ج9 - ف9
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.
الجزء التاسع
9- (الثلاثاء السابق للفصح، II- الليل)
07 / 03 / 1945
«لقد سمعتم اليوم أمميّين ويهوداً يتكلّمون. وقد رأيتم كيف انحنى الأوّلون أمامي وكيف أوشك الآخرون على ضربي. أنتَ يا بطرس، كنتَ على وشك التضارب بالأيدي لدى رؤيتكَ تعمّدهم دفع حملان وكباش وعجول إليّ لجعلي أقع أرضاً بين الفضلات. أنتَ يا سمعان، رغم فطنتكَ المعهودة، قد فتحتَ فمكَ لتهين أعضاء السنهدرين الأكثر حقداً، الّذين كانوا يدفعونني بغلاظة قائلين: "ابتعد، أيّها الشيطان، كي يمرّ مُرسَلو الله". وأنتَ يا يوضاس، ابن العم، وأنتَ يا يوحنّا، المفضّل لديّ، فقد صرختما، وحميتماني بحيويّة، حيث الواحد أمسك لجام الحصان حتّى لا يصدمني، والآخر بوقوفه أمامي وتلقّيه صدمة القضيب الموجّه إليّ، عندما بضحكة هازئة، سار تجاهي صادوق بمركبته الثقيلة عدواً عن عمد. إنّني أشكركم على محبّتكم الّتي جعلتكم تقفون في وجه هؤلاء الّذين يهينون الأعزل. ولكنّكم سترون المزيد مِن الإهانات والأفعال الشرسة الأخرى. وعندما يعود هذا القمر مجدّداً في السماء بعد هذا المساء، فإنّ الإهانات، الّتي هي شفويّة للآن، أو الّتي هي بالكاد في مراحلها الأولى بصورتها المادّية، ستصبح محسوسة، وبأكثر كثافة مِن الأزهار الّتي هي الآن على الأشجار المثمرة، والّتي لا تكفّ عن السرعة في كثرة الإزهار. لقد رأيتم –ودُهِشتم- مِن تينة جفّت وبستان أشجار تفّاح بلا زهر. الّتينة، مثل إسرائيل، قد رفضت أن تُنعِش ابن الإنسان وماتت في خطيئتها. وبستان التفّاح، هو مِثل الأمم، ينتظر الساعة الّتي تحدّثتُ عنها اليوم، كي يُزهِر ويلغي آخر ذكرى للبربريّة البشريّة بعذوبة الزهور الّتي سينثرونها على رأس وتحت أقدام المنتصر.»
«أيّة ساعة يا معلّم؟» يَسأَل متّى. «إنّكَ اليوم قد تكلّمتَ كثيراً وعن أمور كثيرة! لا أتذكّر جيّداً، وأودّ لو أتذكّر كلّ شيء. أيمكن أن تكون ساعة عودة المسيح؟ هنا أيضاً تكلّمتَ عن الأغصان الّتي تصير غضّة وتُورِق.»
«ولكن لا!» يهتف توما. «يتحدّث المعلّم كما لو أنّ تلك المؤامرة الّتي ينتظرها وشيكة هي. وإلّا فكيف في وقت قليل، يحدث كلّ ما قال إنّه يسبق عودته؟ حروب، دمار، عبوديّة، اضطهادات، البشرى السارة معلنة في العالم كلّه، خراب وكراهية في بيت الله، ثمّ زلازل، أوبئة، أنبياء كذبة، وعلامات في الشمس والنجوم… إيه! يلزم عصور ليتمّ كلّ هذا! سيفلس صاحب بستان التفّاح إن كان على بستانه انتظار تلك الساعة كي يُزهِر!»
«لا يأكل بعد مِن ثماره، لأنّ حينذاك ستكون نهاية العالم.» يعلّق برتلماوس.
«إنهاء العالم لا يتطلّب سوى فِكرة مِن الله، ويتحوّل كلّ شيء إلى عدم. وبالتالي يمكن أن يكون على بستان التفّاح هذا الانتظار لوقت قليل، ولكن كما قلتُ، هذا سيحصل. وبين هذا وذاك ستمرّ عصور. أعني حتّى الانتصار وعودة المسيح.» يشرح يسوع.
«فإذاً؟ أيّة ساعة؟»
«آه! أنا أعلم الساعة!» يقول يوحنّا وهو يبكي. «أعلمها. وستكون بعد موتكَ وقيامتكَ!...» ويعانقه يوحنّا بشدّة.
«وهل تبكي إن قام؟» يمزح يهوذا الاسخريوطيّ.
«أبكي لأنّه ينبغي أن يموت أوّلاً. لا تهزأ مني أيّها الشيطان. أنا أفهم. ولا أقدر أن أفكّر في هذه الساعة.»
«يا معلّم! لقد قال لي يا شيطان. لقد أخطأ ضدّ رفيقه.»
«يهوذا، هل أنتَ مُدرِك أنّكَ لا تستحقها؟ إذاً، لا تغضب بسبب خطئه. فأنا أيضاً أطلقوا عليَّ "شيطان" وسيكرّرونها.»
«ولكنّكَ أنتَ قلتَ أنّ الّذي يهين أخاه هو مذنب...»
«صمتاً. أمام الموت تتوقّف تماماً هذه الاتّهامات البغيضة، هذه المشاجرات، هذه الأكاذيب. لا تُقلِقوا الّذي يموت.»
«سامحني يا يسوع.» يتمتم يوحنّا. «شعرتُ بشيء ما كان يثور بداخلي لدى سماعي ضحكته... ولم أستطع أن أتمالك نفسي.» يوحنّا يبكي على صدر يسوع، وهو مُعانَق تماماً، الصدر على الصدر.
«لا تبكِ. أفهمكَ. دعني أتكلّم.»
ولكنّ يوحنا لا ينفصل عن يسوع ولا حتّى عندما يجلس على جذر ضخم بارز. يُبقي ذراعاً خلف ظهره والأخرى حول صدره، يسند الرأس على كتفه وهو يبكي بصمت. فقط تلمع تحت ضياء القمر دموعه الّتي تسقط على ثوب يسوع الأرجواني، فتبدو وكأنّها ياقوت، قطرات دم شاحب سُلِّطَت عليها الأنوار.
«اليوم قد سمعتم أحاديث اليهود والأمميّين. فعليكم إذاً ألاّ تندهشوا حينما أقول لكم: "مِن فمي خرجت كلمة، عدل هي، على الدوام. ولن تبطل". وإذا ما كنتُ أقول، ودائماً مع إشَعياء، متحدّثاً عن الأمميّين الّذين سيُقبِلون إليّ بعد أن أكون قد رُفِعتُ عن الأرض: "لي ستجثو كلّ ركبة، ولي وبي سيُقسِم كلّ لسان". ولن تَشُكّوا بعد، بعدما لاحظتم أساليب اليهود، أنّه مِن السهل القول دون خشية مِن الخطأ أن سيأتي إليّ كلّ الّذين يقاومونني دون خجل.
لم يجعلني الآب خادمه لإحياء أسباط يعقوب فقط، وهداية ما بقي مِن إسرائيل: الباقين، ولكنّه أرسلني نوراً للأمم لأكون "المخلّص" لكلّ الأرض. ولهذا، خلال أعوام الغربة الثلاثة والثلاثين هذه عن السماء وعن حضن الآب، استمرّيتُ في النموّ بالنعمة والحكمة أمام الله والناس، لبلوغ السنّ الكامل، وفي هذه السنوات الثلاث الأخيرة، بعد أن تأجّجت نفسي وروحي بنار الحبّ وانغمست في برودة التكفير، جَعَلتُ: "مِن فمي ما يشبه السيف الحادّ".
وفي ظلّ يده حفظني الآب القدّوس، أبي وأبوكم، إلى الآن، ذلك أنّ ساعة الكفّارة لم تكن قد أتت بعد. الآن هو يدعني أمضي. السهم المختار، سهم كنانته [جُعبَتَه] الإلهيّة، بعدما جَرَح كي يشفي، بعدما جَرَح الناس ليفتح ثغرة في قلوبهم لكلمة ونور الله، الآن يمضي سريعاً وبثقة ليجرح الأقنوم الثاني، الـمُكَفِّر، المطيع عوضاً عن كلّ عصيان آدم... وكالمحارب الّذي أُصيب أَسقُط، قائلاً لأناس كثيرين: "عبثاً تعبتُ بلا سبب، وسدىً. بدّدتُ قوّتي مِن أجل لا شيء".
ولكن لا! لا، مِن أجل الربّ الأزليّ الّذي لا يصنع شيئاً بلا هدف! أغرب أيّها الشيطان، يا مَن تريد أن تقودني إلى اليأس وتجعلني عاصياً! مِن أَلِف مهمّتي إلى يائها أتيتَ وتأتي. حسناً، ها أنا أقف للمعركة (وينتصب بالفعل). أتحدّاك. وأعاهد نفسي، سأنتصر. إنّ قَولي هذا ليس مِن قبيل الكبرياء. إنّها الحقيقة. سيُهزم ابن الإنسان في جسده مِن قِبَل البشر، الدود البائس الّذي يعضّ ويسمّم بحمأته الفاسدة. ولكن ابن الله، الأقنوم الثاني للثالوث الفائق الوصف، لن يهزمه الشيطان. أنتَ الكراهية. وأنتَ قَدير في كراهيتكَ وفي تجربتكَ. إنّما معي ستكون قوّة عصيّة عليكَ، لا يمكنكَ اللحاق بها ولا إيقافها. إنّ المحبّة معي!
أنا على عِلم بالعذاب المجهول الّذي ينتظرني. ليس الّذي سأكلّمكم عنه غداً، لكي تعلموا أنّ لا شيء ممّا كان يُعمَل أو يُباشَر به مِن أجلي أو حولي، وأنّ لا شيء مما يتكوّن في قلوبكم، كان غير معلوم لديّ. ولكنّ العذاب الآخر... ذلك الّذي لا يقع على ابن الإنسان بالرماح أو بالعصيّ، بالهزء وبالضربات، ولكن مِن الله نفسه، العذاب الّذي لن يكون معلوماً إلاّ مِن قلّة مِن الأشخاص لما فيه مِن روع حقّاً، وأقلّ بعد سوف يتقبّلونه كأنّه ممكن الحدوث. ولكن في هذا العذاب، حيث اثنان سيكونان الـمُعَذِّبان الأساسيّان: الله بغيابه، وأنتَ أيّها الشيطان، بحضوركَ، فالضحيّة ستكون معها المحبّة. والمحبّة الحيّة في الضحيّة، القوّة الأولى في مقاومة التجربة، وأيضا المحبّة في المعزّي الروحيّ، الّذي يحّرك منذ الآن أجنحته الذهبيّة متلهّفاً للنـزول كي يمسح عرقي، ويجمع كلّ دموع الملائكة في الكأس السماويّ، ويذيب فيه عسل أسماء مُخلَّصيّ والّذين يحبّونني، لكي يخفّف بهذا الشراب عطش الـمُعذَّب الشديد ومرارته الّتي لا حدّ لها.
وستُهزم أيّها الشيطان. فذات يوم، عند خروجكَ مِن أحد الممسوسين، قلتَ لي: "سأنتظر لكي أهزمكَ عندما ستصبح خرقة جسد دام". أمّا أنا فأجيبكَ: "لن تنال منّي، أنا أنتصر. إنّ تعبي كان مقدّساً، ودعواي هي أمام أبي. هو يدافع عن صنيعة ابنه ولن يسمح أن تتراخى عزيمة روحي".
أبتاه، أقول لكَ، مِن الآن أقول لكَ مِن أجل هذه الساعة المريعة: "بين يديكَ أستودع روحي".
لا تتركني يا يوحنّا... اذهبوا أنتم. ليكن سلام الربّ حيث لا يكون الشيطان نزيلاً. وداعاً.»
وينتهي كلّ شيء.