ج5 - ف12
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الأول
12- (الوداع في أنطاكية)
08 / 11 / 1945
مِن جديد، الرُّسُل في بيت أنطاكية ومعهم التلميذان وكلّ رجال أنتيجونيا، الذين لم يعودوا في ثياب العمل القصيرة، بل إنّما بثياب العيد الطويلة. فأستنتج أنّه السبت.
يرجو فليبّس الرُّسُل التحدث ، ولو مرّة واحدة، إلى الجميع، قبل رحيلهم الذي أصبح وشيكاً.
«حول ماذا؟»
«حول أيّ شيء تريدونه. لقد استمعتم إلى أحاديثنا هذه الأيّام، استوحوا منها.»
يَنظُر الرُّسُل بعضهم إلى بعض. لِمَن يعود الأمر؟ لبطرس، هذا طبيعيّ. إنّه الرئيس! ولكنّ بطرس لا يريد التكلّم، ويُعطي يعقوب أو يوحنّا بن زَبْدي شَرَف القيام بذلك. وفقط حينما يراهما لا يَلينان يُقرِّر الكلام.
«اليوم، سَمِعنا، في المجمع، شرح الفصل 52 لسفر إشَعياء. وكان الطَّرح علميّاً بحسب العالم، وناقصاً بحسب الحكمة.
ولكن لا يمكن أن نَلوم الشارح في ذلك، وقد أعطى حسب إمكانيّاته وحسب حكمته المشوّهة، وينقصها ما هو الأفضل: معرفة مَسيّا والعهد الجديد الحاصل به. ومع ذلك فنحن لا ننتقد، بل نصلّي كي يتوصّل إلى معرفة هاتين النعمتين والتمكّن مِن تقبُّلهما دون عوائق.
لقد قُلتُم لي إنّكم، أثناء الفصح، سَمِعتُم مَن يتحدّث عن المعلّم بإيمان، إنّما باحتقار كذلك. وإنّه فقط بفضل الإيمان العظيم الذي يملأ قلوب أهل بيت لعازر، كلّ قلوبهم، استطعتم الصمود في وجه المتاعب التي سبَّبَتها تلميحات الآخرين لقلوبكم، خاصّة وأنّ هؤلاء الآخرون هم بالضبط رابّيو إسرائيل.
ولكن أن يكون المرء عالماً لا يعني أبداً أن يكون قدّيساً أو مالكاً الحقيقة.
فالحقيقة هي ذي: يسوع الناصريّ هو مَسيّا الموعود به، الـمُخلِّص الذي تحدَّثَ عنه الأنبياء، وآخرهم يَرقد في أحضان إبراهيم منذ وقت قليل بعد الشهادة المجيدة التي تحمَّل عناءها مِن أجل العدل والاستقامة. قال يوحنّا المعمدان، والذين سَمِعوا كلامه هُم الآن هنا: "هذا هو حَمَل الله الحامل خطايا العالم".
هذه الكلمات آمن بها الأكثر تواضعاً ممَّن هُم هنا، ذلك أنّ التواضُع يُساعِد في التوصّل إلى الإيمان، بينما الطريق صعب على المتكبّرين -على ما هُم عليه مِن الارتباك- لبلوغ قمّة الجبل حيث يحيا الإيمان بعفّة وإشراق نور. هؤلاء المتواضعون، لأنّهم كانوا هكذا، ولأنّهم آمنوا، استحقّوا أن يكونوا الأوائل في جيش الربّ يسوع.
انظروا إذن كم التواضُع ضروريّ للحصول على إيمان سريع، وكم يُكافأ المرء لمعرفته الإيمان، حتّى على نقيض المظاهر الـمُعاكِسة.
أنا أحثّكم وأدفعكم لتكون فيكم هاتان الميزتان، وحينذاك تنضمّون إلى جيش الربّ وتكسبون ملكوت السماوات…
لقد أنهيتُ كلامي أنا، وأترك لكَ الكلام يا سمعان الغيور، فتابع أنتَ.»
الغيور الذي أُخِذَ على حين غرّة، والذي أشير إليه بوضوح كالخطيب الثاني، عليه أن يتقدّم دون تردّد ولا تشكٍّ، ويَفعَل ذلك وهو يقول:
«سأُكمِل حديث سمعان بطرس، رئيسنا جميعاً، بحسب مشيئة الربّ. وذلك بالاعتماد على الفصل 52 مِن سفر إشَعياء، مِن وجهة نَظَر مَن يَعرف الحقّ المتجسّد الذي هو خادمه، إلى الأبد. قيل: "استيقظي، استيقظي البسي عزّكِ يا صهيون، ثياب فخركِ يا أورشليم يا مدينة القدس".
حقّاً ينبغي أن يكون هكذا. ذلك أنّه حينما يتمّ وعد، يَحلّ سلام، وتُلغى دينونة ويحين زمن الفَرَح، وعلى القلوب والمدن أن تلبس ثوب العزّ لترتفع الجِّباه المنحنية، عندما يَعون أنّهم لم يعودوا مَكروهين، مغلوبين، معاقَبين، بل هم محبّوبون ومحرّرون.
لسنا هنا بصدد إقامة دعوى على أورشليم. فالمحبّة، الأولى بين كلّ الفضائل، تمنع ذلك. فلنَكُفَّ إذن عن النَّظَر إلى قلب الآخرين، ولننظر إلى قلبنا. ولنُلبس قلبنا العزّ بهذا الإيمان الذي تحدّث عنه سمعان، ولنَلبس نحن ثياب الفخر لأنّ إيماننا العميق بمَسيّا يتكلّل الآن بالتحقّق. مَسيّا، القدّوس، كلمة الله، هو حقّاً فيما بيننا. وليست النُّفوس فقط هي التي تسمع كلام الحكمة الذي يقوّيها ويسكب فيها القداسة والسلام، بل هي الأجساد كذلك، التي بفعل القدّوس الذي مَنَحَه الآب كلّ شيء، تَجِد ذاتها محرّرة مِن الأمراض الأكثر خطراً، وحتّى مِن الموت، لكي تَصدَح أراضي ووديان وطننا بأوشعنا لابن داود وللعليّ الذي أَرسَلَ كلمته كما وَعَد الأحبّار والأنبياء.
أنا الذي أتحدّث إليكم، كنتُ مصاباً بالبرص، وكان مقدّراً لي أن أموت بعد سنوات مِن العذاب المبرّح، في عزلة الحيوانات البرّية المعدّة للبرص. قال لي أحدهم: "امضِ إليه، رابّي الناصرة، وستُشفى". فآمنتُ. ومضيتُ إليه. وشفيتُ، في جسدي وفي قلبي، مِن الأوّل اختفى المرض الذي يَفصل عن الناس؛ ومِن الآخر اختفى الحقد الذي يَفصل عن الله. وبنفس جديدة، بعد أن كنتُ مُبعَداً، مريضاً وقَلِقاً، أَصبَحتُ خادمه، مدعوّاً للرسالة السعيدة، للذهاب وسط الناس، لأحبّهم باسمه، لأثقّفهم بالمعلومة الوحيدة الضروريّة، تلك القائلة بأنّ يسوع الناصريّ هو الـمُخلِّص، وطوبى للمؤمنين به.
والآن، تحدَّث أنتَ يا يعقوب بن حلفى.»
«أنا أخو الناصريّ. كان أبي وأبوه أَخَوان، وُلِدَا مِن أحشاء واحدة، ومع ذلك لا أجرؤ على القول: أخوه، بل خادمه. ذلك أنّ أُبوَّة يوسف، شقيق أبي، لم تكن إلّا أُبوَّة روحيّة، والحقّ أقول لكم إنّ الأب الحقيقيّ ليسوع، معلّمنا، هو العليَّ الذي نَعبُد. وهو الإله، الواحد والثالوث، وقد سَمَحَ لأقنومه الثاني أن يتجسّد ويأتي إلى الأرض مع بقائه مُتَّحداً بالأقنومين ساكِنَيّ السماء. ذلك أنّ باستطاعة الله أن يفعلها، وهو الكلّيّ القُدرة، ويَفعَل ذلك بالحبّ الذي هو طبيعته.
يسوع الناصريّ أخونا هو، يا أيّها الناس، لأنّه وُلِدَ مِن امرأة، وهو شبيه لنا في ناسوته. هو معلّمنا لأنّه الحكيم، هو كلمة الله ذاتها، الآتي ليحدّثنا عن الله، ليجعلنا خاصّة الله. وهو إلهنا، كونه واحداً مع الآب والروح القُدُس، المتّحد بهما على الدوام بالحبّ والسلطان والطبيعة.
لتكن لكم هذه الحقيقة التي انتَقَلَت معرفتها إلينا، باختبارات جَليّة وبنعمة، مِن قِبَل البارّ الذي هو قريبي. وخلافاً للعالم الذي سيحاول انتزاعكم مِن المسيح قائلاً: "إنّه رجل عاديّ"، أجيبوا: "لا. إنّه ابن الله، النَّجم المولود مِن يعقوب، إنّه العصا (نسبة إلى عصا موسى) التي انتَصَبَت هنا، في إسرائيل، إنّه السيّد السائد". لا تَدَعوا أيّ شيء يحوّلكم. ذاك هو الإيمان.
لكَ الحديث الآن يا أندراوس.»
«ذاك هو الإيمان. أنا، صيّاد مسكين على بحيرة الجليل، وفي ليالي الصيد الصامتة، وعلى ضوء النجوم، كنتُ أُحاوِر نفسي بصمت. كنتُ أقول: "متى يأتي؟ هل أكون على قيد الحياة؟ ما زالت تفصلنا عنه بضعة سنوات، بحسب النبوءة". بالنسبة إلى الإنسان ذي الحياة المحدودة، حتّى بضعة عشرات مِن السنين هي بمثابة قُرون... كنتُ أتساءل: "كيف سيأتي؟مِن أين؟ مِمَّن؟" وإنسانيّتي الغليظة كانت تجعلني أحلم بروائع مَلَكيّة، ومساكن مُلوكيّة، مواكب وأجراس رنّانة، بِسُلطان وجَلال مَهيب... وكنتُ أقول: "مَن سيتمكّن مِن النَّظَر إلى هذا الـمَلِك العظيم؟" كنتُ أُفكّر أنّ هذه المظاهر ستكون مَدعاة لِرَهبة أعظم مِن الرَّهبة مِن يَهوه في طور سيناء.كنتُ أقول لنفسي: "لقد رأى العبرانيّون الشَّرَر يتطاير مِن الجبل، ولكنّهم لم يتحوّلوا إلى رماد، لأنّ الأزليّ كان وراء السُّحُب. إنّما هنا، فهو سينظر إلينا بعينين فانِيَتين، ونحن سوف نموت..."
كنتُ تلميذاً للمعمدان، وفي فترات الراحة مِن الصيد، كنتُ أمضي إليه مع بعض الرفاق. كان يوماً مِن مِثل هذا الشهر... ضفّتا الأردن كانتا مكتظّتين بالجموع التي ترتَعِد مِن كلام المعمدان. وكنتُ قد لاحظتُ شابّاً جميلاً وهادئاً آتياً إلينا عَبْر أحد الدروب. كان ثوبه متواضعاً، ومظهره مليئاً رِقّة. كان يبدو كَمَن يَطلُب ويَهِب الحبّ. ورَمَقَني بعينه الزرقاء، واختبرتُ شيئاً لم أَعُد أختبره مطلقاً. بدا لي وكأنّه يُداعِب نفسي، يُلامِسني بأجنحة ملائكة. وشعرتُ للحظة بأنّني بعيد جدّاً عن الأرض، مختلف جدّاً، حتّى إنّني قلتُ لنفسي: "الآن أموت! إنّه نداء الله لروحي".
ولكنّني لم أمت. بقيتُ مفتوناً في تأمُّل الشاب المجهول الذي، بدوره، نَظَرَ إلى المعمدان نظرة ثابتة. والمعمدان، بدوره، هَرَع إليه وانحنى. تبادلا الكلام. وبما أنّ صوت يوحنّا كان كالرعد على الدوام، فقد وَصَلَت الكلمات السرّية إلى سَمعي، أنا الذي كنتُ أُنصِت، تدفعني الرغبة في معرفة الشاب المجهول. كانت نفسي تشعر أنّه مُختَلف عن الجميع. كانت الكلمات تقول: "أنا مَن ينبغي لي أن أعتمد منكَ...". "دعني الآن وما أفعل، فهكذا يَحسن بنا أن نُتمَّ كلّ برّ"...
وكان يوحنّا قد قال سابقاً: "سيأتي مَن لستُ أهلاً لأنّ أحُلَّ سير حذائه". وكان قد قال قبلاً: "بينكم، في إسرائيل، مَن لا تعرفونه. وهو الآن يحمل الـمِذرى بيديه ويُنقِّي بيدره، وأمّا التبن فيحرقه بناره التي لا تُطفأ".
كان أمامي شاب مِن عامّة الشعب، بمظهره الرقيق والمتواضع، ومع ذلك أحسستُ ما يكون ذاك الذي لم يكن قدّيس إسرائيل وآخر أنبيائها والسابق، أهلاً لأن يَحلّ سير نعليه. أحسستُ ما يكون ذاك الذي لم نكن نعرفه. ولكنّني لم أخف. ولكن، على النقيض مِن ذلك، عندما قال يوحنّا، بعد صوت رعد الله الفاتن، وبعد سنى النور الذي لا يمكن تصوّره على شكل حَمَامة سلام: "هو ذا حَمَل الله"، أنا، بواسطة صوت نفسي، في غبطة إحساسي الداخليّ أنّ هذا الشاب الرقيق المتواضع المظهَر هو الـمَلِك مَسيّا، هَتَفتُ مع صوت روحي: "إنّي أؤمن!" وبهذا الإيمان أنا خادمه. فكونوا أنتم كذلك وسيكون لكم السلام.
متّى، لكَ أن تَروي أمجاد الربّ الأخرى.»
«أنا، لا يمكنني استخدام عبارات أندراوس الطليقة. فهو كان بارّاً وأنا كنتُ خاطئاً. وكذلك ليس لكلامي نبرة فرح جوّ العيد، إنّما مع ذلك فيه سلام نشيد مُستكين.
كنتُ خاطئاً، خاطئاً كبيراً. كنتُ أعيش في كامل الخطأ. كنتُ متصلّباً ولم أكن أحسّ بانزعاج. وإذا ما أثارني الفرّيسيّون أو رئيس المجمع يوماً بإهاناتهم أو اتّهاماتهم، مُذكِّرين إيّاي بإله ديّان قاسٍ لا يرحَم، كنتُ أُصاب بلحظة هَلَع... ثمّ كنتُ أُجامِل نفسي بالفكرة الحمقاء القائلة: "على كلّ الأحوال أنا مُدان. فلنتلذّذ يا أحاسيسي، طالما الظروف مؤاتية". وكنتُ أغرق أكثر مِن ذي قبل في ظُلُمات الخطيئة.
منذ ربيعَين، قَدِم مجهول إلى كفرناحوم. وقد كان مجهولاً بالنسبة إليَّ كذلك. وكذلك بالنسبة إلى الجميع، لأنّ رسالته كانت في بدايتها. بعض الرجال فقط كانوا يعرفون حقيقته. الذين تَرونَهم وبِضعة آخرون. دُهِشتُ لرجولته المتّسمة بعفاف يفوق عفاف العذارى. وهذه كانت الصفة الأولى التي استرعت انتباهي. كنتُ أراه صارماً ومع ذلك هو جاهز تماماً للاستماع إلى الأطفال الذين كانوا يأتون إليه، كما يأتي النحل إلى الزهور. وقد كانت تسليته الوحيدة ألعابهم البريئة وعباراتهم الخالية مِن المكر. ثمّ أدهشني سلطانه. كان يَجتَرِح المعجزات. وكنتُ أقول لنفسي: "إنّه مُعزّم (طارد للأرواح الشرّيرة)، هو قدّيس". ولكنّني كنتُ أشعر بالرهبة أمامه، حتّى إنّني كنتُ أَفرّ منه.
هو كان يبحث عنّي، أو إنّ هذا كان انطباعي. لم يكن ليمرّ مرّة مِن أمام مكتبي إلّا ويَنظُر إليَّ بعينه الوديعة والحزينة قليلاً. وفي كلّ مرّة كنتُ أُحِسّ وكأنّ انتفاضة في ضميري المخدَّر، الذي لم يكن ليعود بعدها إلى مستوى الخدر ذاته.
وذات يوم -وكان الناس يُشيدون بكلامه على الدوام- شعرتُ بالرغبة في الاستماع إليه. واستمعتُ إليه يتحدّث إلى مجموعة صغيرة مِن الناس، بينما كنتُ مختبئاً خلف أحد البيوت. كان يتحدّث، بلا تَكلُّف، عن المحبّة التي هي بمثابة الغفران لخطايانا... واعتباراً مِن مساء ذلك اليوم، أنا الذي كنتُ جَشِعاً، وقاسي القلب، رغبتُ في أن أنال المسامحة مِن الله على خطاياي الكثيرة. وكنتُ أقوم بالأعمال في الخفاء... إنّما هو فقد كان يَعلَم أنّني أنا الفاعل، ذلك أنّه عالِـم بكلّ شيء. وفي مرّة أخرى، سمعتُهُ يشرح الفصل 52 مِن سفر إشَعياء: كان يقول إنّ في ملكوته، أورشليم السماويّة، لن يكون هناك مُنجَّسون أو أناس قلبهم غير مطهَّر. وكان يَعِد بهذه المدينة السماويّة، التي كان يَسرد جمالاتها، كلّ الذين يأتون إليه، وكلامه كان مقنعاً لدرجة أن اجتاحني الحنين إليها.
وثمّ... وثمّ... آه! في ذلك اليوم لم تكن نظرته حزينة، بل نظرة آمِرة، مَزَّقَت قلبي وعَرَّت نفسي وكَوَتها، أَخَذَتها بيدها، تلك النَّفْس المريضة، وأَنهَكَتها بحبّها المتطلّب... وأَضحَت لي نَفْس جديدة. ومضيتُ إليه بندامة ورغبة. ولم ينتظر حتّى أقول له: "الرحمة يا ربّ!" بل قال لي هو: "اتبعني!"
وانتَصَر العذب في قلب الخاطئ على الشيطان. وليُقَل لكم ذلك، إذا كان بينكم مَن هو مُضطَرِب بسبب خطاياه، إنه هو الـمُخلِّص الصالح الذي يجب عدم الفرار منه، بل بقدر ما يكون المرء خاطئاً، بقدر ذلك عليه التوجّه إليه بتواضع وندم لينال المغفرة.
لكَ الكلام الآن يا يعقوب بن زَبْدي.»
«في الحقيقة لستُ أعرف ماذا أقول. لقد تحدّثتم وقلتم ما كنتُ سأقوله، فتلك هي الحقيقة ولا يمكن تغيير شيء فيها.
أنا كذلك كنتُ مع أندراوس في الأردن، ولكنّني لم أُلاحِظه قبل أن يُشير إليه المعمدان. أنا أيضاً آمنتُ في الحال. وعندما مضى هو، بعد ظهوره الساطع، بقيتُ أنا كَمَن يَعبُر مِن قمّة مشمسة إلى سجن مظلم. كنتُ أتحرّق لملاقاة الشمس مجدّداً. كان العالم يبدو محروماً مِن كلّ نور منذ أن ظَهَرَ لي نور الله ثمّ اختفى. كنتُ وحيداً وسط الناس. وكنتُ جائعاً بينما أنا أشبع. وأثناء النوم كنتُ أسهر مع أفضل جزء مِن ذاتي، والمال والمهنة والمشاعر جميعها كانت تنأى خلف تلك الرغبة الحارّة به التي كانت تجتاحني، تنأى كثيراً، ولم تكن لتشدّني بأيّ شكل مِن الأشكال. وكطفل فَقَدَ أُمّه، كنتُ أنوح: "عُد يا حَمَل الربّ! يا أيّها العليّ، كما أرسلتَ روفائيل ليقود طوبيا، أرسِل ملاككَ ليقودني على طُرُق الربّ لكي أجده، لكي أجده، لكي أجده!"
ومع ذلك، بعد عشرات مِن أيّام الانتظار بلا جدوى، البحث بقلق، الأيّام التي بعدم جدواها، كانت تجعل فقدان يوحنّانا أكثر ألماً، وقد توقّف للمرّة الأولى، عندما ظَهَرَ، عائداً مِن القفر، وأنا، لم أعرفه حالاً.
وهنا، أيّها الإخوة في الربّ، أريد أن أُعلِّمكم طريقة أخرى للمضي إليه والتعرّف عليه.
سمعان بن يونا قال بوجوب الإيمان والتواضع للتعرّف عليه. سمعان الغيور عاد ليؤكد ضرورة الإيمان المطلقة للتعرف على يسوع الناصريّ الذي هو في السماء وعلى الأرض، كما قيل. وسمعان الغيور كان في حاجة إلى إيمان عظيم ليحصل كذلك على الرجاء مِن أجل جسده المبتلى بداء لا علاج له. لذلك قال سمعان الغيور إنّ الإيمان والرجاء هما الوسيلتان اللازمتان للحصول على ابن الله. يعقوب أخو الربّ، تحدَّثَ عن سلطان القوّة للحفاظ على ما وَجَدنا. القوّة التي تَحول دون الوقوع في فخاخ العالم والشيطان التي تهدف إلى زعزعة إيماننا. وقد أَظهَرَ أندراوس مدى الضرورة إلى توحيد التعطّش المقدّس للاستقامة والإيمان، مع محاولة معرفة الحقيقة والحفاظ عليها، مهما يكن الفم المقدّس الذي يُبشِّر بها، ليس بكبرياء بشريّ للظهور بمظهر العالِم، إنّما بالرغبة الصادقة بمعرفة الله. ومَن يتثقّف في الحقّ يَجِد الله.
متّى الذي كان خاطئاً، بيَّن لكم طريقاً أخرى للوصول إلى الله: التجرّد عن الشهوات بروح الاقتداء، أقصد بأن نعكس الله فينا، الطهارة اللامتناهية. وهو، الخاطئ، استرعى انتباهه، بادئ ذي بدء، "الرجولة العفيفة" للمجهول القادم مِن كفرناحوم، وكأنّ فيها سلطان إحياء عفّته الميتة، وبدأ بالامتناع عن الشهوة الجسديّة، مزيلاً بذلك العوائق مِن الطريق، استعداداً لمجيء الله وقيامة الفضائل الميتة الأخرى. ومِن العفّة، انتَقَلَ إلى الرحمة، ومنها إلى التوبة، وبعد التوبة، يسمو بكلّيّته ويَصِل إلى الاتّحاد بالله. "اتبعني". "أنا آتٍ". ولكنّ نفسه كانت قد سَبَقَت فقالت: "أنا آتية". وكان الـمُخلِّص قد قال: "اتبعيني"، وذلك منذ اللحظة التي، وللمرّة الأولى، كانت فضيلة المعلّم قد استرعت انتباه الخاطئ.
اقتدوا. ذلك أنّ كلّ تجربة للآخِر، حتّى ولو كانت مؤلمة، تقودنا إلى تحاشي الشرّ وإيجاد الخير في ذوي الإرادة الصالحة.
فأنا، في ما يخصّني، أقول: كلّما اجتَهَد الإنسان في أن يحيا بالروح، بقدر ذلك يكون قادراً على التعرّف على الربّ، وأنّ الحياة الملائكيّة تساعد على إنجاح ذلك إلى أقصى درجة. والذي تعرَّف عليه منّا، نحن تلاميذ يوحنّا، بعد غيابه، كانت النَّفْس البِكر. تعرَّف عليه حتّى أفضل مِن أندراوس، رغم أنّ الكفارة كانت قد غيَّرَت ملامح وجه حَمَل الله. أقول لكم إذن: "كونوا عفيفين لتتمكّنوا مِن التعرف عليه".
يوضاس، هل تريد التحدّث الآن؟»
«نعم. كونوا عفيفين لتتمكّنوا مِن التعرّف عليه. إنّما كونوا كذلك لتتمكّنوا مِن الاحتفاظ به فيكم، مع حكمته، مع حبّه، بذاته كلّها. وما يزال إشَعياء الذي يقول في الفصل 52: "لا تمسّوا نَجِساً... تطهَّروا يا حاملي آنية الربّ". في الحقيقة أنّ كلّ نَفْس أضحت تلميذة له تُشبه آنية ممتلئة مِن الله، والجسد الذي يحويها هو كَمَن يحمل إلى الله الآنية المقدّسة. ولا يمكن أن يمكث الله حيث النجاسة.
لقد قال متّى كيف كان الرب يَشرَح أنّ لا شيء نَجِس ولا شيء يَفصل عن الله في أورشليم السماويّة. نعم. ولكن يجب ألّا يكون المرء نَجِساً هنا في هذه الدنيا، ولا بعيداً عن الله، كي يتمكّن مِن الدخول إليها. بِئس مَن ينتظر الساعة الأخيرة كي يتوب. هؤلاء لا يتسنّى لهم الوقت دائماً ليفعلوا. كأولئك الذين يَفتَرون عليه الآن، فلن يتسنّى لهم الوقت لاستعادة صفاء القلب لحظة انتصاره، ولن يتمتّعوا بثماره.
الذين يتأمّلون أن يَروا في الـمَلِك القدّيس المتواضع عاهلاً أرضيّاً، وأكثر منهم الذين يَخشُون أن يَروا فيه مَلِكاً أرضيّاً، هؤلاء لن يكونوا مستعدّين لتلك الساعة، ولكنّهم يغوصون أكثر في حمأة الخطيئة، محمولين على ارتكاب الأخطاء، وخائبي الأمل في فكرهم الذي ليس هو فِكر الله، بل هو مجرّد فِكر بشريّ مسكين.
تَنازَلَ وتَواضَعَ ليُصبح الإنسان، وعلينا أن نتذكّر ذلك. يقول إشَعياء إنّ خطايانا كلّها تمسّ الشخص الإلهيّ المتقشّف في مظهر عامّ. عندما أُفكّر أنّ ما يحيط بابن الله، كقشرة نجسة، هو بؤس الإنسانيّة كلّه مُذ وُجِدَت، أُفكِّر بإشفاق عميق وتَفهُّم عميق بالألم الذي يُفتَرَض أن تكون نَفْسه التي بلا دَنَس تتحمّله. نفور رجل سليم يَجِد نفسه مغطّى بأسمال ونجاسة أبرص. ففي الحقيقة إنّ خطايانا قد طَعَنَته، وشهوات الإنسان أثخَنَته جِراحاً. أمّا نَفْسه التي تحيا فيما بيننا، فإنّها تَرتَعِد لهذا التماسّ، كما لو كان يختبر الاشمئزاز مِن الحرارة.
مع ذلك هو لا يتكلّم. هو لا يتكلّم ليقول: "إنّكم تُصيبونني بالهلع". إلّا أنّه لا يتكلّم إلّا ليقول: "هلمّوا إليَّ لأرفع عنكم خطاياكم". إنّه الـمُخلِّص. وفي صلاحه اللامتناهي، شاء إخفاء جماله الذي لا يُحتَمَل، جماله الذي، لو بدا لنا على حقيقته كما هو في السماء، لجعلنا نتحوّل إلى رماد، كما قال أندراوس. الآن هو جذّاب كَجَمال حَمَل وديع، لِيُقرِّبنا ويُخلِّصنا. إنهاكه، إدانته ستدوم حتّى إذا تلاشى بِفِعل الجُّهد لكونه الإنسان الكامل وسط الناس غير الكاملين، يقوم على رأس جماعة المفتدين، في انتصار مُلْكه المقدّس. الله الذي يذوق الموت ليهبنا الحياة!
فلتجعلكم هذه الأفكار تحبّونه فوق كلّ شيء. هو القدّوس. يمكنني قول ذلك، أنا الذي، مع يعقوب، قد نشأنا معه. أقول ذلك وسأقوله، وأنا على أتمّ الاستعداد لبذل حياتي مِن أجل التعريف به، ليؤمن به الناس وينالوا الحياة الأبديّة.
يوحنّا بن زَبْدي، لكَ الكلمة.»
«كم هما جميلتان على الجبال قَدَما الرَّسول! رسول السلام، قَدَما مَن يُعلِن السعادة ويُبشِّر بالسلام، مَن يقول لصهيون: "إلهكِ يسود!" وهاتان القَدَمان تسيران بلا كلل منذ سنتين عَبْر جبال إسرائيل، داعياً خِراف قطيع الله ليجمعها، معزّياً، شافياً، غافراً، مانحاً السلام، سلامه هو.
إنّني مُندَهِش بحقّ لرؤيتي الروابي لا تهتزّ فرحاً، ولا تتهلّل مجاري مياه الوطن سروراً، لرؤيتي القلوب لا تغتبط ولا تتهلّل فَرَحاً قائلة: "سبحان الله! ها قد أتى الموعود به! مُبارَك هو الآتي باسم الربّ!" مَن يَنثُر النِّعم والبركات، السلام والخلاص، ومَن يدعو إلى الملكوت بنا فاتحاً الدرب، مَن يَنثُر خاصّة الحبّ بكلّ أفعاله وكلامه، بكلّ نظراته وبكلّ نَفَس مِن صدره.
فما يكون إذن هذا العالم حتّى يظل أعمى أمام النور الذي في وسطنا؟ أيّة صفائح، لها مِن الكثافة ما ينوف عن الحَجَر الذي يُغلَق به القبر، حَبَسَت رؤية النَّفْس لكي لا ترى هذا النور؟ أيّ جبل مِن الخطايا يحمله، ليكون هكذا مُنهَكاً، معزولاً، أعمى، مصاباً بالصَّمَم، مُكبَّلاً بالسلاسل، مشلولاً، ليبقى متبلّداً أمام الـمُخلِّص؟
ما يكون الــمُخلِّص؟ إنّه النور الممزوج بالحبّ. أفواه إخوتي أجادت مديح السيّد، استذكار أعماله، الإشارة إلى الفضائل الواجب ممارستها للتوصّل إلى طريقه. أمّا أنا فأقول لكم: أحِبّوا. فما مِن فضيلة أعظم منها أو تشبهها في طبيعتها. إذا أحبّبتم، فستمارسون كلّ الفضائل دون عناء، ابتداء بالعفّة. ولن تَشعُروا بأيّ ثِقَل لتكونوا عفيفين، إذ في حبّكم ليسوع، لن تتجاوزوا الحدّ في حبّ أيّ كان. ستكونون متواضعين، لأنّكم سَتَرَون فيه، بعينيّ العاشق، كلّ كمالاته التي لا حدود لها، وهكذا لن تتكبّروا لفضائلكم الصغيرة جدّاً. ستكونون مؤمنين، ومَن لا يؤمن بِمَن يحبّه؟ سوف يحطّمكم الألم الذي يُخلِّص، ذلك أنّ ألمكم سيكون صادقاً، أي سيكون ألماً بسبب العذاب الذي تَسبَّبَ به له، وليس مِن أجل ما تستحقّون. ستكونون أقوياء. آه! نعم! يكون المرء قويّاً إذا كان متّحداً بيسوع! قويّاً في مواجهة كلّ شيء. ستكونون مفعمين بالرجاء لأنّكم لن تَشكّوا بقلب القلوب الذي يحبّكم مِن كلّ ذاته. ستكونون حكماء. ستكونون كلّ شيء. أَحِبّوا مَن يُعلِن السعادة الحقيقيّة، مَن يُبشِّر بالخلاص، مَن يمضي عَبْر الجبال والسهول يدعو قطيعه ليجمعه. على طريقه يوجد السلام، يوجد السلام في ملكوته الذي ليس مِن هذا العالم، ولكنّه حقّ كما الله حقّ.
اتركوا كلّ طريق ليست طريقه. تحرَّروا مِن كلّ ضباب. اذهبوا إلى النور. لا تكونوا مثل العالم الذي لا يريد أن يرى النور، الذي لا يريد أن يعرفه. ولكن اذهبوا إلى أبينا الذي هو أبو الأنوار، الذي هو نور بلا قياس، بواسطة الابن الذي هو نور العالم لتَنعَموا بالله في عِناق الباراقليط، الذي هو سطوع الأنوار في غبطة حبّ واحدة، توحّد الثلاثة في واحد. يا محيط الحبّ غير المحدود، البلا عواصف، البلا ظُلُمات، تَقبَّلنا! جميعنا! الأبرياء كما المهتدين. جميعنا! في سلامكَ! جميعنا! للأبد. جميعنا، على الأرض، حتّى نحبّكَ، أنتَ، الله، والقريب كما تشاء أنتَ. جميعنا، في السماء، حتّى نحبّ أيضاً وعلى الدوام، ليس فقط أنتَ وسكّان السماء، إنّما كذلك الإخوة الذين يجاهدون على الأرض في انتظار السلام، وكملائكة الحبّ، ندافع عنهم ونأخذ بيدهم في الصراع والتجارب، ليتمكّنوا فيما بعد من أن يكونوا معكَ في سلامكَ، مِن أجل مجد ربّنا الأزليّ، يسوع، الـمُخلِّص، المحبّ للإنسان إلى درجة التلاشي بلا حدّ والفائق.»
كالعادة، يوحنّا، بينما هو يسمو في تحليق الحبّ، يأخذ معه النُّفوس إلى حيث يتلاشى الحبّ وإلى الصمت الصوفيّ.
ولا يعود الكلام إلى شفاه الذين يسمعون إلّا بعد حين. والمتكلّم الأوّل هو فليبّس موجِّهاً كلامه إلى بطرس: «ويوحنّا (الذي مِن عين دور)، المعلّم، أفلا يتكلّم؟»
«سوف يكلّمكَم على الدوام عِوَضاً عنّا. أمّا الآن، دعوه في سلامه ودعونا قليلاً معه. أنتَ، يا سابا، افعل ما قُلتُه لكَ سابقاً. وأنتِ كذلك يا بيرينيس الطيبة...»
يَخرُج الجميع، تاركين الثمانية مع الاثنين في الغرفة.
رانَ صَمت رهيب. وقد شحبّ الجميع، الرُّسُل، لأنّهم يَعلَمون ما الذي سيجري، والتلميذان، لأنّهما يتوقَّعان.
يُبادِر بطرس بالكلام، ولكنّه لا يقول سوى: «لِنُصلِّ»، وأَنشَدَ "الأبانا". ثمّ، وهو شاحبّ كما قد لا يَشحبّ يوم موته، يقول، بينما يتوجّه إلى الاثنين واضعاً اليد على الكتف: «إنّها ساعة الوداع، وَلَديَّ. ماذا ينبغي لي أن أقول للسيّد باسمكما؟ له هو الذي يَنتَظِر بفارغ الصبر أخبار قداستكما؟»
تجثو سِنْتيخي مُغطّية وجهها بيديها، ويَفعَل يوحنّا مثلها. وإذ هما عند قدميّ بطرس، الذي يُلاطِفهما بشكل عفويّ بيده، بينما هو يعضّ على شفتيه كي لا ينقاد للانفعال.
يَرفَع يوحنّا الذي مِن عين دور وجهه الذي مَزَّقه الانفعال ويقول: «ستقول للمعلّم إنّنا نُتمِّم مشيئته...»
وسِنْتيخي: «فليساعدنا كي نُتمِّمها حتّى النهاية...»
ولكنّ الدموع تمنعهما مِن إطالة جُمَلهما.
«حسناً. فلنتبادل قبلة الوداع. ينبغي لهذه الساعة أن تحين...» يتوقّف بطرس كذلك وقد خَنَقَته العَبرات.
«بارِكنا أوّلاً.» تَطلب منه سِنْتيخي.
«لا. ليس أنا، بل يُفضَّل أن يكون أحد إخوة يسوع...»
«لا، بل أنتَ الرئيس. أمّا نحن فإنّنا نُبارِكهما بِقُبلة. بارِكنا جميعاً، المغادِرين منّا والمقيمين» يقول تدّاوس وهو يجثو أوّلاً.
وبطرس، بطرس المسكين، الذي يكسوه الاحمرار، بسبب الجهد الذي يبذله ليعطي الثّبات لصوته وتأثُّره، بينما هو يُبارِك الجمع الصغير الذي أمامه، ويداه مبسوطتان، يتلو بصوته الذي يجعله الألم أكثر غلاظة، يكاد يكون صوت عجوز، البركة الموسوية…
ثمّ ينحني ليطبَع على جبهة المرأة قُبلة كما لو كانت أخته، ويُنهِض يوحنّا ويُعانقه بحرارة، ويُقبِّله، و... ويَهرُب بشجاعة مِن الغرفة بينما يَفعَل الباقون ما فَعَلَه هو مع الاثنين الباقيَين…
في الخارج، أَصبَحَت العربة جاهزة. وليس معها سوى فليبّس وبيرينيس والخادم الذي يمسك بالحصان. بطرس أَصبَحَ الآن على العربة…
«قُل لمعلّمي أن يكون مطمئنّاً مِن جهة صديقيه اللذين عَهَد بهما إليَّ» يقول فليبّس لبطرس.
«قُل لمريم إنّني أختبر سلام أوكيريا منذ أن أَصبَحتُ التلميذة» تقول بيرينيس للغيور بهدوء.
«قولوا للمعلّم ولمريم وللجميع إنّنا نحبّهم وإنّنا... وداعاً! وداعاً! آه! لن نراهم بعد الآن! وداعاً أيّها الإخوة! وداعاً...»
ويَهرَع التلميذان إلى الخارج على الدرب... ولكنّ العربة التي انطلقت خَبَباً، قد تجاوَزَت الآن المنعطف... غابت…
«سِنْتيخي!»
«يوحنّا!»
«إنّنا بمفردنا!»
«الله معنا!... تعال يا يوحنّا المسكين. الشمس تغيب، وبقاؤكَ هنا قد يضرّ بكَ...»
«بالنسبة إليَّ لقد غابت الشمس إلى الأبد... ولن تُشرِق إلّا في السماء.»
يَدخُلان إلى الغرفة التي كانا فيها قبلاً مع الآخرين، ويرتميان على طاولة ويستسلمان للبكاء…
يقول يسوع:
«العذاب الذي سَبَّبه أحد الرجال، والذي لم يكن ليريده سِوى الرجل الشرّير، قد تمّ، إذ توقّف كما يتوقّف مجرى مياه في بحيرة بعد أن يكون قد أنهى مسيرته…
لقد جعلتُكِ تُلاحظين كيف أنّ يوضاس بن حلفى، رغم أنّه نَهَل مِن الحكمة أكثر مِن الآخرين، أعطى لِما كُتِبَ في إشَعياء عن آلام الفادي تفسيراً بشريّاً. وهكذا كانت إسرائيل كلّها، التي كانت ترفض قبول الحقيقة النبويّة، وتتأمّل النبوءات المتعلّقة بآلامي كرموز وتماثيل. وهذا هو الخطأ العظيم، الذي مِن أجله، ساعة الفِداء، قليلون جدّاً في إسرائيل عَرفوا أن يَروا مَسيّا في المحكوم عليه. الإيمان ليس مجرّد إكليل مِن الزهور، بل فيه أيضاً الأشواك. وقدّيس هو مَن يَعرف أن يؤمن في ساعات المجد، ولكن كذلك في ساعات المآسي، ويعرف أن يحبّ عندما يَكسوه الله بالزهور، إنّما كذلك عندما يُمدّده على الأشواك.