ج4 - ف167
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الثاني
167- (في حظيرة عين دور)
13 / 10 / 1945
لا يعود يسوع إلّا إلى عين دور. يتوقّف عند أوّل بيت في البلدة، وهو أقرب إلى الحَظيرة منه إلى البيت. إنّما بالضبط لأنّه هكذا، باصطبلاته المنخفضة، المغلقة، المليئة بالكَلَأ الجافّ، فيمكنه أن يأوي المسافِرِين الثلاثة عشر. صاحب البيت رجل خشن، ولكنّه طيّب، يُسرِع في جَلب مصباح ودلو حليب مُزبِد، إضافة إلى أرغفة خبز أسود. ثمّ ينسحب وقد بارَكَه يسوع الذي يَبقَى منفرداً بالاثني عشر.
يُوزِّع يسوع الخبز، ولعدم توفر القَصعات أو الكؤوس، يَغمس كلّ رغيفَه في الدلو، ويَشرَب منه ليروي غليله. يُسَرُّ يسوع بشرب القليل مِن الحليب. إنّه جادّ وصامت... لدرجة إنّهم، حالما ينتهي العشاء، ويَشبَع الرُّسُل الذين يأكلون بشهية، يُلاحِظون صمته.
أندراوس هو أوّل مَن يَسأَله: «ما بكَ يا معلّم؟ تبدو لي حزيناً أو مُتعَباً...»
«لا أُنكِر أنّني كذلك.»
«لماذا؟ أبسبب أولئك الفرّيسيّين؟ ولكن ينبغي لكَ أن تكون قد تعوَّدتَ على ذلك الآن... كُدتُ ألف ذلك أنا الذي... هيّا! أنتَ تعرف كيف كنتُ في المرّات الأولى معهم. إنّهم يُغنّون دائماً الموّال ذاته!... بالفعل، لا يمكن للثعابين إلّا الفحيح، ولا يمكن لأيّ ثعبان التغريد كالبلبل. يجدر بنا ألّا نعود نجعل منها قضيّة.» يقول بطرس مِن جهة عن اقتناع، ومِن جهة أخرى لِيُعيد إلى يسوع هدوءه.
«وبهذه الطريقة يكون فقدان التحكّم والوقوع في حبائلهم. أرجوكم ألّا تتعوّدوا مُطلقاً على أصوات الشرّ، كما لو كانت غير مُضِرّة.»
«آه! حسناً! إذا كان مِن أجل هذا أنتَ حزين، فإنّكَ مُخطِئ. أنتَ ترى كم يحبّكَ الناس.» يقول متّى.
«ولكن أَمِن أجل هذا فقط أنتَ حزين؟ قُل لي، أيّها المعلّم الصالح. أَم إنّهم حملوا إليكَ الأكاذيب، حاكوا لكَ الدَّسائِس، والشُّبهات، ما أدراني؟ حولنا نحن الذين نحبّكَ؟» يَسأَل الاسخريوطيّ مُداعِباً ومُجامِلاً، وقد مَرَّرَ ذراعه حول يسوع الجالس على الكَلَأ بجانبه.
يَلتَفِت يسوع إلى يهوذا، وفي عينيه أَلَق وميض فوسفوريّ في نور المصباح المتراقص، وقد وُضِع المصباح في وسط الرُّسُل الجالسين على الكَلَأ، على شكل دائرة. يُحدّق يسوع جيّداً في يهوذا الاسخريوطيّ، وفيما هو يَنظُر إليه يَسأَله: «وهل يمكنكَ اعتباري أبلهاً لدرجة تَقَبُّل الدَّسائس مِن أيّ كان، وحتّى أن أَضطَرِب بسببها؟ إنّها الحقائق يا يهوذا، هي التي تجعلني أَضطَرِب.» ولا يتوقّف نظره عن الغوص في حَدَقَة يهوذا البُنّية بشكل مباشر كالـمِسبار.
«إذن، فأيّة حقائق تجعلكَ تضطَرِب؟» يُلحّ الاسخريوطيّ بثبات.
«تلك التي أراها في أعماق القلوب وأقرأها على جبهات أولئك المخلوعين عن عروشهم.» ويؤكّد يسوع كثيراً على هذه الكلمة.
يَضطَرِب الجميع: «المخلوعون عن العرش؟ لماذا؟ ما الذي تريد قوله؟»
«يُخلَع الـمَلِك عن العرش عندما يُصبِح غير جدير بالبقاء عليه، ويتمّ البدء بِنَـزع التاج الذي على جبهته، وكأنّها المكان الأكثر نُبلاً في الإنسان، الحيوان الوحيد الذي ترتفع جبهته صوب السماء، لأنّه مادّيّاً حيوان، ولكنّه كائن فائق الطبيعة، لأنّه يمتلك نَفْساً. إنّما لا حاجة لأن يكون مَلِكاً على عرش أرضيّ، كي يكون مخلوعاً عن العرش. فكلّ إنسان هو مَلِك بالنَّفْس، وعرشه في السماء. ولكن عندما يَمتَهِن الإنسان نفسه، ويُصبِح شَرِساً كالوحش، ويُصبِح شيطاناً، حينئذ يَسقُط عن عرشه. العالم مليء بالجِّباه التي فَقَدَت التاج ولم تَعُد تَنظُر إلى السماء، ولكنّها تنحني صوب الهوّة، مُثقَلَة بالكلمة التي حَفَرَها الشيطان عليها. هل تريدون معرفتها؟ إنّها تلك التي أقرأها على الجِّباه. فلقد كُتب عليها: "مُباع!" ولكي لا تَشُكّوا بِمَن يكون المشتري، فإنّني أقول لكم إنّه الشيطان، بذاته أو بواسطة خُدّامه الذين في العالم.»
«فهمتُ! أولئك الفرّيسيّون، مثلاً، هم خُدّام خادِم أعظم منهم، الذي هو نفسه خادِم الشيطان.» يقول بطرس بيقين، ولا يُجيب يسوع.
«حينذاك... هل تَعلَم يا معلّم، أنّ أولئك الفرّيسيّين، بعد سماعهم الكلام الذي قُلتَه، قد مَضوا ساخِطين؟ فإنّهم كانوا يقولون ذلك وهُم يَدفَعونَني لدى خروجهم... لقد كنتَ حادّاً جدّاً.» يقول برتلماوس.
يُجيب يسوع: «حقّاً. وليست غلطتي، بل غلطتهم هي إذا ما اضطُرِرتُ لقول بعض الأشياء. وهي أيضاً مِن قبيل المحبّة مِن جهتي، أن أقولها لهم. فكلّ نبتة لم يَزرَعها أبي تُقلَع. والنبتة التي لم يزرعها هو، هي خلنج نباتات طفيليّة عديمة الفائدة، خانقة، شائكة، تَخنُق بذور الحقيقة المقدّسة. فَمِن قبيل المحبّة استئصال التقاليد والأحكام التي تَخنق الوصايا العشر، وتُشوِّهها، وتجعلها جامدةً ومستحيلةً رعايتُها والحفاظُ عليها. أن يتمّ ذلك هو محبّة تجاه النُّفوس النـزيهة. أمّا هؤلاء المتغطرسون، العنيدون والمنغلقون على أيّ تأثير وعلى كلّ نصيحة محبّة، فَدَعوهم وشأنّهم، ولِيَتبعهم أولئك الذين يُشابهونهم بروحهم وميولهم. إنّهم عميان يقودون عمياناً. وإذا كان أعمى يقود أعمى، فلا يمكنهما إلّا أن يَقَعَا، كلاهما، في الحفرة. دعوهم يتغذّون على نجاساتهم التي يُسمّونها "الطهارة". فلا يمكنها أن تُنجِّسهم أكثر، إذ لا يمكنها إلّا أن تنسجم مع الرَّحم الذي تَوَلَّدَت منه.»
«إنّ ما تقوله الآن ينسجم مع ما قُلتَه في بيت دانيال، أليس كذلك؟ أي ليس ما يدخل إلى جوف الإنسان ينجّسه، بل إنّما الذي يَخرُج منه.» يَسأَل سمعان الغيور وهو مستغرق في أفكاره.
«نعم.» يقول يسوع باختصار.
بما أنّ صَرامَة يسوع تُجمِّد الطِّباع الأكثر إفراطاً بالحيويّة، فإنّ بطرس يَسأَل بعد لحظة صمت: «يا معلّم، أنا، ولستُ وحدي، لم أفهم الـمَثَل جيّداً. فاشرحه لنا قليلاً. إذ كيف يمكن للذي يَدخُل ألّا ينجّس، وللّذي يَخرُج أن ينجّس؟ فأنا لو أخذتُ جَرَّة نقيّة وأفرغتُ فيها ماءً نَجِساً أُنجِّسها. وبالنتيجة فإنّ ما دَخَلَ إلى جوفها قد نَجَّسَها. ولكن لو سَكَبتَ الماء على الأرض مِن جَرَّة مليئة ماء نقيّاً، فلا أُنجِّس الجرّة، لأنّ ما يَخرُج مِن الجرَّة هو ماء نقيّ. وإذن؟»
يُجيب يسوع: «لسنا جَرَّة، يا سمعان. لسنا جَرَّة، يا أصدقائي. وليس كُلّ ما في الإنسان طاهراً! ولكن أما زلتم إلى الآن تَفتَقِرون إلى الذكاء؟ فَكِّروا في الحالة التي كان الفرّيسيّون يتّهمونكم بموجبها. فأنتم تُنجِّسون ذواتكم لأنّكم تَحمِلون طعاماً إلى أفواهكم بأيدٍ مُغبرّة، وقد سال منها العَرَق، بالنتيجة هي نَجِسة. ولكن إلى أين كان هذا الطعام يمضي؟ مِن الفم إلى المعدة، ومنها إلى الأحشاء، ومنها إلى المجارير. ولكن هل يمكن لهذا أن يَنقُل النَّجاسة إلى الجسد كلّه، بكلّ ما يحتويه، إذا كان يمر فقط في القناة الـمُعَدَّة لأداء وظيفة تغذية الجسد وحسب، والانتهاء، حسبما هو مُقرَّر لذلك، في المجارير؟ فليس هذا ما يُنجِّس الإنسان!
إنّ ما يُنجِّس الإنسان، هو ما يَخصّه، وما يَخصّه فقط، ما حَبِل به وأَنجَبَ مِن أناه. أي ما هو موجود في قلبه، ومِن قلبه يَصعَد إلى شفتيه ورأسه، ويُفسِد الفِكر والكلام، ويُنجِّس الإنسان بكامله. فَمِن القلب تُولَد الأفكار الشرّيرة، القتل والزنى والفسق والسرقة وشهادات الزور والتجديف. مِن القلب يُولَد الجَّشَع والميول الفاسدة والكبرياء، والشهوات والغضب والشراهة والبطالة الخاطئة. مِن القلب يُولَد التحريض على كلّ الأفعال. وإذا كان القلب شرّيراً فكلّها تكون شرّيرة مِثل القلب. كلّ الأفعال: عِبادة النميمة خارج الصّدق والصّراحة... كلّ تلك الأمور التي تنطلق مِن داخل الإنسان إلى خارجه تُنجِّسه، إنّما ليس الأكل بدون غسل الأيدي. عِلم الله ليس أرضيّاً بحتاً، طيناً يمكن أن تدوسه كلّ الأرجل. ولكنّه سامٍ ويَحيا في مناطق النجوم، ويَهبط مِن هناك مع أشعّة نور لِيُنير بصيرة الأبرار. فأنتم على الأقلّ، لا تعملوا على انتزاعه مِن السماوات لدفنه في الطين…
اذهبوا واستريحوا الآن. وأنا خارج لأصلّي.»