ج7 - ف178

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الأول

 

178- (شفاء البُرص العشرة في السامرة)

 

29 / 08 / 1946

 

لا يزالون على الجبال، جبال شديدة الانحدار، على مسالك ضيّقة حيث لا يمكن لعربة أن تمرّ، إنّما فقط عابرين على الأقدام أو أناس يركبون حميراً جبليّة قويّة، والّتي هي أكبر وأقوى مِن الحمير الصغيرة المعتادة الّتي توجد عادة في مناطق أكثر انبساطاً. ملاحظة ستبدو لكثيرين عديمة الجدوى إلى حدّ ما، ولكنّني أُبديها على أيّ حال. في السامرة هناك عادات مختلفة عن تلك التي في مناطق أخرى، إن كان بالنسبة للملابس أو لأمور أخرى كثيرة. وإحداها هي كثرة الكلاب، بعكس مناطق أخرى، ممّا يفاجئني، كما فاجأني وجود الخنازير في المدن العشر. ربّما هناك الكثير مِن الكلاب لأنّ هناك الكثير مِن الرّعاة في السامرة، وعلى الأغلب يوجد الكثير مِن الذّئاب في هذه الجبال البرّيّة. كثيرة هي الكلاب كذلك لأنّني أرى بأنّ الرّعاة في السامرة هم وحيدون في أغلب الأحيان، على الأكثر مع صبيّ، في رعي قطعانهم الخاصّة، في حين أنّه في مناطق أخرى، فغالباً هناك العديد يحرسون قطعاناً كبيرة لأناس أغنياء. في الواقع لدى كلّ راعٍ هنا كلب أو عدّة كلاب بحسب عدد نعاج قطيعه. خاصيّة أخرى هي الحمير بالتحديد، الّتي هي تقريباً بحجم الأحصنة، إنّها متينة البنية، قادرة على ارتياد هذه الجبال بحمل ثقيل على بردعتها، كذلك جذوع ضخمة، لأنّني أراها تنزل مِن تلك الجبال الرائعة المكسوّة بالأحراج العتيقة. خاصيّة أخرى مميَّزة: السَّلاسَة لدى السكّان، الذين مِن دون كونهم خطأة كما يعتبرهم اليهود والجليليّون، هم منفتحون وصادقون، مِن دون تعصّب ومِن دون كلّ تلك التعقيدات السخيفة الّتي لدى الآخرين. وهم مضيافون. هذه الملاحظة تجعلني أعتقد أنّه في مَثَل السامريّ الصالح لم تكن هناك فقط نيّة الإشارة إلى أنّ هناك خيراً وشرّاً في كلّ مكان وبين جميع الأعراق، وأنّه حتّى بين الملحدين هناك مَن يتّسمون باستقامة القلب، وإنّما فيه أيضاً وصف حقيقيّ لعادات السامريّين تجاه مَن هم بحاجة للمساعدة. لقد توقّفوا عند حدّ أسفار موسى الخمسة -فأنا لا أسمعهم يتحدّثون عن سواها- ولكنّهم يضعونها موضع التطبيق، أقلّه تجاه القريب، بأكثر استقامة مِن الآخرين، بشرائعهم الستّمائة والثلاث عشرة وما إلى ذلك.

 

الرُّسُل يتحدّثون إلى المعلّم، وعلى الرغم مِن كونهم إسرائيليّين متزمّتين، إلّا أنّهم قد اضطرّوا للاعتراف والثّناء على سلوك أهل شكيم [نابلس]، الّذين دعوا يسوع للإقامة وسطهم، كما أفهم مِن المحادثة التي أسمع.

 

«لقد سمعتَهم، أليس كذلك؟» يقول بطرس «كيف قالوا بوضوح أنّهم على علم بكراهية اليهود؟ لقد قالوا: "إنّهم يكرهونكَ أكثر ممّا يكرهوننا نحن السامرّيين، بقدر عددنا الآن وبقدر ما كنّا. ما مِن حدود لكراهيّتهم تجاهكَ."»

 

«وذاك العجوز؟ كيف قال بحقّ: "مِن العدل، في العمق، أن يكون الأمر كذلك، لأنّكَ لستَ إنساناً، بل أنتَ المسيح، مخلّص العالم وبالتالي أنتَ ابن الله، لأنّ الله وحده قادر على تخليص العالم الفاسد. لذلك وكما أنّكَ لا محدود كما الله، لا محدود بقدرتكَ، بقداستكَ ومحبّتكَ، كما سيكون انتصارك على الشرّ بلا حدود، لذا فمن البديهيّ أنّ الشرّ ومعه الكراهية، الّتي هي والشرّ واحد، ليس لهما حدود تجاهكَ." بحقّ قال الصواب! وهذا المنطق يفسّر أموراً كثيرة!» يقول الغيور.

 

«ما الذي يفسّره برأيكَ؟ أنا... أنا أقول بأنّه يفسر فقط أنّهم بُلَهاء» يقول توما بتلقائيّة.

 

«لا. البلاهة قد تكون تبريراً. لكنّهم ليسوا بُلَهاء.»

 

«إنّهم سُكارى إذن، ثَمِلين بالكراهية» يجيب توما.

 

«ولا حتّى ذلك. فالثّمالة تتلاشى بعد أن تتعاظم. هذه الكراهية لا تتلاشى.»

 

«لن تكون أكثر تعاظماً ممّا هي عليه! وقد ظلّت كذلك لزمن طويل... بحيث أنّها خمدت الآن.»

 

«أصدقائي، إنّها لم تصل إلى غايتها بعد» يقول يسوع بهدوء، كما لو أنّ غاية تلك الكراهية لم تكن موته.

 

«لا؟! ولكنّهم ألا يدعوننا أبداً بسلام؟!»

 

«يا معلّم، لم يقتنعوا بعد أنّني قلتُ الحقيقة. لكنّني قلتُها. آه! نعم، لقد قلتُها! وأقول أيضاً بأنّ ذلك لو حدث معكم، لكنتم وقعتم كلّكم في الفخّ، كما وقع المعمدان. لكنّهم لن ينجحوا لأنّني يَقِظ...» يقول الإسخريوطي.

 

وينظر إليه يسوع. وأنا أنظر إليه متسائلة، وقد كنتُ أتساءل منذ بضعة أيّام، فيما إذا كان سلوك الإسخريوطيّ قد تأتّى مِن عودة حميدة وحقيقيّة إلى طريق الصلاح وإلى محبّة المعلّم، وانعتاق مِن القوى البشريّة والقوى الفوق-بشريّة الّتي كانت تستحوذ عليه، أم إنّ ذلك هو أداء غاية في الإتقان، تمهيداً للضربة القاضية، عبوديّة أكبر لأعداء المسيح وللشيطان. لكنّ يهوذا هو كائن ذو طبيعة خاصّة جدّاً بحيث لا يمكن سبر أغوار نفسه. وحده الله يمكنه فهمه. والله، يسوع، يرخي حجاب رحمة واحتراز على كلّ أفعال رسوله وشخصيّته... حجاب سوف يتمزّق، مُسَلِّطاً ضوءاً ساطعاً، عندما تُفتَح أسفار السموات، على تساؤلات كثيرة هي الآن غامضة.

 

الفكرة بأنّ كراهية الأعداء لم تصل بعد إلى هدفها قد أقلقت الرُّسُل للغاية، بحيث أنّهم قد توقّفوا عن الكلام لبعض الوقت. ثمّ يتوجّه توما إلى الغيور قائلاً: «فإذن، إن لم يكونوا ثَمِلين ولا بُلَهاء، وإذا ما كانت كراهيّتهم تُفسّر الكثير مِن الأمور إنّما ليس هذا، فما الذي تُفسّره؟ ما يكونون؟ أنتَ لم تقل ذلك...»

 

«ما يكونون؟ إنّهم ممسوسون. إنّهم ما يقولونه عنه. هذا يُفسّر سبب حنقهم الذي لا يعرف حدوداً، بل على العكس، كلّما ظهرت قدرته أكثر، كلّما تنامى حنقهم. لقد أحسن السامريّ قولاً. ففيه، ابن الآب ومريم، الإنسان والله، يوجد لا تناهي الله، والكراهية التي تُناقِض ذاك اللاتناهي المطلق هي غير متناهية، حتّى ولو أنّ الكراهية في كينونتها اللامحدودة ليست كاملة، لأنّ الله وحده هو الكامل في أعماله. إنّما إن استطاعت الكراهية بلوغ هاوية الكمال، فإنّها تنزل لبلوغها، لا بل سوف تندفع لبلوغها، كي ترتدّ بعدئذ، بفعل عنف سقوطها ذاته في هاوية الجحيم، ضدّ المسيح، لتجرحه بكلّ الأسلحة المنزوعة مِن الهاوية الجهنّميّة. إنّ للسماء التي يضبطها الله شمساً واحدة. إنّها ترتفع، تشعّ، وتغرب تاركة المكان للشمس الأصغر الّتي هي القمر، وهذا الأخير، بعدما يضيء بدوره، يغيب كي يترك المكان للشمس. إنّ النجوم تُعلّم البشر أموراً كثيرة، لأنّها خاضعة لإرادة الخالق. أمّا البشر فلا. ومواجهة المعلّم هي مثال على ذلك. ما الذي كان سيحدث لو كان القمر يقول: "لا أريد أن أتوارى، وسأعاود سلوك المسار الذي كنتُ قد سلكتُه."؟ إنّه بالتأكيد سوف يصطدم بالشمس، برعب لتدمير كلّ الخليقة. هذا ما يريدون فِعله، حيث يظنّون أن بإمكانهم تحطيم الشمس...»

 

«إنّه صراع الظُّلمة ضدّ النور. إنّنا نراه كلّ يوم عند الفجر وفي المساء. القوّتان تتحاربان، فارِضَتَين بالتناوب، سيطرتهما على الأرض. لكنّ الظُّلمات مهزومة على الدوام لأنّها ليست مطلقة أبداً. إنّ القليل مِن النوّر دائماً ما ينبعث، حتّى في أكثر الليالي افتقاداً للنجوم. يبدو أنّ الهواء يخلقه مِن ذاته في الفضاءات اللامتناهية لقبّة السماء الّتي تنشره، حتّى ولو كان محدوداً جدّاً، لإقناع البشر بأنّ النجوم ليست منطفئة. وأنا أقول بالـمِثل أنّه، في ظُلُمات الشرّ ذات الطّبيعة الخاصّة هذه ضدّ النور الذي هو يسوع، وعلى الدوام، وبالرغم مِن كلّ جهود الظُّلمات، فإنّ النور سوف يكون موجوداً كي يعزّي مَن يؤمنون به» يقول يوحنّا مبتسماً لفكرته الخاصّة، المستغرق فيما كما لو أنّه كان يناجي نفسه.

 

تَلَقَّفَ فكرته يعقوب بن حلفى. «في الكتابات المقدّسة دُعِيَ المسيح "نجمة الصبح". وعليه فهو، كذلك، سوف يعرف ليلاً، و -هذا يرعبني!- نحن أيضاً سوف ندركه، في فترة لن يبدو النور فيها قويّاً، فيما سوف يبدو بأنّ الظُّلمات تنتصر. ولكن بما أنّه دُعِيَ بنجمة الصبح بشكل يَستبعد حدوداً زمنيّة، فأقول أنّه بعد ليل وجيز، سوف يكون نور الصباح الصّرف، النقيّ، العذريّ، مُجدِّداً العالم، كما النور الذي أَعقَبَ فوضى اليوم الأول. آه! نعم. سوف يُخلَق العالم مجدّداً في نوره.»

 

«وستحلّ اللعنة على الهالكين الذين كانوا قد رفعوا أيديهم لضرب النور، مكرّرين الأخطاء التي سبق أن ارتُكِبَت منذ لوسيفورس وصولاً إلى مُدَنِّسي الشعب المقدّس. إنّ يهوه يترك الإنسان حرّاً في أفعاله. إنّما بدافع محبّته للإنسان ذاته، فهو لن يسمح للجحيم بالغَلَبَة.»

 

«آه! إنّه لأمر حسن أنّه بعد الكثير مِن سُبات الأرواح، الّذي يبدو وكأنّه أَطبَقَ عليها وخَدَّرَها كما بفعل شيخوخة مبكّرة، تُزهِر الحكمة مجدّداً على شفاهنا! لم نعد لنبدو أنّنا نحن ذاتنا! الآن وجدتُ الغيور مجدّداً، ويوحنّا، وأَخَويَّ كما في الأيّام القديمة!» يقول الإسخريوطيّ مبدياً ارتياحه.

 

«لا يبدو أنّنا تغيّرنا بحيث ما عدنا نبدو أنّنا ذاتنا» يقول بطرس.

 

«لقد تغيّرنا بالفعل! كلّنا. وأنتَ أوّلاً. ومِن ثمّ سمعان والآخرون، بما فيهم أنا. إذا ما كان هناك مَن لا يزال تقريباً كما كان قبلاً، فهو يوحنّا.»

 

«همم! إنّني لا أعرف حقّاً بماذا...»

 

«بماذا؟ إنّنا قليلو الكلام، كمتعبين، لا مبالين، مشغولي البال... ما عدنا نسمع أحاديث شبيهة بتلك الّتي كانت في الأيّام القديمة، مثل أحاديث اليوم، الّتي هي بغاية النّفع...»

 

«للتخاصم» يقول تدّاوس مذكّراً كيف أنّها غالباً ما كانت تتحوّل إلى خصام.

 

«لا. لتثقيفنا. لأنّنا لسنا كلّنا مثل نثنائيل، ولا مثل سمعان، أو مثلكما أنتما يا ابنيّ حلفى، بالنشأة والحكمة. والذين هم أقلّ، يتعلّمون مِن الذين هم أكثر حكمة.» يجيب الإسخريوطيّ.

 

«بالفعل... إنّني أرى أنه مِن الضروري قبل كل شيء النّماء بالبرّ. وسمعان قد أعطانا درساً رائعاً بهذا الشأن.» يقول توما.

 

«أنا؟ إنّكَ ترى الأمور بطريقة خاطئة. إنّني الأكثر جهلاً مِن الجميع» يقول بطرس.

 

«لا. إنّكَ أكثر مَن تَغَيَّر، في هذا الصدد يهوذا الإسخريوطيّ على حقّ. لم يتبقّ فيكَ الكثير مِن سمعان الذي عرفتُه عندما أتيتُ وانضممتُ إليكم، والذي، سامِحني، بَقِيَ على ما كان عليه لوقت طويل. ومنذ أن التقيتُكَ مجدّداً، بعد المغادرة مِن أجل عيد التكريس، فإنّكَ لم تكفّ عن الارتقاء بنفسكَ. إنّكَ الآن... نعم، أقول لكَ: إنّكَ أكثر أبويّة وفي ذات الوقت أكثر زهداً. إنّكَ تحتمل إخوتكَ المساكين أكثر ممّا كنتَ تفعل قبلاً... ويمكن رؤية، على الأقلّ أنا أرى، ما تتكبّده في سبيل ذلك، ولكنّكَ تسيطر على نفسكَ. ولم تكن تمتلك أبداً كلّ هذا القَدر مِن الاحترام الذي تمتلكه الآن بحيث أنّكَ تتكلّم قليلاً ولا توجّه لنا مِن الملامات إلّا قليلاً...»

 

«حسناً، يا صديقي! إنّه لطف كبير منكَ أن تراني هكذا... إنّني لم أتغيّر في شيء على الإطلاق، فيما عدا محبّتي للمعلّم، الّتي تنمو على الدوام.»

 

«لا. توما على حقّ. لقد تغيّرتَ كثيراً» يؤكّد كثيرون.

 

«ولكن! أنتم مَن تقولون ذلك...» يقول بطرس هازّاً كتفيه. ويضيف: «وحده المعلّم يمكنه إعطاء رأي حاسم. لكنّني سأحرص على عدم سؤاله. إنّه مدرك لضعفي، وهو يَعلَم أن مديحاً غير مستَحَقّ قد يضرّ بروحي. كذلك هو لن يمتدحني، وحسناً يفعل. لقد أصبحتُ أكثر فأكثر على دراية بقلبه ومذهبه وأرى كم هما نزيهان.»

 

«هذا لأنّ لديكَ فِكراً نزيهاً وتحبّ أكثر فأكثر. إنّ محبّتكَ لي هي ما يجعلكَ ترى وتُدرك. إنّ مَلَكَتكَ الأصدق والأعظم الّتي تجعلكَ تفهم المعلّم هي المحبّة» يقول يسوع الذي كان صامتاً ويستمع طوال الوقت.

 

«أظنُّ... أنّ الألم هو الّذي في داخلي كذلك...»

 

«ألم؟ لماذا؟» يَسأَل البعض.

 

«إيه! بسبب أمور كثيرة، الّتي ما هي بالنتيجة إلّا أمر واحد فقط: كلّ ما يؤلم المعلّم... وفكرة أنّه سوف يتألّم. مِن غير الممكن بعد أن نكون غافلين كما كنّا في الأيّام الأولى، كأطفال لا يعلمون، الآن وقد عرفنا ما يستطيع البشر فِعله، وكم ينبغي لنا التألّم لتخليصهم. آه! لقد اعتقدنا في الأيّام الأولى أنّ كلّ شيء سهل! لقد كنّا نظنّ بأنّ كلّ ما علينا فِعله لجعل الآخرين إلى جانبنا هو التعريف بأنفسنا! كنّا نعتقد أنّ استمالة إسرائيل والعالم تكون مثل... إلقاء شبكة في مياه زاخرة بالسمك. يا لسذاجتنا! باعتقادي أنّه إن هو لم ينجح بالحصول على صيد وفير، فنحن لن نحصل على شيء. إنّما ذلك لا شيء! إنّني أرى بأنّهم أشرار ويجعلونه يتألّم. وأظنُّ بأنّ هذا هو سبب تغيّرنا بشكل عام...»

 

«هذا صحيح. مِن جهتي هو صحيح» يؤكّد الغيور.

 

«كذلك بالنسبة لي. ولي أيضاً.» يقول الآخرون.

 

«لقد اعتراني القلق بشأن ذلك منذ زمن طويل، وقد سعيتُ للحصول على... بعض المساعدة المجدية. لكنّهم خانوني... وأنتم لم تفهموني... وأنا لم أفهمكم... لقد ظننتُ بأنّكم على تلك الحال بسبب تعب روحيّ، إحباط، خيبة أمل...»

 

«أنا لم آمل قطّ بأفراح بشريّة، لذا لم أكن خائباً» يقول الغيور.

 

«أخي وأنا نودُّه منتصراً، إنّما لفرحه هو. لقد تَبِعناه مِن مُنطَلَق محبّتنا له كقريبَين، قبل أن يكون ذلك كتلميذَين. لطالما تَبِعناه منذ طفولتنا. هو الأصغر منّا، نحن إخوته، لكنّه أعظم كثيراً منّا على الدّوام...» يقول يعقوب بإعجابه اللامحدود تجاه يسوعه.

 

«إذا ما كان مِن ألم لنا، فهو أنّنا نحن أقاربه لسنا جميعنا نحبّه بالروح، بروحنا وحده. إنّما لسنا الوحيدين في إسرائيل الّذين نحبّه بطريقة خاطئة» يقول تدّاوس.

 

يهوذا الإسخريوطيّ ينظر إليه، ويوشك أن يقول شيئاً، لكنّ الّذي منعه صيحة تَصِل مِن هضبة تُشرِف على القرية الصغيرة، التي يحاذونها، باحثين عن طريق كي يدخلوها.

 

«يا يسوع! أيّها الرابّي يسوع! يا ابن داود وربّنا، ارحمنا.»

 

«إنّهم برص! لنمضِ يا معلّم، وإلّا فإنّ القرية بأكملها سوف تهرع إلى هنا وسوف تستبقينا في منازلها» يقول الرُّسُل.

 

لكنّ البرص لديهم الأفضليّة كونهم متقدّمين عليهم، السالكين الطريق صعوداً، ولكن على بعد خمسين متراً مِن القرية على الأقلّ. ينزلون وهم يعرجون، حاثّين الخطى نحو يسوع مكرّرين صيحاتهم.

 

«لندخل القرية يا معلّم. فهم لا يستطيعون الدّخول.» يقول بعض الرُّسُل، لكنّ آخرين يردّون: «بعض النّسوة قد أتين ينظرن. وإذا ما دخلنا، فسوف نتجنّب البرص، ولكنّنا لن نتجنّب أن يتمّ التعرّف إلينا واستبقاؤنا.»

 

وفيما هم يتساءلون عمّا يجب فِعله، يدنو البرص مِن يسوع، الّذي يتابع طريقه دون اكتراث بتذمّرات أتباعه: إذا، وإنّما. يُذعِن الرُّسُل ويتبعونه، فيما نسوة مع أطفالهنّ المتعلّقين بأثوابهنّ وبعض المسنّين الباقين في القرية، يأتون كي يروا، لابثين على مسافة حَذِرة مِن البرص الّذين، في هذه الأثناء، يتوقّفون على بُعد بضعة أمتار مِن يسوع ويتوسّلون بعد: «يا يسوع، ارحمنا!»

 

يسوع ينظر إليهم لبرهة، ثمّ، ومِن دون الاقتراب مِن المجموعة التّعيسة، يَسأَل: «أأنتم مِن هذه القرية؟»

 

«لا يا معلّم. إنّنا مِن أماكن مختلفة. لكنّ الجانب الآخر مِن الجبل حيث نمكث، يُشرف على الطريق إلى أريحا، وهو موضع جيّد لنا...»

 

«اذهبوا إذن إلى القرية الأقرب إلى جبلكم وأروا أنفسكم للكَهَنَة.»

 

ويستأنف يسوع المشي، منتقلاً إلى حافّة الطريق كي لا يُلامِس البرص، الّذين ينظرون إليه وهو يتقدّم، بعيونهم المريضة المسكينة الّتي لا تعبّر عن شيء إلّا الرّجاء. وعندما يصل يسوع إلى مستواهم، يرفع يده ليباركهم.

 

يخيب أمل أهل القرية ويعودون إلى منازلهم... يُعاوِد البرص تسلّق الجبل للعودة إلى مغارتهم أو إلى طريق أريحا.

 

«لقد فعلتَ الصواب بعدم شفائهم. وإلاّ لما كان أهل القرية يدَعوننا نذهب...»

 

«نعم، وعلينا أن نصل إلى أفرايم قبل حلول الليل.»

 

يسير يسوع بصمت. القرية الآن محجوبة عن الأنظار بفعل منعطفات الطريق المتعرّجة التي تتبع انحناءات الجبل غير المنتظمة عند قاعدتها حيث تمّ شقّ الطريق.

 

لكنّ صوتاً يصلهم: «التسبيح لله العليّ ولمسيحه الحقّ. فيه كلّ القُدرة، الحكمة والرّحمة! التسبيح لله العليّ الذي به منحنا السلام. سَبِّحوه، جميعكم، يا أهل اليهوديّة، السامرة، الجليل وما وراء الأردن. فلتدوِّ التسابيح للعليّ ولمسيحه وصولاً إلى ثلوج الحرمون الكبير، إلى حجارة أدوم الملتهبة، وإلى الرمال المبلّلة بأمواج البحر العظيم. ها إنّ نبوءة بَلْعام قد تحقّقت. إنّ نجم يعقوب يسطع في سماء الوطن الّذي أعاد لمّ شمله الرّاعي الحقّ. والوعود الّتي أعطيت للآباء قد تحقّقت كذلك! هوذا، هوذا كلام إيليا، الّذي أحبّنا. أَنصِتي إليه، يا شعوب فلسطين، وافهميه. ينبغي عدم العرج بين جانبين، إنّما الاختيار وفقاً لنور الروح، وإذا ما كانت النَّفْس صالحة فالاختيار سيكون صائباً. هوذا الربّ، اتبعوه! آه! لقد عُوقِبنا حتّى الآن لأنّنا لم نجتهد كي نفهم! إنّ رَجُل الله قد لَعَنَ المذبح الزّائف متنبّئاً: "سيولد مِن بيت داود ابن، اسمه يوشيّا، حيث سيُقرّب على المذبح، وتُحرق عظام آدم. وسيتمزّق المذبح وصولاً إلى أحشاء الأرض، ويُذرى رماد القربان شمالاً، جنوباً، شرقاً، وحيث تغرب الشمس." لا تتصرّفوا مثل الأحمق أخزيا الذي أَرسَلَ سُعاة لاستشارة إله عَقْرُون فيما كان العليّ في إسرائيل. لا تكونوا أدنى مرتبة مِن حمار بَلْعام الذي قد استحقّ الحياة لاحترامه لروح النور، في حين قد ضُرِب النبيّ الّذي لم يكن يُبصِر. ها هو النور يعبر وسطنا. افتحوا أعينكم، يا عميان الروح، وانظروا» وأحد البرص يتبعهم ويقترب منهم أكثر فأكثر، على الطريق الرئيسيّة، دالّاً المسافرين على يسوع.

 

الرُّسُل، المستاؤون، يلتفتون مرّتين أو ثلاث مرّات، آمِرين الأبرص، الّذي قد شُفِيَ تماماً الآن، أن يصمت. وفي المرّة الأخيرة كانوا تقريباً يهدّدونه.

 

ويتوقّف عن الكلام بصوت مرتفع لبرهة، كي يخاطب الجميع، ويجيب: «ماذا تريدون؟ ألّا أمجّد الأمور العظيمة التي عملها الله لي؟ أوتريدونني ألّا أباركه؟»

 

«بارِكه في قلبكَ واصمت» يجيبونه بغضب.

 

«لا، لا يمكنني أن أصمت. إنّ الله يضع الكلام على شفتيّ» ، ويستأنف بصوت مرتفع: «يا أهل البلدتين الحدوديّتين، وأنتم الذين قد صدف أنّكم تمرّون مِن هنا، توقّفوا واعبدوا مَن سيملك باسم الربّ. كنتُ أَسخَر مِن الكثير من الكلام. أمّا الآن فإنّني أردّده لأنّني أرى بأنّه قد تحقّق. ها إنّ كلّ الشعوب تتحرّك وتأتي نحو الربّ، مبتهجة، عبر البحار والصّحارى، على الجبال والتلال. وكذلك نحن، الشعب الذي كان سالكاً في الظلمات، سنذهب إلى النور العظيم الذي انبثق، خروجاً مِن منطقة الموت. نحن الذين كنّا مثل ذئاب، نمور وأسود. سوف نولد مِن جديد في روح الربّ، وسوف نتحابّ فيه، في ظلّ فرع يسّى، الذي غدا أرزة ستخيّم تحتها الأمم الّتي جَمَعَها مِن جهات الأرض الأربع. ها قد أتى اليوم حيث تنتهي غيرة أفرايم، لأنّه ما عاد هناك إسرائيل ويهوذا، إنّما مملكة واحدة فقط: مملكة مسيح الربّ. ها أنا ذا أُنشِد تسابيح الربّ الذي خلّصني وعزّاني. ها أنا أقول: سَبِّحوه وتعالوا كي ترتشفوا خلاصاً عند ينبوع المخلّص. هوشعنا! هوشعنا للأمور العظيمة التي يصنعها! هوشعنا للعليّ الذي وَضَعَ روحه وسط البشر وأَلبَسَه جسداً، ليغدو الفادي!»

 

إنّه لا يكلّ. الجمع يتزايد عدداً، إنّهم يحتشدون ويسدّون الطريق. الّذين كانوا في الخلف يندفعون إلى الأمام، والذين كانوا في الأمام يتراجعون. أهل قرية صغيرة، هم الآن على مقربة منها، ينضمّون إلى المارّة.

 

«ولكن اجعله يسكت يا ربّ. إنّه سامريّ. هذا ما يقوله الناس. وحيث أنّكَ لم تسمح حتّى لنا بأن نتقدّمكَ كي نعلن عنكَ! فعليه ألّا يتكلّم عنكَ» يقول الرُّسُل منحرفو المزاج.

 

«يا أصدقائي، سأردّد لكم الكلام الذي قاله موسى ليشوع بن نون الّذي كان يتذمّر ممّا كان إلداد وميداد يتنبّآن به في المخيّمات: "أتغار عليَّ، عِوَضاً عنّي؟ آه! فقط لو كان الشعب كلّه يتنبّأ، وجَعَلَ الربّ روحه عليهم جميعاً!" إنّما مع ذلك فسوف أتوقّف وأصرفه كي أسعدكم.»

 

ويتوقّف ملتفتاً ومنادياً الأبرص المبرأ، الذي يهرع ويسجد أمام يسوع مقبّلاً الأرض.

 

«انهض. والآخرون أين هم؟ ألم تكونوا عشرة؟ ألم يشعر التّسعة الآخرون بالحاجة إلى أن يشكروا الربّ. وماذا؟ مِن بين عشرة برص، واحد فقط كان سامريّاً، ولا حتّى واحد منهم، فيما عدا هذا الغريب، شعر بالحاجة إلى العودة لتمجيد الله، قبل أن يعود إلى الحياة وإلى عائلته؟ ويدعونه "سامريّاً". فإذن ما عاد السامريّون ثَمِلين، حيث أنّهم يرون دونما زوغان، ويأتون إلى طريق الخلاص مِن غير ترنُّح؟ أيتحدّث الكلمة بلغة أجنبيّة إذا ما كان الغرباء يفهمونه، ومواطنوه لا يفهمونه؟»

 

يدير عينيه الرّائعتين نحو حشد حاضر مِن كلّ أرجاء فلسطين. هاتان العينان مُبهِرتان في سطوعهما... كُثر يخفضون رؤوسهم ويهمزون مطاياهم أو يسيرون مبتعدين…

 

يسوع يخفض عينيه نحو السامريّ الراكع عند قدميه ويتحوّل نظره إلى الوداعة الفائقة. يرفع يده، الّتي كانت متدلّية على طول جنبه، كي يباركه، ويقول: «انهض وامض. إيمانكَ قد خلّص فيكَ ما هو أكثر مِن الجسد. تقدّم في نور الله. اذهب.»

 

الرّجل يقبّل الأرض مجدّداً وقبل أن ينهض يَسأَل: «أعطني اسماً يا ربّ. اسماً جديداً لأنّ كلّ شيء فيَّ جديد وللأبد.»

 

«في أيّ أرض نحن الآن؟»

 

«في تلك الّتي لأفرايم.»

 

«وأفرايم هو اسمكَ مِن الآن فصاعداً، لأنّ الحياة قد أعطتكَ الحياة مرّتين(1). اذهب.»

 

والرجل ينهض ويمضي.

 

السكّان المحلّيين وبعض المسافرين يودّون استبقاء يسوع. لكنّه يكبحهم بنظرة، هي ليست قاسية، بل على العكس هي غاية في الوداعة عندما ينظر إليهم. إنّما لا بدّ أنّ سطوة تنبعث بحيث لا أحد يلحّ لاستبقائه.

 

ويغادر يسوع الطريق مِن دون دخول القرية الصغيرة، إنّه يجتاز حقلاً، ثمّ يعبر سيلاً صغيراً ودرباً، ويصعد التلّة الشرقيّة، المكسوّة تماماً بالأحراج، والّتي يدخلها مع أتباعه قائلاً: «سنتبع الطريق سائرين في الأحراج، كي لا نضلّ. بعد ذاك المنحنى تمضي الطريق على طول ذاك الجبل. سنجد مغارة حيث يمكننا أن ننام، وعند الفجر سوف نغادر أفرايم...»

----------

(1) إنّ معنى "أفرايم" هو، بالفعل، "الأثمار المضاعفة".