ج2 - ف70

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثاني / القسم الثاني

 

70- (يسوع في المدينة الساحليّة، يتلقّى رسائل تتعلّق بيونا)

 

11 / 02 / 1945

 

يسوع موجود في هذه المدينة الساحليّة الرائعة ذات الخليج الطبيعيّ الواسع والمحصّن جدّاً والقادر على استقبال سفن كثيرة، وقد أصبَحَ أكثر حصانة بسدّ الميناء المنيع. مِن المفروض أن يكون الجنود يستخدمونه، فأنا أرى مراكب ثُلاثيّة رومانيّة، والجنود فيها يُلاصِق الواحد الآخر، وهم يَنـزلون لـمُبادلة النّوبة، أو لدعم الموقع. المرفأ، أي المدينة الساحليّة، تُذكّرني بعض الشيء بنابولي التي يسودها جبل فيزوف (Vesuve).

 

يَجلس يسوع في منـزل فقير، قريب مِن الميناء، بيت صيّادي سمك بالتأكيد، قد يكون بيت أصدقاء لبطرس أو ليوحنّا، ذلك أنّني أرى أنّهم يأخذون راحتهم فيه، وكأنّهم وأصحابه عائلة واحدة. لستُ أرى الرَّاعي يوسف، ولا حتّى الاسخريوطيّ الذي ما يزال غائباً. يتحدّث يسوع بشكل ودّيّ مع أصحاب البيت وآخرين أتوا للاستماع إليه. ولكنّها ليست عِظة حقيقيّة. إنّه كلام يحمل نصائح وتشجيعاً، وحده يمكنه إعطاؤها.

 

يَدخُل أندراوس الذي يبدو أنّه كان قد خَرَجَ في مهمّة، ذلك أنّه يحمل في يديه أرغفة خبز. يعتريه احمرار وهو يَقتَرب، لأنّه يُفتَرَض أنّ لَفتَ الانتباه إليه يُسبّب له عذاباً حقيقيّاً. إنّه يُهمهِم بالحريّ أكثر مِن كونه يتكلّم: «يا معلّم، هل يمكنكَ أن تأتي معي؟ هناك بعض الخير تفعله. وأنتَ وحدكَ القادر على فِعله.»

 

يَنهَض يسوع دون أن يسأل ما هو هذا الخير الذي يعنيه. ولكنّ بطرس يَسأَل: «إلى أين تأخذه؟ إنّه تَعِب جدّاً، وقد حان وقت العشاء. ألا يمكنهم الانتظار إلى الغد؟»

 

«لا... ينبغي فِعله حالاً. إنّه...»

 

«تكلّم إذن أيّها الغزال المذعور، ولكن انظروا إذا كان يُفتَرَض برجل طويل عريض مثله أن يكون هكذا! وكأنّي به سمكة صغيرة عَلقت في الشِّباك!»

 

يزداد أندراوس احمراراً، ويُدافِع عنه يسوع وهو يشدّه إليه: «يعجبني أنا كما هو. دعه وشأنه. إنّ أخاكَ يشبه ماء مفيداً للصحّة، يَعمَل في العمق ودون جَلَبَة. وينبع مِن الأرض مثل خيط رفيع، إنّما الذي يدنو منها يَبرَأ. هيّا بنا يا أندراوس.»

 

«أنا أيضاً آتي. أودُّ رؤية إلى أين يأخذكَ.» يُجيب بطرس.

 

يَتوسّل أندراوس: «لا، يا معلّم. أنتَ وأنا فقط. إذا ما وُجِد أحد غيرنا فلا يمكن... إنّها مسألة قلب...»

 

«ما هذا؟ أصبَحتَ الآن تلعب دور نظير الحوريّة! Paranymphe (الحوريّة: آلهة المياه والغابات)»

 

لا يردّ أندراوس على أخيه، بل يقول ليسوع: «إنّه رجل يريد أن يُطلّق امرأته، و... أنا تكلّمتُ. لا أعرف كيف أتصرّف. إنّما لو تكلّمتَ أنتَ... آه! أنتَ سوف تنجح، فالرجل ليس شرّيراً. إنّه... إنّه... في النهاية هو سيشرح لكَ.»

 

يَخرُج يسوع مع أندراوس دون أن يقول شيئاً. يبقى بطرس متردّداً قليلاً، ثم يقول: «ولكنّني سأذهب إلى هناك، أريد أن أرى، على الأقلّ، إلى أين يذهبان.» ويَخرُج على الرغم مِن أنّ الآخرين يقولون له ألّا يفعل.

 

يَنعَطِف أندراوس عبر درب ضيّقة، ويتبعه بطرس. وينعطف مِن جديد صوب ساحة صغيرة مزدحمة بالثرثارين. وما زال بطرس يتبعه. يمرّ عبر بوّابة عربات تؤدّي إلى فناء واسع تُحيط به بيوت وَضيعة وفقيرة. أقول بوّابة عربات لأنّ قَوساً يَعلوها ، ولكنّها ليست سوى ممرّ. وما يزال بطرس يتبعه. يَدخُل يسوع مع أندراوس إلى واحد مِن هذه البيوت الصغيرة، ويقف بطرس خارجاً. تَراه امرأة وتسأله: «هل أنتَ من أقارب آڤا [Aava]؟ وهذان الشخصان أيضاً؟ هل أتيتُم لاستعادتها؟»

 

«اصمتي أيّتها الدَّجاجة الثرثارة! يجب ألّا يَرَياني.»

 

إسكات امرأة! عمليّة صعبة. يرميها بطرس بنظرة تَقدَح شَرَراً، وهي مُزمِعة على أن تُكلّم ثرثارات أُخريات. وفي خلال لحظة أحاطَت ببطرس دائرة مِن النساء والأطفال وحتّى الرجال الذين، لكي يَفرضوا الصمت بدورهم، يُحدِثون ضوضاء تُعلِن وجودهم. ويستشيط بطرس غيظاً... ولكنّه لا ينجح.

 

ومِن الداخل يأتي صوت يسوع الممتع والهادئ، وفي نفس الوقت، صوت المرأة المتكسّر وصوت رجل قاس وأَجَشّ: «إذا كانت زوجة صالحة على الدوام، فلماذا تُطلّقها؟ هل قَصَّرَت يوماً معكَ؟»

 

«لا، يا معلّم، أُقسِم لكَ! لقد أحببتُه مثل حَدَقَة عيني.» تئنّ المرأة.

 

يقول الرجل، وبشكل مُختَصَر وقاس: «لا. لم تُقَصِّر بشيء أبداً لولا عقمها. وأنا أريد أطفالاً. لا أريد لعنة الله على اسمي.»

 

«إذا كانت امرأتكَ على هذه الحال، فهذه ليست غلطتها.»

 

«إنّه يتّهمني بخطيئة ارتَكَبتُها أنا وعائلتي، ويَجِد فيها خيانة...»

 

«أيّتها المرأة، كوني صادقة. هل كنتِ تَعلَمين مسبقاً أنّكِ هكذا؟»

 

«لا. وما زلتُ، في كلّ شيء، ككلّ النساء الأُخريات. والطبيب نفسه قال ذلك. ولكنّني لم أتوصّل لأن يكون لديَّ طفل.»

 

«انظر، هي لم تخنكَ. ومع ذلك فهي تعاني أيضاً مِن ذلك. أَجِبني أنتَ بصراحة. لو كانت أُمّاً، هل كنتَ سَتُطَلِّقها؟»

 

«لا، أُقسِم. ليس لديَّ أيّ مُبرّر. ولكنّ الرابّي قال، وأيضاً الكاتب: "العاقر، في البيت، لعنة مِن الله. ولكَ الحقّ، بل عليكَ واجب إعطائها ورقة طلاقها، لئلّا تأتي بالضرر على رجولتكَ، بحرمانكَ مِن الأطفال". وأنا أفعل ما تقوله الشريعة.»

 

«لا. اسمع. الشريعة تقول بألّا ترتكب الفحشاء، وأنتَ مُزمِع على ارتكابها. الوصيّة المعطاة في الأصل هي هذه، وليست سواها. وإذا سَمَحَ لكم موسى بالطلاق، فلقسوة قلوبكم، وكان ذلك ليمنع الارتباطات المنافية للأخلاق والمساكنات دون زواج التي يمقتها الله. ثمّ بَسَطَت رذيلتكم بنود موسى أكثر فأكثر، حتّى الحصول على السلاسل اللاإنسانيّة، والصخور القاتلة، التي هي الشروط الحاليّة المفروضة على المرأة، الضحيّة دائماً لسيطرتكم ولشهواتكم، لصممكم ولِعَمى عواطفكم. أقول لكَ إنّ فِعل ما تنوي فِعله غير مسموح لكَ به. فهذا الفِعل إهانة لله. هل طَلَّق إبراهيم سارة؟ ويعقوب راحيل؟ وألقانة حنّة؟ ومنواح زوجته؟ هل تَعرِف المعمدان؟ نعم؟ إذن أفلم تكن أُمّه عاقراً حتّى شيخوختها قبل ولادتها لقدّيس الله، مثلما وَلَدَت زوجة منواح شمشون، وحنّة التي لألقانة صموئيل، وراحيل يوسف، وسارة إسحاق؟ إنّ لِعفّة الزوج ورحمته بالعاقر ووفائه لعهوده ما يجعل الله يَمنَح مكافأة. مكافأة مُطوَّبة عبر الأجيال، كما يجعله يَمنَح الابتسامة للعاقر الباكية التي لم تعد عاقراً ولا مُحتَقَرَة، بل مُمجَّدَة في فرح الأمومة. فإهانة حبّ زوجتكَ، غير مسموح لكَ به. كُن عادلاً ونزيهاً. والله يمنحكَ مكافأة تتجاوز استحقاقاتكَ.»

 

«يا معلّم، إنكَ الوحيد الذي يقول هذا... أنا لم أكن أعرف. كنتُ قد سألتُ الفقهاء وقالوا لي: "افعل ذلك". ولم أسمع كلمة عن مكافأة الله بالنِّعَم للسلوك الصالح. إنّنا بين أيديهم... وهم يُغمِضون لنا عيوننا وقلبنا بيد مِن حديد. أنا لستُ شرّيراً، يا معلّم. لا تحتقرني.»

 

«لستُ أحتقركَ، لكنّكَ تثير شفقتي أكثر مِن هذه المرأة الباكية، لأنّ ألمها ينتهي مع حياتها. إنّما حينذاك يبدأ ألمكَ وإلى الأبد. فَكِّر في ذلك.»

 

«لا، لن يبدأ، لستُ أبتغيه. إنّما هل تُقسِم لي بإله إبراهيم أنّ ما تقوله هو الحقيقة؟»

 

«أنا الحقّ والمعرفة. مَن يؤمن بي يَنَل في ذاته الاستقامة والحكمة والحبّ والسلام.»

 

«أودُّ أن أُصدّقكَ، نعم أريد أن أُصدّقكَ. أَحسَب وكأنّ بكَ شيئاً غير موجود لدى الآخرين. وها أنا ذا الآن أذهب إلى الكاهِن لأقول له: "لن أُطَلِّق. إنّني أَحتَفِظ بها وأَطلُب مِن الله فقط أن يساعدني في تخفيف ألم إحساسي بأنّني بلا وَلَد". لا تبكي يا آڤا [Aava]. سنطلب مِن المعلّم أن يعود إلينا لأكون صالحاً، وأنتِ... استمرّي في حبّي.»

 

تبكي المرأة بأكثر حِدّة وهي في مواجهة ألمها الماضي بفرحها الحاضر.

 

أمّا يسوع، فعلى العكس، إنّه يبتسم: «لا تبكي. انظري إليَّ. انظري إليَّ أيّتها المرأة.»

 

تَرفَع رأسها وتَنظُر، عبر دموعها، إلى وجه يسوع النيّر.

 

«هلمّ أيّها الرجل قُرب زوجتكَ واركَعا، والآن أبارككما وأبارك اتّحادكما وأُقدّسه. أَصغِيا: "أيّها الربّ إله آبائنا، يا مَن جَبَلتَ آدم مِن الطين، وأعطيتَه حواء رفيقة لِيُعمّرا، مِن أجلكَ، الأرض، رافعاً إيّاهما في المخافة المقدّسة. هلمّ مع رحمتكَ وبركتكَ، وافتَح وأَخصِب الأحشاء التي جَعَلَها العدوّ مُغلَقَة ليحملها على ارتكاب خطيئة مُضاعَفَة: الزّنا واليأس. ارحم هذين الابنين، أيّها الآب القدّوس، الخالِق الأسمى، اجعَلهُما سعيدين وقدّيسين، فتُخصِب هي مثل كَرمَة، وهو حاميها مثل دعامة يَسندها. انزل أيّها الحياة، لِتَهِب الحياة. انزل أيّها النار لتُدفئ. انزل أيّها القَدير لِتَعمَل. انزل! واجعل، مِن أجل الاحتفال بمجد المواسم الخصيبة للعام الآتي، أن يُقَدِّما لكَ باقتهما الحيّة، بِكرهما، ابناً مُكرَّساً لكَ، أنتَ الأزليّ الذي يُبارِك الذين يرجونكَ".» يسوع يصلّي بصوت جهير، ويداه موضوعتان على الرأسين المنحنيين.

 

لم يعد الناس يتمالكون أنفسهم، ويحيطون به، وبطرس في الصف الأوّل.

 

«انهضا. آمِنا وكُونا قدّيسَين بارَّين.»

 

«آه! امكث أيّها المعلّم.» يَطلُب الـمُتصالِحان.

 

«لا أستطيع. سوف أعود. مرّات كثيرة، كثيرة.»

 

«امكث، امكث وحَدِّثنا!» يصيح الجميع.

 

ولكنّ يسوع يُبارِك دون توقّف. يَعِد بأن يعود قريباً، ويتبعه جمع قليل، ويمضي إلى البيت الذي يضيفه.

 

«أيّها الفضوليّ: ماذا تراني أفعل بكَ؟» يوجّه سؤاله إلى بطرس في الطريق.

 

«ما تريد. وفي انتظار ذلك لقد حَضَرتُ...»

 

يَدخُلون البيت، يَصرفون الشعب الذي يُعَلِّق على الكلام الذي سَمِعَه، ويَجلسون إلى المائدة.

 

ما يزال بطرس فضوليّاً: «يا معلّم، هل حقيقة أنّهما سيُرزَقان بطفل؟»

 

«هل رأيتَني يوماً أَعِد بأمور لن تتحقّق؟ هل يبدو لكَ أنّني أستطيع السماح لنفسي بالقيام بمناجاة الآب لأكذب وأُخيّب الآمال؟»

 

«لا... ولكن... هل يمكنكَ فِعل ذلك مع كلّ الأزواج؟»

 

«أستطيع ذلك، ولكنّني لا أفعله إلّا حيث أرى أن الطفل يمكنه المساهمة في التقدّم في طريق القداسة. ولا أفعله حيث يكون عائقاً.»

 

يُمرّر بطرس يده في شعره الذي يَخطّه الشَّيب.

 

ولكن ها هو ذا يوسف الرَّاعي، يغطّيه الغبار وكأنّه آتٍ مِن مسير طويل.

 

«أنتَ؟ كيف ذلك؟» يَسأَل يسوع، بعد تقبيله قُبلة السلام.

 

«لديَّ رسائل لكَ أعطَتنيها أُمّكَ. إحداها منها هي. ها هي ذي.» ويَدفَع يوسف بثلاث لفافات صغيرة مِن نوع مِن الرقّ، كلّ منها مربوطة بشريط. الأكبر حجماً عليها خاتم مكان الإغلاق. أخرى شريطها معقود فقط. أمّا الثالثة فعلى شريطها خاتم مكسور. «هذه هي التي مِن أُمّكَ.» يقول يوسف، مشيراً إلى ذات العقدة.

 

يَفتَحها يسوع ويقرأها على مهل في البداية، ثمّ بصوت عال. «إلى ابني الحبيب، سلاماً وبَرَكَة. لقد وَصَلَني في الساعة الأولى لهلّة قمر أيلول (سبتمبر)، رسول مِن بيت عنيا. وقد كان الرَّاعي إسحاق الذي أعطيتُه قُبلة السلام والتشجيع باسمكَ وبحسب معرفتي. ولقد جَلَبَ لي هاتين الرسالتين اللتين أُرسِلهما لكَ، قائلاً لي شفويّاً إنّ الصديق لعازر الذي مِن بيت عنيا يرجوكَ النـزول عند رجائه. يا يسوع الحبيب، ابني المبارك وربّي، أودُّ أن أسألكَ بإلحاح أمرين: الأوّل تذكيركَ بأنّكَ وَعَدتَني بأخذ أُمّك المسكينة لتثقيفها بكلمتكَ؛ والثاني ألّا تأتي إلى الناصرة دون إخباري مسبقاً.»

 

يتوقّف يسوع فجأة، ويَنهَض متوجّهاً إلى ما بين يعقوب ويوضاس، يضمّهما بشدّة بين ذراعيه، وينتهي بأن يُردّد الكلمات عن ظَهر قلب: «"لقد عاد حلفى إلى أحضان إبراهيم عند آخر بدر، وكان المأتم في البلدة عظيماً..."»

 

ويبكي الابنان على صدر يسوع. ويُنهي: «"... في ساعته الأخيرة طَلَبَكَ ولكنّكَ كنتَ بعيداً. مع ذلك، فهذا عزاء لمريم التي رأت في ذلك التأكّد مِن مسامحة الله ومنحه السلام حتّى إلى أولاد الأخ". هل تَسمَعون؟ إنّها هي التي تقول، وهي تعرف ماذا تقول.»

 

«أعطِني الرسالة.» يتوسّل إليه يعقوب.

 

«لا، فهي تُسبّب لكَ الألم.»

 

«لماذا؟ ماذا يمكنها أن تحمل مِن الألم أكثر مِن نبأ موت أب؟...»

 

«أنّه لَعَنَنا.» يتنهّد يوضاس.

 

«لا، ليس هذا.» يقول يسوع.

 

«تقول هذا لكي لا تُحزِننا. إنّما هو بالطبع هكذا.»

 

«اقرأ إذن.»

 

ويقرأ يوضاس: «"يا يسوع، إنّني أرجوكَ، وكذلك مريم ترجوكَ ألّا تأتي إلى الناصرة إلّا بعد انتهاء المأتم. فحُبّ الناصريين لحلفى يجعلهم مُجحِفين بحقّكَ، وأُمّكَ تبكي لذلك. صديقنا الطيّب حلفى يواسيني ويُهدّئ البلد. إنّ رواية إسماعيل وأَشِير عن امرأة خُوزي قد أثارت ضجّة كبيرة. ولكنّ الناصرة الآن بحر هائج برياح معاكسة. أباركك يا بني، وأسألكَ لنفسي السلام والبركة. سلامي لأبناء الأخ. أُمّكَ".»

 

يُعلّق الرُّسُل ويُواسُون الأَخَوَين الباكِيَين. ولكنّ بطرس يقول: «وهاتان الرسالتان ألا تقرأهما؟»

 

يُشير يسوع بنعم، ويَفتَح رسالة لعازر. ينادي سمعان الغيور ويقرآن معاً في إحدى الزوايا. ثمّ يَفتَحان اللفافة الأخرى ويقرآنها كذلك. يتناقشان فيما بينهما. أرى الغيور يحاول إقناع يسوع بأمر ما، ولكنّه لا يُفلِح.

 

يأتي يسوع إلى وسط الغرفة واللفافات بين يديه ويقول: «اسمَعوا أيّها الأصدقاء. إنّنا بأجمعنا نُشكّل عائلة واحدة ولا أسرار بيننا. بالنسبة للشرّ، فَمِن الرحمة أن يبقى خَفيّاً، أمّا الخير فَمِن العدل إعلانه. اسمَعوا ما كَتَبَ لعازر مِن بيت عنيا: "إلى الربّ يسوع، سلاماً وبركة. سلاماً وتحيّة لصديقي سمعان. لقد تلقّيتُ رسالتكَ، وبصفتي خادماً، فقد وضعتُ في خدمتكَ قلبي وكلمتي وكلّ وسائلي، لأرضيكَ وأنال شرف أن أكون لكَ خادماً لا يكون عديم النفع. لقد ذهبتُ إلى دوراس، في قصره في اليهوديّة، لأرجوه بيعي خادمه يونا، كما تَرغَب. أَعتَرف أنّي، لولا رجاء سمعان، صديقكَ الوفيّ، لم أكن لأجابه ابن آوى هذا، الساخر والخطير والمؤذي. إنّما مِن أجلكَ أنتَ، يا معلّمي وصديقي، أُحِسُّني قادراً على مجابهة الشيطان شخصيّاً. أظنّكَ قريباً جدّاً مِن الذين يعملون مِن أجلكَ. وبالنتيجة، فأنتَ تحميهم. بالتأكيد قد نلتُ العون، إذ بكلّ التوقّعات، قد انتصرتُ. النقاش كان قاسياً، والرفض، في البدء، مخزياً. ولقد اضطررتُ للرضوخ ثلاث مرات لهذا الشَّرطيّ ذي السُّلطان. بعد ذلك طَلَبَ مهلة. وفي النهاية، ها هي ذي الرسالة. هي خليقة بثعبان. وأنا بالكاد لديَّ الشجاعة لأقول لكَ: "تَنازَل لتتوصّل إلى تحقيق الهدف". فهو لا يستحقّ أن يحظى بكَ. إنّما لا شيء ممكن بغير هذا. لقد قَبِلتُ باسمكَ ووقّعتُ. لو كنتُ مخطئاً في تصرّفي، وَبِّخني. إنّما ثِق تماماً: لقد بذلتُ ما في وسعي لأخدمكَ. بالأمس أتى أحد تلاميذكَ، وهو يهودي، قائلاً إنّه أتى باسمكَ ليعرف ما إذا كانت هناك أخبار يحملها لكَ. اسمه يهوذا الاسخريوطيّ. ولكنّني فَضَّلتُ انتظار إسحاق لأبعث لكَ بالرسالة. ولقد دُهِشتُ لإرسالكَ شخصاً آخر، مع عِلمكَ بأنّ إسحاق يأتي إليَّ كلّ سبت للاستراحة. لا شيء آخر أقوله لكَ. أُقَبِّل، فقط، قدميكَ المقدّستين. أرجوكَ توجيههما صوب خادمكَ وصديقكَ لعازر كما وَعَدتَ. تحيّاتي لسمعان. لكَ يا معلّمي وصديقي قُبلة سلام ورجاء وبَرَكَة. لعازر".

 

والآن، ها هي ذي الأخرى: "إلى لعازر، تحيّة. لقد قرّرتُ أن يكون يونا لكَ مقابل قيمة مُضاعَفة. حينئذ أفرض هذه الشروط التي لن أُبَدِّلها لأيّ سبب كان. أريد أولاً أن ينهي يونا حصاد العام، أي أن يبقى حتّى قمر تشرين، إلى نهاية القمر. أريد أن يأتي يسوع الناصريّ بنفسه ليأخذه، وأطلب منه أن يَدخُل تحت سقف بيتي لأتعرّف إليه. أريد الدفع فوراً بعد توقيع العقد. وداعاً.     دوراس".»

 

«يا للوباء!» يَصرخ بطرس. «ولكن مَن يَدفع؟ مَن يدري كم يَطلب؟ ونحن... نحن لا نملك فلساً واحداً‍.»

 

«إنّ سمعان هو الذي يَدفَع، إرضاء لي، ولإسعاد المسكين يونا. هو لن يحصل سوى على شبح رجل لن ينفعه في شيء. ولكنّه ينال أجراً عظيماً في السماء.»

 

«أنتَ؟ آه!» يَندَهِش الجميع. وقد أَنسَت المفاجأة ابنيّ حلفى ألمهما.

 

«إنّه هو. ومِن العدل أن يُعرَف هذا.»

 

«ومن العدل كذلك أن نَعرف لماذا ذَهَبَ يهوذا الاسخريوطيّ إلى لعازر. مَن الذي أَرسَلَه إلى هناك؟ أهو أنتَ؟»

 

ولكنّ يسوع لا يُجيب بطرس. إنّه مهتمّ كثيراً وغارق في التفكير. لا يَقطَع تأمّله سوى لكي يقول: «قَدِّموا العشاء ليوسف، ثمّ هيّا بنا لنرتاح. سأهيّئ الردّ للعازر... أما زال إسحاق في الناصرة؟»

 

«إنّه ينتظرني.»

 

«سنذهب إليها جميعنا.»

 

«آه! لا! أُمّكَ تقول...» يَضطَرب الجميع.

 

«اصمتوا جميعكم. هذه إرادتي. الأُمّ تجعل قلبها الـمُحِبّ يتكلّم. أمّا أنا فأَحكُم بعقلي. أُفَضِّل أن أذهب في غياب يهوذا، وأمدُّ يد الصداقة لوَلَديّ عمّي سمعان ويوسف، أن أشاركهما الحزن قبل انتهاء المأتم. ثمّ نعود إلى كفرناحوم، إلى جنّسارت، على البحيرة، في انتظار أواخر قمر تشرين. سوف نأخذ مريم ومريم معنا. أُمّكَ في حاجة إلى الحبّ. سوف نمنحها إيّاه. وأُمّي في حاجة إلى السلام. وأنا سلامها.»

 

«تظنّ أنّ في الناصرة...» يسأل بطرس.

 

«لا أظنُّ شيئاً.»

 

«آه! حسناً! لأنّهم لو أرادوا إلحاق الأذى بها أو إيلامها!... لوجب أن يفعلوا ذلك بي!» يقول بطرس الـمُنتَفِش.

 

يُلاطِفه يسوع، ولكنّه مستغرق، أظُنّه حزيناً. ثمّ يذهب ليجلس بين يوضاس ويعقوب، ويعانقهما ليواسيهما.

 

أمّا الآخرون فإنّهم يتكلّمون بهدوء لئلّا يُهيّجوا ألمهما.