ج9 - ف17
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.
الجزء التاسع
17- (كنتُ، أنا كائن، ابن الله. لكنّني كنتُ أيضاً ابن الإنسان)
15 / 02 / 1944
يقول يسوع:
«لقد تأملتِ في أمسية الخميس، ألم احتضاري الروحيّ. رأيتِ يسوعكِ وهو ينهار كمِثل إنسان ضُرِب حتّى الموت شاعِراً أنّ حياته تهرب مِن خلال جراحه الّتي تنـزف، أو كمِثل مَن أُصيب بصدمة نفسيّة تفوق قواه. ورأيتِ مراحل تَنامْي هذه الصدمة حتّى وَصَلتْ إلى أقصى مدى لها في نضوح الدم، الناتج عن اختلال توازن الدورة الدمويّة مِن تأثير الجهد الّذي بذلتُه كي أنتصِر وأقاوم الحِمل الّذي يُنهِكني.
أنا كنتُ، أنا الكائن ابن الله العليّ، ولكن كنتُ أيضاً ابن الإنسان. وأريد في هذه الصفحات، أن تنجلي هذه الطبيعة المزدوجة بوضوح بشكل كامل وكلّيّ.
مِن ألوهيّتي، كلامي ينشئ إيماناً مِن لهجته الّتي وحده الله يمتلكها. ومن بَشَريّتي، بيّنتُ لكم الاحتياجات، العواطِف، الآلام الّتي عانيتُ منها في جَسَدي، جسد إنسان حقيقيّ، والّتي أعرضها عليكم كنموذج لبشريّتكم، وفي الوقت نفسه أثقّف الروح فيكم بمذهبي مذهب الله الحقّ.
على مرّ العصور، ألوهيّتي القدّوسة وإنسانيّتي الكاملة جَعَلهما انحلال "بشريّتكم" الناقصة في التعريف بهما ناقِصتين ومشوَّهتين. لقد جعلتم إنسانيّتي غير حقيقيّة، جعلتموها غير بشريّة كما جعلتم مظهري الإلهيّ ضئيلاً، بإنكاركم إيّاها في كثير مِن النقاط الّتي لم تكونوا تريدون أو الّتي لم تستطيعوا معرفتها بأرواحكم الـمُعاقة بسبب فساد الرذائل والكُفر، والنـزعة البشريّة والعقلانيّة.
إنّني آتي، في هذه الساعة المأساويّة [الحرب العالمية الثانية]، النذير لبؤس عالمي، آتي كي أجدّد في عقولكم طبيعتي المزدوجة كما الله وكما إنسان، لكي تعرفوها كما هي، كي تتعرّفوا عليها بعد ظلاميّة طويلة حجبتموها بها عن أرواحكم، كيما تحبّوها، وترجعوا إليها وتخلصوا بواسطتها. إنّه وجه مُخلّصكم، ومَن يتعرّف عليه ويُحبّه سيَخلص.
لقد جعلتُكِ في هذه الأيّام تتعرّفين على آلامي الجسديّة الّتي عَذّبت بشريّتي. وجعلتُكِ تتعرّفين على آلامي المعنويّة الـمُترابِطة، الـمُتداخِلة، الـمُمتزِجة مع آلام أُمّي مثل عرائِش الغابات الاستوائيّة الـمُعقّدة الّتي لا يمكن فصلها لقصّ واحدة فقط منها، بل يجب قطعها كلّها معاً، بضربة واحدة مِن فأس لفتح ممرّ فيها؛ أو أيضا كما هي أوعية الجسد الدمويّة، الّتي لا يمكن أن تُحرَم واحدة منها مِن الدم لأنّ سائلاً واحداً يملأها، وكما، وهو مثال أفضل بعد، الجنين الّذي يتكوّن في أحشاء الأُمّ، يُدركه الموت إن ماتت أُمّه، لأنّ الحياة، الدفء، الغذاء، دم الأُمّ يتغلل عبر الأغشية الباطنيّة بالتواتر الموافق لحركة قلبها، إلى الطفل الجنين لكي يجعل منه كائناً حيّاً.
هيَ، آه! هيَ، الأُمّ الطاهرة الّتي لم تحملني فقط تسعة أشهر، الزمن الّذي تَحمل فيه أيّة امرأة ثمرة رجل، بل حَمَلتني طوال حياتها. كان قلبانا مُتّحدين بأوتار روحيّة ونبضا معاً دائماً، لم تسقط دمعة واحدة مِن دموع أُمّي دون أن تُبلّل قلبي بملوحتها، ولم يكن أنين واحد مِن أنّاتي الداخليّة لم يترجّع صداه فيها ليستثير آلامها.
أنتم تتألّمون لرؤيتكم أُمّاً لطفل مدنف على الموت بسبب مرض عضال، أو أُمّاً لشخص محكوم عليه بالإعدام بسبب قسوة العدل البشريّ. ولكن فكِّروا بأُمّي، الّتي منذ لحظة الحَبَل بي، ارتعَشتْ وهي تُفكّر أنّني المحكوم عليه، هذه الأُمّ التي عندما طَبَعَتْ أوّل قبلة على بشرتي الناعمة الورديّة بشرة طفل وليد، قد شَعَرَتْ بجراح ابنها المستقبلية... هذه الأُمّ الّتي ودّت أن تُقدّم حياتها عشر مرّات، مئة، ألف مرة لكي تمنعني مِن أن أصبح إنساناً وأصل إلى لحظة التضحية، هذه الأُمّ الّتي كانت تعرف والّتي كان ينبغي لها أن ترغب بهذه الساعة الرهيبة كي تَقبَل مشيئة الربّ، لأجل مجد الربّ، بدافع مِن محبّة تجاه الإنسانيّة. لا، ليس هناك نزاع بمثل هذا الطول، وانتهى بألم أعظم مِن هذا الألم، ألم أُمّي.
وما مِن ألم أعظم، وأكمَلْ مِن ألمي. كنتُ واحداً مع الآب. لقد أحبّني مدى الأبديّة كما الله وحده يحسن أن يحبّ. كان مُتهلّلاً بي ووَجَدَ فيَّ فَرَحَه الإلهيّ. وأنا أحببتُه كما يمكن لله وحده أن يُحبّ ووجدتُ في اتّحادي به فرحي الإلهيّ. هذه العلاقة فائقة الوصف الّتي تربط ربطاً عميقاً الآب بابنه لا يمكن أن تُشرح لكم حتّى بواسطة كَلِمَتي، لأنّها، وإن كانت كاملة، فإنّ ذكاءكم ليس كذلك، ولا تستطيعون أن تفهموا أو تعرفوا ماهية الله طالما أنتم لستم معه في السماء.
ومع ذلك، كنتُ أشعر بقسوة أبي تجاهي تنمو باطّراد كمِثل ماء يتصاعَد ويضغط على سدّ. وكشهادة ضدّ البَشَر-الوحوش، الّذين لم يكونوا يُريدون أن يُدركوا مَن أكون، هو قد فَتَحَ السماء ثلاث مرات خلال حياتي العامّة: في نهر الأردن، على جبل طابور، وفي أورشليم ليلة الآلام. إنّما قد فعل ذلك مِن أجل البشر، لا كي يمنحني تعزية. لأنّني كنتُ قد أصبحتُ الـمُكفِّر عنهم.
يا ماريا، غالباً ما يجعل الله البشر يتعرّفون على واحد مِن خدّامه، لكي يهزّهم بواسطته ويقودهم إليه، ولكنّ هذا يتمّ كذلك مِن خلال ألم هذا الخادم. وهو يدفع بشخصه، بأكله خبز قسوة الله المرّ، ثمن تعزيات وخلاص إخوته. أليس كذلك؟ ضحايا التكفير يعرفون قسوة الله. وبعد ذلك يُخيّم المجد، إنّما بعد أن يَسْكن العدل. إنّ الأمر ليس هو ذاته فيما يتعلق بمحبّتي، الّتي تطبع قبلاتها على ضحاياها.
أنا يسوع، أنا الفادي، الّذي يتألّم ويَعلَم، باختبار شخصيّ، ما يكون العذاب حين ينظر الله إليه بصرامة ويهجره، وأنا لستُ أبداً صارماً، ولا أهجر أبداً. أُستَنفَذ على حدّ سواء، ولكن بحريق محبّة.
كلّما كانت ساعة التكفير تقترب، كان شعوري يتنامى بابتعاد الآب. وكلّما ازداد الانفصال عن الآب، كانت بشريّتي تشعر بتناقص مُساندة ألوهيّة الله لها. وكنتُ أتألّم مِن ذلك بكافّة السُبُل. إنّ الانفصال عن الله يجلب الخوف، التمسّك بالحياة، الفُتور، التعب، والضَجَر. وكلّما زاد عمقه زادت شدّة عواقبه. وعندما يُصبِح تامّاً، يقود إلى اليأس. وعندما يختبر بريء، مِن جرّاء مرسوم مِن الله، التجربة دون أن يكون مستحقّاً لها، فهو يُعاني أكثر، لأنّ الروح الحيّ يشعر بالانفصال عن الله، مثل الجسد الحيّ الّذي يشعر ببتر أحد الأعضاء. إنه لذهول مؤلم، مُضنٍ، لا يفهمه مَن لم يختبره.
أنا قد اختبرتُه. كان عليّ أن أمرّ بكلّ ذلك حتّى أترافع عنكم في كلّ أمر أمام الآب. حتّى يأسكم. آه! لقد اختبرتُ ما يعني: "إنّي وحيد. الكلّ خانوني، هجروني. حتّى الآب، حتّى الله لم يَعُد يُساعدني."
ولهذا السبب أجترح معجزات النعمة الخفيّة للقلوب البائسة الّتي أضناها اليأس، وأطلب مِن مُفضّليَّ أن يختبروا الشرب مِن كأسي الـمُرّ للغاية الّذي للتجربة، حتّى لا يرفض الغارقون في بحر اليأس الصليب الّذي أقدّمه لهم كمرساة خلاص، بل ليتعلّقوا به فأتمكّن مِن اصطحابهم إلى شاطئ الغبطة حيث لا وجود إلاّ للسلام.
في أمسية الخميس، أنا وحدي أعرف مدى احتياجي لعون الآب! كنتُ روحاً أضحى في نزاع بسبب الجهد الّذي بذلتُه لتجاوز أقسى ألَمين لإنسان: وداع أُمّ محبوبة جدّاً، ومجاورة الصديق الخائن. كانا جرحين يحرقان قلبي: هي بدموعها، الآخر بكراهيته.
كان عليَّ أن أكسر خبزي مع قاييني. وأكُلّمه كصديق حتّى لا أكشفه أمام الآخرين الّذين كنتُ أخشى عنفهم، وكي أمنع مِن جهة أخرى جريمة لا جدوى منها، لأنّ كلّ شيء كان مرسوماً بالفعل في كتاب الحياة الكبير: موتي الـمُقدّس وانتحار يهوذا. لا فائدة مِن موتٍ آخر ينبذه الله. لم يكن ينبغي أن يُراق دم آخر غير دمي، ولم يُهرَق. الحبل خَنَق تلك الحياة حابساً دمه الفاسِد الـمُباع للشيطان في جَسَد الخائِن الـمُدنَّس، لم يكن ينبغي أن يختلط هذا الدم، بسقوطه على الارض، مع دم البريء فائق النقاء.
هذان الجرحان كافيان ليجعلا منّي مُنازعاً في الأنا الّتي لي. ولكنّني كنتُ المـُكفِّر، الضحية، الحَمَل. الحَمَل الّذي، قبل الذبح، يعرف أثر الوَسم بالحديد المحمّر بالنار، يعرف الضربات، يعرف التجريد، يعرف البيع للجزّار. وفقط في النهاية، يعرف بَرْد السكّين الّذي يخترق الحنجرة فيُريق الدم ويقتل. وعليه قبل ذلك أن يترك كلّ شيء: المرعى الّذي نما فيه، الأُمّ الّتي رضع ثديها ونَعِمَ بالدفء في حضنها، الرفاق الّذين عاش معهم. كلّ شيء. أنا عرفتُ كلّ شيء: أنا، حَمَل الله.
وبينما كان أبي ينسحب في السماوات، أتى الشيطان. كان قد أتى في بداية رسالّتي في محاولة لجعلي أحيد عنها. والآن كان قد عاد. كانت ساعته. ساعة الـمَحفَل الشيطاني.
حشود وحشود مِن الشياطين كانت على الأرض تلك الليلة ليُضِلّوا القلوب ويُهيّئوها للغد ليُريدوا قتل المسيح. لقد كان لكلّ فرد مِن السنهدرين شيطانه، لهيرودس الشيطان الخاص به، لبيلاطس شيطانه، وكلّ واحد مِن اليهود نادى إنّ دمي عليه، كان له شيطانه. الرُّسُل أيضاً كان بالقرب منهم مُجرِّبهم الّذي كان يُنعِسهم خلال سقمي، وكان يُهيّئهم للجُبن. لاحِظي قدرة الطُّهر. يوحنّا، الطَّاهر، سَبقَ الجميع في التحرُّر مِن الـمَخلب الشيطانيّ فرجع على الفور إلى يسوعه وفهم رغبته الّتي لم يُعبِّر عنها وقاد مريم إليّ.
إنّما مع يهوذا كان لوسيفوروس وأنا كان معي لوسيفوروس. هو في قلبه، وأنا إلى جانبي. كنّا الشخصيّتين الأساسيّتين في المأساة، والشيطان كان بنفسه يهتمّ بنا. وبعد أن قاد يهوذا إلى نقطة اللاعودة، استدار إليّ.
بمكره التامّ، عَرَضَ أمامي عذابات جَسَدي بواقعيّة لا يمكن تجاوزها. في البرّية أيضاً بدأ بالجَسَد. هَزمتُه بالصلاة. وساد روحي على خوف الجَسَد.
عَرَضَ أمامي عدم جدوى موتي، وجدوى الحياة مِن أجل ذاتي دون الاهتمام بالبَشَر الجاحِدين. الحياة في الثراء، سعيداً، محبوباً. الحياة مِن أجل أُمّي، كي لا أجعلها تتألّم.
الحياة كي أقود إلى الله، بمهمّة رسوليّة طويلة الأمد، كثيراً مِن الناس، الّذين، بمجرّد موتي، سينسونني، بينما لو كنتُ مُعلّماً ليس فقط لثلاث سنوات، بل لعديد وعديد مِن خماسيّات الأعوام، لانتهيتُ بأن يَنفذ فيهم مَذهَبي. ويُساعِدني ملائكته في إغواء الناس. ألم أكن أرى أنّ ملائكة الله لم تكن تتدخّل لمعونتي؟ ثمّ، إنّ الله كان سيسامحني وهو يرى حصاد المؤمنين الّذين كنتُ سأقودهم إليه. في البرّية أيضاً دَفَعَني لكي أُجرِّب الله بالتهوُّر. وهَزمتُه بالصلاة. ساد روحي على التجربة المعنويّة.
وَضَع أمامي تخلّي الله. هو، الآب، لم يعد يُحبّني. كنتُ مُحمّلاً بخطايا العالم. كنتُ أرعِبه. كان غائباً، تَركني وحيداً. تَركني لسخرية جمع متوحِّش، ولم يُقدِّم لي ولا حتّى تعزيته الإلهيّة.
وحيداً، وحيداً، وحيداً. في تلك الساعة، لم يكن سوى الشيطان وحده إلى جانب المسيح. الله والبَشَر كانوا غائبين لأنّهم لم يكونوا يحبّونني. كانوا يكرهونني أو غير مبالين بي. كنتُ أصلّي لكي أحجب بمناجاتي الكلمات الشيطانية. ولكنّ صلاتي لم تكن تصعد إلى الله. كانت تعود لتسقط عليَّ مِثل حجارة الرَجم وتَسحقني تحت كتلتها. الصلاة الّتي كانت بالنسبة إليّ على الدوام ودّاً مُقدَّماً للآب، صوتاً صاعداً، يَستجيب له ودّ وكلمات أبويّة، قد صارت الآن ميتة، ثقيلة، موجّهة عبثاً إلى السماوات الـمُقفَلة.
حينذاك شعرتُ بمرارة قاع الكأس. طعم اليأس. وهذا ما كان يُريده الشيطان. قيادتي إلى اليأس لكي يُصيّرني عبداً له. تغلّبتُ على اليأس، وتغلّبتُ عليه بِقوَّتي وحدها، لأنّني أردتُ أن أغلبه. بِقواي كإنسان فقط. لم أعد آنذاك سوى الإنسان. لم أعد آنذاك سوى إنسان لا يساعده الله. عندما يُساعِد الله، يكون مِن السهل رفع العالم بذاته وحمله مثل لعبة أطفال. ولكن عندما لا يعود الله يُساعِد، يصير حتّى ثِقل الزهرة مُجهِداً.
لقد تغلّبتُ على اليأس ومُبدِعه الشيطان كي أخدم الله وأخدمكم، مانحاً لكم الحياة. ولكنّني عرفتُ الموت. ليس موت المصلوب الجسديّ -فقد كان أقلّ شناعة- ولكن الموت الكامل، الواعي، للمُحارِب الّذي يسقط بعد أن ينتصر، والقلب مُحطّم والدم يُراق في صدمة مجهود يفوق التحمّل. وعرقتُ دماً. عرقتُ دماً لأكون أميناً لمشيئة الله.
ولهذا أظهر لي ملاك آلامي رجاء كلّ الـمُخَلَّصين بتضحيتي كأنّها دواء لاحتضاري.
أسماؤكم! كلّ اسم كان لي قطرة مِن الدواء تُحقَن في أورِدَتي لتعطيها قوّة ودافعاً للعمل، كلّ اسم كان لي الحياة الّتي تعود، النور الّذي يعود، القوّة الّتي تعود. كي لا أصرخ مِن عذابي البشريّ، كي لا أيأس مِن الله وأقول إنّه كان في غاية القسوة والظلم تجاه ضحيّته، رَدَّدتُ أسماءكم أثناء تلك العذابات اللاإنسانيّة، رأيتُكم. ومنذئذ باركتُكُم. ومنذئذ حملتُكُم في قلبي. وعندما آن أوان وجودكم على الأرض، انحنيتُ مِن السماء لكي أصحب مجيئكم، متهلّلاً بالفكر لولادة زهرة محبّة جديدة في العالم وعيشها مِن أجلي.
آه! يا مبارَكيّ! تعزية المسيح المائت! أُمّي، التلميذ، النساء التقيّات كانوا مُحيطِين بي ساعة موتي، ولكن أنتم كذلك كنتم حاضِرين. عيناي الـمُحتضِرتان كانتا تَريَانِ وجه أُمّي الـمُمزَّق، وفي الوقت نفسه وجوهكم الـمُحِبّة، وانغلقتا، هكذا، فَرِحَتَين لأنّهما خلّصتاكم، أنتم الّذين تستحقّون تضحية إله.»
***
الأربعاء 16 / 02 / 1944
يقول يسوع:
«لقد أخذتِ عِلماً بكلّ العذابات الّتي سَبقَت الآلام. الآن، سأجعلكِ تعرفين الآلام الفعليّة. هذه الآلام الّتي تَصفع أرواحكم بِشدّة عندما تتأمّلون فيها. ولكنّكم تتأمّلون فيها قليلاً، بل أقلّ مِن القليل. أنتم لا تُفكّرون أبداً في مقدار ما كلّفتموني وبأيّ عذاب تمّ خلاصكم.
أنتم يا مَن تَشكون مِن خدش، صدمة بزاوية، ألم بالرأس، لا تفكّرون أنّني لم أكن سوى جرح واحد، وأنّ هذه الجِراح قد ألهبَتها أشياء كثيرة، وأنّ هذه الأشياء نفسها آلمت خالقها، لأنّها كانت تُعذّب الله-الابن الّذي أضحى مُعذَّباً، دون احترام للّذي، كأب للخليقة، كان قد كوّنها.
ولكنّ الأشياء لم تكن هي الـمُذنِبة. بل الإنسان كان دائماً وأبداً هو الـمُذنِب. الـمُذنِب منذ اليوم الّذي استَمَع فيه إلى الشيطان في الجنّة الأرضيّة. حتّى تلك اللحظة لم تكن هناك أشواك، ولا سُمّ، ولا فظاظة في الأشياء الّتي خَلقَها الله للإنسان المخلوق الـمُختار.
كان الله قد جَعَل من هذا الإنسان مَلِكاً، مخلوقاً على صورته ومِثاله، وفي محبّته الأبويّة، لم يكن يُريد أن تتمكّن الأشياء مِن أن تكون فخاخاً له. الشيطان هو الّذي وَضَع الفخّ. بداية في قلب الإنسان، ثمّ أنتَجَ للإنسان، مع عِقاب الخطيئة، العُلّيق والأشواك.
وهكذا كان عليّ، أنا الإنسان، أن أتألّم أيضاً مِن أجل الأشياء وبها، إضافة إلى الأشخاص. فهؤلاء أهانوني وعذّبوني، وتلك الأشياء كانت الأسلحة لذلك.
اليد الّتي صَنَعَها الله للإنسان لكي يُميّزه عن الحيوانات، اليد الّتي كان الله قد عَلَّم الإنسان استخدامها، اليد الّتي جَعَلها الله في علاقة مع العقل مُعطياً إيّاها القُدرة على تنفيذ أوامر الفِكر، هذا الجزء منكم الكامل للغاية والّذي ينبغي أن لا يتأتّى منه سوى ملاطفات لابن الله، لأنّه لم يَنلْ منه سوى الـمُلاطَفات والشفاء إن كان مريضاً، قد ثار ضدّ ابن الله وكال له الصَفَعات، واللّكمات، تَسلّح بالسياط، صار كمّاشة لانتزاع الشعر واللحية، ومطرقة لإدخال المسامير.
أقدام الإنسان، الّتي كان ينبغي لها أن تجري فقط بِخفّة لكي تتعبّد لابن الله، جرت بسرعة للقبض عليّ، لدفعي وجَرّي في الطُرُقات إلى جلاديَّ، ورَكلي كما لا يجوز أن يُفعَل حتّى لبغل حرون.
فم الإنسان، الّذي يجب أن يستخدمه في الكلام، الكلام الّذي لم يُعطَ سوى للإنسان وحده دون كلّ الحيوانات المخلوقة، لكي يُمجِّد ويُبارِك ابن الله، امتلأ بالتجديف والأكاذيب يُلقيها على شخصي مع بصاقه.
فِكر الإنسان، الّذي هو إثبات على أصله السماويّ، أنهك نفسه في تصوّر العذابات بقسوة يتفنّن بها.
الإنسان، الإنسان بأكمله، استخدَمَ كلّ ما يُكوّنه لكي يُعذِّب ابن الله. واستدعى الأرض، بكلّ مكوّناتها، لتساعده في هذا التعذيب، صَنَع مِن حجارة السيل مقاذيف لتجرحني، ومِن فروع الأشجار هراوات لضربي، مِن القنّب المبروم حبلاً لسحبي، مُمزِّقاً لحمي، ومِن الأشواك إكليل نار كان يَخز رأسي الـمُنهَك، مِن المعادن سوطاً فائق الشدّة، مِن القصب أداة عذاب، مِن حجارة الطريق فخّاً للقَدَم الـمُترنِّحة للّذي كان يَصعَد، وهو يحتضر، لكي يموت مصلوباً.
وانضمّت الأشياء السماويّة للأشياء الأرضيّة: بَرْد الفجر لجَسَدي الـمُنهَك مِن جرّاء نزاع البستان، الريح الّتي تلهب جراحي، الشمس الّتي تزيد الحريق والحمّى وتجلب الذباب والغبار، وتبهر عينيّ الـمُتعَبتين اللتين لا تستطيع اليدان السجينتان أن تحمياهما.
وانضمّت للأشياء السماويّة الألياف الـمُعطاة للإنسان ليُغطّي عريه بها: الجِلد يُصبِح سوطاً، صوف الملابس يلتصق بالجراح المفتوحة بسبب السياط ويسبّب العذاب مع كلّ حركة نتيجة الاحتكاك والتمزيق.
كلّ شيء، كلّ شيء، كلّ شيء استُخدِم لتعذيب ابن الله. وهو، الّذي بواسطته خُلِقت كلّ الأشياء، حينما صار القربان الـمُقرَّب إلى الله، أصبحت كلّ الأشياء تنصب له العداء. لم يتلقَّ يسوعكِ التعزية مِن أيّ شيء يا ماريّا. كالأفاعي الهائِجة، شرع كلّ ما هو موجود في عضّ لحمي ومضاعفة آلامي.
هذا ما يجب أن تفكّروا فيه حينما تتألّمون، مقارنين نقصكم بكمالي، وألمي بألمكم، وتعلموا أنّ الله يحبّكم، كما لم يحبَّني في تلك الساعة، وتحبّوه بالتالي بكلّ ذواتكم، مثلما أحببتُه أنا رغم قسوته.»