ج4 - ف116
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الرابع / القسم الأول
116- (يسوع يقول لمريم المجدليّة: "سأُحضّركِ بالنار والسِّندان")
14 / 08 / 1945
ما زال الوقت ليلاً، ليلاً جميلاً جدّاً في غروبه، عندما يُودِّع يسوع مع الرُّسُل والنساء ويوحنّا الذي مِن عين دور وهرمست، يُودِّعون بصمت إسحاق، المستيقظ الوحيد، ويَشرَعون بالسير على طول الشاطئ. لا يُسمَع وَقع أقدام، سوى قَرقَعة خفيفة على الحصى التي تَدوسها الأحذية، ولا أحد يتكلّم، إلى أن تجاوَزوا آخِر بيت ببضعة أمتار. بالتأكيد لَم يُلاحِظ نيام هذا البيت والبيوت التي سَبَقَته رحيل المعلّم الصامت مع أصدقائه. الصمت عميق. وَحده البحر يتحدّث إلى القمر الذي أوشَكَ على الغياب، ويَروي للشاطئ قصص الأعماق، بِمَوجَته الممتدّة مع بداية مَدّ عالٍ، تاركة على الشاطئ مساحة جافّة تَضيق باستمرار.
هذه المرّة، النساء في الطليعة، مع يوحنّا والغيور ويوضاس تدّاوس ويعقوب بن حلفى، الذين يُساعِدون النساء في اجتياز الأرصفة الصغيرة الـمُنتَشِرة هنا وهناك، رَطبة رُطوبة مالِحة وزَلِقة. الغيور مع مريم المجدليّة، يوحنّا مع مرثا، بينما يعقوب بن حلفى يهتمّ بأُمّه وسُوسَنّة، وتدّاوس لا يَدع لأحد شرف أن يَأخُذ بيده القويّة الطويلة التي تُشبِه يَد يسوع، يَد مريم الصغيرة، لِمُساعَدتها في الممرّات الصَّعبة. وكلّ منهم يتحدّث، مع التي يُرافِقها، بصوت خافِت. الجميع يُريدون، على ما يبدو، احترام غَفوة الأرض.
يتحدّث الغيور مع مريم المجدليّة بدون انقطاع، وأرى سمعان يَفتَح ذِراعيه مرّات عديدة، في حركة مُعبِّرة: (هكذا ولا شيء آخر.) ولكنّني لا أفهَم ما يَقولان، كَونَهُما مُتقدِّمَين كثيراً.
يوحنّا يتحدّث إلى مرثا التي يُرافِقها، بين الحين والحين فقط، مُشيراً إلى البحر والكرمل الذي يميل مُنحَدَره إلى الغرب، وهو لا يزال يتلقّى نور القمر الأبيض. قد يكون يتحدّث عن مِشواره السابق الذي حاذى فيه الكرمل مِن الجهة الأخرى.
كذلك يعقوب الذي يتوسّط مريم التي لحلفى وسُوسَنّة، يتحدّث عن الكرمل. فهو يقول لأُمّه: «لقد وَعَدَني يسوع بأن نَصعَد، نحن الاثنين، مُنفَرِدَين، إلى الأعلى. وأن يقول شيئاً ما لي أنا وحدي.»
«ماذا يريد أن يقول لكَ يا وَلَدي؟ هل سَتُعيده على مَسمَعي فيما بعد؟»
«يا أُمّي، إذا كان الأمر سرّاً، فلا يمكنني البوح به لكِ.» يُجيب يعقوب وهو يبتسم ابتسامته الحَنونة، التي تُشبه ابتسامة يوسف عروس مريم، تَشابُهاً بَليغاً جدّاً بِقَسَماتها، بل أكثر مِن ذلك في لُطفها وَوَداعتها.
«لا أسرار بالنسبة إلى الأُمّهات.»
«ليس لديَّ منها بالفعل. أمّا إذا أراد يسوع أخذي إلى الأعلى لِيُحدِّثني على انفراد، فإنّ في ذلك إشارة إلى إنّه لا يريد لأحد أن يَعرِف ما يبغي قوله لي. وأنتِ يا أُمّي، أنتِ أُمّي الحبيبة، التي أُحِبُّها كثيراً، ولكن حُبّي ليسوع يفوق حبّكِ، وكذلك الأمر بالنسبة لمشيئته. إلّا أنّني سوف أسأله، عندما يحين الوقت، إذا كان بإمكاني البوح بكلامه لكِ. هل أنتِ مسرورة؟»
«سوف تَنسى أن تَسأَله...»
«لا يا أُمّي. أنا لا أنساكِ على الإطلاق، حتّى وأنتِ بعيدة عنّي. وعندما أَسمَع أو أرى شيئاً جميلاً، أُفكِّر دائماً: "لو كانت أُمّي هنا!".»
«حبيبي! دعني أُقبِّلكَ يا بُنيّ.» مريم التي لحلفى متأثّرة. ولكنّ التأثّر لَم يقتل الفُضول. وبعد لحظات مِن الصمت، تَعود إلى المبادرة: «قلتَ: مشيئته. إذن فلقد أدركتَ أنّه يريد التعبير لكَ عن مشيئة له. هيّا، فهذا، على الأقلّ، يمكنكَ قوله. فلقد قال لكَ ذلك بوجود آخرين.»
«الحقّ يُقال، كنتُ أمامه بمفردي.» يقول يعقوب مبتسماً.
«ولكن كان بإمكان الآخرين أن يَسمَعوا.»
«لَم يُحدِّثني كثيراً يا أُمّي. لقد ذَكَّرَني بصلاة إيليّا على الكرمل: "مِن كلّ أنبياء الربّ، أنا الوحيد الذي بَقِيَ". "استَمِعني واستَجِب لي كي يَعرِف الشعب أنّكَ الربّ الإله".»
«وماذا كان يَقصد بقوله هذا؟»
«أشياء كثيرة، يا أُمّي، هل تريدين معرفتها؟ فاذهَبي إذن إلى يسوع، وهو سوف يقول لكِ.» يقول يعقوب متحاشياً السؤال.
«يَودّ القول إنّه، وبما أنّ المعمدان قد أُلقي القبض عليه، فهو وحده الذي بَقي نبيّاً في إسرائيل، وإنّه يتعيَّن على الله أن يَحفَظه طويلاً لتثقيف الشعب.» تقول سُوسَنّة.
«هوم! يَصعُب عليّ تصديق أنّ يسوع يَطلُب البقاء طويلاً. فبالنسبة إليه، هو لا يَطلب شيئاً... هيّا يا يعقوبي الحبيب، قُل لأُمّكَ!»
«عَيب هو الفضول يا أُمّي. إنّه أمر لا نَفع منه، خَطِر، وأحياناً مؤلم. قُومي بِفِعل إماتة جميل...»
«أواه! ألم يرد القول إنّ أخاكَ سوف يُسجَن، أو قد يُقتَل؟» تَسأَل مريم التي لحلفى مُضطَرِبة.
«يوضاس ليس "كلّ الأنبياء"، يا أُمّي، حتّى ولو كان، بالنسبة إلى حبّكِ، كلّ واحد مِن أبنائكِ هو العالم بأسره...»
«أُفكِّر كذلك بالآخرين، لأنّه... لأنّكم تُشَكِّلون، بالتأكيد جِزءاً مِن أنبياء المستقبل. إذن... إذن، إن بقيتَ وحيداً... إذا أنتَ بقيتَ وحيداً، فهي إشارة إلى أنّ الآخرين، إلى أنّ يوضاسي... آه!...» مريم التي لحلفى تترك يعقوب وسُوسَنّة، وكصبيّة، تَعود بنشاط إلى الخلف، دون إعارة أيّ اهتمام للسؤال الذي يَطرَحه عليها تدّاوس. تَصِل إلى مجموعة يسوع، وكأنّ أحداً يُلاحِقها.
«يا يسوعي المحبوب... كنتُ أتحدّث إلى ابني... حول ما قُلتَه له... عن الكرمل... عن إيليّا... والأنبياء... قُلتَ... إنّ يعقوب سوف يَبقى وحيداً... ويوضاس، ما الذي سيحلّ به؟ إنّه ابني، تَعلَم؟» تقول ذلك وهي تَلهَث، مِن الضِّيق ومِن الجَّري.
«أَعلَم ذلك يا مريم. وأَعلَم أنّكِ سعيدة لِكونه رَسولي. تَرَين أنّ لكِ كلّ الحقّ كأُمّ، أمّا أنا فلي الحقّ كلّه كمعلّم وسيّد.»
«صحيح... صحيح... ولكن يوضاس ابني!...» وتَبكي بِسَخاء وهي تَستَشفّ المستقبل.
«آه! كَم مِن الدموع تُذرف مِن غير ما فائدة! ولكنّ كلّ شيء يُغفَر لقلب أُمّ. تعالي هنا يا مريم. لا تبكي. لقد شَدَدتُ عزيمتكِ مَرّة، ووعدتُكِ حينذاك كذلك أنّ الألم العظيم الذي كنتِ تختَبِرينه، جَعَلَكِ تنالين، لدى الله، نِعماً عظيمة، لكِ ولحلفاكِ ولأولادكِ...» ويضع يسوع يده على كتف امرأة عمّه لِيَسحبها إلى قُربِه... ويَأمُر الذين كانوا معه: «أنتم اذهبوا إلى الأمام...»
ثُمّ يُعاوِد الحديث، وحيداً، مع مريم التي لحلفى: «ولَم أكذب. فحلفى ماتَ وهو يَذكُرني. ولهذا السبب أُلغِيَت ديونه كلّها لدى الله. هذا الاهتداء إلى القريب غير الـمُدرَك، إلى المسيح الذي لم يكن يريد التعرّف إليه سابقاً، يعود الفَضل فيه إلى ألمكِ، يا مريم. وهذا الألم الذي تختَبِرينه الآن سوف يؤدّي بسمعان الـمُتردِّد ويوسف العنيد إلى الاقتداء بحلفاكِ.»
«نعم، ولكن... ماذا ستفعل بيوضاس، ابني يوضاس؟»
«سوف أُحِبّه أكثر مِمّا أُحِبّه الآن.»
«لا، لا. ففي هذا الكلام خَطَر مُبطَّن. آه! يا يسوع! آه! يا يسوع!...»
تَعود مريم العذراء كذلك إلى الخلف لمؤاساة سِلفَتها في الألم الذي لَم تَعرِف بعد طبيعته، وعندما تَعرِفه، لأنّ سِلفَتها ما أن رأتها إلى جانبها، حتّى اشتدّ بُكاؤها وهي تُشارِكها، حينئذ تُصبِح شاحِبة أكثر مِن القمر نفسه. فَتُهَمهِم مريم التي لحلفى: «قولي له، أنتِ. لا، ليس الموت لابني يوضاس...»
فَيَهرُب الدم مِن وجه مريم العذراء أكثر مِن تلك، وتقول لها: «وهل يمكنني طَلَب هذا مِن أجلكِ، إذا لم أكن أستطيع طلبه مِن أجل ابني: أن يخلص مِن الموت؟ مريم قولي معي: "لِتَكن مشيئتكَ، أيّها الآب، في السماء وعلى الأرض وفي قلوب الأُمّهات". فإنّ إتمام مشيئة الله عَبْر مَصير الأولاد هو استشهاد الفِداء بالنسبة إلينا، نحن الأُمّهات... ومِن جهة أخرى... لَم يَقُل أحد إنّ على يوضاس أن يُقتَل أو يموت، أو أن يُقتَل قَبل موتكِ. وصَلاتكِ له الآن كي يَصِل إلى عُمر متقدِّم، كَم ستكون ثقيلة الوطأة، حينما سَتَرَين كلّ الأشياء، مِن خلال ملكوت الحبّ والحقّ، وعَبْر أنوار الله، وعَبْر أمومتكِ الروحيّة. حينئذ سأكون أنا متأكّدة، بأنَّكِ كَمغبوطة، وكأُمّ، سوف تَرغَبين بأن يكون يوضاس شَبيهاً بيسوع في مصيره كفادي، وستتأجَّجين كي يكون إلى جانبكِ، مِن جديد، وعلى الدوام. فإنّ الابتعاد عن الأولاد هو عَذاب للأُمّهات، إنَّه أَلَم عظيم، يَدوم كَقَلَق حُبّ، على ما أَظنُّ، حتّى في السماء التي تَستَقبِلنا.»
دُموع مريم وبكاؤها القويّ في صمت الفجر الوَليد، جَعَلَت الجميع يَعودُون إلى الخلف لمعرفة ما الذي جَرى. وهكذا تُسمَع كلمات مريم العذراء، فَيَسري التأثُّر على الجميع.
تبكي مريم المجدليّة وهي تُتَمتِم: «وأنا قد سبَّبتُ هذا التبريح لأُمّي حتّى هنا على هذه الأرض.»
وتبكي مرثا قائلة: «إنّ الفُراق (الانفصال) لهو ألم متبادَل للأولاد ولِأُمّهم.»
واغرورَقَت عينا بطرس كذلك بالدموع، ويقول الغيور لبرتلماوس: «يا لِكلام الحكمة لِتَفسير ما ستكون عليه أُمومَة أُمّ مغبوطة!»
«كَم تُثمَّن الأشياء بواسطة أُمّ مغبوطة: عَبْر أنوار الله والأمومة المرَوْحَنَة!... فإنّ ذلك يَحبِس الأنفاس، كما أمام سِرّ لامع.» يُجيبه نثنائيل.
يقول الاسخريوطيّ لأندراوس: «كما لو أنَّ الأمومة تتخَلَّص مِن ثِقَل الحواسّ كلّه، وتُصبِح مُجنَّحة... فعندما قالت أُمّ المعلّم تلك الكلمات. بدا لنا أنّ أُمّهاتنا قد تحوَّلنَ بالفعل إلى بهاء لا يُمكن تصوّره.»
«صحيح. فأُمّنا، يا يعقوب، سَتُحبّنا هكذا. هل تتصوّر كم سيُصبِح حبّها آنذاك كاملاً؟» يقول يوحنّا لأخيه، وهو الوحيد الذي أَصبَحَت له ابتسامة نَيِّرة لشدّة تأثّره بفرح، لمجرّد فِكرة أنّ أُمّه سوف تتوصّل إلى الحبّ الكامل.
«آسف لِتَسبُّبي بألم كثير.» يقول يعقوب بن حلفى. «ولكنّها رأت أكثر ممّا قُلتُ لها... صَدِّقني يا يسوع.»
«أَعلَم، أَعلَم. ولكنّ مريم هي في صَدَد العمل على ذاتها، وهذه ضَربة أشدّ مِن الـمِبْضَع. ومع ذلك فهي تزيح عن كاهِلها عِبئاً ثقيلاً ميتاً.» يقول يسوع.
«هيّا أيّتها الأُمّ. كفى دموعاً! هذا يؤلمني، أن تُعاني كامرأة مسكينة، لا عِلمَ لها بِيَقين ملكوت الله. فأنتِ لا تُشبهين في شيء أُمّ الأولاد المكابيّين.» يَتَّهِمها تدّاوس بِصَرامة، وهو يُعانِق أُمّه، ويُنهي، مُقبِّلاً إيّاها مِن رأسها، وسط شعرها الأشيب: «تَبدين كَطِفلة خائفة مِن الظِّلال، ومِن القِصَص التي تُروى لها لإخافتها. ومع ذلك تَعرِفين أن تَجِديني مِن خلال يسوع. يا لِأُمّي! يا لأُمّي! كان ينبغي لكِ أن تَبكي لو قيل لكِ إنّني اضطُرِرتُ، فيما بعد، إلى خيانة يسوع، إلى تَركِه، وأن أَهلَكْ. حينذاك، نعم. عليكِ أن تبكي دماً حتّى. إنّما، بعون الله، لن أُسبِّب لكِ هذا الألم مُطلقاً، يا أُمّي. أَبغي البقاء معكِ مدى الأبديّة...»
الاتّهام أوّلاً، ثُمّ الملاطفات، تؤدِّي إلى إيقاف بكاء مريم التي لحلفى، الخَجِلة الآن مِن ضُعفها.
النُّور، أثناء الانتقال مِن الليل إلى النهار، كان قد خَبا، ذلك أنّ القمر قد غاب، والنهار لم يَبزغ بَعد. ولكنّه فاصل شَفقيّ قصير. بعد ذلك مباشرة يكون النور، أوّلاً بلون الرصاص، ثمّ يميل إلى الرماديّ، ثمّ إلى الأخضر وثمّ إلى الحليبيّ مع آثار زرقاء، في النهاية يُصبِح واضحاً، يكاد يكون مِثل الفضّة اللامادّيّة، ويتأكّد باستمرار، مُسهلّاً الدرب على الشاطئ الرمليّ الرطب الذي انحَسَرَت عنه الموجة، بينما تستمتع العين برؤية البحر، الذي أَصبَحَ لونه الأزرق فاتحاً أكثر، والذي يُوشِك أن يُنار بسطوع متلألئ كالجواهر. ثمّ الهواء يأتي لِيُضفي على لونه الفضّيّ لوناً ورديّاً أكثر نقاء، حتّى يُصبِح هذا اللون الورديّ الـمُذهَّب للفجر، غيثاً ورديّاً يميل إلى الأحمر، على البحر، على الوجوه، على الأرياف، مع تبايُن ألوان أكثر حيويّة، تَصِل إلى مِلء كمالها في اللحظة التي هي، بالنسبة إليّ، الأجمل في اليوم كلّه، عندما تَنشُر الشمس، التي تَقفِز خارج حدودها الشرقيّة، أوّل أشعّة لها على الجبال والمنحدرات، على الغابات والحقول، وعلى المساحات الواسعة للبحر والسماء، مُظهِرة كلّ الألوان، إن تكن بياض ثلج أو نيْل الجبال البعيدة الذي يتحوّل إلى أخضر اليشب، أو يكن بياض السماء الفضّيّ الذي يخفّ ليتلقّى اللون الورديّ، أو يكن الياقوتيّ المعرَّق للزبرجد، والمخطَّط للآلئ البحر.
واليوم، البحر هو معجزة جمال حقيقيّة. فهو ليس ميتاً بسكون ثقيل، ولا مضطرباً بمعركة رياح، إنّما تَظهَر عليه حياة عظيمة أكثر حيويّة، بأمواج خفيفة جدّاً، تُحْدِثها تموُّجات مكلَّلَة بِعُرف مِن الزَبَد.
«سَنَصِل إلى دورا قبل أن تصبح الشمس مُلتَهِبة، ونُعاوِد الرحيل عند الغَسَق. وغداً، ستكون في القيصريّة خاتمة تعبكنّ، يا أخواتي. ونحن كذلك سوف نستريح. عربتكنّ تنتظركنّ، بالتأكيد. وهناك سوف نَفتَرِق... لماذا تبكين يا مريم؟ هل ينبغي لي أن أُشاهِد اليوم كلّ المريمات يبكين؟» يقول يسوع لمريم المجدليّة.
«هذا نتيجة ألم الابتعاد عنكَ.» تقول أختها مرثا مُلتَمِسة لها العُذر.
«لَم يَقُل أحد إنّنا لن نرى بعضنا مِن جديد، وقريباً.»
تُشير مريم بالنَّفي، فليس هذا سبب بكائها.
يَشرَح الغيور: «إنّها تَخشى، إن ابتَعَدَت عنكَ، ألّا تُجيد مُمارسة الصَّلاح. إنّها تخشى... تخشى أن تُجَرَّب بِعُنف شديد، عندما لا تكون قريباً منها لِتُبعِد الشيطان. فلقد كانت تُحدِّثني عن ذلك منذ لحظات.»
«لا تخشي ذلك. فأنا لا أستردّ أبداً نِعمة مَنَحتُها. هل تريدين ارتكاب الخطيئة؟ لا؟ إذن، كوني مطمئنّة؛ اسهري وكوني يَقِظة، هذا نعم، ولكن لا تَخشي.»
«سيّدي... أبكي كذلك، لأنّه في القيصريّة... القيصريّة مُفعَمَة بخطاياي. والآن أراها كلّها... عليَّ أن أتعذَّب كثيراً في إنسانيّتي...»
«هذا يُسعِدني ويُرضِيني. كلّما تألَّمتِ أكثر، كان استحقاقكِ أفضل. لأنّه، فيما بعد، لن تتألّمي مِن هذه المعاناة الفارغة. يا مريم بنت ثيوفيلوس، أُذكِّركِ أنَّكِ ابنة رجل قويّ، وأنّكِ نَفْس قويّة، وأنّني أريد أن أجعلكِ قويّة جدّاً. أَعذُر العيوب والـهَنَات لدى الأُخرَيات، لأنّهنّ يبقين نساء لطيفات، ناعمات وخجولات، بما فيهنّ أختكِ. أمّا لديكِ فلا أحتَمِلها. سأصنَعكِ بالنار وعلى السِّندان. ذلك أنّكِ شخصيّة يجب صُنعها هكذا، لكيلا تتعطّل معجزة إرادتكِ وإرادتي. اعلَمي ذلك أنتِ والذين، بين الحاضرين هنا والغائبين، يمكنهم الإيمان بأنّني، بسبب حبّي الكبير لكِ، يمكنني أن أَضعُف تجاهكِ. أَسمَح لكِ بالبكاء توبة وحبّاً، وليس لشيء آخر. هل فهمتِ؟» يسوع صارم ومُوحٍ.
تَجهَد مريم المجدليّة في ابتلاع دموعها وشهيقها، وتَسقُط على ركبتيها، تُقبِّل قدميّ يسوع، ومُجتَهِدة في تثبيت صوتها تقول: «نعم، سيّدي. سأفعل ما تقول.»
«انهَضي إذن، وكوني صافية البال.»