ج10 - ف19

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء العاشر

 

19- (يسوع يَظهَر على جبل طابور)

 

20 / 04 / 1947

 

كلّ الرُّسُل متواجدون، كلّ التلاميذ الرُّعاة، وكذلك يوناثان، الّذي صرفه خُوزي مِن خدمته. هناك مارغزيام ومَنَاين وتلاميذ كُثُر مِن الاثنين والسبعين، وكذلك آخرون كُثُر. إنّهم تحت ظلّ الأشجار الّتي تُلطِّف بإيراقها الكثيف الضوء والحرارة. هم ليسوا في الأعلى عند القمّة حيث حدث التجلّي، بل عند منتصف المنحدر، حيث غابة مِن أشجار البلوط تبدو كأنّها ترغب في حجب القمّة، ودعم جوانب الجبل بجذورها القويّة.

 

يتهوّم الجميع تقريباً، بسبب الوقت وكذلك بسبب الفراغ وطول الانتظار. إنّما يكفي صراخ طفل -لا أدري مَن هو، لأنّني لا أستطيع أن أراه مِن حيث أنا- كي ينهضوا كلّهم، في انتفاضة فجائيّة تستحيل على الفور سجوداً والوجه في العشب.

 

«السلام لجميعكم. ها أنا في وسطكم. السلام لكم. السلام لكم.» يسوع يمرّ بينهم مُحيِّياً، مُبارِكاً.

 

كُثُر يدمعون، آخرون يبتسمون مغتبطين، إنّما سلام عظيم جدّاً يغمر الجميع.

 

يسوع يذهب ليتوقّف حيث يُشكّل الرُّسُل والرُّعاة مجموعة كبيرة مع مارغزيام، مَنَاين، استفانوس، نيقولاوس، يوحنّا الّذي مِن أفسس، وهَرْماس وبعض التلاميذ الأكثر إخلاصاً، الّذين لا أذكر أسماءهم. أرى رجل كورازين الّذي ترك دفن أبيه ليتبع يسوع، وآخر سبق لي أن رأيتُه في مرّات أخرى. يسوع يمسك بيديه رأس مارغزيام، الّذي يبكي وهو ينظر إليه، يقبّل جبهته ومِن ثمّ يضمّه إلى قلبه.

 

ثمّ يلتفت نحو الآخرين ويقول: «كثيرون وقلّة. الآخرون أين هم؟ أعلم أنّ تلاميذي الأوفياء كُثُر. لماذا إذاً بالكاد يوجد هنا خمسمائة شخص، دونما حساب الأطفال أبناء هذا أو ذاك منكم؟»

 

بطرس ينهض ويتكلّم بالنيابة عن الجميع، إذ كان قد لبث راكعاً على العشب: «يا ربّ، ما بين اليوم الثالث عشر واليوم العشرين مِن موتكَ، جاء إلى هنا كُثُر مِن مدن عديدة في فلسطين، قائلين أنّكَ كنتَ وسطهم. وهكذا فإنّ كثيرين منّا، وفي سبيل أن يروكَ أبكر، قد مضوا مع هذا أو مع ذاك. بعضهم قد مضوا للتوّ. إنّ أولئك الّذين أتوا كانوا يقولون بأنّهم رأوكَ وتكلّموا معكَ في مواضع مختلفة، وما كان يثير الدهشة، أنّ الجميع كانوا يقولون بأنّهم رأوكَ في اليوم الثاني عشر بعد موتكَ. لقد اعتقدنا بأن ذلك الأمر كان خدعة مِن أحد الأنبياء الكذبة الّذين قلتَ لنا بأنّهم سوف يَظهرون ليخدعوا ‏المختارين. لقد تكلّمتَ عنهم هنا، على جبل الزيتون، في المساء السابق... السابق...» بطرس، وقد استولى عليه الألم لدى تلك الذكرى، يخفض رأسه ويصمت. دمعتان، متبوعتان بأخرى، تتساقط مِن لحيته على الأرض…

 

يسوع يضع يده اليمنى على كتف بطرس الذي يرتعد مِن ذلك الاحتكاك، وكونه لا يجرؤ على لمس تلك اليد بيديه، فإنّه يحني عنقه ووجهه، ليدغدغ تلك اليد المعبودة بخدّه، ويلامسها بشفتيه.

 

يعقوب بن حلفى يتابع السّرد: «وقد نَصَحنا بعدم تصديق تلك الظهورات، أولئك الّذين كانوا ينهضون مِن بيننا ليركضوا باتّجاه البحر العظيم، أو نحو بصرى، أو إلى قيصريّة فيلبّس، أو إلى بيلاّ أو قادش، إلى الجبل قرب أريحا وإلى السهل، كما إلى مرج ابن عامر، إلى حرمون الكبير كما إلى بيت حورون [بيت عور] وبيت شمس، وإلى مواضع أخرى لا أسماء لها، كونها منازل منعزلة في السهل قرب جافيا أو قرب جلعاد. ظهورات قد بدت لنا مشكوك فيها كثيراً. البعض كانوا يقولون: "لقد رأيناه وسمعناه." آخرون كانوا يُرسِلون مَن يقول لنا بأنّهم رأوكَ وحتّى إنّهم أكلوا معكَ. نعم، لقد أردنا أن نستبقيهم، لاعتقادنا بأنّها كانت فخاخاً ممّن يحاربوننا، أو أنّها أطياف رآها أناس أبرار، لكثرة تفكيرهم بكَ ينتهون إلى رؤيتكَ حيث لم تكن موجوداً. لكنّهم أرادوا الذهاب، البعض إلى مكان، البعض إلى آخر. وبذلك فقد تقلّصنا إلى أقلّ مِن الثلث.»

 

«لقد كنتم على حق في الإصرار على استبقائهم. ليس لأنّني لم أكن حقّاً حيث قال لكم أولئك الّذين أتوا إنّي كنتُ، بل لأنّني قلتُ بالبقاء هنا، متّحدين بالصلاة في انتظاري. ولأنّني أريد لكلماتي أن تُطاع، خصوصاً مِن قِبَل أولئك الّذين هم خدّامي. فإذا بدأ الخدّام بالعصيان، فماذا الّذي سيفعله المؤمنون؟

 

أَنصِتوا كلّكم أنتم الّذين هنا حولي. تذكّروا أنّه في كلّ هيئة [هيكلية]، كي تكون فاعلة حقّاً وسليمة، لا بدّ مِن تسلسل مُنَظَّم، أي مَن يُصدِر الأوامر، ومَن ينقل الأوامر، ومَن يُطيعون. هكذا تجري الأمور في بلاطات الملوك. هكذا في الديانات، بدءاً مِن ديانتنا العبرانيّة وصولاً إلى غيرها، حتّى غير النقية. هناك دائماً قائد، وزراء له، خدّام الوزراء، وأخيراً المؤمنون. فالحَبْر لا يستطيع التصرّف بمفرده. والـمَلِك لا يستطيع التصرّف بمفرده. إلّا أنّ ما يأمرون به يتعلق فقط بعوارض بشريّة أو بإجراءات طقسيّة... نعم. ومع الأسف، فالآن، حتّى في الديانة الموسويّة، لم يعد متبقّياً سوى شكليّات الطقوس، تكرار نفس الحركات بآليّة محدّدة، حتّى الآن وقد مات روح الحركات. مات إلى الأبد. لأنّ محرّكها الإلهيّ، الّذي كان يعطي الطقوس قيمتها، قد انسحب منها. والطقوس حركات، ليس إلاّ. حركات يمكن لأيّ بهلوان أن يقلّدها على خشبة المسرح. الويل، ‏حين تموت ديانة، وتتحوّل مِن قُدرة حقيقيّة، حيّة، لتصبح إيمائيّة صاخبة، مظهرية، شيئاً فارغاً خلف المشهد المرسوم، خلف الملابس الباذخة، حركة آليّة تُكرّر حركات معيّنة، مثل مفتاح يُشَغّل نابضاً، لكنّ النابض كما المفتاح، لا يعيان ما يفعلان. الويل! فكّروا!

 

تذكّروا هذه الحقيقة دوماً، وأخبروها لخلفائكم، كي تكون هذه الحقيقة معروفة عبر العصور. إنّ سقوط كوكب لهو أقل هولاً مِن سقوط الديانة. إذا بقيت السماء خالية مِن النجوم والكواكب، فلن يكون ذلك بالنسبة للشعوب بمثل بؤس البقاء مِن دون ديانة حقّة. إنّ الله بقدرته المتبصّرة يسدّ نقص الاحتياجات البشريّة، لأنّ الله قادر على فِعل كلّ شيء مِن أجل أولئك الّذين، على طريق الحكمة، أو الطريق الّتي يَعْلَمها جهلهم، يبحثون، يحبّون الألوهيّة بروح مستقيمة. ولكن إن أتى يوم لا يعود البشر فيه يحبّون الله، لأنّ كَهَنَة كلّ الديانات قد جعلوها فقط إيمائيّة فارغة، حيث يكونون هم أوّل مَن لم يؤمن بالديانة، فالويل للأرض!

 

بيد أنّي، إن كنتُ أقول ذلك أيضاً عن هذه الديانات غير النقيّة، الّتي جاء بعضها على أثر إيحاءات جزئيّة لشخص حكيم، وأخرى عن حاجة غريزيّة للإنسان في أن يبتدع لنفسه إيماناً كي يغذّي روحه بمحبّة إله، حيث إنّ هذه الحاجة هي المحفّز الأقوى للإنسان، الحالة الدائمة للبحث عن الّذي هو موجود، والّذي تطلبه الروح، حتّى لو كان الفكر المتكبّر يرفض طاعة أيّ إله كان، حتّى لو كان الإنسان، بجهله النَّفْس، لا يُحسِن إضفاء اسم لهذه الحاجة الّتي تتفاعل في داخله، فماذا عليّ أنّ أقول بالنسبة إلى هذه الديانة الّتي منحتُكم إيّاها، الّتي تحمل اسمي، هذه الديانة الّتي أنشأتُكم لتكونوا أحبارها وكَهَنَتها، الّتي آمركم بنشرها عبر الأرض كلّها؟ بالنسبة إلى هذه الديانة الفريدة، الحقّة، الكاملة، الراسخة في العقيدة الّتي عَلَّمتُها أنا، المعلّم، الـمُكَمَّلة بتعليم مستمر للّذي سيأتي: الروح القدس، الـمُرشِد الكلّي القداسة لأحباري والّذين سوف يعاونونهم، رؤساء مُعاوِنِون في الكنائس المتعدّدة الـمُنشأة في المناطق المختلفة حيث ستتثبّت كلمتي. تلك الكنائس الّتي، رغم تعدّدها، إلاّ أنّها لن تكون مختلفة في الفِكر، بل ستكون واحدة مع الكنيسة، مُشِكّلة بكلّ أجزائها الصَّرح العظيم، أعظم على الدوام، العظيم، الهيكل الجديد، الّذي سيبلغ بأجنحته كلّ تخوم الأرض. كنائس غير مختلفة في الفِكر، ولا متعارضة في ما بينها، بل متّحدة، أخويّة الواحدة بالنسبة إلى الأخرى، كلّها خاضعة لرأس الكنيسة، لبطرس ولخلفائه، حتّى نهاية العصور.

 

وتلك الّتي، لأيّ سبب كان، لسوف تنفصل عن الكنيسة الأُمّ، فسوف تكون أعضاء مقطوعة ما عادت تتغذّى بعد بالدم السريّ الّذي هو النعمة الآتية منيّ أنا، الرأس الإلهيّ للكنيسة. شبيهين بأبناء ضالّين، منفصلين بإرادتهم عن المسكن الأبويّ، اللّابثين، في غناهم البائد وبؤسهم المستمرّ والمتعاظم، يستنزفون فكرهم الروحيّ بأطعمة وخمور ثقيلة للغاية، ومِن ثمّ يوهنون إذ يأكلون البلّوط الـمُرّ الّذي تأكل منه الحيوانات النّجسة، إلى اللحظة الّتي يعودون فيها إلى المسكن الأبويّ، قائلين بقلب منسحق: "لقد خطئنا. يا أبتاه، اغفر لنا وافتح لنا أبواب مسكنكَ." وحينذاك، سواء كان عضواً في كنيسة منفصلة، أو كانت كنيسة كاملة -آه! ليكن الأمر كذلك، إنّما أين، متى ‏ينهض المقتدون بي الكثيرون، القادرون على فداء كلّ تلك الكنائس المنفصلة بحياتهم، ليبنوا، ليعيدوا بناء حظيرة وحيدة في ظلّ راعٍ واحد، كما أرغب في ذلك بحرارة؟- حينذاك، سواء كان الّذي يعود واحداً أو مجموعة، افتحوا لهم الأبواب. كونوا أبويّين. فكّروا بأنّكم كلّكم، لساعة واحدة أو لساعات كثيرة، ربّما لسنوات، كنتم، كلّ منكم على حدة، أبناء ضالّين تلفّكم الشهوات. لا تقسوا على التائبين. تذكّروا! تذكّروا!

 

كثيرون منكم هربوا، منذ اثنين وعشرين يوماً. وألم يكن الهروب جحوداً لحبّكم لي؟ إذاً، كما استقبلتُكم حالما تبتم، عدتم إليّ، افعلوا هذا أنتم كذلك. كلّ ما فعلتُه أنا، افعلوه. آمركم بذلك. لقد عشتم معي لثلاثة أعوام. تعرفون أعمالي وأفكاري. حين تجدون أنفسكم، في المستقبل، في مواجهة حالة عليكم حسمها، انظروا إلى الزمن الّذي كنتم فيه معي، وتصرّفوا كما تصرّفتُ أنا. لن تخطئوا أبداً. أنا المثال الحيّ والكامل لما عليكم فِعله.

 

وتذكّروا أيضاً أنّني لم أمنع نفسي حتّى عن يهوذا الإسخريوطيّ ذاته... على الكاهن أن يسعى إلى أن يُخلّص، بكل الوسائل. ولتكن المحبّة هي الّتي تسود دوماً وسط جميع الوسائل المستخدمة للخلاص. فكّروا بأنّني لم أكن أجهل فظاعة يهوذا... إلاّ أنّني، متجاوزاً بذلك كلّ نفور، عاملتُ ذلك البائس كما عاملتُ يوحنّا. بالنسبة لكم... فغالباً أنتم لن تختبروا مرارة معرفة أنّ لا شيء سينفع لتخليص تلميذ محبوب... وبالتالي سوف تكونون قادرين على العمل مِن دون الشعور بالإعياء الّذي يتأتّى مِن العلم بأنّ لا شيء سينفع... وحتّى آنذاك سيتوجّب عليكم العمل... دوماً... حتّى يتمّ كلّ شيء...»

 

«إنّما أتتعذّب يا ربّ!؟! آه! لم أكن أعتقد بأنكَ يمكن أن تعاني بعد! إنّكَ لا تزال تتعذّب بسبب يهوذا! إنْسَهُ يا ربّ!» يهتف يوحنّا الّذي لم يرفع نظره عن ربّه.

 

يسوع يفتح ذراعيه، في سلوكه المعتاد للتأكيد المستسلم لحدث مؤلم، ويقول: «الأمر هو هكذا... يهوذا كان وما يزال الألم الأعظم في بحر آلامي. إنّه الألم الباقي... الآلام الأخرى انتهت مع إتمام التضحية. لكنّ هذا الألم يبقى. لقد أحببتُه. لقد استنفذتُ نفسي جاهداً لتخليصه... لقد استطعتُ فتح أبواب اليمبوس وإخراج الأبرار منه، استطعتُ فتح أبواب المطهر وإخراج الّذين كانوا يتطهّرون. لكنّ مكان الهول كان مقفلاً عليه. موتي بالنسبة له عديم الجدوى.»

 

«لا تتعذّب! لا تتعذّب! أنتَ ممجّد يا ربّي! لكَ المجد والفرح. لقد استنفذتَ ألمكَ!» يقول أيضاً يوحنّا متوسّلاً.

 

«حقّاً ما مِن أحد كان يظنّ بأنّه يمكن أن يتألّم بعد!» يقول الجميع، مندهشين ومتأثّرين، وهم يتهامسون في ما بينهم.

 

«وألم تفكّروا بكمّ الألم الّذي يجب أن يعانيه قلبي بعد عبر العصور، مِن أجل كلّ خاطئ لا يتوب، مِن أجل كلّ هرطقة تنكرني، مِن أجل كلّ مؤمن يجحد بي، و -تمزّق التمزّقات- لأجل كلّ كاهن خاطئ، يسبّب شكّاً وخراباً؟ أنتم لا تعلمون! لا تعلمون بعد! لن تعلموا أبداً تماماً طالما لا تكونون معي في نور السماوات. حينذاك سوف تُدرِكون... بتأمّل يهوذا، تأمّلتُ المختارين الّذين يستحيل اختيارهم خراباً بسبب إرادتهم المنحرفة… آه! أنتم الأوفياء، أنتم الّذين ستُهيّئون كَهَنَة المستقبل، تذكّروا ألمي، انموا في القداسة دوماً لتعزية ألمي، اجعلوا منهم قدّيسين، لئلاّ يتكرّر هذا الألم ما أمكن، انصحوا، اسهروا، عَلِّموا، ناضلوا، كونوا متنبّهين مثل أُمّهات، مثابرين كمعلّمين، يقظين كرعاة، شجعاناً كمحاربين، لمساندة الكَهَنَة الّذين ستدرّبونهم. تصرّفوا، آه! تصرّفوا بحيث لا يتكرّر كثيراً في المستقبل إثم الرسول الثاني عشر…

 

كونوا كما كنتُ معكم، كما أنا معكم. لقد قلتُ لكم: "كونوا كاملين مثل أبيكم الّذي في السماوات". ولترتجف إنسانيّتكم أمام أمر كهذا. الآن أكثر مِن الوقت الّذي قلتُه فيه لكم، لأنّكم الآن تدركون ضعفكم.

 

ولأشجعكم، أقول لكم: "كونوا مثل معلّمكم". أنا الإنسان. ما فعلتُه أنا، أنتم تستطيعون فِعله. حتّى المعجزات. نعم، حتّى هذه. كي يَعلَم العالم أنّني أنا الّذي أُرسِلكم، وكي كلّ الذين يعانون لا يبكون بإحباط وهم يفكّرون: "هو لم يعد بيننا كي يشفي مرضانا ويعزّي آلامنا". لقد اجترحتُ معجزات هذه الأيّام كي أعزّي القلوب ‏وأُقنعها بأنّ المسيح لم يَفْنَ لأنّهم قتلوه، بل على العكس هو أقوى، قويّ وقادر للأبد. إنّما حين لا أعود بينكم، سوف تعملون ما عملتُه حتّى الآن وما سأظلّ أعمله بعد. إنّما ليس بقدرة اجتراح المعجزات تتعاظم المحبّة للديانة الجديدة، بل عبر قداستكم. وعلى قداستكم، لا على الهبة الّتي أنقلها إليكم، عليكم أن تسهروا بِغَيرة. كلّما كنتم أكثر قداسة، كلّما كنتم أحبّاء إلى قلبي أكثر، وروح الله سوف ينيركم، فيما صلاح الله وقدرته سوف يملآن أيديكم بنعم السماء. المعجزة ليست عملاً شائعاً ولازماً للعيش في الإيمان. وحتّى! طوبى لأولئك الّذين يُحسِنون الثبات في الإيمان مِن دون وسائل فائقة لتساعدهم على الإيمان! إنّما كذلك المعجزة هي ليست عملاً مُدَّخراً على نحو حصريّ لأزمنة خاصة، بحيث يجب أن تتوقّف حين لا تعود تلك الأزمنة قائمة. سوف توجد المعجزة في العالم. دائماً. وسوف تزيد أكثر كلّما كَثُرَ عدد الأبرار في العالم. وحين تُرى المعجزات الحقيقيّة وقد أصبحت نادرة جدّاً، آنذاك ليكن القول إنّ الإيمان والبرّ قد فَتَرا. بالفعل لقد قلتُ: "إن كنتم تتحلّون بالإيمان، فيمكنكم تحريك الجبال." بالفعل لقد قلتُ: "العلامات الّتي سترافق أولئك الّذين يتحلون بالإيمان الحقيقيّ بي، ستكون الانتصار على الشياطين وعلى الأمراض، على العناصر والمكائد."

 

إنّ الله مع مَن يحبّه. العلامة على مقدار اتّحاد المؤمنين بي، ستكون في عدد وقوّة المعجزات الّتي سيعملونها باسمي ولتمجيد الله. في عالم مِن دون معجزات حقيقيّة، يمكن القول عنه مِن دون افتراء: "لقد فقدتَ الإيمان والبرّ، أنتَ عالم يخلو مِن القدّيسين".

 

إذاً، وبالعودة إلى البدء، لقد أحسنتم صنعاً بالسعي إلى إبقاء أولئك الّذين، مثل أطفال أغراهم لحنٌ موسيقيّ أو بريقٌ غريب، يركضون تائهين، بعيداً عن الأمور المؤكَّدة. لكن أترون؟ إنّهم يُعاقَبون على ذلك لأنّهم أضاعوا كلمتي. إنّما أنتم أيضاً قد أخطأتم. لقد تذكّرتم أنّني قلتُ بعدم الركض هنا وهناك مِن أجل كلّ صوت يقول إنّني كنتُ في موضع معيّن. لكنّكم لم تتذكّروا أنّني قلتُ أيضاً أنّ المسيح، في مجيئه الثاني، سيكون شبيهاً ببرق يخرج مِن الشرق ليمضي إلى الغرب في زمن أقصر مِن رمشة عين.

 

ذلك أنّ المجيء الثاني قد ابتدأ لحظة قيامتي. وهو سيبلغ أوجه بظهور المسيح الدّيّان لكلّ القائمين مِن الموت. إنّما قبل ذلك، كم مرّة سوف أظهر لأهدي، لأشفي، لأعزّي، ‏لأُعلِّم، لأعطي أوامر! الحقّ أقول لكم: أنا سوف أعود إلى أبي. لكنّ الأرض لن تفقد حضوري. ‏سوف أكون ساهراً وصديقاً، معلّماً وطبيباً، حيثما تكون الأجساد أو النفوس، خاطئة كانت أو قدّيسة، تحتاج إليّ أو تكون مختارة مِن قِبَلي لنقل كلماتي إلى الآخرين. ذلك أنّ هذه أيضاً حقيقة، لأنّ البشريّة سوف تحتاج إلى فِعل محبّة مستمرّ مِن قِبَلي، كونه مِن الصعب جدّاً أن تنحني، إنّها تبرد بسهولة كبيرة، مستعدّة لأن تنسى، راغبة بالانحدار بدلاً مِن الصعود، بحيث أنّني إن لم أكن لأوقفها بوسائل فائقة الطبيعة، فعندها، لا الشريعة، ولا البشرى الحسنة، ولا المساندة الإلهيّة التي سوف تتولّاها كنيستي ستنفع للإبقاء على البشرية في نطاق إدراك الحقّ وفي إرادة الوصول إلى السماء. وأتكلّم عن البشريّة الّتي تؤمن بي... القليلة العدد دوماً، مقارنةً بالكتلة الهائلة لسكّان الأرض.

 

أنا سوف آتي. ليلبث متواضعاً مَن سيحظى بي. مَن لا يحظى بي لا يكن طمّاعاً للفوز بي من أجل أن يُمتَدح. لا يرغبنّ أحد في ما هو فائق للطبيعة. فالله يعلم متى ‏وأين يعطيه. ليس مِن الضروريّ امتلاك ما هو فائق الطبيعة لدخول السماوات. لا بل هو، إذا ما أسيء استخدامه، سلاح يمكنه أن يفتح الجحيم بدلاً مِن السماء. والآن سوف أقول لكم كيف. لأنّ الكبرياء يمكن أن يطفو. لأنّه مِن الممكن أن تتأتّى حالة روحيّة مُـحَتَقَرة في عينيّ الله، فالكبرياء شبيه بالمخَدّر الّذي به يسترخي شخص ليستمتع بالكنز المكتسب، وهو يعتقد بأنّه في السماء لأنّه حصل على هذه الهبة. لا. في هذه الحال، بدلاً مِن أن يصبح شعلة وجناحاً، يصبح جليداً وصخرة ثقيلة، وتهوي النَّفْس وتموت. وأيضاً: إنّ هبةً يُساء استخدامها يمكن أن تثير رغبة عارمة لنيل المزيد في سبيل نيل ثناء أعظم. عندها، في هذه الحالة، يمكن أن يحلّ روح الشرّ محلّ الربّ لإغواء الغافلين بأعاجيب دَنِسة. كونوا دائماً بعيدين عن الغوايات مِن كلّ نوع. اهربوا منها. كونوا مسرورين بما يمنحكم إيّاه الله. هو يعلم ما ينفعكم وبأيّة طريقة. وفكّروا دوماً بأنّ كلّ هبة هي اختبار علاوة عن أنّها هبة، اختبار لبرّكم وإرادتكم. لقد أعطيتُكم الأمور نفسها. إنّما ما جعلكم أفضل قد أهلك يهوذا. أكانت إذاً الهبة شرّاً؟ لا. إنّما إرادة ذلك الروح كانت شرّيرة…

 

وكذلك هو الأمر الآن. لقد ظهرتُ للكثيرين. ليس فقط لأعزّي وأفيض الإحسانات، بل لإرضائكم. كنتم قد توسّلتم إليّ كي أُقنِع الشعب بأنّني قمتُ مِن الموت، الشعب الّذي يحاول جماعة السنهدرين إقناعه بأفكارهم. لقد ظهرتُ لأطفال وراشدين، في اليوم نفسه، في مواضع متباعدة فيما بينها بحيث يتطلب الوصول مِن الواحدة إلى الأخرى أيّاماً مِن السير. أنا لم أعد مُستَعبَداً للمسافات. وتلك الظهورات المتزامنة قد أربكتكم أنتم أيضاً. لقد قلتُم لأنفسكم: "هؤلاء الناس قد رأوا أطيافاً". فقد نسيتم جزءاً مِن كلماتي، الّذي هو أنّني سأكون مِن الآن فصاعداً في الشرق والغرب، في الشمال والجنوب، حيثما أجد أنّه مِن الصائب أن أكون، مِن دون أن يمنعني شيء مِن ذلك، وسريعاً مثل الصاعقة الّتي تشقّ السماء. أنا إنسان حقيقيّ. ها هي أطرافي وها هو جسدي الصّلب، الحارّ، أنا ‏قادر على التحرّك، التنفّس، التكلّم مثلكم. لكنّني الله الحقّ. وإذا كانت ألوهيّتي محجوبة في إنسانيّتي خلال ثلاثة وثلاثين عاماً لنهاية سامية، فإنّ ألوهيّتي، على الرغم مِن أنّها متّحدة بالناسوت،  قد طغت الآن، وإنسانيّتي تتمتّع بالحريّة الكاملة للأجساد الممجّدة. مَلِكَة مع الألوهيّة الّتي لم تعد خاضعة لمحدوديّة الإنسانيّة. ها أنا ذا. أنا معكم وأستطيع، إذا شئتُ، أن أكون بلحظة واحدة في أقاصي العالم لأجذب إليّ روحاً يبحث عني.

 

وأيّ ثمرة ستكون لوجودي بالقرب مِن قيصريّة البحريّة وفي قيصريّة العليا، كما في كريت وفي عين جدي، وقرب بيلاّ ويافا وفي مواضع أخرى مِن اليهودية، وفي بصرى، وعلى حرمون الكبير، وفي صيدون وعند تخوم الجليل؟ وأيّة ثمرة لشفائي طفلاً، وإقامتي شخصاً لفظ أنفاسه منذ وقت قصير، ومواساتي شخصاً في ضيق، والدعوة لخدمتي شخصاً كان قد تقشّف في توبة ‏قاسية، وإلى الله شخصاً بارّاً كان قد توسّلني لأجل ذلك، وإعطائي رسالتي لأبرياء وأوامري لقلب وفيّ؟ هل سيُقنِع ذلك ‏العالم؟ لا. إنّ أولئك الّذين يؤمنون سيواصلون الإيمان، بسلام أعظم إنّما ليس بقوّة أكبر، لأنّهم كانوا يُحسِنون الإيمان بحق. أمّا الّذين لم يُحسِنوا التحلي بإيمان حقيقيّ فسيظلّون شكّاكين، والسيّئون منهم سيقولون إنّ هذه الظهورات هي هذيانات وأكاذيب، وإنّ الميت لم يكن ميتاً إنما نائماً… أتذكرون عندما قلتُ لكم مثل الغني الفاسد1؟ قلتُ إنّ ابراهيم أجاب الـمُدان قائلاً: "إن لم يُنصِتوا إلى موسى والأنبياء، فلن يؤمنوا ولا حتّى بواحد يقوم مِن بين الأموات ليقول لهم ما عليهم أن يفعلوا". هل يا ترى آمنوا بي معلّماً، وبمعجزاتي؟ ما الّذي حقّقته معجزة لعازر؟ لقد سَرَّعت الحكم عليَّ. وما الّذي حقّقته قيامتي؟ زيادة الكراهية. كذلك معجزاتي في أيامي الأخيرة هذه بينكم لن تُقنِع العالم، إنّما فقط أولئك الّذين ما عادوا مِن العالم، باعتبار أنّهم اختاروا ملكوت الله بمتاعبه ومشقّاته الحاضرة ومجده الآتي.

 

إنّما أنا مسرور لأنّكم ثبتّم في الإيمان وكنتم أوفياء لأمري، ماكثين على هذا الجبل تنتظرونني، مِن دون تّسرّع بشريّ للتمتّع بأمور هي أيضاً صالحة، إنّما مختلفة عن تلك الّتي كنتُ قد عيّنتُها لكم. العصيان يعطي الشخص عشراً وينتزع تسعاً. هم مضوا وسوف يسمعون كلمات بشر، فقط هذه. أنتم بقيتم وسمعتم كلمتي الّتي، حتّى لو أنّها تُذكّر بأمور سبق أن قيلت، فهي دوماً صالحة ومفيدة. إنّ الدرس سيكون عبرة لكم كلّكم، وأيضاً لهم، للمستقبل.»

 

يسوع يلفت نظره نحو تلك الوجوه المجتمعة هناك وينادي: «تعال يا أليشع عين جدي. لديّ ما أقوله لكَ.»

 

لم أتعرّف إلى الأبرص السابق2، ابن إبراهيم العجوز. كان آنذاك يشبه هيكلاً عظمياً شبحيّاً، إلاّ أنّه الآن رجلٌ متين البُنية في زهرة العمر. يقترب ساجداً عند قدميّ يسوع، الّذي يقول له: «إنّ سؤالاً يرتجف على شفتيكَ منذ أن علمتَ أنّني كنتُ في عين جدي. وهو هذا: "هل عزّيتَ أبي؟" وأنا أقول لكَ: "لقد منحتُه أكثر مِن تعزية! إنّه معي! لقد أخذتُه معي".»

 

«معكَ يا ربّي؟ وأين هو، أنا لا أراه؟»

 

«أليشع، إنّني هنا لوقت قصير بعد. ثم أمضي إلى أبي...»

 

«ربيّ!... أنتَ تقصد... أنّ أبي مات!»

 

«رقد على قلبي. بالنسبة له أيضاً قد انتهى الألم. لقد استنفذه كلّه، وببقائه وفيّاً للربّ دوماً. لا تبك. ألم تتركه لتتبعني؟»

 

«نعم يا ربّي...»

 

«هو ذا. أبوكَ معي. لذلك، باتّباعكَ لي، سوف تأتي كذلك إلى جانب أبيكَ.»

 

«لكن متى؟ وكيف؟»

 

«في كرمه، حيث سمع عنّي لأوّل مرّة. لقد ذَكَّرَني بطلبته للعام الماضي. لقد قلتُ له: "تعال". لقد مات مسروراً، لأنّكَ تركتَ كلّ شيء لتتبعني.»

 

«اغفر لي إن بكيتُ... كان أبي...»

 

«أُحسِن فهم الألم.» يضع يده على رأسه لمواساته ويقول للتلاميذ: «ها هو رفيق جديد. ليكن عزيزاً عليكم، لأنّني أخرجتُه مِن قبره ليخدمني.»

 

ثم ينادي: «إيليا، تعال إليّ. لا تكن خجولاً مثل شخص غريب بين إخوة. كلّ الماضي قد دُمِّر. وأنتَ أيضاً تعال يا زكريّا، أنتَ الّذي تركتَ أباً وأُمّاً مِن أجلي، اتّخذ مكاناً بين الاثنين والسبعين مع يوسف الّذي مِن سينتيوم. إنّكما تستحقّان ذلك، باعتباركما قد تحدّيتما سُبُل المقتدرين مِن أجلي. وأنتَ يا فيلبّس، وأنتَ أيضاً يا رفيقه، الّذي لا تُريد أن تُدعى باسمكَ، لأنّه يبدو لكَ مهولاً، واتّخذ إذن اسم أبيكَ، الّذي هو رجل بارّ، حتّى لو أنّه ليس بعد مِن بين الّذين يتبعونني علانية. أترون كلّكم؟ لستُ أستثني أحداً يملك إرادة صالحة. لا الّذين كانوا يتبعونني بالفعل كتلاميذ، ولا الّذين كانوا يقومون بأعمال صالحة باسمي حتّى لو لم يكونوا ينتمون إلى جماعات تلاميذي، ولا الّذين كانوا ينتمون إلى طوائف لا يحبّها الجميع، الذين يمكنهم دوماً سلوك الدرب الصحيح، ويجب ألاّ يُستَبعَدوا. افعلوا كما أفعل. إنّني أضمّ هؤلاء إلى التلاميذ القدامى. فملكوت السماوات مفتوح لكلّ أصحاب الإرادة الصالحة. وحتّى لو أنّهم غير حاضرين، أقول لكم ألاّ تصدّوا حتّى الوثنيّين. أنا لم أصدّهم، حين علمتُ أنّهم راغبون بالحقّ. افعلوا ما فعلتُ. وأنتَ يا دانيال3، الخارج بحق مِن الحفرة، ليس مِن حفرة ‏الأسود، بل مِن حفرة أبناء آوى، تعال، وانضمّ إلى هؤلاء، وتعال أنتَ يا بنيامين، أضمّكَ إلى هؤلاء (يشير إلى الاثنين والسبعين المكتملي العدد تقريباً) لأنّ حصاد الربّ سوف يكون وفيراً ويلزمه عمّال كُثُر.

 

‏الآن لنبقَ مجتمعين هنا لبعض الوقت فيما يمضي النهار. وفي المساء سوف تغادرون الجبل، وعند الفجر، أنتم الرُّسُل، وأنتما الاثنين اللذين سمّيتُكما (يشير إلى زكريّا ويوسف سينتيوم الّذي ليس مجهولاً لديّ)، سوف تأتون معي، بالإضافة إلى كلّ الموجودين هُنا مِن الاثنين والسبعين. أمّا الآخرون فسوف يبقون في المكان بانتظار الّذين هرعوا هنا وهناك مثل زنابير عاطلة عن العمل، ليقولوا لهم باسمي بأنّه ليس بتقليد الأطفال الكسالى والعُصاة يتمّ إيجاد الربّ، وأن يكونوا جميعاً في بيت عنيا قبل عشرين يوماً مِن العنصرة، لأنّهم بعد ذلك سيبحثون عنّي عبثاً. اجلسوا كلّكم، استريحوا. أنتم، تعالوا معي قليلاً على حِدَة.»

 

ينطلق، ممسكاً بيد مارغزيام طوال الوقت، يتبعه الأحد عشر رسولاً. يجلس في عمق أعماق غابة شجر البلّوط، ويحتضن مارغزيام الحزين جدّاً، الحزين إلى درجة جعلت بطرس يقول: «عَزِّه يا ربّ. لقد كان حزيناً، والآن هو أكثر حزناً.»

 

«لماذا أيّها الولد؟ أربّما لستَ معي؟ أما عليكَ أن تكون مسروراً لمعرفة أنّني تخطّيتُ الألم؟»

 

جواب مارغزيام هو أنّه يشرع بالبكاء بدموع حارّة.

 

«لا أدري ما خطبه. لقد سألتُه مِن دون جدوى. واليوم، لم أكن أتوقّع منه هذا البكاء!» يدمدم بطرس مستاء قليلاً.

 

«أنا، على العكس، أعلم ما به.» يقول يوحنّا.

 

«نِعمَ الأمر! لماذا يبكي إذاً؟»

 

«لم يبدأ بالبكاء اليوم. هذا منذ عدّة أيام...»

 

«هيه! إنّما قد لاحظتُ ذلك! لكن لماذا؟»

 

«الربّ يعلم ذلك. أنا متأكّد مِن ذلك. وأعلم أنّه الوحيد الّذي لديه كلمة التعزية.» يقول أيضاً يوحنّا وهو يبتسم.

 

«هذا صحيح. أنا أعلم ذلك. وأعلم أنّ مارغزيام، التلميذ الصالح، هو بحقّ طفل الآن، طفل لا يرى حقيقة الأمور. لكن، أيّها التلميذ الأحبّ إليّ مِن بين كلّ التلاميذ، ألا تفكّر بأنّني ذهبتُ لأثبّت الإيمانات المتعثّرة، لأغفر، لأستقبل كينونات منتهية، لألغي شكوكاً مسمومة بُثَّت في الأكثر ضعفاً، لأجيب برحمة أو بصرامة أولئك الّذين يريدون بعد محاربتي، لأشهد بحضوري بأنّني قمتُ مِن الموت حيث كانوا يجهدون أكثر للقول بأنّني متّ؟ أيّة حاجة كانت لأن آتي إليكَ، أيّها الولد، الّذي إيمانه، رجاؤه، محبّته، والّذي إرادته وطاعته معروفة لديّ؟ أن آتي إليكَ للحظة، في حين أنّني سأحظى بكَ معي، كما الآن، مرّات عديدة بعد؟ مَن سيحتفل معي بوليمة الفصح إن لم تكن أنتَ وسط كلّ التلاميذ الآخرين؟ أترى كلّ هؤلاء؟ هم قد أقاموا فصحهم، ومذاق الحَمَل وفطيرة الفصح والخبز الفطير والنبيذ قد أصبح بالكامل رماداً ومراراً وخلاّ لأحناكهم، في الساعات الّتي تلت. إنّما أنتَ وأنا، يا ولدي، سوف نتناول فصحنا بغبطة، وسيكون عسلاً ينزل ويُحفَظ هكذا. مَن بكى آنذاك سوف يفرح الآن. مَن فرح آنذاك لا يمكنه توقّع الفرح مجدّداً.»

 

«حقاً... لم نكن مسرورين جدّاً ذلك اليوم...» يتمتم توما.

 

«نعم. قلبنا كان يرتجف...» يقول متّى.

 

«وكان فينا غليان شكّ وغضب، أقلّه فيَّ أنا.» يقول تدّاوس.

 

«ولذلك تقولون إنّكم تودّون كلّكم أن تُقيموا الفصح الـمُكمِّل...»

 

«هو ذاك، يا ربّ.» يقول بطرس.

 

«ذات يوم تذمّرتَ لأنّ التلميذات وابنكَ لم يشاركوا في الوليمة الفصحيّة. الآن تشكو مِن أنّ الّذين لم يفرحوا آنذاك ينبغي لهم أن يحظوا بالفرح.»

 

«هذا صحيح. أنا خاطئ.»

 

«وأنا الّذي يُشفِق. أريدكم أن تكونوا كلّكم حولي، وليس أنتم فقط، بل أيضاً التلميذات. لعازر سوف يستضيفنا مجدّداً. لم أكن أريد ابنتيكَ يا فيلبّس، ولا زوجاتكم، ولا ميرتا، نُعْمي والفتاة اليافعة الّتي معهما، ولا هذا. فأورشليم لم تكن مكاناً مناسباً للجميع في تلك الأيّام!»

 

«هذا صحيح! كان حسناً عدم وجودهم هناك.» يتنهّد فيلبّس.

 

«نعم. لكانوا رأوا جُبننا.»

 

«اصمت يا بطرس، لقد غُفِر لنا.»

 

«نعم. لكنّني اعترفتُ بذلك لابني، وكنتُ أعتقد بأنّه كان حزيناً لذلك السبب. لقد اعترفتُ بذلك لأنّه في كلّ مرة اعترف أشعر بالارتياح. كما لو أُزيح حجر ضخم عن قلبي. أشعر بأنّه مغفور لي أكثر كلّ مرة أتواضع فيها. إنّما إذا كان مارغزيام حزيناً لأنّكَ أظهرتَ نفسكَ لآخرين...»

 

«لذلك وليس لشيءٍ آخر يا أبي.»

 

«إذاً ابتهج! هو أحبّكَ ويحبّكَ. ترى ذلك. كنتُ قد أعلمتُكَ عن الفصح الثاني...»

 

«أنا، كنتُ أعتقد بأنّني تقبّلتُ على مضض الطاعة الّتي طلبتها منّي بورفيرا باسمكَ يا ربّ. وبأنّكَ لذلك كنتَ تعاقبني. وكنتُ أعتقد أيضاً بأنّكَ لم تكن تُظهِر نفسكَ لي لأنّني كنتُ أكره يهوذا وأولئك الّذين صلبوكَ.» يعترف مارغزيام.

 

«لا تكره أحداً. أنا غفرتُ.»

 

«نعم يا ربّي، لن أكره ثانية.»

 

«ولا تكن بعد حزيناً.»

 

«لن أحزن بعد يا ربّ.» مارغزيام، مثل كلّ اليافعين الكُثُر، هو أقلّ مِن الآخرين رهبةً مِن يسوع، ويستسلم لذراعيه، الآن وقد تأكّد تماماً مِن أنّ يسوع ليس غاضِباً منه. يمضي إليه بكلّ ثقة. لا بل إنّه يلتجئ إليه بكليّته، مثل صوص تحت جناح أُمّه، في دائرة الذراعين اللتين تضمّانه، ومع زوال الضِّيق الّذي كان يجعله حزيناً وقَلِقاً منذ أيّام، فإنّه يغفو سعيداً.

 

«لا يزال طفلاً.» يلاحظ الغيور.

 

«نعم. إنّما كم عانى! بورفيرا قالت لي ذلك حين جاءت به إليَّ بعد أن ‏أخطرها يوسف طبريّا.» يجيبه بطرس. ثمّ يقول للمعلّم: «أأيضاً بورفيرا في أورشليم؟» وأيّة لهفة كانت ‏في صوت بطرس!

 

«كلّهن. أريد أن أباركهنّ قبل أن أصعد إلى أبي. لقد خدمن هنّ أيضاً، وفي مرّات كثيرة كنّ أفضل مِن الرجال.»

 

«وإلى أُمّكَ؟ ألن تذهب؟» يَسأَل تدّاوس.

 

«إنّنا معاً.»

 

«معاً؟ متى؟»

 

«يوضاس، يوضاس، أتعتقد بأنّني، أنا الّذي وجدتُ دوماً فرحي بقربها، لستُ معها الآن؟»

 

«لكنّ مريم وحدها في منزلها. أُمّي قد أخبرتني بذلك يوم أمس.»

 

يسوع يبتسم ويجيب: «الكاهن الأعظم وحده يدخل خلف حجاب قدس الأقداس.»

 

«وإذاً؟ ما الّذي تقصده؟»

 

«أنّ هناك غبطات لا يمكن وصفها ولا إدراكها. هذا ما أريد قوله.»

 

ينفكّ عن مارغزيام بهدوء، ويعهد به إلى ذراعيّ يوحنّا، الأقرب إليه. ينهض، يباركهم، وبينما هم يحنون الرؤوس، كلّهم راكعون، باستثناء يوحنّا الّذي يضع رأس مارغزيام على ركبتيه، يتلقّون البركة، يختفي.

 

«إنّه بحقّ مثل البرق الّذي تحدّث عنه.» يقول برتلماوس.

 

يبقون متأمّلين، في انتظار غروب الشمس.

***

الربّ يريدني أن أتّخذ دفتراً جديداً للتعليمات والرؤى الأخيرة، الّتي لا مكان لها هنا، لأنّ الصفحات الباقية قليلة للغاية.

 

ينبغي لي البدء بالدفتر الجديد. وكون مرثا مريضة فقد كتبتُ هنا وأعدتُ الكتابة على الجديد.

----------

1- انظر [ج3 - ف52]

2- انظر [ج6 - ف81]

3- انظر [سفر دانيال 14 ، ج10 - ف17 : (يسوع يَظهَر لدانيال)]