ج2 - ف37

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الأول

 

37- (يسوع في بيت لحم في منزل القَرَويّ وفي المغارة)

 

08 / 01 / 1945

 

طريق سهلة مليئة بالحجارة والغبار، وهي جافّة بفعل شمس الصيف. ويتمّ السير بين شجر الزيتون المثمر بوفرة، المكسوّ بحبّات زيتون صغيرة بالكاد أَخَذَت شكلها. وعلى الأرض غير المداسة ما تزال طبقة مِن زهيرات الزيتون المتساقطة بعد الإلقاح.

 

يتقدّم يسوع مع الثلاثة الواحد تلو الآخر على امتداد حافّة الطريق حيث ظلّ الزيتون قد حافَظَ على اخضرار العشب وحيث الغبار أقلّ. 

 

يَنعَطِف الطريق بزاوية قائمة ليَصعَد بعد ذلك بشكل خفيف صوب قناة لها شكل حدوة حصان كبيرة تبعثَرَت عليها بيوت كبيرة وصغيرة عديدة لتُشَكِّل قرية. وبالتحديد حيث الدرب يُشَكِّل مُنعَطَفاً، يوجد بِناء مُكعّب الشكل تعلوه قبّة قليلة الارتفاع مغلق تماماً ويبدو مهجوراً.

 

يقول سمعان: «هاك، إنّه مَوضِع قبر راحيل.»

 

«إذاً فنحن نوشك على الوصول. هل سندخل مباشرة إلى المدينة؟»

 

«لا يا يهوذا، أوّلاً سأريكم موضعاً... ثمّ بعد ذلك نَدخُل المدينة. وبما أنه ما يزال هناك بقية مِن ضوء النهار وسيكون ضوء قمر، فسنتمكّن مِن التحدّث إلى الناس إذا رَغِبوا في الاستماع.»

 

«أتريد ألّا يَستَمِعوا إليكَ؟»

 

ويَصِلون إلى القبر، إنّه قديم ولكنّه مُحافَظ عليه وقد طُلِيَ بالكلس.

 

يتوقّف يسوع ليشرب مِن بئر ريفيّ قريب. فتُقَدِّم له امرأة ماء سَحَبَته مِن البئر. يسألها يسوع: «هل أنتِ مِن بيت لحم؟»

 

«نعم، إنّما الآن وهو زمن جني المحاصيل، فأنا هنا مع زوجي في هذه الضّيعة للعناية بالحدائق والبساتين. وأنتَ، هل أنتَ جليليّ؟»

 

«وُلِدتُ في بيت لحم ولكنّي أقطن الآن في الناصرة في الجليل.»

 

«أمُضطَهَد أنتَ أيضاً؟»

 

«العائلة. ولكن لماذا تقولين "أنتَ أيضاً"؟ هل بين سكّان بيت لحم الكثير مِن الـمُضطَهَدين؟»

 

«أَوَلا تَعلَم؟ كم عمركَ؟»

 

«ثلاثون عاماً.»

 

«إذاً فَقَد وُلِدتَ تماماً عندما... آه! يا له مِن بؤس! ولكن لماذا وُلِدَ ذاك هنا؟»

 

«مَن؟»

 

«إنّه ذاك الذي قيل عنه الـمُخَلِّص. اللعنة على أولئك الذين في غَمرة السُّكر مِن جرّاء الإسراف في الشراب رأوا في الغيوم ملائكة وسَمِعوا أصواتاً مِن السماء وسط ثغاء النِّعاج ونهيق الحمير، والذين في سَحاب السُّكر اتَّخَذوا ثلاثة بؤساء كأقدس مَن على الأرض. اللعنة عليهم وعلى الذين صَدَّقوهم!»

 

«ولكنَّكِ مع كل لعناتكِ لا تُفَسّرين لي الذي جرى. ولماذا كلّ هذه اللَّعنات؟»

 

«لأنّ... إنّما قُل لي إلى أين أنتَ ذاهب؟»

 

«إلى بيت لحم برفقة أصدقائي. لي فيها شؤون. ينبغي لي أن أُحَيّي أصدقاء قديمين وأحمل لهم تحيّات والدتي. إنّما ينبغي لي أوّلاً معرفة أشياء كثيرة، لأنّنا غائِبون عنها منذ سنوات عديدة. فلقد غادرنا المدينة منذ كان عمري أشهُراً.»

 

«قبل المصيبة إذاً. اسمع، إذا لم تكن تأنَف مِن بيت فلّاح فتعال نتقاسم الخبز والملح معكَ ورفاقكَ. سوف نتكلّم على العشاء وآويكم حتّى الصباح. البيت صغير، إنّما أرض الإسطبل مفروشة بطبقة لا بأس بها مِن التبن. والليلة دافئة وصافية. إن شِئتَ يمكنكَ النوم.»

 

«فليكافئكِ إله إسرائيل على ضيافتكِ. سآتي إلى بيتكِ بكلّ سرور.»

 

«يَحمِل الزائر بَرَكَته معه. هيا بنا. ينبغي لي أوّلاً أن أسكُب سِتّ جرار ماء على الخضار التي نَبَتَت حديثاً.»

 

«سوف أساعدكِ.»

 

«لا، فأنتَ مِن عَليَّة القوم. طريقة تصرّفكَ تقول لي ذلك.»

 

«أنا عامل، أيّتها المرأة، وهذا صيّاد سمك. أمّا هذان فيهوديّان ثريّان ولهما مركزهما. إنّما ليس أنا.» ويَأخذ جَرّة مُلقاة إلى جانب الجدار عند أسفل البئر ويربطها ويُدَلِّيها. يساعده يوحنّا. ولا يريد الآخران أن يكونا أقلّ منهما. يقولان للمرأة: «أين الحديقة؟ أرينا إيّاها. وسوف نحمل الجِّرار.»

 

«فليبارككم الله. التَّعَب قد أَنهَكَ كليتيّ. هلمّوا...»

 

وبينما يُخرِج يسوع إناءه، يَهبط الرفاق الثلاثة عبر أحد الدروب... ثمّ يَعودون مع إناءَين فارغَين، يملؤونهما ويعودون. ويفعلون ذلك ليس ثلاث مرّات، بل ما ينوف عن عشر مرّات. ويضحك يهوذا قائلاً: «إنّ صوتها يكاد يُبَحّ مِن كثرة الدعاء. إنّنا نسكب الماء للخضار التي لن تجفّ أرضها ليومين، كما لن تَتعَب كليتا المرأة.» وعندما يعود للمرّة الأخيرة يقول: «يا معلّم، أظنّنا الآن نَزَلنا في المكان غير المناسب.»

 

«لماذا يا يهوذا؟»

 

«لأنّها تحقد على المسيح. لقد قُلتُ لها: "لا تكفري. ألا تعلمين أنّ المسيح هو النِّعمة الأكبر لشعب الله؟ إنّ يهوه قد وَعَدَ به يعقوب ومِن بَعده كلّ أنبياء وأبرار إسرائيل وأنتِ تشتمينه؟" وقد أجابَتني: "ليس هو، إنّما مَن أسماه كذلك، رُعاة سُكارى وعَرَّافون مَلعونون مِن الشرق". وبما أنّكَ أنتَ...»

 

«لا يهمّ. أَعلَم أنّني إنّما وُجِدتُ لأكون للكثيرين علامة اختبار وتَناقُض. هل قلتَ لها مَن أكون؟»

 

«لا. فأنا لستُ غبيّاً. لقد أردتُ المحافظة على منكبيكَ ومَنَاكِبنا.»

 

«أحسنتَ صنعاً. ليس بسبب الـمَناكِب، إنّما لأنّني أريد أن أكشف عن ذاتي عندما أرى ذلك مناسباً. هلمّوا.»

 

يأخُذه يهوذا إلى الحديقة. وتُفرغ المرأة الجِّرار الثلاث الأخيرات وتقودهم إلى بناء ريفيّ في وسط البستان وتقول لهم: «ادخلوا. فزوجي الآن في المنزل.»

 

يُقبِلون صوب مطبخ منخفض ومليء بالدخان. ويُلقي يسوع التحيّة: «السلام لهذا البيت.»

 

يُجيبه الرجل: «أيّاً كنتَ، فلتحلّ البركة عليكَ وعلى مَن معكَ. ادخُل.» ويَجلب بداية حوضاً مليئاً ماء ليَغتَسِل الأربعة. وبعد ذلك يَدخُلون جميعاً ويَجلسون معاً إلى طاولة غليظة.

 

«أشكركَ نيابة عن زوجتي. لقد حَدَّثَتني عنكم. وأنا لم يسبق لي الاحتكاك بالجليليّين. فلقد قيل لي إنّهم يَتَّسِمون بالفظاظة وهُم مُشاغِبون. بينما أنتم فقد كنتم لطيفين وطيّبين. وأنتم الآن تَعِبون... وقد عَمِلتُم كثيراً! هل أنتم قادمون مِن بعيد؟»

 

«مِن أورشليم. هذان يهوديّان أمّا أنا وهذا الآخر فجليليّان. إنّما صدقني أيّها الرجل: أينما اتَّجَهتَ فإنّكَ سوف تَجِد الأخيار والأشرار.»

 

«هذا صحيح. وبالنسـبة لي فهذه المرّة هي الأولى التي أُقـابِل فيهـا جـليليّين طيّبين. لذا فأنا محظوظ. اجلبي الطعام يا امرأة. ليس لديَّ سوى الخبز والخضار والزيتون والجُّبن. فأنا فلّاح.»

 

«وأنا كذلك لستُ مِن عَليَّة القوم، فأنا نجّار.»

 

«أنتَ؟ وبهذا السلوك؟»

 

تتدخّل المرأة: «الضيف مِن بيت لحم، لقد قلتُ لكَ ذلك، وقد كان أهله مِن الـمُضطَهَدين. كان ممكناً أن يكونوا مِن الأغنياء والمرموقين كما كان يشوع بن حور ومتّياس بن إسحاق ولاوي بن إبراهيم... البؤساء المساكين!...»

 

«لم يسألكِ أحد. سامحوها، فالنساء تثرثرن دائماً أكثر مِن عصافير الدوري مساء.»

 

«هل هُم عائلات مِن بيت لحم؟»

 

«كيف ؟ ألا تعرف مَن يكونون وأنتَ مِن بيت لحم؟»

 

«لقد هربنا وعمري بعد لا يتجاوز بضعة أشهر...»

 

والمرأة التي يُفتَرَض أنّها بالتأكيد ثرثارة تعود إلى القول: «لقد سافَرَ قبل المذبحة.»

 

«إيه! أرى ذلك جيّداً: وإلّا لما كان على قيد الحياة. ألم تَعُد إليها أبداً؟»

 

«لا.»

 

«يا للبؤس العظيم! سوف تجد القليل مِن أولئك الذين قالت لي سارة أنّكَ تريد التعرّف إليهم وتَحيَّتهم. كثيرون منهم ماتوا وكثيرون فَرّوا، وكثيرون... للأسف! تَشَتَّتوا، ومِن غير المعلوم إذا ما كانوا قد ماتوا في الصحراء أو قضوا نحبهم في السجن عقوبة لهم على ثورتهم. ولكن هل كانت ثورة؟ مَن كان سيبقى بلا مبالاة عند رؤية الأبرياء يُذبحون؟ لا، مِن غير العدل أن يبقى لاوي وإيلي مِن الأحياء بينما مات الكثيرون من الأبرياء!»

 

«مَن هُما هذان الاثنان وماذا فَعَلا؟»

 

«قد سَمِعتَ على الأقلّ بمذبحة هيرودس... أكثر مِن ألف(1) طفل في المدينة وألف آخرين في الريف. وكلّهم، تقريباً كلّهم، كانوا صبيان، لأنّ القَتَلَة في هَيجانهم في الليل أثناء الـمَعمَعَة أَخَذوا، بل انتَزَعوا مِن الـمُهود ومِن أَسِرَّة الأُمَّهات مِن البيوت الـمُحَصَّنَة، حتّى طفلات صغيرات وطعنوهنّ مثل غزلان أثناء شربها اختَرَقَتها السِّهام. ولماذا كلّ ذلك؟ لأنّ مجموعة مِن الرُّعاة أرادوا مكافحة برد الليل فَشَرِبوا قَدراً كبيراً مِن المشروبات الروحيّة حتّى أَخَذَهم الهَذَيان فَرَووا أنّهم رأوا ملائكة وسَمِعوا تراتيل، وتَلَقّوا رسالة وقالوا لنا نحن أبناء بيت لحم: "هلمّوا قَدِّموا فروض العبادة، فالمسيح قد وُلِد". تصوّر، المسيح في مغارة!

 

في الحقيقة ينبغي لي القول بأنّنا آنذاك أصبَحنَا كُلّنا كالسَّكارى، حتّى أنا وقد كنتُ ما أزال شابّاً، وحتّى زوجتي التي كان عمرها آنذاك لا يتجاوز سنوات قليلة... لأنّنا آمَنّا جميعاً بامرأة مسكينة مِن الجليل، وأردنا رؤية العذراء التي تَلِد، تلك التي تحدَّثَ عنها الأنبياء. ولكنّها كانت مع جليليّ جلف، وكان زوجها بكلّ تأكيد. وإذا كانت زوجة فكيف كان يمكنها أن تكون "العذراء"؟ باختصار آمَنَّا، وهدايا وعبادات وبيوت فُتِحَت لاستقبالهم... آه! لقد كنّا نعرف إجادة القيام بكلّ شيء. يا لحنّة المسكينة! لقد خَسِرَت كلّ ممتلكاتها وحياتها وأبناء ابنتها أيضاً، الأولى هي الوحيدة التي نَجَت لأنّها تزوَّجَت تاجراً مِن أورشليم، فخسروا كلّ ممتلكاتهم لأنّ المنزل قد أُحرِق، والأملاك قد دُكَّت كلّها بأمر مِن هيرودس. وهي الآن حقلاً بوراً وممرّاً للقطعان.»

 

«كلّ ذلك بسبب خطأ الرُّعاة؟»

 

«لا، إنّما كذلك بسبب خطأ سَحَرَة ثلاثة قَدِموا مِن مملكة الشيطان. قد يكون الثلاثة شركاء... ونحن الحمقى الذين أقمنا لهم كلّ اعتبار وتشريف! ورئيس المَجْمع المسكين! لقد قَتَلناه لأنّه أقسَمَ أن النبوءات تؤكّد حقيقة أقوال الرُّعاة والمجوس...»

 

«وكلّ هذا بسبب خطأ الرُّعاة والمجوس؟»

 

«لا أيّها الجليليّ، بل بسبب خطئنا نحن كذلك. بسبب سذاجتنا. كان قد مرّ زمن طويل ونحن ننتظر المسيح! قرون مِن الانتظار. خيبات أمل كثيرة، في الأزمنة الأخيرة، مع الـمُسَحاء المزيَّفين. وأحدهم كان جليليّاً مثلكَ. وآخر كان اسمه ثيوداس. كِذبة! المسيح، هُم؟ لم يكونوا سوى مُغامِرِين في البحث عن الجاه والمال! كان ينبغي أن يكون ذلك درساً لنا. على العكس...»

 

«إذاً فلماذا تلعنون كلّكم الرُّعاة والمجوس؟ إذا قضيتم بأنّكم كنتم كذلك حمقى، فكان عليكم أن تلعنوا ذواتكم أيضاً. ولكن اللعنة مُحَرَّمة في وصيّة الحبّ. واللَّعنة تجرّ اللَّعنة. هل أنتم متأكّدون بأنّ حكمكم عادل؟ ألم يكن ممكناً أن يكون قول الرُّعاة والمجوس حقيقة أوحى لهم بها الله؟ لماذا تريدون الاعتقاد بأنّهم كانوا كَذَبَة؟»

 

«لأنّ سِنيّ النبوّة لم تكن قد اكتَمَلَت. وقد فَكَّرنا في ذلك آنئذ... بعد أن كان الدم الذي صَبَغَ الفسقيّات والجداول بالأحمر قد فَتَحَ أعين إدراكنا.»

 

«ألم يكن باستطاعة الباري تعالى، لفرط حبّه لشعبه، استِباق مجيء الـمُخَلِّص؟ على ماذا استَنَد المجوس في تأكيداتهم؟ لقد قُلتَ لي إنّهم أتوا مِن الشرق...»

 

«على حساباتهم بما يخصّ نجماً جديداً.»

 

«ألم يكن قد قيل: "نجمة تُولَد مِن يعقوب وصولجان يَرتَفِع مِن إسرائيل"؟ ويعقوب ألم يكن الحَبر الأعظم؟ ألم يقف كذلك في هذه الأرض، أرض بيت لحم التي كانت عزيزة عليه مثل بؤبؤ العين، لأنّ فيها ماتت حبيبته راحيل؟

 

وأيضاً، ألم يَخرُج مِن فَم أحد الأنبياء: "بُرعُم سيَخرج مِن غصن يسّى وزهرة ستتفتَّح مِن هذا الأصل"؟ يسّى والد داود قد وُلِد هنا. البرعم على الغصن الذي قُطِعَ مِن الأصل نتيجة تعدّيات الطغاة، أليست "العذراء" هي التي سَتَلِد الابن الذي حُبِل به، ليس مِن رجل، لأنّها آنذاك لن تبقى عذراء، إنّما مِن إرادة الله التي بها سيُصبِح "عمانوئيل"، إذ إنَّ ابن الله سيكون الله، وبالنتيجة سيأتي بالله إلى وسط شعب الله، كما يشير إلى ذلك اسمه؟ وأيضاً ألم تُبَشَّر، كما تقول النبوءة، شعوب الظُّلمات، يعني الأوثان، "بواسطة نور عظيم"؟ والنجمة التي رآها المجوس، ألا يمكن أن تكون نجمة داود، النور العظيم الذي وَرَدَ في نبوءتي بَلْعام وإشَعياء؟

 

والمذبحة ذاتها التي نَفَّذَها هيرودس، ألم تكن ضمن النبوءات؟ "صراخ يعلو... راحيل تبكي بنيها". فكان قد أُشير إلى أنّ عظام راحيل في قبرها في أفراتة ستنوح وتبكي في الزمن الذي ستأتي فيه المكافأة للشعب البارّ بالـمُخَلِّص. الدموع التي ستتحوّل فيما بعد إلى ابتسامة سماويّة، مثل قوس قزح الذي تُشَكِّله قطرات العاصفة الأخيرة، إنّما الذي يقول: "هاكُم زمن الصفاء قد مُنِحَ لكم.»

 

«إنّكَ على درجة عالية مِن الثقافة. هل أنتَ رابّي؟»

 

«أنا كذلك.»

 

«لقد لاحظتُ ذلك. ففي كلامكَ نور وحقيقة. إنّما مع ذلك... آه! جراح كثيرة ما زالت تنزف في أرض بيت لحم هذه بسبب المسيح، حقيقيّاً كان أم مزيّفاً... ومع ذلك لا أنصحه أبداً بالمجيء إلى هنا، فسترفضه الأرض كما يُرفَض ابن الزنى الذي بسببه مات الأبناء الحقيقيّون، لأنّه على كلّ حال... لو كان هو... فيكون قد مات مع الآخرين الذين ذُبِحوا.»

 

«أين يقطن إيلي ولاوي الآن؟»

 

يرتاب الرجل: «هل تعرفهما؟»

 

«أنا لا أعرفهما. إنّني أَجهَل وَجهيهما، ولكنّهما بائِسَين، وأنا أُشفِق على البؤساء دائماً. أودّ الذهاب للقائهما.»

 

«ستكون الأوّل منذ ست خمسيات. ما زالا راعِيَين في خدمة هيرودي ثريّ في أورشليم كان قد استولى على أملاك سكّان كثيرين قُتِلوا... فدائماً يوجد مستفيدون! سوف تَجِدهُما مع قطعانهما على المرتفعات باتّجاه الخليل. ولكن، نصيحة، لا تَدَع أبناء بيت لحم يَرونَكَ تُكَلِّمهُما فَسَتَندَم. ونحن نَحتَمِلهُما بسبب... بسبب وجود الهيروديّ. وإلّا...»

 

«آه! الحقد! لماذا الحقد؟»

 

«لأنّ هذا حقّ؛ إنّهم أساؤوا إلينا.»

 

«لقد اعتَقَدوا أنّهم يفعلون خيراً.»

 

«ولكنّهم أساؤوا إلينا وليَبيدوا. كان ينبغي لنا أن نقتلهم، كما كان جنونهم دافعاً للقتل. إلّا أنّنا كُنّا بُلَهاء... وبعد ذلك وُجِدَ الهيروديّ.»

 

«لولاه إذاً، حتّى بعد حركة الثورة الأولى التي يمكن فَهمها، كنتم ستقتلونهما؟»

 

«والآن كذلك نقتلهما دون الخوف مِن معلّمهما.»

 

«أيّها الرجل أقول لكَ: "لا تحقد. لا تكن لكَ رغبة بسوء. لا تطلب فِعل شرّ. هنا أنا لا أرى خطأ، وحتّى ولو كان، فاصفح. اغفر باسم الله. قُل ذلك لأبناء بيت لحم الآخرين. وعندما تُطرَح الضغينة مِن قلوبكم، سوف يأتي المسيح، وستعرفونه حينئذ لأنّه حيّ. لقد كان موجوداً ساعة حَصَلَت المذبحة، أقول لكَ ذلك. وهذا لم يكن نتيجة خطأ الرُّعاة والمجوس، بل إنّما المجزرة قد وَقَعَت بسبب خطأ، بل قُل خطيئة الشيطان. لقد وُلِدَ المسيح هنا مِن أجلكم. لقد جاء حاملاً النور لأرض آبائه. ابن امرأة عذراء مِن نسل داود، فوسط أنقاض بيت داود تَفجَّرَ للعالم نَهر النِّعم الأبديّة، فُتِحَت للإنسان طريق الحياة...»

 

«اذهب، ارحل بعيداً عن هنا! أنتَ نصير هذا المسيح المزيّف والذي لا يمكنه أن يكون إلّا مزيّفاً، إذ قد حَمَلَ لنا البؤس، لنا نحن أبناء بيت لحم. وأنتَ تُدافِع عنه...»

 

«اصمُت أيّها الرجل، فأنا يهوديّ ولي أصدقاء ذوو مراتب عالية. وسوف تندم على هذه الإهانة.» ويَقفز يهوذا ويمسك بالقرويّ مِن ثوبه، ويهزّه بعنف وقد استشاط غيظاً وغضباً.

 

«لا، لا، اذهبوا. لا أريد متاعب مع أبناء بيت لحم ولا مع روما وهيرودس. اذهبوا، ملعونين، إذا كنتم غير راغبين في أن أترك لكم تذكاراً. هيا خارجاً!...»

 

«لنمضِ يا يهوذا. لا تفعل شيئاً. ولندعه في حقده. فالله لا يَدخُل حيث توجد الضغينة. هيا بنا.»

 

«نعم، هيّا بنا، إنّما سوف أجعلكَ تدفع ثمن ذلك.»

 

«لا يـا يهوذا، لا. يجب ألا تتكلّم هكذا. إنّهـم عميان... ويوجد منهم الكثير على طريقي!...»

 

يَخرُجان تابِعَين سمعان ويوحنّا اللَّذين أصبحا الآن خارجاً ويتحدّثان إلى المرأة عند طرف الإسطبل.

 

«اصفح واغفر لزوجي يا معلّم. لم أكن أظنُّ أن تكون الإساءة بهذا الشكل... هاكَ: خذها. ستأكلها غداً صباحاً، فهي طازجة اليوم، وليس لديَّ شيء آخر. عفواً، أين ستنام؟» (وتعطيه بيضاً)

 

«لا تفكّري في ذلك. فأنا أعرف إلى أين أذهب. اذهبي أنتِ بسلام مِن أجل صلاحكِ. وداعاً.»

 

يَسيرون بضعة أمتار بصمت، ثمّ يَنفَجِر يهوذا: «لماذا أنتَ لا تجعلهم يعبدونكَ؟ لماذا لا يُطرَح هذا الكافر المقزِّز أرضاً؟ يُطرَح أرضاً، مسحوقاً بسبب إساءته إليكَ، أنتَ المسيح... آه!‍ كنتُ سأفعلها أنا. لا شيء يهزّ السامريّين مثل تحويلهم إلى رماد بمعجزة.»

 

«آه! كم مرّة سأسمع ذلك! إنّما هل ينبغي لي أن أُحوِّل امرءاً إلى رماد مِن أجل كلّ خطيئة تُرتَكَب بحقّي؟... لا يا يهوذا. لقد جئتُ لِأَبني لا لِأُدَمِّر.»

 

«حسناً، ولكن في انتظار ذلك سوف يدمّركَ الآخرون.»

 

لا يُجيب يسوع.

 

يسأل سمعان: «إلى أين نحن ذاهبون الآن يا معلّم؟»

 

«تعالوا معي. فأنا أعرف مكاناً.»

 

فيسأل يهوذا وهو ما يزال منفعلاً: «ولكن إذا كنتَ لم تأت إلى هنا قطّ منذ هربتَ، فكيف تعرفه؟»

 

«أعرفه وهو ليس جميلاً. ولكنّني كنتُ فيه مرة أخرى. وهو ليس في بيت لحم. إنّه خارجها قليلاً... فلنذهب بهذا الاتّجاه.»

 

يسوع في المقدّمة يليه سمعان ثمّ يهوذا وفي النهاية يوحنّا... وفي غمرة الصمت الذي لا يشقّه سوى خشخشة الأحذية على حصى الدرب يُسمَع بكاء.

 

فيَسأل يسوع ملتفتاً: «مَن الذي يبكي؟»

 

يُجيب يهوذا: «إنّه يوحنّا. فهو خائف.»

 

«لا لستُ خائفاً، فيدي على سيفي الذي أتقلّده. ولكنّني تذكرتُ قولكَ: "لا تقتل، سامح" الذي تُرَدِّده على الدوام.»

 

فيسأله يهوذا: «لماذا تبكي إذاً؟»

 

«لأنّني أتألّم مِن رؤيتي العالم يكره يسوع. لا يتعرّف عليه ولا يريد أن يعرفه. آه! يا لذلك الألم! وكأنّ أشواكاً مُلتَهِبة تخترق قلبي، وكأنّني كنتُ أرى أُمّي تُداس بالأرجل ويُبصَق على وجه أبي... وأكثر مِن ذلك أيضاً... وكأنّني كنتُ أرى خيل الرومان تأكل في تابوت العهد وتنام في قُدس الأقداس.»

 

«لا تبكِ يا يوحنّاي. سوف تقولها مثل هذه المرّة مرّات أخرى كثيرة لا تحصى: "لقد كان النور الآتي يلمع وسط الظلام ولكنّ الظُّلمات لم تُدرِكه. لقد جاء إلى العالم الذي به كوِّن والعالم لم يعرفه. لقد جاء إلى مدينته وبيته، وذووه لم يستقبلوه". آه! لا تبكِ هكذا!»

 

يتنهّد يوحنّا: «هذا لا يَحدث أبداً في الجليل!»

 

فيردّ يهوذا: «ولا حتّى في اليهودية. فأورشليم عاصمتها ومنذ ثلاثة أيّام وأنتَ تُستَقبَل فيها كمسيح بعبارات "هوشعنا". أمّا هنا فبلدة رُعاة جَلِفِين، قرويّين وفلّاحين... يجب ألا يُعتمَد عليهم. حتّى الجليليّين فليسوا جميعاً صالحين. وأمّا عن يهوذا، المسيح المزيّف، فَمِن أين كان؟ يقال...»

 

«يكفي يا يهوذا. مِن غير المناسب أن تَضطَرِبوا. فأنا هادئ، كونوا أنتم كذلك. هلمّ إليَّ يا يهوذا، ينبغي لي التحدّث إليكَ.»

 

يدنو يهوذا منه «خُذ النقود، فسوف نشتري غداً ما نحن في حاجة إليه.»

 

«أمّا الآن فأين سنأوي؟»

 

يبتسم يسوع ويصمت. لقد هبط المساء. والقمر يُضفي على كلّ شيء وِشاحاً أبيض. العنادِل تَصدَح في الزيتون. وجدول كأنّه شريط فضّي رنّان. ومِن الحقول المحصودة تصل رائحة العَلَف: دافئة، حيّة، وكأنّها إنسانيّة. بعض مِن الثغاء والخوار ونجوم، نجوم، نجوم... نجوم منثورة على وِشاح السماء، مظلّة عرش مِن اللآلئ الحيّة على مرتفعات بيت لحم.

 

«ولكن هنا!... إنّها أنقاض. إلى أين تأخذنا؟ لم نعد في المدينة.»

 

«أَعلَم. هلمّ اتبَع الجدول خلفي. بضع خطوات أخرى، وبعدئذ... بعد ذلك أُقَدِّم لكَ مَسكَن مَلِك إسرائيل.»

 

يرفع يهوذا كتفيه ويلوذ بالصمت.

 

بضع خطوات، ثمّ ها هي كَومة مِن البيوت الـمُتَهَدِّمة، بقايا سكن... مغارة بين شقّي جدران عالية.»

 

يقول يسوع: «هل لديكم صوفان؟ أشعِلوا.»

 

يُشعِل سمعان مصباحاً يُخرِجه مِن خِرجه ويعطيه ليسوع.

 

فيقول المعلّم وهو يرفع النور: «ادخُلوا. ادخُلوا، فهذه غرفة وِلادة مَلِك إسرائيل.»

 

«إنّكَ مخطئ أيّها المعلّم! فما هي إلّا مغارة نَتِنَة. آه! بالنسبة لي، لن أبقى فيها بالتأكيد! إنّني أشمئزّ منها: رطبة، باردة، نتنة، مليئة بالعقارب وقد تكون كذلك مليئة بالثعابين...» 

 

«ومع ذلك أيّها الأصدقاء: هنا، في ليلة الخامس والعشرين مِن شهر كانون (Encenie) وُلِدَ مِن العذراء يسوع المسيح، عمّانوئيل، كلمة الله اتَّخَذَ جسداً لفرط حبّه للإنسان: أنا الذي أُكَلِّمكم. حينذاك، كما الآن، صَمَّ العالم أذنيه عن أصوات السماء التي توجّهت إلى القلوب... ورَفَضَ الأُمّ... وهنا... لا يا يهوذا، لا تشح بوجهكَ بشكل مشمئزّ مِن هذه البومات التي تطير، مِن هذه العظاءات الخضراء، ومِن نسج العناكب هذه. لا تخلع باشمئزاز ثوبكَ الجميل الموشّى لكي لا يتّسخ على الأرض الممتلئة بفضلات الحيوانات. فالبومات الصغيرات هذه هي اللُّعَب الأولى التي كانت قد تحرَّكَت تحت نَظَر الطفل الذي رَتَّلَ له الملائكة: "المجد لله في العُلى" التي سَمِعَها الرُّعاة السَّكارى، ولكن ليس مِن شيء سوى مِن فَرَح مُذهِل، فَرَح حقيقيّ. وهذه العظاءات بزمرّدها كانت الألوان الأولى التي أُسقِطَت على حَدَقَتيّ، الأولى بعد بياض ثوب ووجه أُمّي. أمّا نسج العنكبوت هذه فكانت مظلّة العرش لِمَهدي الـمَلَكيّ. هذه الأرض، آه! يمكنكَ أن تدوسها دونما ازدراء... إنّها مغطّاة بالفضلات، ولكنّها قد تَقَدَّسَت بملامسة قَدَمها، هي القدّيسة العظيمة الطاهرة، غير الممسوسة، أُمّ الله، تلك التي وَضَعَت لأنّه كان ينبغي لها أن تَضَع، التي حَبِلَت لأنّ الله وليس الإنسان الذي قال لها ذلك، وجَعَلَها حبلى منه ذاته. هي، الخالية مِن كلّ وصمة، قد داسَتها بقدميها. يمكنكَ وَضع قدميكَ. وليشأ الله أن تَصعَد الطهارة التي انبَثَقَت منها إلى قلبكَ مِن خلال غَرس قدميكَ...»

 

فيجثو سمعان ويمضي يوحنّا مباشرة إلى الـمِذوَد ويبكي مُسنِداً رأسه إليه. يهوذا خائف... وبعد ذلك يأخذه التأثّر، ودون التفكير بثوبه الجميل يرتمي على الأرض ويأخذ بطرف ثوب يسوع ويقبّله ويقرع صدره قائلاً: «آه! ارحم أيّها المعلّم الصالح عَمَى خادمكَ! ها إنّ كبريائي يَسقُط... فأراكَ كما أنتَ. لا ليس الـمَلِك الذي كنتُ أحسَبهُ، إنّما الأمير الأزليّ، الأب للدهر الآتي، مَلِك السلام. رحمة، ربّي وإلهي! رحمة!»

 

«نعم، لكَ مِنّي كلّ الرحمة. الآن سننام حيث نام الطفل والعذراء، هناك حيث اتَّخَذَ يوحنّا مكان الأُمّ في عبادته، وهناك حيث يبدو سمعان أبي الوهميّ. أو بالأحرى، إذا أردتم، فسوف أُحدّثكم عن تلك الليلة...»

 

«آه! نعم يا معلّم، أخبرنا عن تفتّحكَ على هذا العالم.»

 

«لكي يكون لؤلؤة مضيئة في قلوبنا، ولكي نستطيع إعادة قوله للعالم.»

 

«ولتبجيل أُمّكَ، ليس فقط لكونها أُمّكَ، إنّما لكونها... آه! لكونها العذراء!»

 

يهوذا هو الذي تكلَّمَ أوّلاً ثمّ سمعان ثمّ يوحنّا بوجهه الذي امتَزَجَت فيه الدموع بالابتسامات، هناك قريباً جدّاً مِن الـمِذوَد!...

 

«تعالوا نجلس على القش واسمعوا...» ويروي يسوع حَدَث ليلة ميلاده. «...الأُمّ التي كانت على وشك الولادة، جاءَت حسب أوامر أغسطس قيصر وبناء على إعلان مِن بوبليوس سولبيسيوس كيرينوس المنتَدَب الإمبراطوري، بينما كان حاكم فلسطين سنتيوس ساتورنينوس. فالإعلان كان يَأمر باكتتاب كلّ سكان الإمبراطورية. والذين لم يكونوا مِن العبيد، كان عليهم العودة إلى أمكنة أصولهم للاكتتاب في سجلّات الإمبراطوريّة. يوسف عروس أُمّي كان مِن أصل داود وكذلك أُمّي. ونتيجة لطاعتهما لهذا الإعلان، فقد غادرا الناصرة ليأتيا إلى بيت لحم، مهد الأصل الـمَلَكيّ. وقد كان الطقس رديئاً...» ويُكمِل يسوع الرواية.

 

وهكذا ينتهي كلّ شيء.

----------

(1) العدد الحقيقي للأطفال الذين قُتِلوا هو (32) صبياً: (18) صبياً من مدينة بيت لحم و (14) صبياً مِن ريفها. كما تم ذَبح (6) فتيات لم يَستَطِع القَتَلَة تميزهن عن الصّبية بسبب ملابسهن، وأيضاً بسبب الظلام والعَجَلَة. الفلّاح -كما هو الحال في كثير من الأحيان- استَخدَمَ صيغة المبالغة. (أُعطِيَت هذه الملاحظة مِن قِبَل ماريا فالتورتا على ورقة مستقلة أضيفت إلى المخطوطة الأصلية).