ج3 - ف57

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثالث / القسم الثاني

 

57- (السبت في جَثْسَيْماني)

 

21 / 06 / 1945

 

صبيحة السبت كانت في معظمها لإراحة الأجساد الـمُتعَبَة وإعادة ترتيب الألبِسة الـمُغبَّرة والـمُجعَّدة بسبب السفر. في صهاريج جَثْسَيْماني التي مَلَأَتها الأمطار، وفي قدرون الذي يشدو على حجارة قاعه مُزبِداً وممتلئاً مِن مياه الأيّام السابقة. هناك مياه كثيرة بحيث تحسبها دعوة حقيقيّة للاغتسال. فالحجّاج، متحدّين الرطوبة، يغطسون، ثمّ، بعد ارتداء الثياب ثانية مِن الرأس إلى القدم، والشعر الذي ما زال مموّهاً بعجاج السيل، يسحبون الماء مِن الصهاريج ليُفرِغوها في البِرَك، حيث وُضِعَت الثياب، كلّ لون على حِدة.

 

«آه! حسناً!» يقول بطرس مسروراً. «هنا ستتبلّل، مما يُخفِّف مِن تعب مريم في غسيلها.» (أُخمِّن أنّها الخادمة في جَثْسَيْماني.)

 

«فقط أنتَ يا صغيري، لا يمكنكَ أن تُبدِّل. إنّما غداً...» بالفعل، لدى الصبيّ ثوب صغير نظيف، سَحَبَه مِن حقيبته الصغيرة، حقيبة، لِصغرها، تكاد تكفي للعبة. ولكنّ الثوب الصغير باهت اللّون أكثر مِن سابقه، وأكثر تَمزُّقاً، ويَنظُر إليه بطرس بتوجُّس، وهو يُتمتِم: «ما العمل لاصطحابه إلى المدينة؟ إذا ما طَوَيتُ معطفي، فقد يفي بالغرض، إذ إنّ المعطف سيغطّيه بالكامل.»

 

يسوع الذي يُصغي إلى هذه المناجاة الأبويّة يقول له: «مِن الأفضل أن تريحه الآن. وسوف نذهب هذا المساء إلى بيت عنيا.»

 

«ولكنّني أريد أن أشتري له ثوباً، لقد وَعَدتُه...»

 

«بالتأكيد ستفعل، إنّما يُفَضَّل أخذ نصيحة الأُمّ. فأنتَ تَعلَم... النساء... أَجدَر مِنّا في عمليّات الشراء. وسوف تكون سعيدة باهتمامها بطفل... ستذهبان معاً!»

 

فِكرة الذهاب مع مريم للتسوّق تَحمل الرَّسول إلى السماء السابعة. لستُ أدري إذا ما كان يسوع قد قال كلّ فكرته، أو إنّه احتَفَظَ بجزء منها لنفسه. ذلك أنّه كان يمكنه القول إنّ ذوق أُمّه أَرفَع، لتحاشي برقشة الألوان بشكل سيّئ الذوق. بالفعل إنّه يُحقِّق الهدف بتحاشي إذلال بطرس الذي يحبّه.

 

يَتفرَّقون في بستان الزيتون الجميل للغاية في هذا اليوم الصافي مِن أيّام أيّار (مايو). تبدو أمطار الأيّام السابقة وكأنّها أَضفَت على أشجار الزيتون لوناً فضّيّاً، وبَذَرَت زهوراً لشدّة إشراق الإيراقات في الشمس، وكثرة الزهيرات تحت أشجار الزيتون. العصافير تُغرِّد وتطير في كلّ الاتّجاهات. وتمتدّ المدينة هناك إلى غرب جَثْسَيْماني.

 

لا تُرى زحمة الجموع في الداخل، إنّما تُرى قوافل تتوجّه إلى باب السمك وأبواب أخرى إلى الشرق، لا أعرف أسماءها، ثمّ تبتلعهم المدينة، مثل بَطن يَتَضَوَّر جوعاً.

 

يتمشّى يسوع وهو يُراقِب يَعْبيص الذي يَلعَب مسروراً مع يوحنّا الأكثر شباباً. حتّى الاسخريوطيّ، حينما يتجاوز غيظ الأمس، هو مَرِح ويلعَب. ومَن هُم أكبر سنّاً يَنظُرون إليهم ويبتسمون.

 

«ماذا ستقول أُمّكَ عن هذا الصبيّ؟» يَسأَل برتلماوس.

 

«أنا أقول إنّها ستقول: "إنّه هزيل جدّاً!"» يقول توما.

 

«آه! لا! بل ستقول: "يا للصبيّ المسكين!"» يجيب بطرس.

 

«على العكس، سوف تقول لكَ: "إنّني مسرورة لأنّكَ تحبّه".» يُعلِّق فليبّس.

 

«الأُمّ لا تشكّ مطلقاً في ذلك. ولكنّني أعتقد أنّها لن تقول شيئاً. بل ستضمّه إلى قلبها.» يقول الغيور.

 

«وأنتَ يا معلّم، ماذا تظنّ أنّها ستقول؟»

 

«سَتَفعَل ما تقولون. إنّما أشياء كثيرة سَتُفكِّر بها جميعها معاً، وستقولها في قلبها. وبِقُبلة ستقول له فقط: "لتكن مباركاً!" وستعتني به كما لو أنّه عصفور واقع مِن عُشّ. اسمعوا، ذات يوم كانت تروي لي واقعة تعود إلى أيّام كانت صغيرة جدّاً. لم تكن بعد قد بَلَغَت الثالثة، إذ لم تكن قد دَخَلَت الهيكل، وكان قلبها ينفطر حبّاً، وهي تعطي، مثل زهور وزيتون، مسحوق ومعصور في المعصرة، كلّ ريحانها وكلّ زيتها. وفي نشوة حُبّها، كانت تقول لأُمّها إنّها تريد أن تبقى عذراء لتُرضِي الـمُخلِّص أكثر. بل تريد أن تكون خاطئة لتتمكّن مِن أن تكون مُخَلَّصة. وكانت تُوشِك على البكاء لأنّ أُمّها لَم تكن تَفهَمها، ولم تكن تعرف أن تقول لها كيف يمكن أن تكون "الطَّاهِرة" و "الخاطئة" في الوقت ذاته. وقد مَنَحَها أبوها السلام بأن حَمَلَ لها عصفوراً صغيراً كان قد أنقَذَهُ بينما كان في خَطَر على حافّة النبع. قال لها إنّها مثل العصفور الصغير، وهو يشرح لها أنّ الله قد خَلَّصَها مُسبقاً، ولهذا السبب ينبغي لها أن تشكره مرّتين. وعذراء الله الصغيرة، العذراء العظيمة جدّاً جدّاً، مريم، مَارَسَت لأوّل مَرَّة أمومتها الروحيّة تجاه ذاك الفَرخ الذي حَرَّرَته عندما أَصبَحَ قادراً على الطيران. ولكنّه لم يغادر أبداً حديقة الناصرة، مُعزّياً، بطيرانه وزقزقته، البيت الحزين، وقَلبَيّ يواكيم وحنّة الحزينين بعد رحيل مريم إلى الهيكل. وقد مات قُبَيل لفظ حنّة أنفاسها الأخيرة... وكان قد أنهى مهمّته... وكانت أُمّي قد كَرَّسَت ذاتها للبتوليّة بدافع الحبّ. ولكن، كونها مخلوقة كاملة، فقد كانت الأمومة في دمها وفي روحها. إذ إنّ المرأة خُلِقَت لتكون أُمّاً. وإنّه الضَّلال بعينه، عندما تَصمّ المرأة أذنيها عن سماع نداء هذا الشعور الذي هو حُبّ بِقُدرة ثانية...»

 

ودَنا الآخرون كذلك على مهل.

 

«ما الذي ترمي إليه، يا معلّم، بحديثكَ عن حبّ بِقُدرة ثانية؟» يَسأَل يوضاس تدّاوس.

 

«يا أخي، هناك أنواع عدّة مِن الحبّ، وبقدرات مختلفة. هناك الحبّ بالقُدرة الأولى: وهو ما نقدّمه لله. ثمّ الحبّ ذو القُدرة الثانية وهو حبّ الأبوّة والأمومة، لأنّه في حين الأول روحيّ بكلّيّته، فالثاني روحيّ في ثلثيه وفي ثلثه فقط جسديّ. يَختَلِط فيه، نعم، إحساس العاطفة البشريّة، ولكنّ الحبّ الأسمى يَغلُب. بالفعل، إنّ أباً وأُمّاً يعيشان في هكذا سلامة وقداسة، لا يَرتَضيان أبداً إعطاء الغذاء والملاطفات إلى جسد ابنهما وحسب، بل إنّما كذلك الغذاء والحبّ لنَفْس وروح ابنهما. وما أقوله حقيقيّ للغاية، لدرجة أنّ مَن يُكرِّس نفسه للطفل، لتنشئته فقط، ينتهي به الأمر إلى حبّه وكأنّه جسده هو.»

 

«أنا، بالفعل، كنتُ أحبّ تلاميذي كثيراً.» يقول يوحنّا الذي مِن عين دور.

 

«أَدرَكتُ أنّه يفترض بكَ أنّكَ كنتَ معلّماً صالحاً، مُذ رأيتُكَ كيف تتصرّف مع يَعْبيص

 

ينحني الرجل الذي مِن عين دور ويُقبِّل يد يسوع دون كلام.

 

«استمرّ، أرجوكَ، في تصنيفك لأنواع الحبّ.» يَطلب منه الغيور.

 

«هناك حُبّ القرين. وهو حُبّ مِن القُدرة الثالثة، لأنّه مُكوَّن -وأتحدّث عن أنواع الحبّ السليمة والمقدَّسة- هكذا: نِصفه روحيّ ونِصفه جسديّ. فالرجل لزوجته معلّم وأب عِلاوة على كونه زوجاً. والمرأة لزوجها ملاك وأُمّ عِلاوة على كونها زوجة. وهذه الأنواع الثلاثة مِن الحبّ هي الأكثر سموّاً.»

 

«وحبّ القريب؟ ألستَ مُخطئاً؟ أَم إنّكَ نَسيتَه؟» يَسأَل الاسخريوطيّ. ويَنظُر إليه الآخرون بدهشة... مُنـزَعِجين لاعتراضه.

 

ولكنّ يسوع يجيب بهدوء: «لا يا يهوذا. ولكن انظر عَن كَثَب: الله، نحبّه لأنّه الله، ولا داعي لأيّ تفسير لتشجيع هذا الحبّ. إنّه الكائن، يعني كلّ شيء؛ والإنسان هو العَدَم الذي يصبح جزءاً مِن هذا الكلّ، بالنَّفْس التي وَضَعَها فيه الأزليّ، وبدونها يصبح الإنسان كأيّ مِن الحيوانات التي تَدبّ على الأرض أو تسبح في المياه أو تطير في الجوّ. فينبغي له أن يحبّ الله كواجب ليستحقّ الخلود في الكلّ، يعني ليستحقّ أن يصبح جزءاً مِن شعب الله المقدّس في السماء، مِن سكّان أورشليم التي لن تشهد تدنيساً ولا تدميراً إلى الأبد.

 

حُبّ الإنسان، وخاصّة حبّ المرأة لأولادها، له قيمة الوصيّة. ففي كلام الله لآدم وحوّاء، بعد أن بَارَكهُما، لرؤيته أنّه صَنَعَ "شيئاً حسناً"، في اليوم السادس مِن الخليقة، قال لهما: "انموا واكْثُروا واملأوا الأرض...". أرى الاعتراض الذي لم تُعبِّر عنه، وأجيبُكَ مباشرة هكذا: أثناء الخَلق، وقبل الخَلق، كان كلّ شيء منظّماً ومؤسَّساً على الحبّ. كَثرة الأولاد، حبّ مقدّس وطاهر وقادر وكامل: "انموا واكْثُروا". وبالنتيجة أَحِبّوا، بَعدي، أولادكم. 

 

الحبّ، كما هو الآن: ذاك الذي يُنجِب أطفالاً، لَم يكن موجوداً آنذاك. لَم يكن موجوداً، كما لم يكن موجوداً معه الجوع المقيت للأحاسيس. كان الرجل يحبّ المرأة، والمرأة تحبّ الرجل بشكل طبيعيّ، ليس طبيعيّاً حسب الطبيعة التي نقصدها، أو بالحريّ، تلك التي تقصدونها أنتم البشر، إنّما حسب طبيعة ابن الله: بشكل فائق الطبيعة. أيّام أولى لطيفة بين الإثنين اللّذين كانا أَخَوَين، لأنّهما كانا مَخلوقَين مِن أب واحد، ومع ذلك كانا زوجين، وفي حبّهما، كانا ينظران إلى بعضهما بالعينين البريئتين اللّتين لتوأمين في المهد. واختَبَرَ الرجل حبّ الأب تجاه قرينته "عظم مِن عظامه ولحم مِن لحمه"، كما هو أيّ ابن بالنسبة إلى أبيه. وكانت المرأة قد عَرفَت فرح كونها ابنة، ممّا يعني أنّها محميّة بحبّ سامٍ جدّاً، إذ كانت تُحِسُّ أنّها تملك شيئاً مِن ذلك الرجل الرائع الذي كان يحبّها ببراءة وبحرارة ملائكيّة في مروج عدن الجميلة.

 

بعدئذ، في ترتيب الوصايا التي أعطاها الله مع ابتسامة إلى أبنائه المحبوبين، تبدو تلك التي لآدم نفسه، الموهوب نعمة ذكاء لا يفوقه سوى ذكاء الله، حيث يُعبِّر في سياق حديثه عن قرينته، ومِن خلالها عن كلّ النساء، قرار فِكر الله الذي كان ينعكس بجلاء ووضوح في مرآة روح آدم الصافية، حيث كانت تُولَد زهرة فِكرة وكلمة: "يترك الرجل أباه وأُمّه ويَلزم امرأته فيصيران كلاهما جسداً واحداً".

 

ودعامات الحبّ الثلاث التي تحدَّثتُ عنها لتوّي، لو لم تكن موجودة، هل كان سيُوجد حبّ للقريب؟ لا، لم يكن لِيُوجَد. فحبّ الله يَهِبنا الله كصديق، ويعلّمنا الحبّ. ومَن لا يحبّ الله الصالح، لا يمكنه بالتأكيد أن يحبّ القريب الذي غالباً ما يرتكب الأخطاء. ولو لم يكن الحبّ الزوجيّ والأبوّة والأمومة في العالم، فما كان مِن الممكن وجود القريب، لأنّ القريب يتشكّل مِن مجموع الأبناء المولودين مِن البشر. هل اقتنعتَ؟»

 

«نعم يا معلم، لم أكن قد فَكَّرتُ.»

 

«بالفعل، العودة إلى الـمَنابِع صعبة. فلقد أَصبَحَ الإنسان، منذ قرون، بل ألفيّات، في الوحل، وتلك الـمَنابِع عالية جدّاً، متربّعة على القِمَم! ثمّ، الأوّل هو نبع يأتي مِن ارتفاع شاهق: الله... ولكنّني آخذكم بيدكم وأقودكم إلى الـمَنابِع. فأنا أعرف أين هي...»

 

«وأنواع الحبّ الأخرى؟» يَسأَل في الآن ذاته سمعان الغيور والرجل الذي مِن عين دور.

 

«الأوّل مِن السلسلة الثانية هو حبّ القريب. وفي الحقيقة هو الرابع بالقُدرة. ثمّ يأتي حبّ العلوم، ثمّ حبّ العمل.»

 

«وهذا كلّ شيء؟»

 

«هذا كلّ شيء.»

 

«ولكن، هناك أنواع أخرى كثيرة مِن الحبّ!» يقول يهوذا الاسخريوطيّ.

 

«لا بَل هناك أنواع أخرى كثيرة مِن الجوع، ولكنّها ليست أنواع حبّ. بل هي "غياب حبّ". فهي تُنكِر الله وتُنكِر الإنسان. لهذا السبب لا يمكنها أن تُدعى حبّاً، لأنّها إنكارات، والإنكار هو البُغض.»

 

«وإذا ما رَفَضتُ الانصياع إلى الشرّ، فهل هذا أيضاً بُغض؟» يَسأَل أيضاً يهوذا الاسخريوطيّ.

 

«يا لنا مِن مساكين! ولكنّكَ مُماحِك أكثر مِن الكَتَبَة! قُل لي ما بكَ. هل هو جَوّ اليهوديّة النَّشِط الذي يثير أعصابكَ كالمغص؟» يهتف بطرس.

 

«لا، بل أحبّ التثقّف وأن تكون لديَّ أفكار نَيِّرة. فهُنا سَهل هو التحدّث إلى الكَتَبَة مباشرة، ولا أريد أن أفتَقِر إلى الحُجج.»

 

«أتظنّ أنّكَ قادر، في الوقت المناسب، على إخراج تنسيلات لون الحقيقة الـمُعلَن عنها، حيث تحتفظ بكلّ تلك الـمِزَق؟» يَسأَل بطرس.

 

«مِزَق، كلام المعلّم؟ إنّكَ تُجدِّف!»

 

«لا تَظهَر بمظهر مَن صُدِم. ففي فمه هو لا تكون مِزَقاً. ولكن، حالما نُشوِّه كلماته، فهذا ما تُصبِحه. حاول أن تضع برفيراً ثميناً بين يديّ طفل... بعد وقت قليل يُصبِح وَسِخاً ومُمزَّقاً. وهذا ما يحصل معنا نحن... والآن، إذا ما نويتَ الصيد، فالخِرقَة التي تلزمكَ في الوقت المناسب، والتي ليست سوى خِرقَة ومُتَّسِخة... هوم! لستُ أدري ماذا ستفعل بها.»

 

«لا تفكّر بذلك، فهي أمور خاصّة بي.»

 

«آه! كُن مطمئنّاً تماماً، فأنا لا أُفكِّر بها! لديَّ ما يكفيني. ثمّ!... يكفيني أنّكَ لا تُسبِّب الضرر للمعلّم، إذ، في هذه الحال، أُفكِّر كذلك حتّى في أموركَ...»

 

«عندما أُسيء التصرّف، فافعَلها. ولكنّ ذلك لن يَحدُث، لأنّني أجيد التصرّف في مثل تلك الحالات... فأنا لستُ جاهلاً...»

 

«أمّا أنا فجاهل، أعرف ذلك. إنّما لأنّني أعرف، فلا أَجعَل لي مُدَّخَرات أُخرِجها فيما بعد، في الوقت المناسب. بل أُسلِّم أمري إلى الله، والله سيساعدني، حُبّاً بمسيحه الذي أنا خادمه الأكثر تفاهة، إنّما الأكثر وفاء.»

 

«أوفياء، نحن جميعاً أوفياء!» يُجيب يهوذا بغطرسة.

 

«آه! شرّير!» يقول يَعْبيص بصرامة، قاطِعاً الصمت الذي لاذ به مُتنبِّهاً. «لماذا تُهين أبي؟ إنّه كبير السنّ، وهو صالح. لا ينبغي لكَ ذلك. أنتَ رجل شرّير وتخيفني.»

 

«وثانياً!» يقول يعقوب بن زَبْدي بصوت خافت وهو يَنعَر أندراوس بِمِرفقه.

 

لقد تَكلَّمَ بنعومة، ولكنّ الاسخريوطيّ سَمِعَ. «أترى يا معلّم أنّ كلمات هذا الأبله، صَبيّ مَجدلة، قد تَرَكَت أثراً؟» يقول يهوذا وقد احمرَّ غيظاً.

 

«ولكن ألم يكن مِن الأفضل متابعة درس المعلّم بدل ظهورهم بمظهر تيوس صغيرة غاضبة؟» يَسأَل توما المسالم.

 

«بلى يا معلّم» يهتف متّى. «حَدِّثنا أيضاً عن أُمّكَ، فإنّ طفولتها مُشرِقة للغاية! وانعكاسها يعيد لنفسنا عذريّتها، وأنا، الخاطئ المسكين، في أَمَسّ الحاجة إلى ذلك!»

 

«ماذا ينبغي لي أن أقول؟ فهناك مراحل كثيرة، وكلّ واحدة أَرَقّ مِن الأخرى...»

 

«أهي التي رَوَتها لكَ؟»

 

«بعضها. ولكنّ يوسف أكثر. فهو الذي رَوَى لي أحلى الروايات، عندما كنتُ طفلاً صغيراً. وكذلك حلفى بن سارة، كونه يَكبر أُمّي ببضعة سنوات، كان صديقها خلال السنوات التي كانت فيها في الناصرة.»

 

«آه! تابِع الرواية...» يطلب يوضاس بإلحاح. إنّهم جميعاً جالسون على شكل دائرة، في ظلّ شجر الزيتون، وفي وسطهم يَعْبيص يُحدِّق بيسوع، كما لو كان يصغي إلى قصّة فردوسيّة.

 

«سأروي لكم درس العِفّة الذي أعطته أُمّي، قبل دخولها الهيكل بأيّام، لصديقها الصغير ولآخرين كثيرين.

 

في ذلك اليوم، تَزوَّجَت صبيّة مِن الناصرة، قريبة لسارة. وكان يواكيم وحنّة ضمن المدعوّين إلى العرس، وكانت معهما الطفلة مريم التي كُلِّفَت، مع أطفال آخرين، بنثر بتلات الزهور على طريق العروس. يُقال إنّها كانت جميلة جدّاً، عندما كانت صغيرة، وكان الجميع يتزاحمون عليها، بعد دخول العَروس البَهيج. فلقد كان مِن الصعب رؤية مريم، لأنّها كانت تقضي معظم وقتها في البيت، مَيّالة إلى مغارة صغيرة، أكثر مِن أيّ مكان آخر، وكانت تُسمّيها على الدوام مغارة "خطوبتها". وحينما تَظهَر، شقراء ورديّة ورشيقة، كانوا يُثقِلونها ملاطفات. كانت تُسَمَّى "زهرة الناصرة" أو "جوهرة الجليل" أو أيضاً "سلام الله"، إحياء لذكرى قوس قزح عظيم ظَهَرَ بشكل مُفاجِئ، على حين غرّة، لدى إطلاقها صيحة الحياة الأولى. كانت وما تزال بالفعل كلّ ذلك وأكثر. إنّها زهرة السماء والخليقة، إنّها دُرّة الفردوس وسلام الله... نعم السلام. وأنا المسالم لأنّني ابن الآب وابن مريم. السلام اللّامتناهي والسلام الممتع.

 

في ذلك اليوم، كان الجميع يريدون تقبيلها وأخذها في الأحضان. وهي، متحاشية القبلات والاحتكاكات، كانت تقول برصانة مُحبَّبَة: "أرجوكم لا تجعّدوني". وكانوا يَظُنّون أنّها تقصد ثوبها الكتّاني المزنّر بحزام أزرق عند الخصر، وكذلك عند سِواريّ القميص الصغيرين والقَبّة... أو ضفيرة الزهور الزرقاء التي كَلَّلَتها بها حنّة لتثبيت تقصيبات شعرها. وكانوا يطمئنونها بأنّهم لن يُجَعِّدوا ثوبها ولا الضفيرة. ولكنّها، وبكلّ ثقة، امرأة صغيرة ذات الثلاث سنوات، واقفة وسط حلقة مِن البالغين، كانت تقول بكلّ رصانة: "لا أُفكِّر بما يمكن إصلاحه، إنّني أتحدث عن نفسي، وهي مِلك لله، ولا أريد أن يلمسها أحد غيره". وكانوا يَعتَرِضون: "ولكنّنا نُقبِّلكِ أنتِ وليس نفسكِ". وهي تقول: "جسدي هو هيكل نفسي والكاهن هو الروح. لا يُقبِل الشعب في نِطاق الكَهَنَة. أرجوكم لا تَدخُلوا في حَرَم الله".

 

وحلفى الذي كان آنذاك في الثامنة، وكان يحبّها كثيراً، صُعِقَ بتلك الإجابة. وفي الغد، عندما وَجَدَها قرب مغارتها، مُنشَغِلة بقطف الزهور، سأَلَها: "يا مريم، عندما تصبحين امرأة، هل تَقبَلين بي زوجاً؟" كان ما يزال يَعتَمِل في داخله جَيَشان حفلة الزواج التي كان قد حَضَرَها. أَمّا هي فقالت: "أحبّكَ كثيراً، ولكنّني لا أنظر إليكَ كَرَجُل. أقول لكَ سرّاً. أَنظُر فقط إلى روح الأَحياء. فهذه هي التي أُحبّها كثيراً، مِن كلّ قلبي، ولكنّني لا أَنظُر إلى أحد غير الله “كحيّ حقيقيّ” يمكنني أن أَهِبه ذاتي".

 

تلك كانت مرحلة.

 

«"الحيّ الحقيقيّ"!!! ولكن تَعلَم أنّها كَلِمة عميقة!» يُعرِب برتلماوس.

 

وبِتَواضُع وابتسامة يقول يسوع: «لقد كانت أُمّ الحكمة.»

 

«كانت؟... ولكنّها أَلَم تكن في حوالي الثالثة؟»

 

«لقد كانت كذلك. وكنتُ آنئذ أحيا فيها. كنتُ الله فيها، منذ الحَبَل بها، في وحدانيّته وثالوثه الكامل.»

 

«ولكن اعذرني إذا كنتُ، أنا الخاطئ، أتجاسر وأقول: ولكن هل كان يواكيم وحنّة يَعلَمان أنّها البَتول المختارة؟» يَسأَل يهوذا الاسخريوطيّ.

 

«لا، لَم يكونا يَعلَمان.»

 

«وإذن، كيف أَمكَنَ يواكيم القول إنّ الله كان قد خَلَّصَها مسبقاً؟ أفلا يُشكِّل ذلك تلميحاً إلى امتياز لها حيال الخطيئة؟»

 

«بَلى، هو تلميح. ولكنّ يواكيم كان يتكلّم بلسان الله مثل كلّ الأنبياء. وهو كذلك لم يُدرِك الحقيقة السامية الفائقة الطبيعة التي كان الروح القُدس قد وَضَعَها على شفتيه، إذ إنّ يواكيم كان بارّاً لدرجة استحقاقه تلك الأبوّة، وقد كان متواضعاً. خَفَّفَ عن ابنته بحبّه كأب. ثَقَّفَها بِعِلمه ككاهن، فلقد كان بمثابة الدعامة لتابوت عهد الله. ولقد كَرَّسَها كَحَبر بالتسمية الأكثر رقّة: "الـ بِلا عيب". وسيأتي يوم يقول فيه للعالم، حَبر آخر أَشيَب الشعر: "إنّها التي حُبِل بها بِلا دَنَس". وسيَمنَح عالم المؤمنين هذه الحقيقة كعقيدة جوهريّة لا تَقبَل الجَّدَل، لكي، في عالم ذلك الوقت، في ظروف الغَرَق المستمرّ في رتابة الهرطقات السديميّة والرَّذائِل، يَسطَع تماماً اكتشاف كُليّة جمال الله، تُكلِّلها النجوم، وتَلبَس أشعّة القمر الأقلّ طهراً منها، ومُستَنِدة على الكواكب، مَلِكَة المخلوق وغير المخلوق، لأنّ الله-الـمَلِك قد اتَّخَذَ مريم مَلِكَة في مملكته.»

 

«إذاً فيواكيم كان نبيّاً؟»

 

«لقد كان بارّاً، وكانت نفسه كالصدى تُردِّد ما كان الله يقوله لنفسه المحبوبة مِن الله.»

 

«متى سنرى هذه الأُمّ يا سيّدي؟» يَسأَل يَعْبيص بعينيّ الاشتهاء.

 

«هذا المساء. ماذا ستقول لها لدى رؤيَتها؟»

 

«"السلام عليكِ يا أُمّ الـمُخلِّص". أَجَيِّد هكذا؟»

 

«جيّد جدّاً.» يؤكّد يسوع وهو يلاطفه.

 

«ألا ينبغي لنا الذهاب إلى الهيكل اليوم؟» يَسأَل فليبّس.

 

«سنذهب قبل أن نمضي إلى بيت عنيا. ستبقى عاقلاً هنا. أليس كذلك؟»

 

«نعم يا سيّدي.»

 

زوجة يونا وكيل بستان الزيتون، التي اقتَرَبَت على مهل، تقول: «لماذا لا تأخذه؟ الوَلَد يَرغَب في ذلك...»

 

يُحدِّق بها يسوع بإمعان ودون كلام.

 

تُدرِك المرأة وتقول: «لقد فَهِمتُ! ولكن يُفتَرَض أنَّ مِعطفاً صغيراً لمرقس ما يزال لديَّ. سأُحضِره.» وتمضي وهي تَجري.

 

يَسحَب يَعْبيص يوحنّا مِن كُمّه: «هل سيكون المعلِّمون صارِمِين؟»

 

«آه! لا. لا تخف، ثمّ ليس اليوم. وفي خلال أيّام، مع الأُمّ، ستُصبِح أكثر حكمة مِن حَبْر.» يقول يوحنّا ليُشدِّد مِن عزيمته.

 

يَسمَع الآخرون ويبتسمون لتوجُّس يَعْبيص.

 

«ولكن مَن الذي سيُقدِّمه بمثابة الأب؟» يَسأَل متّى.

 

«أنا طبعاً! أللَّهُم إلّا إذا كان المعلّم يريد تقديمه.» يقول بطرس.

 

«لا يا سمعان، لن أفعل. بل سأترك لكَ هذا الشَّرف.»

 

«شكراً أيّها المعلّم. ولكن... هل ستكون حاضراً أنتَ كذلك؟»

 

«بالتأكيد. سنكون جميعنا. إنّه "ابننا"...»

 

تَعُود مريم التي لِيُونا بمعطف بنفسجيّ قاتم، ما يزال في حالة جيّدة. ولكن يا له مِن لون! فهي نفسها قالت ذلك: «لم يكن مرقس يبغي ارتداءه لأنّ اللّون لم يكن ليروق له.»

 

أظُنّ ذلك! فهو بَشِع! ويَعْبيص المسكين، بسحنته الداكنة، يبدو كالغريق مع ذلك اللّون الصَّارِخ. ولكنّه لا يَرَى ذاته... وهو كذلك سعيد بذاك المعطف حيث يمكنه أن يَتدثَّر به كَرَجُل…

 

«الطعام جاهز يا معلّم. لقد رَفَعَت الخادمة الحَمَل عن السّيخ.»

 

«هيّا بنا إذاً.»

 

وأثناء هبوطهم مِن المكان الذي كانوا فيه، يَدخُلون إلى المطبخ الرَّحب لتناول الطعام.