ج7 - ف219
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الثاني
219- (الوصول إلى أريحا)
01 / 11 / 1946
إنّ يسوع مُنتَظَر جدّاً، حشود تقيم في الحقول المحيطة بالمدينة تنتظره، وما كاد أحد المراقبين، الجاثم على شجرة جوز عالية، يُطلق صيحة: «ها هو حَمَل الله!» حتّى نهض الناس وهرعوا صوب يسوع، الّذي يتقدّم في طلائع ضباب الغسق.
«يا معلّم! يا معلّم! إنّنا ننتظركَ منذ وقت طويل! مرضانا! أطفالنا! بركتكَ! العجائز ينتظرونكَ كي يموتوا بسلام! إذا ما باركتَنا يا ربّ، فسوف نُحفَظ مِن الشقاء!» يتكلّم الجميع معاً، فيما يسوع يرفع يده بحركات مباركة متكرّرة ويردّد: «السلام، السلام، السلام لكم جميعاً!» الرُّسُل الّذين لا يزالون معه يَعلَقون في دوّامة الجمع، منفصلين عن يسوع الّذي تقريباً يعيق تقدّمه أولئك ذاتهم الّذين يَشكون بهدوء طول انتظارهم.
المسكين زكّا الّذي يكافح بتشنّج للوصول إلى يسوع، كي يجعله يسمعه، كي يجعله على الأقلّ يراه. إنّما، إذ هو قصير جدّاً، وقليل الرشاقة والقوّة، يجد نفسه مُبعَداً دوماً بفعل موجات حشود جديدة، ويضيع صياحه في الصراخ الصاخب، وفي اختلاط الرؤوس، الأذرع، الملابس الّتي تهتزّ، يضيع شخصه. عبثاً يتوسّل، وأحياناً يوجّه ملامات لالتماس القليل مِن الشفقة. إنّ الناس دوماً أنانيّون مع مَن يمنحهم السرور، وقساة مع الأضعف. إنّ زكّا المسكين، إذ أُنهِك بفعل الجهود المبذولة، واقتنع بعدم جدواها، يفقد إرادة الكفاح، ويستسلم ذليلاً. بالفعل، فكيف السبيل إلى النجاح، إذا ما كان أناس آخرون يصبّون مِن كلّ شارع، والشوارع تبدو كما لو أنّها سواقٍ كثيرة تصبّ كلّها في نهر واحد: الطريق الّتي يسلكها يسوع؟ وكلّ رافد جديد، إذ يأتي بموجة جديدة تجعل الحشد عديم الاختراق أكثر فأكثر إلى حدّ يصبح معه التواجد هناك مخيفاً، يدفع بالمسكين زكّا إلى الوراء.
يراه تدّاوس، ويحاول أن يشقّ لنفسه طريقاً لإخراجه مِن زاوية الشارع حيث دفعه الجمع وحصره. لكنّ يوضاس بن حلفى بدوره يجد نفسه مُبعَداً مِن الّذين يدفعونه إلى الوراء، والمحاولة تفشل. توما، الذي يجعل مِن بُنيته القويّة سلاحاً، يُعمِل مرفقيه ويصيح بصوته الجهير: «أَفسِحوا المجال!» لذات المسعى… إنّما عبثاً! فالحشد يشكّل جداراً أصلب مِن الصخر، وفي ذات الوقت أكثر مرونة مِن مطّاط. إنّه ينثني لكنّه لا ينفتح. إنّه لم يعد طوقاً: بل سلسلة مستحيلة القطع. توما أيضاً يستسلم.
ويفقدّ زكّا كلّ أمل، لأنّ التوأم [توما] هو آخر الرُّسُل الّذي يجرفه التيّار. وفي النهاية يعبر التيّار… لقد عبر… مِزَق أقمشة، عُقَد، أهداب، دبابيس شعر، مَشابك ثياب، مرميّة أرضاً لتشهد على عنفه. هناك أيضاً نعل صغير لطفل، مسحوق تماماً، يبدو وكأنّه ينتظر بحزن القدم الصغيرة الّتي فقدته… زكّا يبقى خلف الجميع، حزيناً هو كذلك كما ذاك النعل الصغير الّذي انتزعه الجمع مِن صاحبه الصغير.
يسوع لم يعد مرئيّاً حتّى. لقد أخفاه منعطف طريق عن مرأى زكّا المسكين… إنّما حين يصل، آخر الجمع، إلى الساحة حيث كانت طاولته فيما مضى، يرى أنّ الناس قد توقّفوا صائحين، متضرّعين، متوسّلين. ويرى أنّ يسوع، الّذي صعد على درج مدخل منزل، يشير بيديه ورأسه بحركات نفي، ويقول شيئاً لا يمكن فهمه في ضجيج الجمع. وأخيراً يرى أنّ يسوع، الّذي ينزل بصعوبة مِن مكانه المرتفع، يستأنف سيره وينعطف، نعم، وينعطف بالضبط إلى الجهة الّتي فيها منزله. عندئذ يستعيد زكّا كلّ حماسته. الناس كُثُر، لكنّ الساحة واسعة، وبالتالي الناس أقلّ ازدحاماً، ويمكن... اختراقهم، كما سياج نباتيّ قليل الكثافة، مِن قِبَل شخص لديه الإرادة للقيام بذلك ولا يخاف مِن الخدوش. وزكّا يغدو وَتَداً، مِنجَنيقاً، كَبشَاً نَطّاحاً، يَصدم، يَدفع، يَتسلّل، يُوزّع ويتلقّى لكمات على الوجه، ضربات مرافق على المعدة، ركلات في السيقان، لكنّه يشقّ لنفسه طريقاً، يتقدّم… ها هو في الجهة المقابلة… لكن هنا لم يعد مِن مكان، وها هو مجدّداً الجدار غير القابل للاختراق. إنّ بضع خطوات تفصله عن يسوع المتوقّف قرب منزله. إنّما، لو كانت هناك صحارٍ وأنهار لتفصله عنه، لكان أمله أكثر بالنجاح في الوصول إليه. فيغضب، يصيح، يفرض: «يجب أن أذهب إلى منزلي! دعوني أمرّ! ألا ترون أنّه يريد أن يأتي إلى منزلي؟»
ما كان عليه أن يقول ذلك! فالأمر يؤجّج في الجمع رغبة الفوز بالمعلّم في منازل أخرى. البعض يضحك مستهزئاً بزكّا المسكين، آخرون يجيبونه بخبث. ما مِن أحد يتحلّى بالشفقة. لا بل يأخذون بالصياح والهياج كي لا يرى المعلّم زكّا ويسمعه. البعض يصيحون: «لقد نلتَ بالفعل منه الكثير، أيّها الخاطئ العجوز!» أظنُّ أنّ في هذا الكمّ مِن الشحناء ليس غريباً تَذكُّر الجبايات غير القانونيّة والمناكدات القديمة… إنّ الإنسان، حتّى الأكثر ميلاً إلى الفائق الطبيعة، هو على الأغلب دوماً ما يحتفظ بحيّز حيث فاعلة هي محبّة المدّخرات، وفاعلة أكثر بعد ذكرى مَن أضرّ بهذه المدّخرات…
لكنّ ساعة التجربة قد مضت بالنسبة لزكّا، ويسوع يكافئ ثباته ذاك. ويسوع يصيح بكلّ قوّة صوته: «زّكا! تعال إليَّ. دعوه يمرّ، لأنّني أريد الدخول إلى منزله.»
الطاعة واجبة. الجمع يتراصّ لتوفير متّسع، وزكّا يتقدّم، يعلوه احمرار مِن الإجهاد، احمرار مِن الفرح، ويحاول إعادة ترتيب شعره الأشعث، ثوبه مفكوك الأزرار، حزامه مع العِقَد الّذي انزاح إلى جهة الكلى بدل أن يكون إلى الأمام. يبحث عن الرداء… الّذي مَن يدري أين هو!... لا يهمّ. إنّه الآن أمام يسوع، نصف منحن لإجلاله. لا يستطيع أن يفعل أكثر حيث بالكاد يتوفّر له متّسع لينحني بعض الشيء.
«السلام لكَ يا زكّا. تعال إذن لأقبّلكَ قبلة السلام. لقد استحققتَها بجدارة.» يقول يسوع وهو يبتسم ابتسامة فَرِحة بحقّ، شبابيّة، تجعله يَظهَر بالفعل وقد استعاد الشباب.
«آه! نعم يا ربّ. لقد استحققتُها حقّاً. كم هو صعب إدراككَ يا ربّ.» يقول زكّا منتصباً بأكثر ما يستطيع كي يصل إلى مستوى يسوع، الّذي ينحني ليعانقه، وأثناء قيامه بذلك يَظهَر للعيان وجهاً ينزف بسبب خدش على الخدّ الأيمن، وكدمة زرقاء في عينه بفعل ضربة مِرفَق تلقّاها في الحَجَاج [محجر العين].
يسوع يعانقه، ثمّ يقول: «لكنّني لا أكافئكَ لأجل هذا التعب. بل للأخرى، الخفيّة بالنسبة لكُثُر، إنّما المعروفة مِن قِبَلي. نعم، هذا صحيح. صعب هو إدراكي، وليس الجمع هو العائق الوحيد، ولا حتّى هو العائق الأصعب الّذي يمكن مواجهته لإدراكي.
إنّما، أيا أيّها الشعب الّذي تقريباً حملني بمظاهر النصر، إنّ العائق الأصعب، الأكثر تراكُبيّةً، الّذي دوماً ما يعاود التَّراكُب بعد محاولة تحطيمه أو التغلّب عليه، هو الأنا الشخصيّة. كنتُ أبدو وكأنّني لا أرى، لكنّني رأيتُ كلّ شيء. وقد ثَـمَّنتُ كلّ شيء. وما الّذي رأيتُه؟ رأيتُ خاطئاً قد اهتدى، شخصاً كان قاسي القلب، يحبّ راحته، متكبّراً، مغروراً، شهوانيّاً وبخيلاً. ورأيتُه يتجرّد مِن أناه العتيقة، حتّى في الأمور قليلة الأهميّة، ويغيّر تصرّفاته ومشاعره كما في هذه، كي يهرع إلى مخلّصه، يصارع كي يدركه، ويتوسّل باتّضاع، ويتلقّى السخريات والملامات بصبر، ويتألّم في جسده بسبب ضربات الجمع، وفي قلبه لرؤية نفسه مدفوعاً إلى ما وراء الجميع، دون أن يتمكّن حتّى مِن التقاط إحدى نظراتي. ورأيتُ أموراً أخرى فيه. أموراً كذلك أنتم تعرفونها، إنّما الّتي لا تريدون أخذها في الاعتبار بالرغم مِن أنّكم تعزّيتم بها.
قد تقولون: "وكيف تعرفها أنتَ الّذي لا تسكن بيننا؟" أجيبُكم: "كما أقرأ قلوب البشر، كذلك لا أجهل أفعالهم، وأُحسِن أن أكون عادلاً وأكافئ بمقدار الدرب المقطوعة لإدراكي، الجهود المبذولة لتشذيب الغابة البرّية الّتي كانت تكسو الروح، استصلاحها، اقتلاع كلّ ما لم يكن شجرة الحياة، وغرسها مَلِكَة في الأنا، بإحاطتها بنباتات فضيلة لتكون مُكرَّمة، بالسهر لئّلا يعشّش في الخضرة أيّ حيوان نَجِس، لأنّه زاحف، لأنّه متعطّش للفساد، أو شهوانيّ، أو بَطّال -الشهوات الشرّيرة المختلفة- بل ليسكن فيها فقط ذلك الروح الّذي هو روحكم، الّذي هو صالح وقادر على تسبيح الربّ، أي المشاعر فائقة الطبيعة: طيور مغرّدة وحملان وديعة كثيرة، مستعدّة لأن يضحّى بها، مستعدّة للتسبيح الكامل محبّةً بالله.
وكما أنّني لا أجهل أعمال زكّا، أفكاره، متاعبه، هكذا لم أجهل أنّ لدى كُثُر مِن هذه المدينة، الّذين هتفوا لي، محبّة هي بالأحرى حِسّيّة أكثر ممّا هي روحيّة. لو كنتم أحببتموني ببرّ لكنتم أشفقتم على مواطنكم، لما كنتم أذللتموه مذكّرين إيّاه بالماضي. هذا الماضي الّذي ألغاه هو، والّذي لا يتذكّره الله، لأنّه لا يتراجع عن المغفرة الممنوحة إلّا إذا عاد المخلوق إلى الخطيئة. ويعود ليدينه عن خطيئته الجديدة، لا عن تلك الّتي غُفِرت. الآن أقول لكم، وأمنحكم ذلك كرفيق لكم في تأمّلات الليل، فالمحبّة الحقيقيّة تجاهي لا تتمثّل في الهتاف، إنّما بعمل ما أعمله وأُعلّمه، بممارسة المحبّة المتبادلة، بالتواضع والرحمة، بتذكّر أنّكم كُوِّنتم مِن الطين نفسه في شقّكم المادّيّ، وأنّ الطين ينجذب دوماً إلى المستنقع، وأنّه بالتالي، إن كانت القوّة الّتي فيكم قد حفظتكم إلى الآن مرفوعين فوق المستنقع: أي الروح، لم تعرف الهزائم أبداً -وهذا أمر مستحيل، لأنّ الإنسان خاطئ، والله وحده بلا خطيئة- فغداً يمكن لروحكم أن يعرفها، وبأكثر عدداً وأثقل وطأة مِن تلك الّتي للخاطئ العجوز الّذي أصبح مولوداً مِن جديد للنعمة، وقد عاد بها فتيّاً وجديداً مثل طفل صغير، مُكتَسِباً التواضع الّذي يأتيه مِن ذكرى كونه خاطئاً، والإرادة الأكيدة بأن يعمل، خلال بقيّة حياته، الكثير مِن الخير بما يكفي لملء حياة مديدة مكرّسة بأكملها للخير، بمكيال ممتلئ وطافح، إلى حدّ تعويض كلّ الشرّ الّذي قد يكون ارتكبه.
غداً سأتحدّث إليكم. أَختم لهذا المساء. امضوا مع تحذيري، وباركوا الربّ الّذي يرسل لكم الطبيب الّذي يستأصل لكم شهواتكم المحتجبة تحت حجاب صحّة روحيّة، مثل أمراض خفيّة تقضم الحياة تحت حجاب صحّة ظاهريّة. تعال يا زكّا.»
«نعم يا ربّي. لم يعد لي سوى خادم عجوز، وأفتح الباب بنفسي، ومعه قلبي المتأثّر، آه! كم هو متأثّر! بطيبتكَ اللامتناهية.»
وبعدما فتح البوّابة، يُدخِل يسوع والرُّسُل، ويقوده صوب المنزل عبر الحديقة الّتي غدت بستان خضار… كذلك المنزل قد تجرّد مِن كلّ ما هو غير ضروريّ. يضيء زكّا مصباحاً وينادي الخادم.
«هاك. المعلّم هنا. ينام هنا مع جماعته ويتعشّى هنا. هل أعددتَ كما قلتُ؟»
«نعم، كلّ شيء جاهز، ما عدا الخضار، الّتي سألقيها الآن في الماء المغليّ.»
«إذن بدّل ثوبكَ، واذهب وقل لِمَن تعلم أنّه هنا، وأن يأتوا.»
«أذهب يا سيّدي. مبارك أنتَ يا معلّم، الّذي تجعلني أموت مسروراً!» ويمضي.
«إنّه خادم أبي، وقد بقي معي. الآخرون صرفتُهم جميعاً. إنّما هو عزيز عليَّ. لقد كان الصوت الّذي لم يكن يصمت أبداً حينما كنتُ أخطئ. وكنتُ أسيء معاملته لهذا السبب. والآن هو، مِن بعدكَ، الّذي أحبّه أكثر مِن أي شخص آخر… تعالوا يا أصدقائي. هناك نار وما يمكن أن يريح أطرافاً متعبة ومثلّجة. أنتَ يا معلّم في غرفتي الخاصّة...» ويقوده إلى غرفة في آخر أحد الممرّات.
يدخل، يغلق الباب، يمزج ماءً ساخناً في إبريق، ينزع نعلي يسوع، يخدمه. وقبل أن يعيد له النعلين يقبّل القدم العارية ويضعها على رقبته قائلاً: «هكذا! لتسحق بقايا زكّا القديم!» ينهض. ينظر إلى يسوع بابتسامة ترتجف على شفتيه، ابتسامة متواضعة، مبلّلة قليلاً بالدموع. يقوم بحركة للإشارة إلى المحيط كلّه. يقول: «لقد خطئتُ كثيراً هنا! لكنّني غيّرتُ كلّ شيء، كي لا يعود وجود لما كان له ذاك المذاق… الذكريات… إنّني ضعيف… لقد تركتُ فقط ذكرى اهتدائي تحيا في هذه الجدران العارية، في هذا السرير القاسي… الباقي… حوّلتُه إلى مال، إذ لم يكن قد بقي معي منه، وكنتُ أريد أن أصنع خيراً. اجلس يا معلّم...»
يسوع يجلس على مقعد خشبيّ، وزكّا يجلس أرضاً، عند قدميه، نصف جالس، نصف راكع. يعاود الكلام: «لا أدري إذا ما فعلتُ حسناً. إذا كنتَ تستطيع تأييد عملي. ربّما بدأتُ مِن حيث كان عليَّ أن أنتهي. إنّما هم أيضاً موجودون. وفقط عشّار عجوز يمكنه ألّا ينفر منهم في إسرائيل. لا. لقد أسأتُ القول. ليس عشّاراً فقط، بل كذلك أنتَ، أو بالأحرى أنتَ مَن علّمني أن أحبّهم بحقّ. سابقاً كانوا شركائي في الرذيلة، لكنّني لم أكن أحبّهم. الآن أقمعهم إنّما أحبّهم. أنتَ وأنا. الكلّيّ القداسة، والخاطئ المهتدي. أنتَ لأنّكَ لم تخطئ أبداً وتريد منحنا الفرح الّذي هو فرحكَ، فرح الإنسان البِلا خطيئة. وأنا لأنّني خطئتُ كثيراً، وأعرف كم هو عذب السلام الّذي يتأتّى مِن أن نكون مغفوراً لنا، مفتدين، مُجدَّدين… لقد أردتُ ذلك لهم. بحثتُ عنهم. آه! لقد كان قاسياً في البداية! أردتُ جعلهم صالحين، وكانت لديَّ نفسي الّتي يجب أن أجعلها صالحة… يا لها مِن مشقّة! أن أراقب نفسي لأنّني كنتُ أدرك بأنّهم كانوا يراقبونني. قد كان ليكفي أمر واحد تافه لجعلهم يبتعدون… ومِن ثمّ… كُثُر كانوا يخطئون بسبب الحاجة، لضرورات مِهَنيّة. لقد بعتُ كلّ شيء كي أحصل على المال لإعالتهم، إلى أن يجدوا مِهَناً أخرى، أقلّ ربحاً، أكثر تعباً، إنّما شريفة. ودوماً هناك واحد منهم يأتي، بدافع الفضول قليلاً، وقليلاً بدافع رغبة لأن يكون إنساناً، لا فقط حيواناً. وعليَّ أن أستضيفهم، ما داموا لم يعتادوا على النِّير الجديد. كُثُر اختتنوا. خطوة أولى صوب الله الحقّ. لكنّني لا أفرض ذلك. لديَّ ذراعان عريضان لاحتضان أنواع البؤس، أنا الّذي لا يمكنني الشعور بالنفور منها. أودّ، أنا كذلك، أن أمنح هؤلاء ما تودّ أنتَ أن تمنحه للجميع: فرح الكفّ عن الشعور بالندم، بما أنّنا لا نستطيع أن نكون مثلكَ بلا خطيئة. الآن قل لي أيا ربّي، إذا ما بالغتُ بالجرأة.»
«لقد أحسنتَ عملاً يا زكّا. أنتَ تمنحهم بأكثر ممّا تأمل، وبأكثر ممّا تظنّ أنّني أريد منحه للبشر. ليس فقط فرح أن يُغفَر لهم، أن يكونوا بلا ندم، بل فرح أن يكونوا قريباً سكّان ملكوتي السماوي. لم أكن أجهل أعمالكَ هذه. لقد كنتُ أتبعكَ في تقدّمكَ على درب المحبّة الشاقّة، إنّما الممجَّدة، لأنّ تلك محبّة هي، ومِن الأنقى منها. لقد أدركتَ كلمة الملكوت. قليلون هم مَن أدركوها، حيث إنّ المفهوم القديم، والاقتناع بأنّهم باتوا بالفعل قدّيسين وحكماء هو حيّ فيهم. أنتَ، وقد انتُزِع الماضي من قلبكَ، فقد لبثتَ فارغاً، واستطعتَ، لا بل أردتَ، أن تضع في داخلك الكلام الجديد، المستقبليّ، الأبديّ. استمرّ هكذا يا زكّا، وستكون جامعاً ليسوعكَ.» ينهي يسوع كلامه مبتسماً وواضعاً يده على رأس زكريا.
«أتوافقني يا ربّ؟ في كلّ شيء؟»
«في كلّ شيء يا زكّا. لقد قلتُ ذلك أيضاً لنيقي، الّتي كانت تحدّثني عنكَ. نيقى تفهمكَ. إنّها منفتحة على الرأفة الشاملة.»
«نيقي كانت تساعدني كثيراً. إنّما الآن فلا أراها إلّا أوان كلّ قمر جديد… قد وددتُ أن أتبعها، لكنّ أريحا ملائمة لعملي الجديد...»
«هي لن تبقى طويلاً في أورشليم… وانتقالكَ بلا جدوى. ففيما بعد نيقي سوف تعود إلى هنا...»
«بعد كم مِن الوقت يا ربّ؟»
«بعد إعلان مُلكي.»
«مُلككَ… إنّني خائف من تلك اللحظة. هل سيُحسِن أولئك الّذين يقولون الآن أنّهم أوفياء لكَ أن يكونوا كذلك آنذاك؟ فحتماً ستكون هناك انتفاضات وصراعات بين مَن يحبّونكَ ومَن يكرهونكَ… هل تعلم يا ربّ، أنّهم يستأجرون حتّى اللصوص، حثالة الشعب، ليحظوا بأتباع جاهزين لتشكيل كثرة عدديّة لفرض أنفسهم على الآخرين؟ لقد علمتُ ذلك مِن أحد إخوتي المساكين… آه! أيمكن أن يكون هناك فرق كبير بين مَن يسرق بشكل شرعيّ، ومَن يسرق الشرف ويسلب مسافراً؟ أنا أيضاً قد سرقتُ بشكل شرعيّ إلى أن خلّصتَني أنتَ، إنّما حتّى ذلك الحين، لم أكن لأناصر مَن يكرهونكَ… هو شاب. سارق. نعم. سارق. ذات مساء كنتُ قد اتّجهتُ صوب أَدُمِّيم لانتظار ثلاثة مِن أقراني، الّذين كانوا آتين مِن أفرايم ببهائم مشتراة بأفضل سعر، فوجدتُه كامناً في فجّ جبلي. تحدّثتُ إليه… لم تكن لي عائلة قطّ، ومع ذلك أظنّ أنّني لو رزقتُ بأولاد، لكنتُ حدّثتُهم هكذا لإقناعهم بتغيير حياتهم. لقد شرح لي كيف أصبح سارقاً ولماذا… آه! كم مرّة يكون الأثمة الحقيقيّون هم أولئك الّذين يبدون أنّهم لا يفعلون أيّ سوء!... لقد قلتُ له: "كُفّ عن السرقة. إن كنتَ جائعاً، فهناك زاد كذلك مِن أجلكَ. سوف أجد لكَ عملاً شريفاً. وبما أنّكَ لم تغدُ بعد قاتلاً، توقّف، خلّص نفسكَ". وقد أقنعتُه. هو قال لي بأنّه بقي وحيداً لأنّ الآخرين قد اشتراهم مَن يكرهونك بمبالغ كبيرة، وهم الآن مستعدّون لإثارة انتفاضة والادّعاء بأنّهم أتباعكَ لبلبلة الشعب، وهم مختبئون في مغاور قدرون، في القبور، قرب برج فسايل [أحد أبراج قصر هيرودس]، في الكهوف شمال المدينة، بين قبور الملوك والقضاة، في كلّ مكان… ما الّذي يريدون فِعله يا ربّ؟»
«يشوع استطاع إيقاف الشمس، إنّما هم، رغم كلّ إمكاناتهم، لن يستطيعوا إيقاف مشيئة الله.»
«لديهم المال يا ربّ! الهيكل غنيّ، وليس قرباناً بالنسبة لهم الذهب المقدّم للهيكل إذا لزمهم للانتصار.»
«ليس لديهم شيء. أنا مَن أملك القوّة. إنّ صَرحهم سيسقط كما الأوراق الّتي جفّفتها رياح الخريف، والّتي شكّلها طفل صغير بشكل قلعة. لا تخف يا زكّا. فيسوعك سيكون يسوع [المخلّص].»
«ليشاء الله ذلك يا ربّ!... إنّهم ينادوننا. هيا بنا.»