ بذلك! إنّ الأوائل قد حظوا بي على الدوام، وكلّ أفعالهم كانت مضبوطة بنصائحي وتُكافأ بابتسامتي. أنتم كان عليكم أن تتصرّفوا فقط بدافع إيمان ومحبّة. تعالوا. حيث في منزلي مكانكم مُعدّ، وهو مُعدّ منذ زمن طويل، وفي نَظَري لا يشكّل فرقاً كونكم كنتم دوماً مِن المنزل أو كونكم كنتم بعيدين، إنّما تشكّل فرقاً الأفعال الّتي، سواء قريبين أو بعيدين عنّي، قد عملها أبنائي."
هذا هو الـمَثَل. وتفسيره هو هذا: الكَتَبَة والفرّيسيّون، الّذين يعيشون حول الهيكل، يمكن ألّا يكونوا في اليوم الأزليّ في بيت الله، وكُثُر، وهم بعيدون جدّاً بحيث لا يعرفون أمور الله إلّا على نحو مقتضب، يمكنهم أن يكونوا آنذاك في حضنه. ذلك أنّ ما يمنح الملكوت هو إرادة الإنسان الّتي تجنح إلى طاعة الله، لا إلى تراكم الممارسات والمعرفة.
افعلوا إذاً ما شرحتُه لكم أمس. افعلوه مِن دون الخوف الزائد الذي يشلّ، افعلوه دون حساب أنّكم بذلك تتجنّبون العقاب. وبالتالي افعلوه فقط لأجل محبّة الله، الّذي خلقكم كي يحبّكم ويكون محبوباً مِن قِبَلكم. وسوف يكون لكم مكان في البيت الأبويّ.
«آه! حدّثنا بعد!»
«ما الّذي ينبغي لي أن أقوله لكم؟»
«بالأمس كنتَ تقول إنّ هناك تضحيات أكثر إرضاءً لله مِن ذبائح الحِملان والكباش، وأيضاً إنّ هناك بَرَصاً معيباً أكثر مِن بَرَص الجسد. إنّني لم أفهم جيّداً فكرتكَ» يقول أحد الرّعاة ويختم: «قبل أن يبلغ حَمَل العام، ويكون الأجمل في القطيع، بدون شوائب وعيوب، أتعلم كم مِن تضحيات ينبغي بذلها، وكم مِن مرّة ينبغي التغلّب على التجربة لجعله خروف القطيع أو بيعه لما هو عليه؟ الآن، إذا ما قاومنا خلال عام كلّ تجربة، وإذا ما اعتنينا به وأصبحنا مولعين به، هو لؤلؤة القطيع، أتعلم كم هي عظيمة التضحية لتقديمه قرباناً دونما كَسْب وبألم؟ هل يمكن أن يكون هناك تضحية أعظم تُقَدَّم للربّ؟»
«يا رجل، الحقّ أقول لكَ بأنّ التضحية لا تكمن في الحيوان المضحّى به، إنّما بالمجهود الّذي بذلتَه كي تحفظه لتقديمه كقربان. الحقّ أقول لكم بأنّه سوف يأتي اليوم الّذي، كما يقول الكلام الموحى به، فيه سيقول الرب: "لا حاجة لي بأضحية حِملان وكِباش"، ويطلب تضحية وحيدة وكاملة. ومذّاك كلّ تضحية ستكون روحانيّة. إنّما قد قيل بالفعل منذ عقود أيّة تضحية يبتغيها الربّ. إنّ دواد يصرخ باكياً: "لو كنتَ ترغب بذبيحة، لكنتُ قدّمتُها لكَ، إنّما المحرقات لا تُسِرّك. التضحية لله هي الأرواح التائبة (وأنا أُضيف: الطائعة والـمُحِبّة، لأنّه يمكن تقديم تضحية تسبيح، فرح ومحبّة، لا فقط تضحية تكفير). التضحية لله هي روح منسحق، القلب المنكسر والمتواضع، أنتَ، يا الله، لا تزدريه" [مزمور51: 16-17] لا، إنّ أباكم لا يزدري حتّى القلب الّذي أخطأ وتَواضَع. فكيف، إذاً، سيكون تقبّله لتضحية القلب النقيّ، البارّ، الّذي يحبّه؟ هذه هي التضحية الأكثر مَرضاة. التضحية اليوميّة بالمشيئة البشريّة للمشيئة الإلهيّة، كما تتبدّى لكم في الشريعة، في الإلهامات والأحداث اليوميّة. وكذلك، فليس بَرَص الجسد هو الأكثر خزياً وإقصاءً عن نظر الناس وأماكن الصلاة، إنّما هو بَرَص الخطيئة. صحيح أنّه غالباً ما يمرّ ولا ينتبه إليه البشر. إنّما هل تعيشون للبشر أم للربّ؟ هل كلّ شيء ينتهي هنا، أم يستمرّ في الحياة الأخرى؟ إنّكم تعلمون. فإذن كونوا قدّيسين كي لا تكونوا برصاً في عينيّ الله، الّذي يرى قلوب البشر، وحافظوا على أنفسكم طاهري الروح كي تحيوا للأبد.»
«وإن خطئ أحدهم خطيئة جسيمة؟»
«عليه ألّا يحذو حذو قايين، عليه ألّا يحذو حذو آدم وحوّاء. إنّما أن يهرع عند قدميّ الله، وبتوبة حقيقيّة يطلب منه الرحمة. إنّ مريضاً، جريحاً، يذهب إلى الطبيب كي يُشفى. ليذهب خاطئ إلى الله لينال المغفرة. أنا...»
«أنتَ هنا، يا معلّم؟» يصيح شخص يصعد الدرب، متدثّراً كلّياً بمعطفه، وسط آخرين عدّة.
يسوع يلتفت لينظر إليه.
«ألا تتعرّف إليَّ؟ أنا الرابّي صادوق. إنّنا نلتقي مِن حين لآخر.»
«العالم صغير جدّاً حين يشاء الله أن يلتقي شخصان ببعضهما. سوف نلتقي بعد، أيّها الرابّي. وفي غضون ذلك، ليكن السلام معكَ.»
الآخر لا يردّ تحيّة السلام، إنّما يَسأَل: «ماذا تفعل هنا؟»
«ما ستفعله أنتَ، قد فعلتُه أنا. أليس هذا الجبل مقدّساً بالنسبة إليكَ؟»
«أنتَ قلتَ ذلك. وآتي إليه مع تلاميذي. إنّما أنا كاتب!»
«وأنا ابن للشريعة. إنّني أكرّم إذاً موسى كما أنتَ تكرّمه.»
«هذه كذبة. إنّكَ تلغي كلامه بكلامكَ، إنّكَ تطلب إطاعتكَ، لا إطاعتنا.»
«إطاعتكم لا. الطاعة لكم ليست ضروريّة...»
«هي غير ضروريّة؟ يا للفظاعة!»
«لا، ليس أكثر ممّا هي ضروريّة في ثوبكَ، كي تحميكَ مِن الهواء الخريفي، الأهداب المتدلّية والكثيرة الّتي تزيّن ثوبكَ. هو ثوبكَ الّذي يحميكَ. وهكذا، مِن الكلام الكثير الّذي يتمّ تعليمه، أنا أقبل الضروريّ والمقدّس، ذاك الّذي مِن موسى، ولا أهتمّ بالآخَر.»
«سامريّ! إنّكَ لا تؤمن بالأنبياء!»
« الأنبياء، أنتم ولا حتّى بهم تتقيّدون. لو كنتم تتقيّدون بهم، لما كنتم تقولون عنّي سامريّاً.»
«إنّما دعه، يا صادوق. أتريد التحدّث مع شيطان؟» يقول حاجّ آخر يصل مع أشخاص آخرين. وفيما يَرمق بنظرة حادّة المجموعة الّتي تحيط بيسوع، يرى يهوذا الإسخريوطيّ ويحيّيه باستهزاء.
ربّما قد يحدث حادث ما، لأنّ أهل القرية يريدون الدفاع عن يسوع. إنّما يشقّ رجل بيترا لنفسه درباً وهو يصيح، يتبعه خادم. هو والخادم يحمل كلّ منهما طفلاً بين ذراعيه. «دعوني أمرّ. يا ربّ، هل جعلتكَ تنتظر كثيراً؟»
«لا، يا رجل. تعال إليَّ»
الناس يفسحون المجال ليدعوه يمرّ. يأتي إلى يسوع ويركع ليضع على الأرض فتاة صغيرة رأسها معصوب بكتّان. الخادم يحذو حذوه واضعاً على الأرض صبيّاً مطفأ العينين.
«طفلاي، أيّها المعلّم السيّد!» يقول، وفي هذه العبارة القصيرة يرتجف كلّ ألم وأمل أب.
«لقد آمنتَ كثيراً، يا رجل. وإذا ما خيّبتُ أملكَ؟ ولو لم تجدني؟ إن قلتُ لكَ إنّني لا أستطيع شفاءهما؟»
«ما كنتُ لأصدّقكَ. أيضاً ما كنتُ لأصدّق عدم رؤيتكَ حتّى بالدليل. كنتُ لأقول أنّكَ اختبأتَ كي تختبر إيماني وكنتُ بحثتُ عنكَ إلى أن أجدكَ.»
«والقافلة؟ وربحكَ؟»
«هذه الأمور؟ ماذا تكون مقارنة بكَ، أنتَ القادر على شفاء طفليّ ومنحي إيماناً مفعماً ثقة بكَ؟»
«اكشف وجه الصغيرة» يأمر يسوع.
«إنّني أبقيه مغطّىً لأنّها تعاني كثيراً مِن النور.»
«سوف تكون لحظة مِن الألم فقط» يقول يسوع.
لكنّ الصغيرة تشرع في البكاء بشدّة ولا تريد أن تُنزَع الضمادات.
«إنّها تفعل ذلكَ لأنّها تظنّ بأنّكَ سوف تعذبها بالنار كما يفعل الأطباء» يشرح الأب الّذي يجهد لإبعاد يديّ الصغيرة عن الضمادات.
«آه! لا تخافي، أيّتها الصغيرة. ما اسمكِ؟»
الصغيرة تبكي ولا تجيب. يجيب الأب عنها: «تامار، اسم المكان الّذي وُلِدَت فيه. والصبيّ فارا.»
«لا تبكي، يا تامار. لن أؤذيكِ. تحسّسي يديّ. ما مِن شيء بين الأصابع. تعالي إلى ركبتيّ. في غضون ذلك سوف أشفي أخاكِ، وهو سوف يقول لكِ ما أَحَسّه. تعال هنا، أيّها الصغير.»
الخادم يدفع إلى قرب ركبتيه الأعمى البائس ذي العينين اللتين أطفأهما الرّمد الحبيبيّ (التراخوما). يسوع يلاطفه على رأسه ويَسأَله: «أتعلم مَن أنا؟»
«يسوع الناصريّ، رابّي إسرائيل، ابن الله.»
«أتريد أن تؤمن بي؟»
«نعم»
يسوع يضع يده على عينيه، مغطّياً أكثر مِن نصف وجهه. يقول: «أشاء ذلك! وليفتح نور الحدقتين الدرب لنور الإيمان» يرفع يده.
الطفل يُطلِق صيحة رافعاً يديه إلى عينيه، ومِن ثمّ يقول: «أبي! إنّني أرى!» إنّما لا يهرع إلى أبيه. بعفويّته الطفوليّة يتعلّق بعنق يسوع ويقبّله على خدّيه ويلبث هكذا، متعلّقاً بعنقه، برأسه الصغير الّذي يلتجئ إلى كتف يسوع كي يُعوّد حدقتيه على الشمس.
الجمع يهتف للمعجزة، فيما الأب يودّ نزع الصغير عن عنق يسوع.
«دعه. إنّه لا يزعجني. فقط، يا فارا، قل لأختكَ ما الّذي فعلتُه لكَ.»
«مُلاطَفة، يا تامار. مثل يد الماما. آه! فلتشفي أنتِ أيضاً وسنلعب مجدّداً!»
الطفلة، بقليل مِن التردّد بعد، تُوضَع على ركبتيّ يسوع، الّذي يودّ أن يشفيها حتّى مِن دون لمس ضماداتها. إنّما كَتَبَة ورفاقهم يصرخون: «إنّها خدعة. الطفلة ترى. إنّها عملية مدبّرة لاستغلال حسن نيّتكم، يا سكّان هذا المكان.»
«إنّ ابنتي مريضة. أنا...»
«دعهم. أنتِ، الآن، يا تامار، كوني لطيفة ودعيني أزيل الضمادات.»
الطفلة، مقتنعة، تدعه يفعل. يا له مِن مشهد عندما تسقط الضمادة الأخيرة! جرحان حمراوان، قشريان، منتفخان، يحلّان محلّ العينين، وتسيل منهما دموع وقيح. للناس هَمهمات رعب وشفقة، فيما ترفع الصغيرة يديها إلى وجهها كي تحتمي مِن النور الذي لا بدّ أنّه يسبّب لها معاناة فظيعة، على الصدغين تَـحْمَرّ حروق حديثة العهد.
يسوع يُبعِد اليدين الصغيرتين ويلمس بخفّة ذلك الخراب، واضعاً يده عليه وقائلاً: «أيّها الآب، يا مَن خلقتَ النور لفرح الأحياء، ومنحتَ حتّى للبعوضة الصغيرة حدقتين، أعد النور لمخلوقتكَ هذه، كي تراكَ وتؤمن بكَ، وبالإيمان تدخل، مِن نور الأرض إلى نور ملكوتكَ» يرفع يده…
«آه!» يصرخ الجميع.
ما عاد هناك جروح. لكنّ الصغيرة ما زالت تُبقِي عينيها مغمضتين.
«افتحيهما، يا تامار. لا تخافي. النور لن يؤذيكِ.»
الطفلة تطيع وهي خائفة قليلاً، وفيما تفتح جفنيها، تكشف عن عينين صغيرتين سوداويين لامعتين.
«أبي! إنّني أراكَ!» وهي أيضاً تستسلم على كتف يسوع كي تعتاد النور على مهل.
الجمع في هياج احتفاليّ، فيما يرتمي رجل بيترا عند قدميّ يسوع باكياً فَرَحاً.
«إنّ إيمانكَ قد نال مكافأته. ليحمل عرفانكَ بالجميل، مِن الآن فصاعداً، إيمانكَ بالإنسان إلى نطاق أعلى: إلى الإيمان بالله الحقّ. انهض وهيّا بنا.»
ويسوع يضع أرضاً الفتاة الصغيرة، الّتي تبتسم بسعادة، ويتحرّر مِن الصغير فيما ينهض. يلاطفهما بعد، ويريد شق دائرة الناس المحيطين به لرؤية العينين اللتين شفيتا.
«عليكَ أن تطلب أنتَ أيضاً الشفاء لعينيكَ المغشيّتين» يقول أحد التلاميذ لِمُسِنّ يُقاد بيده، مِن فرط ما نظره مشوّش.
«أنا؟! أنا؟! لا أريد النور مِن شيطان. لا بل! لكَ أصرخ، أيّها الإله الأزليّ! أَنصِت إليَّ. لي! لي الظلمات الحالكة! إنّما ألّا أرى وجه الشيطان، وجه هذا الشيطان، هذا الـمُدنِّس، الـمُغتَصِب، المجدّف، قاتل الله! لتسقط العتمات على عينيّ إلى الأبد. الظلمات، الظلمات كي لا أراه أبداً، أبداً، أبداً!» إنّه هو الّذي يبدو شيطاناً! إنّه في هيجانه يضرب مِحجريه كما لو أنّه كان يريد أن يفجّر عينيه.
«لا تخف. لن تراني. الظلمات لا تريد النور، والنور لا يفرض نفسه على مَن يرفضه. أنا راحل، أيّها العجوز. لن تراني بعد على الأرض. لكنّكَ مع ذلك سوف تراني في مكان آخر.»
ويسوع، بِوَهن يُبرِزه أكثر المشي الخاص بطوال القامة، منحنياً قليلاً إلى الأمام، ينطلق نزولاً. إنّه واهن لدرجة أنّه بالفعل يبدو المحكوم عليه الّذي ينزل جبل موريا مثقلاً بالصليب… وصرخات الأعداء، الّذين أثارهم حنق العجوز، تشبه إلى حدّ كبير صرخات جمع أورشليم في يوم الجمعة العظيمة.
رجل بيترا، المقهور، وبين ذراعيه ابنته الّتي تبكي مذعورة، يتمتم: «لأجلي، يا سيّد! بسببي! أنتَ، كلّ هذا القدر مِن المحبّة لي! وأنا لكَ! وضعتُ في الهَودج على الجَّمَل أشياء لكَ. إنّما ما هي إلى جانب الإهانات التي سبّبتُها لكَ؟ أشعر بالخجل لأنّني أتيتُ إليكَ...»
«لا، يا رجل. هذا خبزي المرّ اليوميّ. وأنتَ العسل الّذي يلطّفه. إنّ الخبز هو دوماً أكثر مِن العسل. إنّما تكفي قطرة عسل لتجعل الكثير مِن الخبز حلواً.»
«إنّكَ صالح... إنّما قل لي على الأقلّ: ماذا عليَّ أن أفعل كي أداوي هذه الجّراح؟»
«حافظ على الإيمان بي. في الوقت الحاضر، كما تستطيع وبالقدر الّذي تستطيعه. قريباً… نعم. سيأتي تلاميذي إلى بيترا وما بعدها. آنذاك اتّبع مذهبهم، لأنّني أنا مَن سأتكلّم فيهم. والآن تحدّث لأهل بترا عمّا فعلتُه لأجلكَ، هكذا، عندما سيأتي باسمي مَن يحيطون بي وغيرهم، لا يكون اسمي مجهولاً عندهم.»
عند أسفل المنحدر، على الدرب الرومانيّة، تتوقّف ثلاثة جِمال. واحد مزوّد بِرَحْل (الرَّحْل هو السرج الذي يوضع على الجمل)، الآخَرَين مزوّدين بـِهَودجين. خادم يسهر عليها.
الرجل يذهب إلى هَودج ويجلب منه بعض حُزَم: «تفضّل» يقول مقدّماً إيّاها ليسوع. «ستفيدكَ. لا تشكرني. أنا وحدي يجب أن أبارككَ لأجل ما أعطيتني. إن كنتَ تستطيع فِعل ذلك لغير المختونين، فباركني أنا وطفليّ، أيا أيّها الربّ!» ويركع مع الطفلين. الخادمان يقتديان به.
يسوع يبسط يديه ويصلّي بصوت خافت وعيناه مثبّتتان صوب السماء.
«امض. كن مستقيماً وستجد الله على دربكَ وستتبعه فلا تعود تفقده. وداعاً، يا تامار، وداعاً يا فارا! يلاطفهما قبل أن يصعدا كلّ واحد منهما مع خادم على جَمَل.
الحيوانان ينهضان على الـ كررر كررر مِن الجمّالَين، ويستديران ماضيين عَدْواً عبر الدرب الّتي تمضي جنوباً. يدان صغيرتان سمراوان تبرزان مِن الستائر وصوتان طفوليّان يقولان: «وداعاً، أيّها الربّ يسوع! وداعاً، يا أبي!»
الرجل يهمّ بالركوب بدوره. ينحني حتّى الأرض ويقبّل ثوب يسوع، ثمّ يمتطي الرَّحْل وينطلق صوب الشمال.
«والآن هيّا بنا» يقول يسوع ماضياً بدوره صوب الشمال.
«كيف؟ ألن تذهب بعد إلى حيث كنتَ تريد؟» يَسأَل الرُّسُل.
«لا. ما عدنا نستطيع الذهاب!... أصوات العالم كانت على حقّ!... وهذا لأنّ العالم حَذِق ويعرف أعمال الشيطان… سنذهب إلى أريحا...»
كم هو حزين يسوع!... الجميع يتبعونه، محمّلين بالحُزَم المقدّمة مِن الرجل، حزينين وصامتين.