ج7 - ف174
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السابع / القسم الأول
174- (في انتظار فلاّحي جيوقانا قرب برج يزراعيل)
24 / 08 / 1946
«إنّكَ متعب جدّاً يا يوحنّا. وما يزال علينا أن نصل إلى عين غنيم غداً قبل الغروب.»
«سوف نصل يا ربّ» يقول يوحنّا ويبتسم على الرغم مِن أنّه شاحب مِن التعب، هو الذي قد سار أكثر مِن الجميع، وهو يحاول السير بشكل أسرع لإقناع المعلّم بأنّه ليس متعباً جدّاً. لكنّه سرعان ما يعود إلى السير بخطوات شخص مُنهَك، مَحنيّ الكتفين، رأسه مائل إلى الأمام كما لو أنّه مُثقَل بنير، يجرّ قدميه ويتعثّر مراراً.
«على الأقلّ أعطني الكِيسين. كِيسي ثقيل.»
«لا يا معلّم. لستَ أقلّ تعباً منّي.»
«إنّكَ أكثر تعباً لأنّكَ أتيتَ مِن الناصرة إلى حرج متاتياس ومِن ثمّ عُدتَ إلى الناصرة.»
«ونمتُ في سرير. أما أنتَ فلا. لقد سهرتَ في الحرج ورحلتَ باكراً.»
«وأنتَ أيضاً. يوسف قال ذلك. لقد غادرتم مع النجوم.»
«آه! لكنّ النجوم تبقى حتّى الفجر!...» يعلّق يوحنّا باسماً. ثمّ يصبح جادّاً ويضيف: «وليس انعدام النوم ما يؤلم...»
«ماذا أيضاً يا يوحنّا؟ ما الذي آلمكَ؟ ربّما أَخَويّ...»
«آه! لا يا ربّ! حتّى هما... إنّما ما يُشعرني بالثقل... لا، ليس بالثقل... ما يحيلني عجوزاً كان رؤيتي لأُمّكَ تبكي... هي لم تقل لي لماذا كانت تبكي، وأنا لم أسألها، رغم شعوري بالرغبة لفِعل ذلك. لكنّني حَدَّقتُ بها طويلاً بحيث قالت: "سأتحدّث إليكَ في المنزل. ليس الآن، لأنّني سوف أبكي بأكثر حدّة." وفي المنزل تحدّثت إليَّ بلطف شديد وحزن كبير بحيث بكيتُ أنا كذلك.»
«ما الذي قالته لكَ؟»
«قالت لي بأن أحبّكَ كثيراً، وألّا أسبّب لكَ حتّى أدنى ألم، لأنّني لاحقاً سوف أندم على ذلك بمرارة. لقد قالت لي: "لنقم بواجبنا كاملاً في الأشهر المتبقّية، وحتّى أكثر مِن واجبنا." لأنّ الواجب وحده قليل جدّاً تجاهكَ يا مَن أنتَ الله. وهي قالت لي أيضاً -وذلك جعلني أعاني بشدّة، ولو لم تقله هي لما كنتُ قد صدّقتُه- قالت لي: "وكذلك قليل جدّاً أن نقوم بمجرّد واجبنا تجاه مَن هو على وشك الرحيل، والذي لن نعود قادرين على خدمته بعد... وفي سبيل أن نكون في سَكينة لاحقاً، عندما لا يعود بيننا، فعلينا أن نكون قد قمنا بما هو أكثر مِن واجبنا. ينبغي أن نكون قد أعطينا كلّ شيء، كامل الحبّ، والاهتمام، والطاعة، كلّ شيء، كلّ شيء. ثمّ عند ألم الفراق يمكننا القول: 'آه! يَسَعني القول بأنّني، وطالما أنّ مشيئة الله هي التي جعلتني أحظى به، فإنّني لم أتوانَ لحظة عن محبّته وخدمته.'" وأنا قلتُ: "إنّما هل المعلّم سيرحل حقّاً؟ ما يزال لديه الكثير ليفعله! سيكون هناك وقت... وهزّت رأسها قائلةً، ودمعتان كبيرتان كانتا تنهمران مِن عينيها: "إنّ الـمَنّ الحقيقيّ، الخبز الحيّ، سيعود إلى الآب عندما يبتهج الإنسان مجدّداً بتذوّق لذّة الخبز المصنوع مِن القمح الجديد... وسوف نكون وحيدين، إذّاك، يا يوحنّا." وأنا في سبيل تعزيتها قلتُ: "إنّه لَأَلم عظيم. إنّما علينا أن نغتبط إذا ما عاد إلى الآب، لأنّه ما مِن أحد سيكون قادراً على إيذائه بعد." وقالت نائحةً: "آه! إنّما قبل ذلك!"، وأظنُّ بأنّني قد فهمتُ. إنّما هل سيكون الأمر كذلك حقّاً يا ربّ؟ حقّاً؟ لاحِظ أنّ الأمر هو ليس عدم تصديق لكلامكَ. إنّما ذلك لأنّنا نحبّكَ و... أنا لن أقول لكَ كما قال لكَ سمعان ذات يوم: بأنّ ذلك لا يمكن أن يحدث لكَ. إنّني أصدّق، كلّنا نصدّق. لكنّنا نحبّكَ و... آه! ربّي! هل خطايا المحبّة هي حقّاً خطايا؟»
«إنّ المحبّة لا تخطئ أبداً يا يوحنّا.»
«إذن فنحن، الذين نحبّكَ، مستعدّون للقتال والقتل في سبيل الدفاع عنكَ. إنّ الجليليّين ليسوا محبوبين مِن الآخرين لأنّهم يقولون بأنّنا مشاكسون. فإذن، سنُصوّب هذا الصّيت بالدفاع عنكَ. إنّنا في الأمكنة حيث في زمن ديبورا، باراق دَمَّرَ جيش سيزارا برجاله العشرة آلاف. وأولئك العشرة آلاف كانوا مِن نفتالي وزبولون، ونحن ننحدر منهما كذلك. الاسم الآن مختلف إنّما القلب هو ذاته.»
«لقد كانوا عشرة آلاف... لكن حتّى ولو كنتم الآن عشرة أضعاف العشرة آلاف، فما الذي تقدرون على فِعله؟»
«ماذا؟ أتخاف مِن الكتائب (تشكيلات عسكريّة رومانيّة)؟ ليسوا كثيرين، ومن ثمّ... هم لا يكرهونكَ. أنتَ لا تسبّب لهم المتاعب. أنتَ لا تفكّر بتلك المملكة الّتي قد تنتزع فريسة مِن النسور الرومانيّة. لن يتدخّلوا بيننا وبين أعدائكَ الذين سوف يُهزَمون قريباً.»
«هل تصبحون ألفاً، عشرة آلاف، مئة ألف، بماذا سينفع ذلك مقابل مشيئة الآب؟ عليَّ أنا أن أتمّها...»
يوحنّا، الـمُنهَك، يكفّ عن الكلام. كم هو غريب هذا العناد والقصور العقلي حتّى لدى أفضل أتباع يسوع في إدراك رسالته الأعظم! إنّهم يتقبّلونه كمعلّم وكمَسيّا. إنّهم يؤمنون بقدرته على التخليص والفداء. لكن حينما يواجهون نهجه في الفِداء، فإنّ عقولهم تستحيل عمياء. يبدو أنّ النبوءات ذاتها تفقد قيمتها بالنسبة لهم. وليس هناك المزيد ليقال، بالنسبة لإسرائيليّين، يمكننا القول، يتنفّسون ويمضون قُدُماً ويتغذّون ويحيون بواسطة النبوءات! فإنّ كلّ ما هو مكتوب في الكتب المقدّسة صحيح ما عدا هذا: أنّ المَسيّا يجب أن يتألّم ويموت وأن يُغلَب على يد البشر. فإنّهم لا يستطيعون تقبّل ذلك. بالنسبة لي هم يبدون كأناس عميان وصمّ يحرص يسوع على أن يُظهِر لهم صورة آلامه المقبلة، بحيث يقرأون فيها ما ستكون. لكنّهم يغمضون أعينهم. وبذلك فهم لا يرون ولا يفهمون.
إنّها أمسية باهتة وقد بدأ الظلام يخيّم عندما يصلون إلى مشارف يزراعيل.
يسوع يشدّد عزم يوحنّا، الذي كَفَّ عن الكلام، وهو يسير كما المروبص مِن فرط إنهاكه، ويقول: «سوف نكون هناك قريباً. سوف تدخل وتبحث عن ملاذ لكَ.»
«ولكَ.»
«لا يا يوحنّا. أنا سأبقى قرب الطريق الآتية مِن السهل. أظنُّ بأنهم سيأتون ليلاً، وأنا أريد أن أعزّيهم وأن أصرفهم قبل الفجر.»
«إنّكَ متعب جداً... وقد تمطر كما الليلة الفائتة. على الأقلّ تعال حتّى منتصف هزيع صياح الديك.»
«لا يا يوحنّا.»
«في هذه الحالة سوف أبقى معكَ. نحن قريبان مِن أراضي الفرّيسيين و... وثمّ قد عاهدتُ أُمّكَ ونفسي. لا أريد أن أُلام أنا...»
بعض الأبراج، الّتي لا أعرف أيّة غاية تخدم، موجودة عند زوايا يزراعيل الأربعة. يُفتَرَض أنّها كانت بالفعل قديمة عندما رأيتُها. إنّها تشبه أربعة عمالقة فَظّين قد وُضِعوا كسجّانين للبلدة التي بنيت على مرتفع يطلّ على السهل الذي يتوارى الآن رويداً رويداً في العتمة المبكّرة لأمسية غائمة.
«لنصعد ذاك المنحدر قرب البرج. سنكون قادرين على رؤية الطريق كلّها دون أن نُرى. هناك عشب للتمدّد عليه، والدَّرَج أمام الباب سيحمينا إذا ما أَقبَلَ الماء» يقول يسوع.
يصعدان. يجلسان على جدار منخفض، نصف متهدّم، يبعد حوالي العشرة أمتار عن البرج. يبدو كَسُور كان قد بني في زمن سابق حول هذا البرج الضخم. يكاد يكون الآن منهاراً كلّياً، وعشب كثيف يغطّي الأنقاض مع شلاّلات لبلاب برّيّ ضخمة، وأعشاب أخرى قد نمت بين الأنقاض، ذات أوراق كبيرة كثيرة الزَغَب، لا أعرف اسماً لها.
يقضمان بعض الخبز في آخر ضوء للنهار. ما مِن شيء آخر لديهما. يوحنّا، رغم إنهاكه، يلقي نظرة على أغصان شجرة تين، نمت ملتوية ومشعثة، وسط الحجارة. وبين الأوراق المصفرّة يجد بعض التين الصغير قد عافته الطيور والأولاد. إنّهما يأكلانه مُنهين به وجبتهما. لديهما ماء في مطرتيهما. الوجبة سرعان ما انتهت.
«أيسكن أحد في البرج؟» يَسأَل يوحنّا النَّاعِس.
«لا أظنُّ ذلك. لا ضوء ولا صوت يصدران منه. أكنتَ تريد طلب ملاذ؟ ما عدتَ قادراً...»
«آه! لا. كنت أتساءل فحسب... نحن هنا على أحسن حال...»
«على الأقلّ تمدّد يا يوحنّا. العشب كثيف وهنا لم تمطر بعد. الأرض جافّة.»
«...لا... لا... يا ربّ. لستُ أشعر بالنعاس... لنتحدّث. قل لي شيئاً ما... مَثَلاً... سأجلس هنا عند قدميكَ. يكفيني أن أسند رأسي إلى ركبتيكَ...» ويجلس مُسنِداً رأسه إلى ركبتيّ يسوع، ووجهه يتطلّع إلى السماء. إنّه يبذل جهوداً يائسة كي لا يغفو... إنّه يحاول التكلّم كي يتغلّب على النعاس... يحاول أن يبدي اهتماماً بما يراه... النجوم في السماء، الأنوار على الطريق. إنّ الأولى تصبح أكثر فأكثر عدداً، لأنّ الريح قد دفعت الغيوم بعيداً، بينما الأخيرة تصبح أكثر فأكثر ندرة لأنّ المسافرين قد توقّفوا عن السفر ليلاً. فقط أحد العنيدين يصرّ على المتابعة بعربته المزودة بفانوس يتدلّى مِن الحُصُر أو الأغطية المبسوطة فوق أقواس العربة.
لكنّ الصمت بحدّ ذاته، الذي أَصبَحَ أكثر فأكثر عُمقاً، يجلب النعاس... يوحنّا، بصوت يخفت أكثر فأكثر، يقول: «كَم مِن أنوار في السماء! وانظر: بعضها تبدو كأنّما نزلت إلى الأرض وهي ترتعش وتخفق كما تفعل عالياً هناك... لكنّها أصغر وأقلّ جمالاً... نحن لا نستطيع أن نصنع نجوماً... في نجومنا دخان وهي تبثّ رائحة فتيل... وأيّ شيء يمكنه أن يطفئها... لقد قلتَها ذات مرّة أنّ فراشة تكفي لإطفاء النور فينا، وقارَنتَ إغراءات العالم بالفراشات... ومِن ثمّ كنتَ تقول أنّ... في حين أنّ بوسع الفراشات أن تطفئ نوراً، فإنّ أجنحة الملائكة، وكنتَ تقصد بالملائكة الأمور الروحيّة، تجعل النور الّذي فينا أكثر سطوعاً... أنا... الملاك... النور...» يوحنّا يغطّ في النوم رويداً رويداً، ويتمدّد لا إراديّاً، وقد استنفذه الإنهاك.
يسوع ينتظره حتّى يتمدّد بحقّ، ومِن ثمّ يضع كيسه تحت رأسه ويغطّيه بمعطفه بحركات أبويّة. وفي وَمضة صفاء أخيرة يتمتم يوحنّا: «أنا لستُ نائماً يا معلّم، أتعلم؟... إنّما... هكذا يمكنني رؤية المزيد مِن النجوم وبإمكاني أن أراكَ بشكل أفضل...» وكي يرى يسوع والسماء المرصّعة بالنجوم يغفو بشكل أفضل، حالماً بهما في نوم عميق.
يُعاوِد يسوع الجلوس على مقعده الأخضر. يسند مرفقه الأيمن على ركبته وخدّه على راحة يده ويفكّر، يصلّي، ناظراً إلى الطريق التي هي الآن خاويةً، فيما رسوله المحبوب، عند قدميه، بذراع مطويّة تحت رأسه، يغفو بوداعة مثل طفل.