ج6 - ف109
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء السادس/ القسم الأول
109- (في قرية سليمان)
13 / 04 / 1946
وَصَلَها يسوع في الليل. فالقمر، بسبب الوضع الذي كان به، جعلني أفكّر أنّها الساعة الثانية صباحاً. قمر جميل يبدأ فقط بالتضاؤل، ويشعّ في كبد السماء الصافية ناشراً السلام على الأرض. السلام وندى غزيراً، ندى البلاد الحارّة القويّ، النافع للمزروعات بعد شمس النهار الحارقة.
يُفتَرض أن يكون الحجاج قد سلكوا ضفّة النهر الجافّة، إذ قد انخفض منسوب النهر في مجراه بسبب الضحالة الصيفيّة. وينبت القصب حتّى الغابة التي تزيّن الضفّة وتحفظها مِن خلال الشبكة التي تُشكّلها جذور الأشجار في الأرض القريبة مِن المياه.
يقول يسوع: «لنتوقّف هنا في انتظار انبلاج الصباح.»
«يا معلّم... إنّني متألّم للغاية...» يقول متّى.
«وأنا أخشى الإصابة بالحمّى. النهر ليس سليماً في الصيف... تعرف ذلك.» يزيد فليبّس.
«كان الأمر سيكون أسوأ لو كنا صعدنا حينذاك مِن النهر إلى جبال اليهوديّة. هذا كذلك معلوم.» يقول الغيور المشفق على يسوع الذي يروي له الجميع متاعبهم الصغيرة ويُسمِعونه مناحاتهم حيث لا أحد يُدرِك الوضع النفسيّ.
«دعهم يا سمعان، إنّهم على حقّ. إنّما، بعد قليل، سوف نستريح... أرجوكم، السير قليلاً بعد... والقليل مِن الانتظار هنا. انظروا القمر يستدير صوب الغرب. لماذا إيقاظ هذا العجوز وقد يكون يوسف أيضاً مريضاً، إذا كان انبلاج النهار وشيكاً؟...»
«ذلك أنّ هنا، قد تبلّل كلّ شيء بالندى. لا ندري أين نجلس...» يُتمتم الإسخريوطيّ.
«هل أنتَ خائف مِن إتلاف ثيابكَ؟» يقول توما الفَرِح على الدوام. «هيّا بنا، بعد المسير المضني في الغبار والندى، لا مجال لنبدو كالطاووس! فيما عدا ذلك... هكذا تُعجِب حِلقِيّا الظريف أكثر. يونانيّاتكَ (تطريزاتكَ)، أولئك ذوات الحاشية وأولئك ذوات الأكمام قد بقين في مزقهنّ على الشجيرات الشوكيّة في صحراء يهوذا، وتلك ذات القبّة فالعَرَق قد خرَّبها... الآن أنتَ يهوديّ كامل...»
«قذارة تامّة، وأنا مشمئزّ منها.» يُجيب الإسخريوطيّ بغضب.
«فليكفِكَ يا يهوذا أن يكون قلبكَ طاهراً.» يقول يسوع بهدوء. «فهو الذي له قيمة...»
«قيمة! قيمة! نحن مُنهَكون مِن التعب والجوع... نفقد صحّتنا وهي فقط ذات القيمة.» يقول الإسخريوطيّ بوقاحة.
«أنا لا أُكرِهكَ على البقاء... أنتَ مَن يريد البقاء.»
«منذ الآن!... يناسبني أن أفعل ذلك. فأنا...»
«ولكن إذن قُل الكلمة التي تحرق شفتيكَ: "أنتَ تُعرّض سمعتكَ للخطر في عيون السنهدرين". إنّما بإمكانكَ إصلاح الموقف على الدوام... وأن تنال ثقته مِن جديد...»
«لا أريد الإصلاح... ذلك أنّني أحبّكَ وأريد المكوث معكَ.»
«حقّاً إنّكَ تقولها بطريقة تنمّ عن الحقد أكثر مِن الحبّ.» يُتمتم يوضاس بن حلفى.
«حسناً... لكلّ منّا طريقته في التعبير عن حبّه.»
«إيه! نعم! هناك مَن يُحبّون نساءهم ولكنّهم يوسعونهنّ ضرباً... هذا النوع مِن الحبّ لا يروق لي أبداً.» يقول يعقوب بن زَبْدي محاولاً اختصار الحادث بمزاح. إنّما ما مِن أحد يضحك. آنذاك، الحمد لله، لا أحد يُجيب.
يَنصَح يسوع: «هيّا بنا نجلس على عتبة البيت. فالمزراب عريض ويحمي مِن الندى، وهناك هذه القاعدة التي تقوم مقام أساس للبيت الصغير...»
يُطيعون دون كلام، وبعد الوصول إلى البيت، يجلسون على خط واحد على طول الجدار. ولكنّ ملاحظة توما الوحيدة: «أنا جائع. هذه المسيرات الليليّة تُثير الشعور بالجوع.» تؤجِّج الحِوار.
«ولكن أيّة مسيرات! ذلك أنّنا منذ بضعة أيّام نَعيش مِن لا شيء!» يُجيب دائماً الإسخريوطيّ.
«حقّاً، لدى نيقي وعند زكّا، أكلنا وأكلنا جيّداً، وأعطتنا نيقي الكثير بشكل اضطرنا لأن نعطي منه للفقراء لكي لا يخرب. لم ينقصنا الخبز على الإطلاق. وقائد القافلة كذلك أعطانا خبزاً وإداماً...» يُبدي أندراوس ملاحظته.
يهوذا، الذي لا يستطيع تكذيبه، يصمت.
ديك يُحيّي قيام النهار مِن بعيد.
«آه! حسناً! بعد قليل، ينبلج الفجر!» يقول بطرس وهو يتمطّى، إذ كان شبه نائم.
ينتظرون قدوم النهار بصمت.
ثغاء في حظيرة... بعد ذلك جَلجلة في البعيد على الطريق الرئيسيّة، قبالتهم... في القرب منهم هديل حمامات حنانيا. صوت رجل أجشّ وسط القَصَب... صيّاد عائد مع صيده الليليّ متذمّراً مِن النتيجة الضئيلة. يرى يسوع ويتوقّف. يتردّد، ثمّ يقول: «إذا ما أعطيتكَ إيّاها، هل تَعِدني بالوفرة في المستقبل؟»
«للربح أم للحاجة؟»
«للحاجة. لي سبعة أولاد، إضافة إلى زوجتي ووالدة زوجتي.»
«أنتَ على حقّ. كُن كريماً وأعدكَ بألاّ ينقصكَ شيء مِن الضروريّ.»
«خُذ إذاً. هناك أيضاً في الداخل هذا الجريح الذي لا يُشفى، رغم كلّ العناية به...»
«فليكافئكَ الله ويمنحكَ السلام.» يقول يسوع.
يُحيّي الرجل ويمضي، تاركاً سمكاته المشكوكة مِن أفواهها في غصن مِن الصفصاف.
يعود الصمت ليخيّم، لا يكاد يقطعه سوى حفيف القصب، صيحة عصفور... بعد ذلك صرير قريب، حاجز ريفيّ بناه حنانيا يدور مع صرير، والعجوز صغير القدّ يَنفَذ إلى الطريق وهو يستقصي السماء. تتبعه النّعجة وهي تثغو…
«السلام لكَ يا حنانيا!»
«المعلّم! ولكن... منذ متى أنتَ هنا؟ لماذا لم تنادِ ليُفتح لكَ؟!»
«منذ قليل. لم أشأ إزعاج أحد... كيف هو حال يوسف؟»
«هل تعلم؟... حاله في سوء. مِن إحدى إذنيه يخرج قيح ورأسه يؤلمه كثيراً. أظنّه سيموت. أو بالأحرى كنتُ أظنّ. الآن أنتَ هنا وأعتقد أنّه سيُشفى. كنتُ خارجاً للبحث عن حشائش للّزقات...»
«هل رفاق يوسف هنا؟»
«هنا اثنان منهم. الباقون مضوا. هنا سليمان وإيلي.»
«هل أزعجكم الفرّيسيّون؟»
«حالاً بعد رحيلكَ، وليس بعد. كانوا يريدون معرفة أين كنتَ قد ذهبتَ. قلتُ: "إلى بيت كنّتي، في مسادة". هل أسأتُ التصرّف؟»
«أحسنتَ فعلاً.»
«و... هل ذهبتَ فعلاً إلى هناك؟» الرجل العجوز قَلِق للغاية.
«نعم. صحّتها جيّدة.»
«ولكن... ألم تستمع لكَ؟...»
«لا. يجب الصلاة كثيراً مِن أجلها.»
«ومِن أجل الصغار... لتربّيهم مِن أجل الربّ...» يقول العجوز، وتسيل دمعتان كبيرتان لتقولا ما لم يَقله. ويُنهي بقوله: «هل رأيتَهم؟»
«يمكنني القول بأنّني رأيتُ واحداً منهم... الآخرون لمحتُهم. الجميع بخير.»
«أُقدّم لله تنازلي ومسامحتي... ومع ذلك... مرٌّ للغاية القول: "لن أراهم بعد الآن"...»
«قريباً سوف ترى ابنكَ، ومعه، ستكون في السماء بسلام.»
«شكراً، يا ربّي. ادخل...»
«نعم. هيّا بنا مباشرة إلى الجريح. أين هو؟»
«على أفضل سرير.»
يَلِجون الحديقة المعتنى بها جيّداً، ومنها إلى المطبخ، ومِن المطبخ إلى الغرفة الصغيرة. ينحني يسوع على المريض الذي ينام وهو يئنّ. ينحني وينحني... وينفخ على الأذن المغلّفة بضماد ممتلئ بالقيح. يَنهَض مِن جديد، ثمّ ينسحب دون ضجّة.
«ألا توقظه؟» يَسأَل العجوز بصوت منخفض.
«لا. دعه ينام. لن يتألّم بعد الآن، سوف يرتاح. هيّا بنا نرى الآخرين.» يدنو يسوع مِن الباب دون ضجّة، وينتقل إلى الغرفة التي يتواجد فيها السريران المشتريان في المرّة السابقة. ما يزال التلميذان المتعبان نائمين.
«هما يسهران حتّى الصباح؛ وأنا مِن الصباح حتّى المساء. بالتالي فهما تعبان. إنّهما طيّبان للغاية.»
ينام الاثنان وآذانهما مفتوحة، إذ إنّهما يستيقظان على الفور: «يا معلّم! معلّمنا! لقد وصلتَ في الوقت المناسب! يوسف...»
«قد شُفي. لقد عالجتُ الأمر. هو ينام ولا يَعلم ذلك، ولكنه لم يعد يعاني مِن شيء. لم يعد عليه سوى تنظيف النتانة وسيكون سليماً معافى كما كان في السابق.»
«آه! طهِّرنا إذن كذلك إذ إنّنا قد أخطأنا.»
«بماذا؟»
«مِن أجل مساعدة يوسف، لم نذهب إلى الهيكل...»
«المحبّة تجعل هيكلاً في كل مكان. والله يتواجد في هيكل المحبّة. لو كنّا نحبّ بعضنا بعضاً، لا تعود الأرض سوى هيكل. كونوا بسلام. سيأتي يوم تكون العنصرة فيه تعني "الحبّ"، تجلّي الحبّ. لقد صنعتم مسبقاً عنصرة المستقبل، لأنّكم أحببتم أخاكم.»
مِن الغرفة الأخرى يدوّي صوت يوسف: «حنانيا! إيلي! سليمان! لقد شفيتُ!» ويَظهَر الرجل، مرتدياً فقط جلبابه القصير، نحيفاً، ما يزال شاحباً، إنّما لم يعد يعاني. يرى يسوع ويقول: «آه! هو أنتَ! معلّمي!» ويَهرَع ليُقبّل قدميه.
«ليمنحكَ الله السلام، يا يوسف، وسامحني إذا ما تألّمتَ بسببي.»
«لقد تمجّدتُ بسكب بعض الدم مِن أجلكَ، كما سَكَبَ أبي سابقاً. أبارككَ لجعلكَ إيّاي أهلاً لذلك!» ويشعّ وجه يوسف الخشن في فرح هذه الكلمات ويتخّذ نبلاً، جمالاً، أتاه مِن نور داخليّ.
يلاطفه يسوع ويتحدّث إلى سليمان: «بيتكَ يفيد في صنع خير كثير.»
«آه! ذلك أنّه لكَ الآن. سابقاً لم يكن يفيد سوى للنوم الثقيل لعابر. ولكنّني سعيد أنّه خَدَمَكَ وخَدَمَ هذا البارّ. الآن، ستكون لنا بعض أيّام ممتعة، هنا معكَ.»
«لا، يا أصدقائي. سوف تمضون في الحال. لم يعد مسموحاً لنا أن نرتاح. الوقت القادم سيكون وقت اختبار وفقط الإرادات الصلبة سوف تبقى أمينة. الآن سنقتسم الزاد معاً ثمّ تمضون في الحال، على طول النهر سابقين إيّاي بنصف يوم.»
«نعم، يا معلّم. كذلك يوسف؟»
«كذلك، على ألاّ يخشى مِن جرح جديد...»
«آه! يا معلّم! إن شاء الله أحصل على ذلك على أن أسبقكَ في الموت ساكباً دمي مِن أجلكَ!»
يَخرجون إلى الحديقة حيث أوّل شعاع شمس يجعل الندى يسطع. يقوم حنانيا بتشريفات البيت بقطف ثمار التين الأولى مِن على الأغصان الموجّهة بشكل أفضل، ويعتذر لعدم تقديمه زغلولاً لأنّ الفرخين قَدَّمَهما للمريض. إنّما هناك السمك، وبسرعة، بسرعة، يبدأ تحضير الطعام.
يتمشّى يسوع بين إيلي ويوسف اللذين يرويان مغامرتهما وقوّة سليمان الذي حَمَلَ الجريح على كتفيه طوال كيلومترات قُطِعَت في الليل، تقريباً دفعة واحدة…
«أمّا أنتَ يا يوسف فتُسامِح الذي ضربكَ، أليس كذلك؟»
«لم أشعر يوماً بالحقد تجاه هؤلاء البؤساء. لقد قدَّمتُ الغفران والألم مِن أجل فدائهم.»
«هذا ما يجب فِعله، أيّها التلميذ الصالح! وأوغلا؟»
«لقد مضى أوغلا مع تيمون. لستُ أعلم إذا ما كان سيستمرّ في اتّباعه أم إنّه سيتوقّف في حرمون. كان دائم القول بأنّه كان يبغي الذهاب إلى لبنان.»
«حسناً! فليقده الله إلى ما هو الأفضل.»
الآن، بين الأوراق، تُزقزق العصافير جوقة. الثغاء، أصوات الأولاد، والنساء، نهيق الحمير، صرير بَكَرات الآبار تُعلِن استيقاظ القرية.
في الحديقة ذاتها يُكسَر الخبز ويُوَزَّع السمك، ثمّ تنتهي الوجبة، ومباشرة بعد ذلك، يُبارِك يسوع التلاميذ الثلاثة الذين يغادرون البيت، ويجتازون مسرعين الدرب المؤدّي إلى النهر ليغوصوا في رطوبة وظلّ القصب.
لم يعد أحد يراهم…
«والآن فلنسترح حتّى المساء، بعد ذلك فلنتبعهم نحن أيضاً.» يأمر يسوع.
هنا كومة مِن الشِّباك صَنَعَها حنانيا الذي يقول بأنّه هكذا لا يبقى عاطلاً عن العمل ويكسب قوت يومه. عليها يتمدّد قسم مِن الرُّسُل والقسم الآخر على الأسرّة مِن أجل نوم مرمِّم.
في هذه الأثناء، يلمّ حنانيا الثياب التي يُبلّلها العَرَق، ويَخرُج دون إحداث ضجّة، يُغلِق الباب والشبّاك، ويهبط إلى النهر لغسلها لتكون نظيفة وجافّة في المساء...