ج4 - ف113

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الرابع / القسم الأول

 

113- ("إحراق الذّات")

 

11 / 08 / 1945

 

على ضِفاف السَّيل العميق بالضبط، يلتقي يسوع بإسحاق ومعه تلاميذ كثيرون، منهم مَن هو معروف ومنهم غير المعروف.

 

بين أولئك المعروفين، هناك رئيس مجمع منطقة المياه الحلوة: تيمون؛ يوسف الذي مِن عِمّاوس والذي اتُّهِم بِسِفاح ذوي القُربى؛ الشاب الذي تَرَكَ دفن أبيه لِيَتبع يسوع؛ استفانوس؛ هابيل الأبرص الذي تطهَّرَ العام الـمُنصَرِم قُرب كورازين مع صديقه صموئيل؛ وكذلك صاحب زورق نقل الناس في أريحا: سليمان؛ وآخرون، وآخرون أعرِفهم، ولكنّني لستُ أتذكّر أبداً المكان الذي رأيتُهُم فيه ولا أسماءهم. وجوه معروفة، الكثير منها، وكلّهم مَعروفون كالتلاميذ. ثُمّ آخرون استمالهم إسحاق أو التلاميذ إيّاهم الذين ذَكَرتُهم، الذين يَتبَعون المجموعة الأساسيّة، أَملاً بلقاء يسوع.

 

اللقاء وَدود وفَرِح وتكريميّ. يَشُعّ إسحاق فَرَحاً لرؤية المعلّم كي يُريه رعيَّته الجديدة، وكمكافأة يَطلُب مِن يسوع حديثاً للجَّمع الذي معه.

 

«هل تَعرِف مكاناً هادئاً يمكننا الاجتماع فيه؟»

 

«عند طَرَف الخليج، هناك شاطئ قَفر، فيه أكواخ صيادين، فارغة في هذا الموسم، لأنّها غير صحّيّة، ولأنّ موسم صيد الأسماك وتَمليحها قد انتهى، والصيّادون قد مَضوا إلى فينيقية السوريّة لاصطياد الفرفورة (أصداف بحرية يُستخرَج منها الأرجوان). كثيرون منهم يؤمنون بكَ لأنّهم سَمِعوكَ تتحدّث في المدن الساحليّة، أو لأنّهم التقوا التلاميذ، ولقد تَرَكوا أكواخهم لنستريح فيها، ونحن عائدون بعد أداء رسالة. فعلى هذا الشاطئ عَمَل كثير. إنّه مُفسَد تماماً بأمور كثيرة. أودُّ لو أَصِل حتّى إلى فينيقية السوريّة، وذلك مُمكِن عن طريق البحر، لأنّ الشاطئ تُلهِبه الشمس، ولا يمكن اجتيازه على الأقدام. ولكنّني راعٍ ولستُ بحّاراً، وما مِن أحد بين هؤلاء يَعرِف أن يوجّه مركباً شراعياً.»

 

يُنصِت يسوع بانتباه، مع ابتسامة خفيفة. إنّه مُنحَنٍ قليلاً بقامته الفارعة أمام راعٍ صغير القَدّ، كجنديّ يُدلي بتقرير شامل لقائده. يجيب يسوع: «الله يمدّكَ بالعون، بسبب تواضعكَ. إذا كنتُ أنا معروفاً هنا، يا تلميذي، فبفضلكَ أنتَ لا الآخرين. سنسأل الآن ربابنة البحيرة إذا كان بإمكانهم قيادة الـمَراكِب الشراعيّة في البحر، وإن استطعنا، فسوف نذهب إلى فينيقية السوريّة.» ويلتَفِت باحثاً عن بطرس وأندراوس ويعقوب ويوحنّا، الـمُنهَمِكين في نقاش مُحتَدِم مع بعض التلاميذ، بينما يهوذا الاسخريوطيّ، في الخلف، مُنهَمِك في مدح استفانوس، والغيور وبرتلماوس وفليبّس قرب النساء. والأربعة الآخرون قرب يسوع.

 

يأتي الصيّادون الأربعة فوراً، ويَسأَل يسوع: «هل أنتم، في نَظَر أنفسكم، أهل لقيادة الـمَركَب في البحر؟»

 

يَنظُر الأربعة إلى بعضهم بِحَيرة. ويُمرِّر بطرس يده في شعره، وهو يُفكِّر، ثمّ يَسأَل: «ولكن إلى أين؟ أإلى عرض البحر؟ فنحن أسماك مياه حلوة.»

 

«لا. بَل بمحاذاة الشاطئ، إلى صيدون.»

 

«أظنُّ ذلك ممكناً. ما قولكم؟»

 

«أنا أَظنُّه كذلك. بَحر أو بحيرة، الأمر سيّان على الدوام: مياه.» يقول يعقوب.

 

«بل حتّى سيكون أجمل وأسهل.» يقول يوحنّا.

 

«ولكن هذا، لستُ أدري، على ماذا بَنَيتَ حُكمَكَ فيه؟» يُجيبه أخوه.

 

«بسبب حُبّه للبحر. مَن يحبّ شيئاً يَرَى فيه كلّ الكمالات. لو كنتَ تحبّ امرأة لكنتَ زوجاً مثاليّاً.» يَمزَح بطرس وهو يَهزّ يوحنّا بتحبّب.

 

«لا. أقول هذا لأنّني رأيتُ في أشقلون أنّ الحركات هي ذاتها، والإبحار ممتع للغاية.» يُجيب يوحنّا.

 

«إذاً هيّا بنا!» يقول بطرس.

 

«ومع ذلك، فَمِن الأفضل اصطحاب أحد مِن البلدة. فنحن لا نعرف هذا البحر، ولا أعماقه.» يبدي يعقوب ملاحظته.

 

«آه! لا أظنُّ ذلك! فيسوع معنا! وإلّا لما استكنتُ للأمر، ولكنّه مُذ سَكَّن البحيرة! هيّا، هيّا بنا إلى صيدون مع المعلّم. قد يكون هناك خير نفعله.» يقول أندراوس.

 

«إذن، سوف نذهب. استَأجِر الـمَراكِب للغد. خُذ المال اللازم مِن يهوذا بن سمعان.»

 

انضمَّ التلاميذ إلى الرُّسُل. لا داعي لأن أَصِف فَرَح عدد كبير منهم ومِن أولئك الذين يَعرِفهم يسوع. يَعودون على أعقابهم، متوجِّهين إلى المدينة، ويتنـزّهون في الضاحية، إلى أن يَبلغوا آخر حَدّ مِن الشَّرم الذي يمتدّ في البحر كالذراع الملتوية. والأكواخ المنتشرة بأعداد قليلة على الشاطئ الصغير المغطّى بالحصى تُمثِّل الموقع الأكثر شقاء في المدينة، الأقلّ سكاناً، حيث لا تُشغَل إلا موسميّاً. البيوت الصغيرة هي عبارة عن مكعبات ذات جدران متفتِّتة وبالية بفعل الهواء المالح. إنّها مُغلَقة، جميعها، وعندما يَفتَحها التلاميذ يُظهِرون شقاءها، وقد أضحت سوداء بفعل الدخان، والأثاث فيها في حدّه الأدنى بالضبط.

 

«هي ذي، إنّها متواضعة جدّاً ونظيفة، وإن لم تكن جميلة.» يقول إسحاق الذي يُرحِّب بهم.

 

«جميلة، لا. فمنطقة المياه الحلوة قَصر هي، إذا ما قورِنَت بها. وكان هناك مَن يتشكَّى منها...» يُهمهِم بطرس.

 

«ولكنّها، بالنسبة لنا، نصيب وحظوة.»

 

«طبعاً، طبعاً! المهمّ هو سقف ومحبّة متبادلة. آه! ولكن انظر أين الحبيب يوحنّا! كيف حالكَ؟ أين كنتَ؟»

 

ولكنّ يوحنّا الذي مِن عين دور، وهو يبتسم لبطرس، يَهرَع لتكريم يسوع الذي يُحيّيه بكلّمات رائعة جدّاً. «لَم أدعه يأتي، لأنّه لم يكن على ما يرام... أُفضِّل بقاءه هنا. هو يجيد التصرّف مع أهل المدينة، ومع الذين يَطلبون الاستعلام عن ماسيّا...» يقول إسحاق. بالفعل، فإنّ الرجل الذي مِن عين دور أنحَف كثيراً مِمّا كان عليه سابقاً، ولكنّ وجهه صاف، والهُزال يُضفي على قَسَماته نُبلاً ويدعو إلى التفكير بامرئ مُصاب باستشهاد مضاعف: الجسد والروح.

 

يُلاحِظ يسوع ذلك ويَسأَله: «يوحنّا، هل أنتَ مريض؟»

 

«ليس أكثر مما كنتُ عليه قبل أن أراكَ. هذا بالنسبة إلى الجسد. أما بالنسبة إلى الروح، فإذا أَحسَنتُ الحُكم، فإنّني في سبيلي إلى الشفاء مِن جِراحي الشخصيّة.»

 

ما زال يسوع يَنظُر إلى عينه الساكنة وجبهته المتقعِّرة عند الصدغين، ولا يُضيف شيئاً. ولكنّه يَضَع يده على كتفه بينما هُما يَدخُلان إلى بيت صغير، حيث جُلِب وِعاء مياه بحر لترطيب القدمين التَّعِبَتين، وجِرار ماء عذب للشرب، وفي الوقت نفسه تُهيّأ الأطعمة في الخارج على طاولة ريفيّة تُظلِّلها شِبه تعريشة مِن النباتات المتسلِّقة.

 

إنّه لَمَشهد جميل، بينما يَهبِط الليل، والبحر يُتمتِم صلوات المساء بصوت ارتداد الموج الخفيف على الشاطئ المحصّى، أن يُرى يسوع يتعشّى مع النساء والرُّسُل، جالِسين إلى طاولة كبيرة، أمّا الآخرون، فَهُم يَجلسون أرضاً، أو على مقاعد، أو على سِلال مَقلوبة، ويُشكِّلون دائرة حول الطاولة الرئيسيّة. ينتهي العشاء بسرعة، وبأسرع منه تُرفَع السفرة، ذلك أنّ الأطباق كانت قليلة، وهي للضيوف الأكثر أهمّيّة فقط. لقد أضحَى لون البحر نيليّاً في الليل الذي ما زال دون قَمَر، وتتكشّف كلّ عَظَمَة تلك الساعة المليئة حُزناً مَهيباً خاصّاً بالشواطئ البحريّة.

 

ويسوع، عَظَمَة بيضاء وسط ظِلال تزداد ظُلمة، يَنهَض عن الطاولة، ويأتي وسط الجَّمع الصغير مِن التلاميذ، بينما تَنسَحِب النساء. إسحاق ومعه آخر يُضرِمان ناراً صغيرة على الشاطئ، للإنارة ولإبعاد غيوم البَعوض القادمة، بدون شكّ، مِن المستنقعات القريبة.

 

«السلام لكم جميعاً.

 

رحمة الله تَجمَعنا في الوقت المحدَّد، مانحة قلوبنا فَرَحاً مُتبادَلاً. لقد تَفحَّصتُها جميعها، القلوب، قلوبكم الصالحة، كما يُظهِرها وجودكم هنا، في انتظاري، مُثقِّفين أنفسكم بتعليمي، وإن كنتم ما زلتم غير كاملين روحيّاً، كما تُشير بعض ردود أفعالكم. فهي تُظهِر أنّ إنسان إسرائيل العتيق ما يزال فيكم بآرائه وأحكامه الـمُسبَقَة، ولَم يَخرُج بعد، مثل الفراشة الخادرة، فالإنسان الجديد، إنسان المسيح، حَصَلَ مِن المسيح على الـمَنطِق الرَّحب والـمُنير والرحيم، والمحبّة الأكثر رحابة. ولكن لا تَشعُروا بالذّل، إذا ما تفحَّصتُ وقَرأتُ كلّ الأسرار فيكم. فعلى المعلّم أن يَعرِف تلاميذه ليتمكّن مِن إصلاح أخطائهم، وثِقوا، إذا كان هذا المعلّم صالحاً، فإنّه لا يشمئزّ مِن الذين لديهم الكَمّ الأكبر مِن الأخطاء، بل على العكس، ينحني عليهم ليجعلهم أفضل. وأنتم تعلمون أنّني معلّم صالح.

 

والآن، فلننظر معاً إلى ردود الفِعل والأحكام الـمُسبَقة تلك، ولِنُفكِّر في التأمّل معاً في الـمُبرِّر الذي لأجله نحن هنا، وبسبب الفرح الذي يَمنَحنا إيّاه هذا الاجتماع، فلنَعرِف أن نُبارك الربّ الذي يَستَخرِج على الدوام مِن الخير الخاصّ خيراً جماعيّاً.

 

مِن شفاهكم سَمِعتُ إعجابكم بيوحنّا الذي مِن عين دور، إعجاباً أعظَم مِن معرفته ذاته كخاطئ تائِب، فتلك هي طريقة حياته القديمة والجديدة التي يَتَّخِذها أساساً للكِرازة، بالنسبة للذين يُريد جَلبهم لي. هذا صحيح. لقد كان خاطِئاً. والآن هو تلميذ. وكثيرون منكم أتوا إلى ماسيّا بفضله. تَرَون إذن أنّ إنسان إسرائيل العتيق يَسخَر مِن هذه الوسائل بالذات، وبها يخلق الله شعب الله الجديد.

 

الآن أرجوكم أن تحجموا عن إطلاق حُكم ليس سليماً على أُخت، لا يَستَوعِب إسرائيل العتيق أن تكون تِلميذة. لقد أَمَرتُ النساء بالذهاب للاستراحة، ولم يَكُن ذلك رغبة مِنّي في منحهنّ قِسطاً مِن الراحة، بقدر ما كان للحصول على إمكانيّة إعطائكم تثميناً مُقدَّساً لِتَوبة، ولكي أمنَعكُم مِن ارتكاب مَعصية ضدّ المحبّة والعدل. هذا هو السبب الذي جَعلَني آمُرهم بشكل لَم يَخلُ مِن جعل النساء التلميذات يَحزنَّ.

 

مريم المجدليّة، خاطِئة إسرائيل الكبيرة، تلك التي لم يكن لها عُذر في خطيئتها، ارتَدَّت إلى الربّ. ومِمَّن سَتَنتَظِر الوفاء والرحمة، إن لم يكن مِن الله وخُدّام الله؟ إسرائيل كلّها، ومع إسرائيل الغُرَباء الذين هُم فيما بيننا، أولئك الذين يَعرفونها جيّداً، ويُدينونها بِصَرامة الآن، حينما لَم تَعُد شريكتهم في فُجورهم، يَنتَقِدون ويَستَخِفّون بتلك القيامة.

 

القيامة، هي العِبارة الأدقّ. قيامة الجسد ليست أعظم المعجزات، إنّها معجزة نسبيّة، لأنّ قَدَرَها أن تُلغى يوماً بالموت. فالذي أُقيمُه بالجسد لا أَمنَحه الخلود، ولكنّني أَمنَح الخلود لِمَن أُقيمه بالروح. وبينما الذي مات بجسده لا يُوحِّد إرادته بالقيامة مع إرادتي، وبالتالي ليس له أيّ استحقاق، الذي أُقيمَ بالروح إرادته فاعلة، بل هي في الطليعة. وبالتالي لا يَغيب استحقاقه مِن أجل القيامة.

 

لستُ أقول ذلك لِأُبرِّر موقفي. فللّه وحده ينبغي لي أن أقدّم حساباً عن أعمالي. ولكنّكم تلاميذي. وعلى كلّ مِن تلاميذي أن يكون يسوعاً آخَر. وينبغي ألّا تكون فيه أيّة عَدم دِراية، ولا أيّ مِن تلك الأخطاء الـمُتأصِّلة التي بِسَببها أناس كثيرون لا يَتَّحِدون بالله إلا بالاسم فقط.

 

يُمكن لكلّ شيء أن يُفضي إلى أعمال صالحة. حتّى ذاك الذي يبدو أنّه غير جدير بذلك. عندما تُقدَّم مادّة ما إلى إرادة الله، وإن تَكُن الأكثر خُمولاً، الأكثر برودة، الأكثر إثارة للاشمئزاز، فَيُمكنها أن تُصبِح نشاطاً، شُعلة، جمالاً نقيّاً. إليكم ما يُشبه ذلك في سِفر المكابيّين.

 

عندما أعاد مَلِك الفرس نحميا إلى أورشليم، كانت رَغبة في الهيكل الذي أُعيد بناؤه بتقدمة ذبائح على المذبح الـمُطَهَّر. وتذكَّرَ نحميا كيف أنّه، في اللحظة التي كان الفرس سَيَأسرونهم، صلّى الكَهَنَة الـمُكلَّفون بالتعبُّد لله على نار الهيكل، وأَخلوها في مكان سرّي، في قاع أحد الوديان، في بئر عميقة وجافّة، وفَعَلوا ذلك بدقّة وسرّيّة، لدرجة أنّهم كانوا وحدهم يَعلَمون أين هي النار المقدَّسة. كان نحميا يتذكَّر ذلك، فأرسَلَ أحفاد الكَهَنَة إلى المكان الذي كانوا قد أَرسَلوا النار إليه -بالفعل، كان الكَهَنَة قد قالوا ذلك لأبنائهم، والأبناء لأبنائهم، وهكذا انتقل السرّ مِن الآباء إلى الأبناء- لِيَأخذوا منه النار المقدَّسة لإضرام نار الذبيحة.

 

ولكنّهم، حينما نَزَلوا إلى البئر السرّيّة، لَم يَجِد الأحفاد ناراً، بل ماء ارتفع مَنسوبه، حَمأة متعفِّنة مُقرِفة، ثقيلة، فضلات كلّ المجارير الممتلئة في أورشليم الـمُهدَّمة. وقالوا ذلك لنحميا، ولكنّه قال لهم أن يَجلبوا له مِن ذلك الماء. وَوَضَع الحطب على المذبح، وعلى الحطب الذبائح، ورشَّ الكلّ، وبِوَفرة، بشكل أَصبَحَ فيه الكلّ مبلّلاً بالماء الموحل. كان الشعب المذهول والكَهَنَة الذين ملأهم الشكّ يَنظُرون، وفَعَلوا ذلك باحترام، فقط لأنّ نحميا هو الذي أَمَرَ بذلك. ولكن أيّ حزن ملأ قلوبهم وأيّة ريبة! وكانت غيوم في السماء تجعل اليوم مُكفَهِرّاً، كذلك الشكّ كان في القلوب لِيُصبح الناس مُكتَئِبين.

 

ولكنّ الشمس بَدَّدَت الغيوم، وبَلَغَت أشعّتها الهيكل، والحَطَب الـمُبلّل بالماء الـمُوحِل يَضطَرِم متأجّجاً ناراً عظيمة أتت على الذبيحة دفعة واحدة، بينما كان الكَهَنَة يَتلون الصلوات التي ألَّفَها نحميا، وأجمل تراتيل إسرائيل، حتّى احترقت الذبيحة بأكملها. ولإقناع الجَّمع بأنّ الله يمكنه اجتراح المعجزات بالمواد الأقلّ مُناسَبة، إنّما الـمُستَخدَمة بِنيّة مستقيمة، فَسَفَحَ نحميا ما بقي مِن الماء على صخور كبيرة. واحترقت الصخور وأُفنِيَت في النور العظيم الذي كان آتياً مِن الهيكل.

 

كلّ نَفْس هي نار مقدَّسة وَضَعَها الله على هيكل القلب، لِتُساهم في استهلاك ذبيحة الحياة، حُبّاً بخالقها. كلّ حياة هي مِحرَقة، إذا ما عِشناها بشكل جيّد، كلّ يوم هو ذبيحة يجب إنفاقه بالقَداسة.

 

ولكن يأتي النهّابون، أولئك الذين يُرهِقون كاهل الإنسان ونَفْس الإنسان. تَغوص النار في البئر العميق، ليس لحاجة مقدَّسة، بل إنّما ببلاهة ضارّة. وهنا هي غارقة في نِفايات كلّ الأوساط الفاسدة، وتُصبِح وَحلاً مُتعفِّناً وثَقيلاً، إلى أن يَنـزِل إلى تلك الأعماق كاهن، ويَجلب ذلك الوحل إلى نور الشمس، واضعاً إيّاه على مِحرقة ذبيحته الشخصيّة. إذ، اعلَموا ذلك، لا تكفي البطولة لِمَن يبغي التّوبة، بل لا بُدّ أيضاً مِن بطولة مَن يَهدي إلى التوبة. وحتّى لا بدّ أن تَسبق بطولة هذا الأخير بطولة الآخَر، ذلك أنّ النُّفوس لا تُخلَّص إلّا بتضحيتنا. وهكذا نتوصّل إلى الحصول على تحويل الوحل إلى نار، وعلى أن يرى الله، ويَحكُم بأنّ الذبيحة التي أُنفِقَت تامّة ومقبولة لدى قداسته.

 

وبينما لا حاجة، لإقناع العالم، سوى إلى حَمأة واحدة تابت فأَصبَحَت أكثر حرارة مِن نار عاديّة، حتّى ولو كانت ناراً مقدّسة، تلك النار العاديّة، إذ لا تفيد سوى في إشعال الحطب والضحايا، وهذه موادّ مؤاتية للاحتراق، بينما تلك الحَمأة التائبة تُصبِح قادرة حتّى على إشعال وإحراق الصخور ذاتها غير القابلة للاحتراق.

 

أَفَلا تَسألون مَن الذي يَمنَح تلك الحمأة تلك الخاصّة؟ ألا تَعلَمون ذلك؟

 

أنا أقول لكم: ذلك أنّها، في حرارة التوبة، تَذوب في الله، شُعلة في شُعلة، شُعلة تَصعَد وشُعلة تَهبِط، شعلة تَهِب ذاتها بحبّ، وشُعلة تَبذل نفسها بحبّ، عِناق كائِنَين يتحابَّان، يَتلاقيان، يَتَّحِدان مؤلِّفَين كائناً واحداً. وبما أنّ الشُّعلة الأكبر هي شُعلة الله، فإنّها تَطغى، تَطفَح، تَنفُذ، تمتصّ، وشُعلة الحَمأة التائبة لَم تَعُد شُعلة نسبيّة لشيء مخلوق، بل هي الشُّعلة اللانهائيّة للشيء غير المخلوق: له تعالى، للكلّيّ القدرة، للاّمحدود، لله.

 

هكذا هُم الخَطَأَة التائبون حقّاً، التائبون بكلّيّتهم، الذين وَهَبوا ذاتهم بِسَخاء إلى التوبة، دون الإبقاء على شيء مِن الماضي، مُحرِقين ذواتهم أوّلاً في الجزء الأكثر ثِقلاً، بالشُّعلة التي تَلتَهِب مِن حَمأتهم، الذين مَضوا إلى لقاء النعمة، وقد تأثَّروا بها.

 

الحقّ الحقّ أقول لكم، إنّ حجارة كثيرة في إسرائيل سوف تَلِج بنار الله إلى تلك الأفران الـمُستَعِرة التي تتأجّج باستمرار حتّى إفناء الطبيعة البشريّة، وتستمرّ في إحراق الحجارة، الفُتور والتردّد، حَياءات الأرض وعروش السماء، المرآة الحقيقيّة، الـمُستَعِرة، فائقة الطبيعة، التي تجمع الأنوار الواحدة والثالوثيّة لتجعلها تَلتَئِم في البشريّة وتُضرِمها في الله.

 

أُكرّر لكم أنّني لم أكن في حاجة لأن أُبرّر تَصرُّفاتي، ولكنّني أردتُكُم أن تَلِجوا أفكاري وأن تَجعَلوها أفكاركم، في الوقت الحاضر، مِن أجل حالات مُشابِهة في المستقبل، عندما لا أعود معكم.

 

لا تَمنَعنّكم أبداً فِكرة مُنحَرِفة، ريبة فرّيسيّة بإصابة الله بالعدوى في حال توجيه خاطئ تائِب إليه، عن القيام بذلك العمل الذي هو التَّتويج الأكمَل للرسالة التي اخترتُكم لها، فليكن حاضراً في أذهانكم، على الدوام، أنّني لم آتِ لِأُخلِّص القدّيسين، بَل الخَطَأَة. وأنتم تفعلون الشيء ذاته، لأنّ ما مِن تِلميذ أفضل مِن معلّمه، وإذا كنتُ أنا لا أَنفُر مِن الأخذ بيد حَثالة الأرض الذين يَشعُرون بحاجتهم إلى السماء، الذين يَختَبِرونها في النهاية، وأَجلُبهم إلى الله بفرح عظيم، فتلك هي رسالتي، وكلّ كَسب يُشكِّل تبريراً لِتَجسُّدي الذي يُؤلِم اللامتناهي. فلا تَنفروا أنتم كذلك مِن فِعله، أيّها الناس الـمَحدُودون، يا مَن عَرَفتُم عدم الكمال كلّكم، ولو بشكل مُتفاوِت، بما أنّكم مِن طبيعة إخوتكم الخَطَأَة ذاتها، أيّها الرجال الذين اخترتُكم، الـمُخلِّصون، ليستمرّ عملي إلى دَهر الدُّهور على الأرض، كما لو أنّني أعيش عليها على الدوام، وجوداً مُستمِرّاً، جِيلاً بعد جِيل. وسوف يكون الأمر هكذا، إذ إنّ وحدة كَهَنَتي سيكون الجزء الحيويّ لجسم كنيستي العظيم، التي سأكون لها الروح المحرِّك، وحول هذا الجزء الحيويّ ستجتَمِع الأجزاء اللانهائيّة مِن المؤمنين لِيُؤلِّفوا جسماً وحيداً، يَتَّخِذ اسمه مِن اسمي. ولكن لو كانت جماعة الكَهَنَة تَفتَقِر إلى الحيويّة، فهل سيتمكّن هذا العدد اللانهائيّ مِن الأجزاء الحصول على الحياة؟

 

في الحقيقة، أنا، القاطن في هذا الجَّسَد، يمكنني بَعث حياتي في الأجزاء الأكثر بُعداً، تاركاً جانباً الخزَّانات والقنوات المسدودة والتي لا نَفع منها، التي تأبى القيام بخدماتها. بالفعل إنّ المطر ينهمر حيث يشاء، والأجزاء الصغيرة الصالحة، القادرة بذاتها على إرادة الحياة، تعيش حياتي. ولكن ما عساها تكون المسيحيّة آنذاك؟ مُجاوَرَةُ نُفوس لِنُفوس، هي مُتجَاوِرة، ولكنّها مع ذلك مُنفَصِلة بقنوات وخزَّانات لَم تَعُد رابطاً يُوَحِّد، بتوزيع الدم الحيّ القادم مِن مركز واحد إلى كلّ جزء. ولكنّها تُصبِح جدراناً وهاوية فَصل تَنظُر الأجزاءُ الصغيرة إلى بعضها مِن خلالها، بِعَداء بشريّ، في أسى فائق الطبيعة، قائلة لذواتها في الروح: "مع ذلك كُنّا إخوة، وما زلنا نشعر بأنّنا كذلك، حتّى ولو وَجَدنا أنفسنا مُنقَسِمين!" مُجاوَرة، ليس اندماجاً، ليس جسماً. وعلى تلك الأنقاض يتلألأ حُبّي بِأَلَم…

 

وأكثر مِن ذلك، لا تَظنّوا أنّ هذا يَنطَبِق فقط على الانشقاقات الدينيّة. لا، فإنّ ذلك ينطبق أيضاً على كلّ النُّفوس التي تبقى وحيدة، لأنّ الكَهَنَة يَرفضون مدّ يد العون إليها، الاهتمام بها ومحبّتها، مُناقِضين رسالتهم التي هي قَول وفِعل ما أقول وما أَفعَل، ومعرفة القول: "تعالوا إليَّ جميعكم، وأنا سوف أقودكم إلى الله".

 

اذهبوا بسلام الآن، وليكن الله معكم.»

 

يتفرّق الناس على مهل، مُتوَجِّهين كلّ إلى الكوخ الذي سيأوي إليه. يَنهَض يوحنّا الذي مِن عين دور كذلك. وهو الذي لم يتوقّف عن التَّدوين، بينما كان يسوع يتحدّث، شاوياً نفسه بالنار للتمكّن مِن رؤية الذي يَكتُبه. ولكنّ يسوع يُوقِفه قائلاً له: «ابقَ قليلاً مع معلّمكَ.» ويُبقيه إلى جانبه ريثمّا يَمضي الجميع.

 

«لنذهب إلى تلك الصخرة على حافّة الماء. القمر عال والدرب مرئيّ.»

 

يُوافِق يوحنّا دون أيّة كلمة. يَبتَعِدان عن السَّكن حوالي المائتي متر، ويَجلِسان على صخرة ضخمة. لستُ أدري إذا كانت مِن بقايا رصيف، أو هي امتداد صخر بحريّ غائِص في البحر، أو أنقاض كوخ شِبه مُبتَلَعة في المياه، وقد تكون مقدّمة شاطئ نَشَأ على مدى عصور. جُلّ ما أعرِفه هو إنّه يمكن الصعود إليها مِن الشاطئ الصغير بِوَضع الأرجُل في تَجاويف وعلى نتوءات تُشكِّل سُلّماً، ومِن جهة البحر يَنـزِل الجدار بشكل حادّ لِيَغوص في الماء الأزرق الضارب إلى الخُضرة، وقد أحاط بِه المدّ بموجة تُبلِّل وتَضرب هذا الحاجز بشكل خفيف، ويَنسَحِب مُحدثاً صَوت شهيق عظيم، ثمّ يَصمُت بُرهة، ليعود أيضاً بحركة وصوت رَتيب، يَصفَع ويَشهَق ويَصمُت، مثل موسيقيّ مَذهول.

 

يَجلسان بالضبط على قمّة تلك الكُتلة التي يَضربها البحر. يَرسم القمر على المياه طريقاً فضّيّة، ويُلوِّن بالأزرق القاتم البحر الذي لم يكن قبل ارتفاعه سوى موجة سوداء ممتدّة في ظُلمة الليل.

 

«يا يوحنّا، ألا تقول لمعلّمكَ السبب الذي لأجله يتألّم جسدكَ؟»

 

«أنتَ تَعرِفه يا معلّم. ولكن لا تَقُل "يتألّم"، بل قُل "يضمحلّ". فإنّه تعبير أدقّ، وأنتَ تَعلَم، وتَعرِف أنّه يتلاشى بِفَرَح. شكراً يا ربّ. لقد عرفتُ نفسي، أنا أيضاً، في الحَمأة التي أَصبَحَت شُعلة، إنّما بالنسبة إليَّ، فَلَن يسمح لي الوقت أن أُضرِم الحجارة. ربّي، سوف أموت قريباً. لقد تألَّمتُ كثيراً مِن حقد العالم، وأغتَبِط الآن بحبّ الله. ولكنّني لستُ آسف على الحياة. هنا يمكنني أيضاً ارتكاب الخطيئة، التقصير في الرسالة التي تختارها لنا. فأنا قد قَصَّرتُ مرّتين في حياتي: في رسالتي كمعلّم، إذ كان مِن المفروض أن أعرف إيجاد ما أُثقِّف به ذاتي فيها، ولم أتثقَّف؛ وفي رسالتي كزوج، إذ لم أَعرف تثقيف زوجتي. وقد أكون قَصَّرتُ كذلك في رسالتي كتلميذ. وأن أُقصِّر معكَ، هذا ما لا أريده. فليتبارك الموت إذن، إذا ما قادني إلى حيث لا يُمكن بعد ارتكاب الخطيئة! ولكن إذا لم أَبلُغ مصير التلميذ المعلِّم، فسأكون التلميذ الشهيد، وسيكون ذلك أكثر شَبَهاً بمصيركَ. وقد قُلتَها هذا المساء: "بإحراق الذات في البداية".»

 

«يوحنّا، هل هذا مصير تَبلُغه، أم تَقدِمة تُقرِّبها؟»

 

«تَقدِمة أُقرِّبها، إذا لم يَرفض الله الحَمأة التي أَصبَحَت ناراً.»

 

«يوحنّا، إنّكَ تُكثِر مِن الكفّارات.»

 

«القدّيسون كذلك، وأنتَ أوّلهم. ومِن العدل أن يَفعَلها مَن عليه أن يَدفَع الكثير. إنّما هل تَجِد أنتَ أنّ كفّاراتي غير مَرضيَّة لدى الله؟ هل تَمنَعني عنها؟»

 

«أنا لا أضع أبداً الحواجز في طريق أمنيات ومَطامِح النَّفس العاشِقة. لقد أتيتُ أَكرز في الواقع أنّ التكفير هو في الألم، وفي الألم الفِداء. ولا يمكنني أن أَنقُض ذاتي.»

 

«شكراً يا سيّدي. تلك ستكون رسالتي.»

 

«ماذا كنتَ تكتب يا يوحنّا؟»

 

«آه! يا معلّم! أحياناً يُعاوِد فيلكس العتيق الظهور مع عاداته كمعلّم. أُفكّر بمارغزيام. فما زالت أمامه حياة طويلة لِيَكرز بكَ، وبسبب عمره هو لا يكون حاضراً لسماع عِظاتكَ. فقد فَكَّرتُ في تدوين بعض التعاليم التي لَقَّنتَنا إيّاها ولم يَسمَعها الصبيّ، لأنّه كان مُنشَغِلاً بِلعبه، أو بعيداً مع أَحدنا. ففي كلّماتكَ، حتّى أصغرها، الكثير مِن الحكمة! أحاديثكَ العائليّة، بحدّ ذاتها، تعليم، وبالتحديد حول الأمور اليوميّة، أمور كلّ إنسان، حول تلك التفاصيل الصغيرة التي هي، في الأعماق، أمور الحياة العظيمة، إذ إنّ مجموعها يُشكِّل كُلّاً مُهمّاً يَفرِض صَبراً ومُثابَرة وخُضوعاً كي تتمّ بقداسة. إنّه لَأَسهل أن يُتِمّ المرء عَملاً عظيماً بطوليّاً مِن إتمامه ألفاً وعشرة آلاف أمر صغير تُوجِب مثابرة على الفضيلة. ومع ذلك لا نتوصّل إلى القيام بالفِعل الهامّ، إن يكن في الخير أو في الشرّ، أَعرِف ذلك في الشرّ، إذا لم ندع أفعالاً صغيرة تتراكم على المدى، وهي في الظاهر لا معنى لها. فلقد بَدَأَت بالقتل، عندما نَظَرتُ إلى زوجتي أوَّل نظرة احتقار، وقد كنتُ تَعِباً مِن استهتارها. فَمِن أجل مارغزيام دَوَّنتُ شروحاتكَ الصغيرة. وهذا المساء، رَغِبتُ في تدوين تعليمكَ العظيم. سَأَترُك عملي للصبيّ، كي يتذكَّرني، أنا المعلّم العجوز، ولكي يَحصَل كذلك على هذه التعاليم التي لَن يَحصَل عليها في أيّ مكان آخر. كنـزه الرائع. كلامكَ. هل تسمح لي؟»

 

«نعم يا يوحنّا. ولكن كُن في سلام على كلّ حال، مِثل هذا البحر. أترى؟ بالنسبة إليكَ، ستكون حرارة الشمس مُرهِقة، والحياة الرَّسوليّة هي بالحقيقة حرارة. لقد ناضَلتَ كثيراً في حياتكَ. الآن، الله يدعوكَ إليه تحت ضوء القمر الساكن هذا الذي يُطَمئِن ويُطهِّر كلّ شيء. امشِ في عذوبة الله. أقول لكَ: الله مسرور منكَ.»

 

يُمسِك يوحنّا الذي مِن عين دور بيد يسوع، يُقبِّلها وهو يُتمتِم: «ومع ذلك كان رائعاً القول للعالم: "تعال إلى يسوع!".»

 

«ستقولها مِن الفردوس. أنتَ كذلك ستكون مرآة حارّة. هيّا بنا يا يوحنّا. أودُّ أن أَقرَأ ما كَتَبتَ.»

 

«هي ذي اللُّفافة، يا سيدي. وغداً سأعطيكَ الأُخرى، حيث دوَّنتُ الكلمات الأُخرى.»

 

يَنـزِلان مِن على صخرتهما، وفي بياض نور القمر المتلألئ الذي بَدَّلَ حُصيّات الشاطئ إلى اللون الفضّيّ، يَعودان إلى الـمَساكِن. يتصافحان، يوحنّا جاثياً، يسوع مُبارِكاً إيّاه بيده التي يضعها على رأسه، مانحاً إيّاه سلامه.