الدفاتر: 13 / 05 / 1943

 

دفاتر 1943

ماريا فالتورتا

 

I QUADERNI - THE NOTEBOOKS - LES CAHIERS

MARIA VALTORTA

 

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

(13 / 05 / 1943)

صباحاً

 

منذ وقت قصير، حضرتكَ1 قلتَ لي مِن جديد أن أكتب. إنّ المجهود الجسدي لا يضاهي المجهود المعنوي الّذي عليّ بذله لرفع الحُجُب الّتي تخفي الفائق الطبيعة. لماذا؟ لأسباب متعدّدة.

 

السبب الأوّل هو أنّه يبدو لي أنّني أكاد أرتكب تدنيساً بكشفي عن أسرار الله فيّ. وأخشى على الدوام، إن لم يشكّل ذلك تدنيساً، أن يجلب لي هذا الإعلان عقاباً: الذي هو أن أُحرَم مِن الملاطفات الإلهيّة والكلمات الإلهيّة. إنّنا نحن الأحياء، دوماً أنانيّون بعض الشيء. ولا نفكّر أنّ ما يمنحنا الله إياه يمكن أن يجلب الفرح للآخرين، وكونه مِن الله، آب الكل، فغير مسموح لنا أن نبخل به ونحرم منه إخوتنا وأخواتنا.

 

السبب الثاني هو أنّ بقيّة شكّ بشريّ، تجاه نفسي وتجاه الآخرين، يجعلني أفكّر على الدوام إن، أنّ ما أحسّ به كما "فائق الطبيعة"، ينبغي أن يُعتبر وهماً مِن قبلي وهذياناً مِن قبل الآخرين. لقد أسبغتُ على نفسي لمرات كثيرة صفة المجنونة… بحيث أنّه حتّى الآخرين كان يمكنهم وضعي ضمن هذه الفئة.

 

السبب الثالث هو شعوري بالخوف مِن هذه العطية. الخوف بفعل ذعر ينتابني على الدوام مِن أن يكون ذلك خدعة… فهل يُعقَل أن أستحق، أنا اللاشيء، هذه العطايا من مَلِكي؟ وخوف مِن أن تستنهض الكبرياء فيّ. فأشعر أنّها فيما لو جعلتني أشعر بالكبرياء، حتّى ولو للحظة فقط، لكانت توقّفت فوراً، ليس ذلك فقط، كنتُ لأبقى حتّى بدون ذاك الحدّ الأدنى مِن الفائق الطبيعة الّذي هو شائع لدى كثيرين. عقوبة على كبريائي. آه! أنا أكيدة مِن ذلك، أن يسوع كان ليعاقبني هكذا!

 

الآن وقد قلتُ لكم الأسباب الّتي لأجلها لا أحب التحدّث، فسأبوح لكم بتلك الّتي تجعلني أشعر بأنّنّي لستُ متوهّمة، أعتبر وهم الهذيانات حقائق فائقة الطبيعة وأعتبر الكلمات الشيطانيّة كلمات إلهيّة.

 

أنا على يقين بسبب العذوبة والسلام اللذين يجتاحاني عقب هذه الكلمات وهذه الملاطفات وبسبب القوّة الّتي تستحوذ عليّ، مُرغِمة إيّاي على سماعها وكتابتها، دون تمكّني مِن تبديل ولا حتّى كلمة واحدة. وبالإضافة إلى القوّة العذبة التي ترغمني على سماعها وكتابتها -ودائماً في أوقات لا تخضع لإرادتي لسماع هذه الأمور (أرجوكَ أن تصدّقني بأنّني لا أفعل شيئاً لأضع نفسي، أصفها هكذا: في حال استقباليّة)- أشعر، إن كانت الحالة تستدعي، بقوّة أكثر حيوية تقول لي: "أفصحي عن هذا. اصمتي عن هذا." لا تساهل مع هذه القدرة العذبة…

 

إنّما لا شيء منّي. وإذا ما فكّرتُ (وأنا أغتمّ مِن ذلك): "يسوع يصمت. آه! لو كان يجعل صوته مسموعاً لمواساتي قليلاً!" كُن على يقين أنّه يستمرّ في الصمت. إنّه لا يُسمِع صوته إلاّ حينما يشاء؛ وحينئذ حتّى ولو كنتُ منشغلة بأمر آخر، أكون مرغمة على إتمامه، فينبغي لي أن أتوقّف وأهتمّ به فقط. وكما حين، وفقاً لأسلوبي، أُفضّل طريقة للتعبير على آخرى وأحاول التغيير، فأنا غير قادرة على ذلك. قد قيل هكذا وهكذا يجب أن يبقى.

 

أيضاً في هذا الصباح، كنتَ تقول لي أن أكتب عن أحاسيس ماضية. لقد قلتُ لحضرتكَ أنّه مِن المستحيل أن أكرّر الآن تلك الكلمات بدقّة وبالتالي لن أكرّرها. يُفتّرض ألاّ يكون فيها شيء منّي. إنّما يمكنني أن أحصي باختصار الأمور الّتي أحسستُ بها.

 

كما قلتُ لحضرتكَ مرات عديدة2، في مناسبات عديدة، أنّني قد حلمتُ، بيسوع، بمريم والقدّيسين. إنّما في حين أنّ يسوع كان "حيّاً" على الدوام، فإنّ العذراء والقدّيسون كانوا كما تماثيل أو لوحات: رسومات. لم أرَ سوى أحد الإخوة الفرنسيسكانيّين، الّذي كان بالتأكيد قدّيساً، لمرّتين، كما إنسان حيّ. في واحدة كان يقول لي أنّه مِن بين كلّ الأمراض "قد كان ليقتلني ذاك الذي أعاني منه هنا." وكان يشير إلى رئتيّ. حلمتُ بذلك منذ سبع سنوات، عندما لم يكن هناك شيء أبداً في رئتيّ.

 

في المرّة الأخرى، هذا الأخ الفرنسيسكانيّ ذاته، الّذي لم يكن يبدو لي لا القدّيس فرنسيس، ولا القدّيس أنطونيوس، كان يقول لي بوجه مِن نور: "لقد استحققتِ مع هذا المرض أكثر مِن راهبة في دير. فكل سنّة مِن سنيكِ تساوي حياة رهبانية بأكملها." كان يقول لي هذا لأنّني، إذ كنتُ أرى الموت يترصّدني، كنتُ قلقة كوني عملتُ القليل جدّاً... رئيستي (المتوفّاة في العام 1925) كانت تبعدني عن الموت، كانت تحميني قائلة: "عيشي أيضاً لبعض السنوات"، وحين كنتُ أقول: "إنّما ما الّذي أعمله أنا؟ لا شيء! لو كنتُ راهبة!" وفي تلك اللحظة بالذات نطق الأخ كلماته.

 

كما قلتُ لحضرتكَ، لم أرَ ملاكي سوى في تلك المرّة. ولكنّني أحياناً أحسّ بنسمة تلاطف وجهي وأفكّر أنّه ملاكي الطيّب الّذي يأتي لينتشلني في تلك اللحظات الّتي أكون فيها محطّمة للغاية وصولاً لعدم قدرتي على تحريك مروحتي. خلال صيف 1934، هذا الإحساس دام أشهراً: الأشهر التي كنتُ فيها في خطر الموت دون هوادة. فيما عدا ذلك، ملاكي... يكون كالميت. هو الّذي حماني جيّداً، عندما كنتُ رضيعةً باكيةً بين أخاديد تيرا دي لافورو3 الملتهبة، الّذي قدّم لي العون أثناء إغماء 4 كانون الثاني [يناير] 1932، لم يظهر أبداً أو يجعلني أشعر به بجلاء، عدا تلك المرّة. إن لم يكن هو الّذي زرع الزنابق والبنفسج4، بعد جلبها مِن بساتين معتنى بها جيّداً... إنّما مَن يدري؟

 

مِن جهة أخرى رأيتُ (في الحلم) بادري بيو الّذي مِن بييتريلشينا وتحدّثتُ إليه. رأيتُه، دائماً في الحلم، في انخطاف بعد القدّاس؛ رأيتُ نظره النافذ وأحسستُ بندبة جراح يده عندما أمسك بيدي. وشممتُ عطره، ليس في الحلم، إنّما وأنا في صحو تام. لا يمكن لأيّة حديقة طافحة بالزهور المتفتّحة تماماً أن تنشر العطور الفردوسية الّتي عبقت في غرفتي في ليل 25-26 تموز [يوليو] 1941 وفي ما بعد ظهر 21 أيلول [سبتمبر] 1942، بالضبط في اللحظة ذاتها الّتي كان أحد أصدقائنا يتحدّث عنّي إلى الأب (كنتُ أجهل أنّه غادر إلى دير القديس جيوفاني روتوندو). في المرّتين نلتُ النعم المطلوبة. كذلك مرتا5 شمّت العطر. كان قويّاً لدرجة أنّه أيقظها. ثمّ تلاشى فجأة، تماماً كما كان قد عبق فجأة.

 

ولكنّ شمّ العطر هو أمر مألوف. فأيضاً في هذا الصباح، بعد ليل مريع مِن النزاع، شممتُه. حتّى أنّه قد أيقظني مِن نوم استولى عليّ عند الفجر. كانت الساعة السادسة عندما أيقظني. كانت النافذة مغلقة، لا أحتفظ بزهور في غرفتي أثناء الليل، لا عطور لديّ، الباب كان موصداً. وإذاً فلا يمكن لأيّ رائحة أن تلج مِن الخارج. كان كأنّه عمود مِن الأريج على الجهة اليمنى مِن السرير. واختفى كما كان قد ظهر، تاركاً عذوبة في قلبي. القول بأنّ الرائحة كانت لهذه أو تلك مِن الزهور هو قول ضعيف. كلّ العطور تمتزج في هذا العطر. منابع الروائح تختلط كما لو أنّ أرواح كلّ الزهور المخلوقة تهيج في دائرة سماويّة.

 

نصل الآن إلى الأحاسيس الأكثر وضوحاً الّتي تأتي جميعها مِن يسوع. نعم. فهو الوحيد الّذي يتجلّى هكذا.

 

لقد ذكرتُ لحضرتكَ إحساسي بأنّ أمتلك في ذاتي نَظَر يسوع وبأن أنظر مِن خلال عينيه للآخرين. صعب جداً شرح ذلك، وهذا قد حصل لسنوات عديدة متتالية، عندما كنتُ ما أزال أمشي.

 

ثمّ كانت، أصفها هكذا: اجتياحات الحبّ، قفزات الحبّ الفجائيّة: مضنية في عذوبتها. كان ذلك كما لو أنّ الله كان يغزوني بمشيئته أن يكون محبوباً. هذا أيضاً شرحه صعب. هذه الأحاسيس دامت طويلاً وما تزال مستمرة.

 

إنّما منذ حدوث تجلّيات أكثر حيويّة، أقول إنّني أشعر بها بوتيرة أقلّ. ربّما لأنّني ثبتُّ فيها. عندما نلبث في المكان نفسه، متجذّرين، لا تعود هناك هزّات، ألا تعتقد ذلك؟

 

منذ سنتين، شعرت لأوّل مرّة بــ "صوت" لا مادي كان يجيب على تساؤلاتي (الأسئلة الّتي أطرحها على نفسي لدى تأمّلي بهذا أو ذاك مِن الأمور) وترافق الصوت رؤية (عقلية). أذكر ذلك جيّداً. كان ذلك قد حدث عقب نقاش مع ابن عمّي (العالِـم الروحانيّ). وكنتُ قد أجبتُه برسالة ساخرة ولاذعة.

 

بعد ثلاث ساعات، بينما كنتُ أتمعّن في النصّ الّذي كتبتُه، والذي قد أُرسل، وكنتُ أشيد بنفسي عليه، مستجلبة مبرّرات بشريّة، وأكثر قليلاً مِن بشريّة، لأشدّ على رسالتي الملتهبة، شعرت "بالصوت". "لا تديني. لا يمكنكِ أن تعرفي شيئاً. هناك أمور أسمح بها. وأخرى أثيرها. وما مِن واحدة دون هدف. ولا واحدة مفهومة بعدالة مِن قِبَلكم أنتم البشر. أنا وحدي ديّان ومخلّص. فكّري كم مِن خدّامي اتُّهموا بمسّ شيطانيّ لأنّهم بينما كانوا يتكلّمون، كانوا يردّدون كلمات كانت ترد مِن نطاقات غامضة. فكّري بكلّ الآخرين الّذين كانت حياتهم تبدو على الدوام وكأنّها تتدفّق في أدقّ التزام بشريعة الله وكنيستي، وهم الآن في عداد الّذين أدنتُهم. لا تديني. ولا تخافي. أنا معكِ. انظري: لتكن لكِ فترة إحساس بنوري وسترين أن أكثر الأنوار البشريّة سطوعاً ليست سوى ظلمات إذا ما قورنت بنوري".

 

وشاهدتُ باباً يُفتَح، باباً كبيراً مِن البرونز، ثقيلاً، طويلاً... وكان يدور على مفصّلاته بنغمة قيثارة. لم أكن أرى مَن كان يدفعه ليُفتَح على مهل... مِن الشقّ يتسلّل نور بغاية السطوع، بغاية الفرح، بغاية... –ما مِن صفة تصفه- بحيث ملأني بسماء. كان الباب يُفتَح باستمرار، ومِن الفتحة الّتي تكبر باطّراد يتدفّق نهر أشعّة مِن ذهب، لآلئ، ياقوت، مِن كلّ أنواع الأحجار الثمينة المستحيلة نوراً، عانَقَني، وغَمَرني. أدركتُ في هذا النور أنّه يجب أن أحبّ الجميع، ألاّ أدين أحداً، أن أغفر كلّ شيء، أن أحيا بالله وحده. وها قد مرّت سنتان منذ ذلك الحين، ولكنّني ما زلتُ أرى النور المبهر.

 

ثمّ، الأسبوع المقدّس مِن عام 1942، بالأحرى أسبوع الآلام. أربعاء الآلام، رنّت جملة فجأة في أذني. إنّ الانطباع كان حيويّاً لدرجة يمكنني معها القول حقّاً أنّها "رنّت" حتّى ولو لم أسمع أيّ صوت في الحقيقة: "ممّن أعطيتُكِ، لم يهلك أحد، سوى ابن الهلاك، وذلك كي تتمكّني أنتِ كذلك مِن اختبار مرارة عدم القدرة على تخليص كل الّذين يخصّونكِ."

 

كما ترىَ، جملة شبه إنجيليّة، وإن كانت قديمة، فهي شبه جديدة. جملة جديرة بجعلي أحار لأنّ يسوع قد منحني العديد مِن الأشخاص –أقارب، أصدقاء، معلّمين، تلميذات زميلات وتلميذات- حيث مِن أجل كثيرين منهم تألّمتُ، عملتُ وصلّيتُ. ومِن هؤلاء الأشخاص الكثيرين، أكثر مِن واحد خذلني في عطشي للحبّ الروحيّ. لذلك كان يمكنني أن أكون حائرة في تحديد هويّة الشخص المعيّن: "كابن الهلاك". ولكن عندما يتكلّم يسوع، حتّى وإن أمكن أن تبدو الجملة مبهمة لكثيرين، فهي تكون مصحوبة بنوع مِن نور بحيث تدرك نَفْس الّذي قيلت له هذه الجملة بالضبط إلى مَن يلمح المسيح.

 

أدركتُ إذاً أنّ "ابن الهلاك" كانت واحدة مِن بنات الجمعيّة. ابنة فعلتُ مِن أجلها الكثير، حاملة إيّاها في قلبي لتخليصها لأنّني أدركتُ طبيعتها... ظاهرياً، في العام الماضي، ما مِن شيء كان يجعلني أفكّر بخطأ مِن قبلها، ولكنّني أدركتُ. حينئذ ضاعفتُ صلواتي مِن أجلها... ولم أستطع سوى منع قتل مولود.

 

يوم الجمعة المقدّسة (العظيمة)، رأيتُ لأوّل مرّة يسوع المصلوب، بين اللصّين، عند قمّة الجلجلة، رؤيا دامت أشهراً، ليس بشكل مستمرّ، إنّما بشكل متواتر جدّاً. كان يسوع يظهر لي على خلفية سماء قاتمة، في نور شاحب، عارياً على الصليب الداكن، جسداً طويلاً جدّاً ونحيلاً، أبيضاً للغاية كما لو أنّه فقد كامل دمه، وشاح أزرق باهت على الردفين، وجهه منحن على صدره في استسلام الموت، مع الشعر الّذي كان يظلّله. الصليب كان متّجهاً دوماً باتّجاه الشرق. كنتُ أرى لصّ اليسار جيّداً، وبشكل سيء لصّ اليمين. إنّما كانا حيّين؛ يسوع كان ميتاً. ما زلتُ أحياناً أرى يسوع على الصليب، إنّما الآن، هو دوماً وحيد. على ما أظن، لم أرَ أبداً لوحة تشبه هذه الرؤيا.

 

في حزيران [يونيو]، بفعل هذا الانطباع، كتبتُ القصيدة أدناه. ما عدتُ أكتب الشعر منذ سنوات عديدة، فمع اشتداد المرض جفّ الوريد الشعري كما زهرة تذوي. أنقلها لحضرتكَ، ليس لأنّها عمل إبداعيّ، ولكن لأنها تعطي فكرة عن انطباعاتي بعد تلك الرؤيا وتنقلها بشكل أفضل مِن عباراتي النثرية. بعدها مباشرة كتبتُ أخرى للسيّدة العذراء مريم، حتّى ولو أنّني لم أراها أو أسمعها أبداً. أنسخ القصيدتين:

 

16 / 06 / 1942

 

"لقد افتديتنا، يا الله، بدمكَ.

 

كئيب هو الجبل ذو الصخر الجلف.

السماء أظلمت لألمكَ

بينما أنتَ تذوي، قطرة إثر قطرة

على القمّة العالية، يا ربّ، لأجلنا.

 

ذراعاكَ مفتوحان على شكل صليب

رأسكَ محنيّ تحت إكليل الشوك،

النظر مُغشّى، الصوت منطفئ

قلبكَ، الّذي يحفّزه الحبّ، هو وحده الحيّ.

 

تنظر في الناس إلى الكراهية والاقتتال

حيث يبذرون بتجبّر الجوع والمجازر، على مسارهم المميت،

في كلّ أرجاء الأرض.

 

الإنسان يفضّل دوماً الشر 

على الخير الذي هو ابنكَ، على السلام

الذي هو زهرة مقدّسة مِن حديقة سماوية

على الحبّ حيث كلّ أنانيّة تصمت

على الإيمان الّذي هو وحده الحياة للبشر.

 

وأنتَ مجدّداً، نعم، تصعد مجدّداً

إلى جلجلتكَ مِن أجلنا، ولاجلنا تقدّم نفسكَ

ذبيحة تفدي شرورنا

وعلى الخشبة، عالياً قرب السماء، تتألّم.

 

لماذا، لماذا مرّة أخرى ارتفعتَ

إنّكَ على الصليب المؤلم؟ إنّ الإنسان

بفعل جشع مجنون وغضب مضطرم ضدّ ذاته يستشيط

ولا يهدأ، إلى أن، مغلوباً، إلى الحمأة البائسة

مِن حيث انتَشَلتَه لمصير أكثر نبلاً

يعود مجدّداً. وضدكَ، أيا أيّها المسيح

ينفجر بغضب الموت الأعمى.

 

ورغم ذلك تعود، لأجل الإنسان الّذي يسيء إليكَ،

للتكفير، حيث جعلتَ مِن نفسكَ مِـجَنّاً (درعاً)

لأجلنا في مواجهة صواعق أبيكَ الرهيبة

ووحيداً، شاحباً وعارياً،

وفي التشنّج الأخير، رافعاً وجهكَ

تهتف: "لقد تمّ كلّ شيء! لأجل هذا الساعة، أبتاه، اغفر! امنحهم الفردوس!

مرّة أخرى قد أتممتُ فداءهم!".

 

للسيدة العذراء

 

17 / 06 / 1942

 

"السلام عليكِ يا مريم! أنتِ القدّيسة

احمي هذه الشبيبة التقيّة،

أنتِ الممتلئة، يا مريم العذبة،

بالكثير مِن النعمة.

 

بحقّ الربّ الّذي فيكِ، وأنتِ معه،

أنتِ! أيّتها المباركة بين الخلائق،

احميهم مِن شِراك الظلام،

ومِن الأيّام الحزينة المعتمة.

 

بحقّ ذاك الابن الذي حملتِه في أحشائكِ،

مع بقائكِ عذراء، والذي هو يسوع الرحوم،

انعطفي، آه! انعطفي بنظركِ المحبّ.

أيا ملكة الحزينين.

 

يا قدّيسة مريم، صلّي لأجلنا نحن البائدين؛

إنّ حياتنا مِن دونكِ، أيا أمّنا

هي كما سنونو تائه؛ متعب الجناح من كثرة الطيران

أو كمركب مهتزّ بفعل هيجان أمواج متلاطمة

آه! هَدّئي العاصفة على المياه الغاضبة

أنتِ أيا نجمة البحر.

 

على مرّ الأيّام وفي الساعة الأخيرة

حين ينطفئ نورنا، في ظلمة الموت

أنتِ! أيّتها الأُمّ والعذراء،

افتحي أبواب الأبديّة

وقودينا إلى الله".

 

أنا مسرورة لــ... خربشتي آخر محاولتين شعريّتين لي مِن أجل يسوع ومريم. لا يهمّ إن تكن القوافي عرجاء. يسوع سيمنحني علامة جيّدة مع ذلك لأنّه ينظر إلى الحبّ وليس إلى الوزن.

 

وفي حزيران [يونيو]، في أمسية كنتُ فيها بين الحياة والموت، سمعتُ تلك الابنة –"ابن الهلاك"- الّتي كانت في روما، تناديني. نداء استجداء بلا حدّ: "سيّدتي! سيّدتي! ألا ترينني؟ ألا تسمعيني؟ ألم تعودي تحبّينني؟" سمعتُها بجلاء. لم يسمعها أحد آخر. بعد شهر ونصف الشهر، علمتُ منها، بعد أن عادت إلى بيتها، الحقيقة الصرفة لغيابها: ولد. وفي تلك الأمسية، يائسة، كانت على وشك أن تقتل نفسها... وقد نادتني كي تقاوم التجربة. نادتني بنَفْسها، أنا الّتي لم أكن أعرف شيئاً بالتحديد، والّتي كنتُ أظنُّها في مهمّة لعملها، والّتي لم أكن أريد تصديق هذا "الصوت" في أربعاء الآلام.

 

ثمّ، في بعض الأحيان، رأيتُ الطفل يسوع بعمر السابعة، أو العاشرة، جميلاً جداً. ثمّ، يسوع الرجل، في ملء رجولته. أكثر جمالاً بعد.

 

ولكنّ الإحساس الأكثر عذوبة، الأكثر امتلاءً، الأكثر حساسية، كان يوم 2 آذار [مارس] مِن تلك السنة. لا تضحك، أيّها الأب، ولكنّني نلتُ ذلك الإحساس صبيحة موت جاكومينو، عصفوري الصغير المسكين.

 

كنتُ أبكي لأنّني... بغاية السخافة. كنتُ أبكي لأنّني أتعلّق كثيراً بكلّ شيء. كنتُ أبكي لأنّني وفي وحدة المرض منذ عشر سنوات، فإنّ بي رغبة حقيقية للحنان مِن حولي، حتّى وإن لم يكن سوى حنان حيوانات صغيرة. وكنتُ أتوجّه بالشكوى بروية إلى يسوعي. كنتُ أقول له: "مع ذلك كان بإمكانكَ تركه لي. لقد منحتَني إيّاه. لماذا انتزعتَه منّي؟ أتغار حتّى مِن عصفور؟" وثمّ، ختمتُ: "حسناً... خذ ألمي هذا أيضاً. أقدّمه لكَ، مع كلّ الباقي، مِن أجل ما تعلم."

 

شعرتُ حينذاك بذراعين يحيطان بي ويجذباني إلى قلب، رأسي على كتف. وأحسستُ بدفء جسد على خدّي، بتنفّس ونبضات قلب في صدر حيّ. استسلمتُ لهذا العناق فيما أسمع فوق رأسي صوتاً يهمس في شعري: "إنّما أنا سأبقى لكِ. أضمكِ إلى قلبي. لا تبكي فأنا أحبّكِ."

 

ما عدتُ أبكي. ولم أعد أشعر بألم. لاحظ أنّني كلّما مات عصفور أو كلب لي أبكي لأشهر... في ذلك اليوم… انتهى كلّ شيء مع عناق يسوع. في بعض الأحيان يعاود ذلك إنّما بأقل حدّة.

 

ثمّ، يوم الجمعة المقدّس مِن هذه السنة، أي في 23 نيسان [أبريل]، أوّل إملاء مِن يسوع، وفي 1 أيّار [مايو] الإملاء الثاني.

 

آه! ها أنا الآن قد قلتُ حقّاً كلّ شيء وأتوقّف، كتفاي محطّمتان لدرجة الانطباع بصعود الجلجلة والهبوط منها حاملة الصليب.

----------

1- الأب روموالدو ميغليوريني الّذي تتوجّه إليه ماريا فالتورتا طوال مدى كتاباتها.

2- هذه التلميحات ترجع إلى السيرة الذاتيّة الّتي كُتبت بناء على رغبة الأب ميغليوريني.

3- منطقة جغرافية في إيطاليا تقع فيها كازيرتا، حيث وُلدت في 14 آذار 1897 وحيث عاشت أشهرها الثمانية عشر الأولى من حياتها، ماريا فالتورتا كانت قد أودعت لعناية مربّية بائسة لدرجة ترك الصغيرة في الحقول.

4- انظر نص (10 / 05 / 1943).

5- مارتا ديشيوتي ولدت في لوك في 1910 وعاشت إلى جانب ماريا فالتورتا، معتنية بها بحبّ، مِن العام 1935 حتّى انتقال الكاتبة العاجزة في 12 تشرين الأوّل 1961. انتقلت في فياريجيو في 5 شباط 2001.