ج3 - ف23

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الأول

 

23- (الوليمة في بيت الفرّيسيّ إيلي في كفرناحوم)

 

14 / 05 / 1945

 

في بيت إيلي الكثير مِن حركة نقل الأثاث اليوم. فالخُدّام والخادمات يَروحون ويَرجعون، ومعهم أليشع وهو فَرِح للغاية. ثمّ ها هما شخصان مَهيبان وشخصان آخران. تَعرَّفتُ على الأوَّلَين: إنّهما اللذان كانا قد ذَهَبا مع إيلي إلى بيت متّى. أمّا الآخَران فلستُ أعرفهما، ولكنني أَسمَع مَن يناديهما بصموئيل ويواكيم. وفي النهاية يَصِل يسوع مع الاسخريوطيّ.

 

تَبادُل تحيّات عظيمة، ثمّ السؤال: «أأنتَ وحدكَ معه؟ والآخرون؟»

 

«الآخرون في القرية وسوف يعودون مساء.»

 

«آه! هذا مؤسف. ولكنّني كنتُ أظنُّ أنّ... أنا، أمس مساء، لم أَدعُ غيركَ، ولكنّ الدعوة كانت تتضمّن أتباعكَ. والآن كلّ ما أخشاه هو أن يكونوا يَشعُرون بالإهانة، أو بالحريّ أن يشمَئزّوا مِن القدوم إليَّ بسبب استياء قديم... هه! هه!» يضحك العجوز.

 

«أوه! لا! فتلاميذي لا يعرفون فرط حساسية الكبرياء ولا الأحقاد المستعصية على الشفاء.»

 

«نعم، نعم، جيّد جدّاً! فلندخل إذن.»

 

طقوس التطهير الاعتياديّة، ثمّ يتوجَّهون إلى غرفة الطعام، وهي مفتوحة على دار كبيرة، حيث طلائع الزهور تُضفي جوّاً مِن البهجة.

 

يُداعِب يسوع أليشع الصغير الذي يلعب في الدار، والذي ما يزال يحتفظ مِن الخطر السابق بأربعة خطوط حمراء صغيرة على يده الصغيرة. وهو حتّى لم يعد يتذكّر خوفه القديم، ولكنّه مع ذلك يتذكّر يسوع ويريد تقبيله وتلقّي قبلاته بعفويّة الطفولة، محيطاً عنق يسوع بذراعيه، يُحَدِّثه مِن خلال شعره، ويُسِرّ له بأنّه سوف يمضي معه عندما يكبر: «هل تَقبَل بي؟»

 

«أَقبَل كلّ الناس. كن صالحاً وسوف تمضي معي.»

 

يَنطَلِق الولد وهو يقفز.

 

يأخذون أمكنتهم على الطاولة، ويريد إيلي أن تكون الأمور كلّها سليمة تماماً، فيُجلِس يسوع إلى جانبه، وإلى الجانب الآخر يُجلِس يهوذا الذي يَجِد نفسه هكذا بين إيلي وسمعان، بينما يسوع بين إيلي وأوريّا.

 

بَدَأَ تناول الطعام. في البداية أفكار عشوائيّة مُبتَذَلَة. ثمّ يتَّخِذ الحِوار أهمّية أكبر. وبما أنّ الجراح مؤلِمة والقيود ثقيلة، وهذا هو مضمون الحديث الدائم عن العبوديّة، حيث روما تحتلّ فلسطين. لستُ أدري إذا ما كان اختيار هذا الموضوع مقصوداً أم أنّه فُتِحَ دونما سوء نيّة مُبيَّتة. أَعلَم أنّ الفرّيسيّين الخمسة يَتَشكّون مِن مضايقات الرومان الجديدة، كما مِن انتهاك الحُرمات، ويودون إثارة اهتمام يسوع بحوارهم.

 

«تَعرِف! يَبغون أخذ العِلم بكلّ دقة عن مواردنا. ولإدراكهم بأنّنا نجتمع في المجالس للتحدّث في هذا الأمر والتحدّث عنهم، فها هم يهدّدوننا باقتحامها دونما احترام. وأخشى أن يَدخُلوا يوماً إلى بيوت الكَهَنَة!» يهتف يواكيم.

 

«وأنتَ ما قولكَ؟ ألستَ مشمئزّاً مِن ذلك؟» يَسأَل إيلي.

 

ويسوع، حيث إنّه سُئِلَ مباشرة، يجيب: «كإسرائيليّ، نعم. أمّا كإنسان فلا.»

 

«لماذا هذا التفريق؟ لستُ أفهم. ألعلكَ اثنان في واحد؟»

 

«لا، إنما فيَّ اللحم والدم: وبالتالي الحيوان. كما فيَّ الروح. فَرُوح إسرائيليّ يخضع للشريعة، يتألّم لتلك الانتهاكات. أمّا اللحم والدم فلا، إذ يَنقُصني الواخز الذي يجرحكم أنتم.»

 

«وما هو؟»

 

«المصلحة. تقولون إنّكم تجتمعون في المجامع للتحدّث أيضاً عن الأعمال دونما خوف مِن آذان الفضوليّين، وتَخشون ألّا تعودوا تستطيعون فِعل ذلك، وبالتالي تخشون عدم تمكّنكم مِن إخفاء حتّى أبسط المبالغ عن الضرائب، وفرض ضرائب عليكم محسوبة بدقّة بموجب مقتنياتكم. أنا لا أقتني شيئاً. أعيش على حَسَنات القريب، وبحبّ القريب. ليس لديَّ ذَهَب ولستُ أملك حقولاً ولا كروماً ولا بيوتاً ما عدا بيت والدتي الصغير في الناصرة، وهو بيت صغير جدّاً وفقير جدّاً لدرجة أنّ الضرائب تُهمِله. وبالتالي فأنا لستُ أشعر بوخز الخوف مِن أن يُفتَضَح غشّ تصريحاتي، وأن تُفرَض عليَّ الغرامات وأُعاقَب. كلّ ما أملك هي الكلمة التي مَنَحنيها الله وأُعطيها أنا بدوري. ولكنّها سامية لدرجة لا يمكن معها للإنسان أن يطالها بضريبة أو غرامة.»

 

«ولكن لو كنتَ في وَضعنا، فكيف كنتَ تتصرّف؟»

 

«لا تستاؤوا إذا ما قُلتُ لكم فكرتي بوضوح، وهي تُناقض أفكاركم كلّياً. في الحقيقة أقول لكم إنّني كنتُ سأتصرّف بشكل مغاير.»

 

«وكيف؟»

 

«دون جَرح الحقّ المقدّس. وهذه فضيلة سامية على الدوام، حتّى عندما تُطبَّق على أمور بشريّة تماماً، كما في موضوع الضرائب.»

 

«ولكن إذن! ولكن إذن! كم سيُسلَخ جلدنا! ولكنّكَ لا تُفكّر بأنّنا نملك الكثير، وبذا ينبغي لنا أن نعطي الكثير!»

 

«أنتم قلتم: إنّ الله قد أعطاكم الكثير، فينبغي لكم إذاً أن تُعطوا بشكل يتناسب مع ذلك. فلماذا التصرّف بشكل غير نزيه، كما يحصل بكلّ أَسَف، وبشكل يكون فيه الفقير هو الذي يتحمّل الضرائب بشكل لا يتناسب مع موارده؟ بين بعضنا البعض، ونحن نَعلَم ذلك، كَم مِن الضرائب في إسرائيل، ضرائب نفرضها نحن، هي مُجحِفَة! وإن وُجِدَت، فَلِتَخدُم الكبار الذين يقتنون الكثير، بينما هي تَحمل اليأس وخيبة الأمل للفقراء الذين يضطرّون لدفعها متحمِّلين الحرمان حتّى المعاناة مِن الجوع. وليس هذا هو الذي توصينا به محبّة القريب. فكان ينبغي لنا، نحن الإسرائيليّين، معرفة هَمّ الأخذ على عاتقنا الأعباء التي تُرهِق الفقير.»

 

«تقول هذا لأنّكَ أنتَ فقير أيضاً!»

 

«لا يا أوريّا. أقول هذا لأنّه العدل. لماذا روما استطاعت وتستطيع استغلالنا هكذا؟ لأنّنا اقترفنا الخطيئة، ولأنّنا منقسمون بسبب الحقد. فالغنيّ يبغض الفقير، والفقير يبغض الغنيّ، لأنّه لا عدل، والعدوّ يستفيد مِن كلّ ذلك ليَستَعبدنا.»

 

«لقد ألـمَحتَ إلى مواضيع عدّة... ما هي الأخرى؟»

 

«لا أريد الإخلال بالحقيقة باستبدال طبيعة المكان الـمُكرَّس للعبادة فيصبح ملاذاً مضموناً للمصالح البشريّة.»

 

«أتلومنا لذلك؟»

 

«لا، بل أُجيب. أمّا أنتم فأنصتوا إلى صوت ضميركم. إنّكم مُعلِّمون، وبالتالي...»

 

«أقول إنّه آن الأوان للنهوض والثورة ومعاقبة المحتلّ واستعادة سلطاننا.»

 

«صحيح، صحيح! أنتَ محقّ يا سمعان. إنما هنا يوجد مَسيّا. وهو الذي عليه تولّي المهمّة.» يجيب إيلي.

 

«ولكن، سامحني يا يسوع، مَسيّا في الوقت الحالي ليس سِوى صَلاح. يوزّع نصائحه على الجميع، ولكنّه لا يَستَنهِض الثورة. سوف نتصرّف و...»

 

«اسمع يا سمعان. تذكّر سِفر الملوك. كان شاول في الجلجال والوثنيّون كانوا في مكماش، وكان الشعب خائفاً ويتشتّت، ولم يكن النبيّ صموئيل قد وَصَلَ. أراد شاول أن يتقدّم الجميع ويقدّم الذبائح بنفسه. تذكّر إجابة صموئيل التي كانت مُفاجِئة للملك شاول المتهوِّر: "إنّكَ بحماقة فَعَلتَ، حيث لم تحفظ وصيّة الربّ إلهكَ التي أوصاكَ، فإنّ الربّ كان الآن قد أقرّ مُلككَ على إسرائيل إلى الأبد. أمّا الآن فلا يدوم مُلككَ". فإنّ تدخّلاً في غير أوانه ومتكبِّراً لم يخدم الـمَلِك ولا الشعب. فالله هو مَن يعرف الأوان لا الإنسان. الله يعرف السُّبُل لا الإنسان. دعوا الله يفعل باستحقاقكم معونته عن طريق سلوككم المقدَّس. إن مملكتي لن تأتي بالتمرّد والعنف، ولكنّها ستقوم. لن تكون حِكراً على عدد قليل، بل هي ستكون لكلّ العالم. طوبى لِمَن يُقبِل إلى مملكتي، دون أن يكون مخدوعاً بمظهري الـمُـتقَشِّف حسب روح الأرض، والذين سوف يَرَونَ فيَّ الـمُخلِّص. لا تخافوا، سوف أكون مَلِكاً، الـمَلِك الآتي مِن إسرائيل، الـمَلِك الذي سوف يَعمَّ مُلكه على كلّ البشريّة. إنّما انتم يا معلّمي إسرائيل، فلا تُشوِّهوا كلامي ولا كلام الأنبياء الذين بَشَّروا بي. ما مِن مملكة بشريّة، لأيّ سلطان كان، تكون عالميّة وأزليّة. ولقد قال الأنبياء إنّ هذه ستكون مملكتي أنا. وليُضِئ ذلك لكم الحقيقة والسِّمة الروحيّة لمملكتي. أترككم مع رجاء لي أُوجّهه لإيلي. هي ذي هِبتكَ. وفي ملاذ لِسمعان بن يونا فقراء أتوا مِن كلّ الأرجاء. هيّا معي لنعطيهم هِبات الحبّ. السلام لكم جميعاً.»

 

«ولكن ابق بعد!» يَطلب الفرّيسيّون بإلحاح.

 

«لا أستطيع. هناك أناس يتألّمون جسديّاً وقلبيّاً، وهم ينتظرون المؤاساة. غداً سوف أمضي إلى البعيد. أودُّ لو يراني الجميع أمضي بدون أَسَف.»

 

«يا معلّم، أنا... إنّني عجوز وتَعِب. اذهب أنتَ باسمي، فمعكَ يهوذا بن سمعان ونحن نعرفه جيّداً... افعل ذلك بنفسكَ. وليكن الله معكَ.»

 

يَخرُج يسوع مع يهوذا الذي ما إن وَصَلَ إلى الدار حتى قال: «أيّها الأفعى العتيقة! ما الذي كان يريد قوله؟»

 

«ولكن لا تُفكّر في هذا! أو بالحري فَكِّر بأنّه كان يريد أن يمتدحكَ.»

 

«غير ممكن يا معلّم! فتلك الأفواه لا تُمجِّد أبداً فاعل الخير. أريد القول إنّها لا تفعل ذلك بصدق. وبالنسبة لما سيأتي!... فهو يشمئزّ مِن الفقير ويخاف لعنته. ولطالما عَذَّبَ الفقراء هنا. ويمكنني أن أقسم على ذلك بلا خوف. لأجل ذلك...»

 

«كُن صالحاً يا يهوذا! وَدَع الدينونة لله.»