ج6 - ف83

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الأول

 

83- (في بيت مريم أُمّ يهوذا الريفيّ)

 

26 / 02 / 1964

 

يَبلُغون بيت يهوذا الريفيّ في صبيحة مشرقة ومنعشة. شجر التفّاح يرطّبه الندى، وفي أسفله العشب ليس سوى سجّادة مِن الزهور عليها يطنّ النحل. نوافذ البيت الآن مفتوحة على مصراعيها. والتي تديره، المرأة القويّة التي تمارس سلطتها بنعومة فائقة، تُصدِر الآن أوامرها للخُدّام والفلاّحين، وتوزِّع بيدها الطعام قبل إرسال الواحد منهم إلى العمل. ومِن خلال باب المطبخ الواسع، تُرى وهي تروح وتجيء بثوبها القاتم، متحدّثة مع هذا وذاك، مجهّزة الحصص بحسب حاجات العامل. مجموعة مِن الحَمَام تنتظر، مع الهديل، أمام الباب، لتحصل هي كذلك على حصّتها.

 

يتقدّم يسوع مبتسماً، ويوشِك أن يصبح على عتبة الباب عندما تتقدّم مريم التي لسمعان، حاملة كيس حبوب في يدها، وهي تقول: «والآن دوركِ أيّتها الحَمَامات. ها هي الوجبة الأولى، ثمّ اذهبي فَرِحة، إلى الشمس، لتُسبّحي الله. هدوءاً! هناك ما يكفي الجميع ولا داعي لتوجيه ضربات منقار...» وتنثر الحبوب في كلّ اتّجاه لتحاشي الشجارات العنيفة بين الحمامات النّهمة. لا ترى يسوع لأنّها تخفض رأسها وهي تنحني لِتُلاطف الطيور التي تنقر أصابع قدميها بتحبّب. تحمل مريم إحداها بين يديها وتلاطفها، ثمّ تضعها على الأرض وتتنهّد.

 

يتقدّم يسوع خطوة ويقول: «السلام لكِ، يا مريم، ولبيتكِ!»

 

«المعلّم!» تهتف المرأة تاركة كيس الحبوب الذي كانت تحمله تحت إبطها يسقط، وتهرع للقاء يسوع جاعلة الحمامات تهرب، وهي مع ذلك تعود لتستقرّ مِن جديد على الأرض وتعمل بجدّ على حلّ خيط الكيس، وتمزيق القماش لإشباع نهمها. «آه! ربّي! يا لليوم المقدّس والسعيد!» وتهمّ بالركوع لتقبيل قدميّ يسوع.

 

ولكنّه يمنعها قائلاً: «يجب ألاّ تتواضع أُمّهات رُسُلي والإسرائيليّات القدّيسات كالعبيد بحضوري. لقد أعطينني روحهنّ الأمينة وابنهنّ. وأنا أعطيهنّ حبّاً مفضّلاً.

 

أُمّ يهوذا، منتشية، تُقبّل يديّ يسوع وهي تهمهم: «شكراً، يا ربّ!»

 

ثمّ ترفع رأسها وتنظر إلى مجموعة الرُّسُل الصغيرة الذين توقّفوا عند آخر الأشجار، وبدهشة مِن عدم رؤية ابنها مُقبِلاً للقائها، تُراقِب الجمع بانتباه أكثر. وتَسأَل بما يشبه الصراخ: «ابني، أين هو؟» وتنظر إلى يسوع، بهلع وضيق.

 

«لا تخافي يا مريم. لقد أرسلتُهُ مع سمعان الغيور إلى لعازر في مهمّة. ولو كنتُ تمكّنت مِن التوقّف في مسادة بالقدر الذي كنتُ قد قرّرتُه، لوجدتُه هنا. ولكنّني لم أتمكّن مِن التوقّف. المدينة طردتني بعدائيّة. وأتيتُ هنا بعجلة مِن أمري لأجد عزاء إلى جانب أُمّ، ولأواسيها بمعرفة أنّ ابنها يَخدم الربّ.» يقول يسوع مؤكّداً على الكلمات الأخيرة ليُكسِبها وزناً أكثر.

 

مريم كزهرة ذابلة استعادت نضارتها. استرجَعَ خدّاها ألوانهما، وعاد الألق إلى نظرتها. تَسأَل: «صحيح، يا ربّ؟ هل هو صالح؟ هل يُسعدكَ؟ نعم؟ آه! يا للفرح! يا لفرح قلب الأُمّ! لقد صلّيتُ كثيراً! كثيراً! لقد تصدّقتُ كثيراً! كثيراً! وكفّارات... كثيرة... وما الذي قد لا أفعله لأجعل مِن ابني قدّيساً؟ شكراً، يا ربّ! شكراً لأنّكَ أحببتَه كثيراً! ذلك أنّ حبّكَ هو الذي يخلّصه، ولدي يهوذا...»

 

«نعم، هو "حبّنا" الذي... يدعمه...»

 

«حبّنا! كم أنتَ طيّب، يا ربّ! أن تجعل حبّي المسكين، قريباً، متّحداً بحبّك الإلهيّ!... آه! يا لها مِن كلمة قلتَها لي! يا له مِن أمان! يا للمواساة والسلام اللذان تمنحني إيّاهما معها! فطالما لم يكن هناك سوى حبّي المسكين، ما كان ليهوذا إلّا تحقيق القليل مِن الاستفادة منه. أمّا أنتَ، بغفرانكَ... ذلك أنّكَ تعرف أخطاءه، فأنتَ، بحبّكَ اللامتناهي الذي يبدو متنامياً بالقدر الذي يكون في حاجة إليه بعد ارتكابه خطيئة، آه! أنتَ... ابني يهوذا سيتغلّب على ذاته في النهاية، وللأبد، أليس كذلك، يا معلّم؟» تحدّق فيه المرأة، بعينيها الصارمتين والعميقتين، ضامّة يديها وكأنّها في صلاة.

 

يسوع... آه! يسوع الذي لا يمكنه أن يقول لها نعم، والذي لا يريد حرمانها مِن ساعة السلام هذه، التي تُبدّد مخاوفها، يَجِد كلمة ليست بالكذب، وهي ليست وعداً، إنّما بإمكان المرأة تقبّلها بارتياح. يقول: «إرادته الصالحة، بانضمامها إلى حبّنا، يمكنها فِعل معجزات حقيقيّة، يا مريم. فليكن السلام في قلبكِ وأنتِ تفكّرين على الدوام بأنّ الله يحبّكِ، كثيراً. يفهمكِ، كثيراً. وسيكون صديقاً لكِ، على الدوام.»

 

تُقبّل مريم يديه مِن جديد لتشكره ثمّ تقول: «ادخل إذن إلى بيتي في انتظار يهوذا. فهنا حبّ وسلام، أيّها المعلّم المبارك.»

 

بعد أن ينادي يسوع أتباعه، يَدخُل إلى البيت ليرتاح ويستعيد نشاطه.

 

إنّه المساء. يهبط الليل ببطء على القرية. تتوقّف الأصوات الواحد تلو الآخر حتّى لم يبقَ سوى النسيم في الأوراق جاعلاً صوتاً في الصمت. ثمّ ها هو الجدجد الأوّل في مواسم الحقول التي أينَعَت. وآخر... وآخر. وتصرّ القرية كلّها في نشيد رتيب... إلى أن يُطلِق عندليب للنجوم أوّل تغريد له مُتسائِل... يصمت، يُنصِت ثمّ يُعاوِد. يَصمت مِن جديد... ماذا ينتظر؟... قد يكون أوّل شعاع للقمر؟... يوشوش على مهل، يُفتَرَض أنّه استقرّ على شجرة جوز كثيفة قرب البيت حيث يُفتَرَض أن يكون عشّه. يبدو وكأنّه يتحدّث إلى شريكته التي قد تكون أوان حضانتها... ثغاء مُلِحّ على مسافة قريبة. صوت جَلجَلة على الدرب المؤدّي إلى اسخريوط. ثمّ الصمت.

 

يسوع يجلس إلى جانب مريم، إنّهم على مقاعد موضوعة أمام البيت. يستريح بسكون وسط أتباعه وساكني البيت. الوقت ممتع، هادئ. الأجساد والأرواح قد تعزّت. يسوع يتكلّم قليلاً، مِن حين إلى آخر. يَترك الرُّسُل يتحدّثون عن عين جدي، عن رئيس المجمع العجوز، عن المعجزة. مريم والخُدّام ينصتون بانتباه.

 

شيء ما تحرَّكَ وسط أشجار التفّاح. ولكن إذا كان المرء ما يزال يرى قليلاً، هنا، في الساحة الصغيرة قرب البيت، بفضل النجوم النيّرة التي تعجّ في السماء، فهناك تحت الإيراقات الكثيفة لا أثر للنور، وفقط صوت شيء ما يتحرّك يَصِل إلى الأذن.

 

«أيكون حيواناً ليليّاً؟ أم نعجة تائهة؟» يَسأَل البعض. وذِكر النعجة يعيد إلى ذهن البعض صورة النعجة التي تنوح بسبب انتزاع حَمَلها منها لنحره.

 

«لا يمكن لتلك البهيمة أن تتعزّى!» يقول القيّم. «أخشى ألاّ تعود تُدرّ الحليب. منذ ذلك الصباح، هي لا تأكل وتثغو، وتثغو... اسمعوها!...»

 

«ستتجاوز ذلك... إنّها تَلِد كي يُؤكل الحَمَل.» يقول أحد الخدّام متفلسفاً.

 

«ولكنّها ليست متشابهة جميعها. فهذه أقلّ غباء وتتألّم أكثر. أتسمع؟ تحسبها تبكي. لا تقل إنّي بلهاء، يا معلّم... فهذا يؤلمني كما لو أنّه بكاء امرأة فقدت ابنها...»

 

«ولكن على العكس، فأنتِ تَجِدين ابنكِ، أيّتها الأُمّ!» يقول يهوذا الاسخريوطيّ وهو يَظهَر مِن الخلف مع سمعان، جاعلاً الجميع يقفزون بتأثير المفاجأة.

 

«بركتكَ، يا معلّم، لدى العودة كما منحتَناها لدى الذهاب.»

 

«نعم، يا يهوذا.» ويُعانِق يسوع التلميذين العائدين.

 

«معانقتكِ، يا أُمّي...» مريم كذلك تُعانِق ابنها.

 

«لم نكن لنفكّر أن نجدكَ هنا، يا معلّم. كاد مسيرنا يكون بلا توقّف، وغالباً عبر دروب مختصرة لتحاشي استبقائنا. ولكنّنا التقينا بتلاميذ وأعلَمنا يُوَنّا وإليز بأنّهما سيرياننا قريباً.» يشرح سمعان.

 

«نعم. وكان سمعان يسير كشابّ. ولقد نقلنا الرسالة، يا معلّم. لعازر مريض جدّاً. والحرارة تزيد ألمه. يُفَضَّل الذهاب إليه في أقرب وقت... يا معلّم، ما عدا إلى قلعة أنطونيا، حيث ذهبتُ إرضاءً لإيغلا التي كانت تريد شكر كلوديا قبل الذهاب إلى أريحا، لم أذهب إلى أيّ مكان. أليس كذلك، يا سمعان؟»

 

«حقّاً. وقد ذهبنا إلى قلعة أنطونيا في الساعة السادسة، في يوم ذي حرارة خانقة كانت تُرغِم الجميع على البقاء في البيت. وبينما كان يهوذا يتحدّث إلى كلوديا، التي نادتها ألبولا دوميتيلا إلى الحديقة، استجوبتني نساء أخريات. لا أظنّني أسأت بشرح ما كنّ يردن معرفته بحسب إمكاناتي.»

 

«أحسنتَ فعلاً. فلديهنّ إرادة حقيقيّة لمعرفة الحقيقة.»

 

«وكلوديا لديها إرادة حقيقيّة في مساعدتكَ. لقد صَرَفَت إيغلا، التي ذهبت تسلّم على بلوتينا والأخريات، وقد طَرَحَت عليَّ أسئلة كثيرة. وبحسب ما فهمتُ، فهي تريد إقناع البنطيّ بعدم تصديق افتراءات الفرّيسيّين والصدّوقيّين وآخرين. البنطيّ يثق إلى حدّ ما بقادة المئة، الجيدين للقتال، إنّما الأقل جودة بالنسبة للتقارير (للاستعلام). ويستعين كثيراً بزوجته التي يُفتَرَض أن تكون ذكيّة وبارعة في الحصول على المعلومات الأكيدة. في الحقيقة إنّ الوالي هي كلوديا. وهو يُفتَرَض أن يكون عديم الكفاءة، والذي يحافظ على وضعه لأنّها هي هناك كسُلطة ومشورة. ولقد أردن إعطاء المال لفقرائكَ: ها هو.»

 

«متى وصلتم؟ لا تبدون تعبين ولا مغبّرين.» يَسأَل يعقوب بن زَبْدي.

 

«بين الساعة الثالثة والسادسة. لقد ذهبنا إلى اسخريوط لرؤية ما إذا كانت أُمّي هنا لإنبائها عن قدومكَ. ولكنّي كنتُ كما أردتَ أنتَ، يا معلّم. لم أدع نفسي أُجرَّب برغبات بشريّة. أليس كذلك يا سمعان؟»

 

«حقّاً.»

 

«حسناً فعلتَ. أَطِع على الدوام وستخلّص نفسكَ.»

 

«نعم، يا معلّم. آه! الآن وقد علمتُ أنّ كلوديا معنا، لم أعد لأتسرّع بغباء! إنّما تسرّعاً كلّه حبّ. عليكَ الإقرار بذلك. حبّ مضطرب... مضطرب لأنّه كان يشعر أنّه بدون حماية، بدون عون لبلوغ الهدف، الذي هو جعلكَ محبوباً ومحترماً، كما تستحقّ، كما ينبغي أن يكون. أنا الآن أكثر سكوناً. لم أعد أخاف، حتّى إنّني أتمتّع بالانتظار...» يهوذا يحلم بعينين مفتوحتين.

 

«لا تستسلم للأحلام، يا يهوذا. امكث في الحقيقة. أنا نور العالم، والنور يبقى مكروهاً مِن الظلمات على الدوام...» يقول يسوع لينبّهه.

 

يَظهَر القمر. بياضه يغمر القرية، يجعل الوجوه شاحبة، يفضّض البيوت والأشجار. شجرة الجوز مغلّفة به بالكامل في الشرق. ويتقبّل العندليب دعوة القمر ويصدح بتغريد، طويل، شجيّ، كان يحتفظ به لتحيّة الليل والقمر.