ج8 - ف44

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الثامن

 

44- (يوم الجمعة السابق لدخول أورشليم. II- يسوع والتلميذات.)

 

22 / 03 / 1947

 

القاعة الجميلة -وهي واحدة مِن تلك الّتي تستخدم للولائم، ذات الجدران البيضاء وكذلك سقفها، ستائرها الثقيلة البيضاء، وحتّى السُّجُف الّتي تكسو المقاعد، ألواح الميكا أو المرمر الّتي تحلّ محلّ الزجاج للنوافذ- هي مليئة بثرثرة النسوة. حوالي خمس عشرة امرأة يتحدّثن فيما بينهنّ ليس بالأمر القليل. ولكن ما أن يَظهَر يسوع عند العتبة، مُبعِداً الستارة الثقيلة، حتّى يسود صمت مطبق، فيما يقفن كلّهن وينحنين بأعظم احترام.

 

«السلام لجميعكنّ.» يقول يسوع بابتسامة عذبة… فَما مِن أثر لعاصفة الألم الّتي سكنت للتوّ يبدو على وجهه، الصافي، المنير، الساكن كما لو أنّ لا شيء مؤلماً قد حدث أو على وشك الحدوث بمعرفة تامّة مِن قِبَله.

 

«السلام لكَ يا معلّم. لقد أتينا. قد أرسَلتَ تقول: "بقدر ما عند يُوَنّا مِن نسوة". وأنا قد أطعتُكَ. إليز كانت عندي. أُبقيها معي في هذه الأيّام. وكانت عندي هذه الّتي تقول إنّها مِن أتباعكَ. لقد أتت تستعلم عنكَ، فلم يعد خافياً أنّني تلميذتُكَ الوفيّة. وكذلك فاليريا هي معي، في منزلي مذ أنا في قصري. ومع فاليريا كانت بلوتينا، الّتي أتت لزيارتها. ومعهما كانت هذه. فاليريا ستخبركَ بشأنها. وبعدها أتت أناليا، إذ تمّ إعلامها برغبتكَ، وهذه الصّبيّة، هي قريبتها، على ما أعتقد. وقد أعددنا أنفسنا للمجيء، ولم ننسَ نيقي. إنّه لجميل جدّاً الشعور بأنّنا أخوات في إيمان واحد بكَ… الرجاء بأنّ اللواتي ما زلن على محبّة طبيعيّة للمعلّم، يرتقين أكثر، كما فعلت فاليريا.» تقول يُوَنّا، ناظرةً خلسةً إلى بلوتينا الّتي… قد لبثت على المحبّة الطبيعية…

 

«إنّ الماس يتشكّل على مهل يا يُوَنّا. تلزم عصور مِن نار دفينة… ينبغي ألاّ نتعجّل، أبداً. وألّا نُحبَط أبداً يا يُوَنّا…»

 

«وحينما تعود الماسة… رماداً؟»

 

«هي علامة على أنّها لم تكن بعد ماسة كاملة. يلزم بعد صبر ونار. إعادة البدء مجدّداً، راجين بالربّ. إنّ ما يبدو فشلاً في المرّة الأولى، غالباً ما يستحيل انتصاراً في المرة الثانية.»

 

«أو الثالثة، أو الرابعة، أو أكثر بعد. أنا كنتُ فشلاً مرّات عديدة، إنّما أخيراً أنتَ انتصرتَ يا رابّوني!» تقول مريم المجدليّة بصوتها المتناغم مِن عمق الصالة.

 

«مريم تُسَرّ في كلّ مرّة تتمكّن مِن أن تذلّ نفسها مُذَكِّرةً بالماضي.» تتنهّد مرثا الّتي تودّه ممحوّاً مِن ذاكرة كلّ القلوب.

 

«حقّاً يا أختاه، الأمر هو هكذا! إنّني مسرورة بتذكّر الماضي. إنّما ليس كي أذلّ نفسي كما تقولين. كي أرتقي بعد، مدفوعةً بذكرى الشرّ الّذي ارتكبتُه، والعرفان بجميل مَن خلّصني. وكذلك كي يتشجّع مَن يتردّد بالنسبة لنَفْسه، أو بالنسبة إلى شخص عزيز عليه، ويصل إلى ذلك الإيمان الّذي يقول معلّمي بأنّه سيكون قادراً على تحريك الجبال.»

 

«وأنتِ تمتلكينه. يا لغبطتكِ! إنّكِ لا تعرفين الخوف…» تتنهّد يُوَنّا، الوديعة والخجولة للغاية، وتبدو كذلك أكثر بعد إذا ما قورنت بالمجدليّة.

 

«إنّني لا أعرفه. إنّه لم يكن أبداً في طبيعتي البشريّة. والآن، منذ أصبحتُ لمخلّصي، لم أعد أعرفه حتّى بطبيعتي الروحيّة. كلّ شيء قد أفاد أكثر بإيماني. أيمكن يا ترى أنّ واحدة، قد قامت مِن الموت كما قمتُ أنا، وترى أخاها يقوم مِن الموت، أن تشكّ بعد بشيء؟ لا. فلا شيء سوف يجعلني أشكّ بعد.»

 

«ما دام الله معكِ، أي الرابّي إلى جانبكِ… لكنّه يقول أنّه سيفارقنا قريباً. ما الّذي سيكون عليه إيماننا حينذاك؟ أو بالأحرى إيمانكنّ، لأنّني لم أعبر بعد إلى ما وراء الحدود البشريّة…» تقول بلوتينا.

 

«إنّ وجوده المادّيّ أو غيابه المادّيّ لن يجرح إيماني. لن أخاف. إنّ هذا ليس كبرياء مِن جانبي. إنّه معرفة نَفْسي. وإذا كان على تهديدات السنهدرين أن تتحقّق... فأنا لن أخاف…»

 

«إنّما ما الّذي لن تخافيه؟ أن يكون البارّ بارّاً؟ إنّ هذا الخوف لن ينتابني أنا أيضاً. إنّنا نعتبره واحداً مِن حكماء كُثُر نتذوّق منهم الحكمة، أقول أحد من الّذين نتغذّى بحياة فِكرهم، بعد أن غابوا منذ عصور. لكن إذا أنتِ…» تُصرّ بلوتينا.

 

«أنا لن أخاف حتّى بسبب موته، فالحياة لا يمكن أن تموت. إنّ لعازر الّذي كان إنساناً مسكيناً قد قام مِن الموت…»

 

«لم يقم مِن تلقائه. إنّما لأنّ المعلّم قد استدعى روحه ممّا وراء القبر. صنيعة وحده المعلّم قادر عليها. لكن مَن الّذي سيستدعي روح المعلّم، إذا ما قُتِل المعلّم؟»

 

«مَن؟ هو. أي الله. إنّ الله كَوَّن ذاته بذاته، ويمكن لله أن يقيم ذاته.»

 

«الله… نعم… في إيمانكم الله كَوَّن ذاته بذاته. إنّ التسليم بذلك صعب بالنسبة لنا، نحن الّذين نعلم أن الآلهة يأتي واحدها مِن الآخر مِن جرّاء غراميّات بين الآلهة.»

 

«جرّاء غراميّات فاحشة، خرافيّة، يجب أن تقولي.» تقاطعها مريم المجدليّة باندفاع.

 

«كما تشائين…» تقول بلوتينا متساهلةً، وتهمّ بإنهاء عبارتها، ولكنّ مريم المجدليّة تقاطعها وتقول: «إنّما تقصدين أنّ الإنسان لا يمكنه أن يقوم مِن الموت بنفسه. لكن هو، كما أنّه قد تأنّس مِن ذاته، لأنّ لا شيء مستحيل بالنسبة لقدّوس القدّيسين، فهكذا هو سوف يعطي مِن ذاته لذاته أمر القيامة مِن الموت. أنتِ لا يمكنكِ أن تفهمي. إنّكِ لا تعرفين رموز تاريخنا الإسرائيلي. فهو [المسيح] وعجائبه متضمّنان فيها. وكلّ شيء سيتمّ تماماً كما قيل. إنّني أؤمن سلفاً يا ربّ. أؤمن بكلّ شيء. بأنّكَ ابن الله وابن العذراء، بأنّكَ حَمَل الخلاص، بأنّكَ المسيا كلّيّ القداسة، بأنّكَ الـمُحَرِّر والـمَلِك الكونيّ، بأنّ ملكوتكَ لن تكون له نهاية ولا حدود، وأخيراً بأنّ الموت لن يغلبكَ، لأنّ الحياة والموت قد خلقهما الله، وهما خاضعان له كما كلّ الأشياء. إنّني أؤمن. وإذا ما ألم رؤيتكَ مجهولاً ومُحتقَراً سيكون عظيماً، فسيكون عظيماً جدّاً إيماني بكينونتكَ الأزليّة. إنّني أؤمن. أؤمن بكلّ ما قيل عنكَ. أؤمن بكلّ ما تقولَه. لقد أحسنتُ الإيمان كذلك بالنسبة للعازر، الوحيدة الّتي أَحسَنَتْ الطاعة والإيمان، الوحيدة الّتي أَحسَنَتْ مقاومة أولئك الناس وتلك الوقائع الّذين كانوا يريدون إقناعي بعدم الإيمان. فقط في النهاية، عند أقصى حدود الاختبار، قد انتابني الضعف... ولكنّ الاختبار كان قد طال أمده كثيراً… وما عدتُ اعتقدتُ بعد أنّ حتّى أنتَ، أيّها المعلّم المبارك، يمكنكَ الاقتراب مِن حجر القبر بعد أيام عديدة مِن الموت… الآن… لن أشكّ بعد ولا حتّى لو أنّ قبراً ينبغي أن يُفتح بعد أشهر، بدلاً مِن أيّام، لاستعادة الفريسة الموجودة في جوفه. آه! يا ربّي! إنّني أعلم مَن تكون! إنّ الوحل قد عرف النجمة!» مريم جثمت عند قدميه، على الأرض الرخاميّة، لم تعد محتدّة، بل وديعة، وملامح تَعَبُّد ترتسم على وجهها المرفوع صوب يسوع.

 

«مَن أنا؟»

 

«أَهْيَهِ الّذي أَهْيَهْ1. هذا مَن أنتَ. الأمر الآخر، الشخص البشريّ، هو الثوب، الثوب الضروريّ الموضوع على بهائكَ وعلى قداستكَ، كي يستطيعا أن يأتيا وسطنا ويخلّصانا. ولكنّكَ الله، إلهي.» وترتمي أرضاً لتقبيل قدميّ المسيح، وتبدو غير قادرة على إبعاد شفتيها عن الأصابع البارزة مِن الثوب الكتّاني الطويل.

 

«انهضي يا مريم. تشبّثي دوماً بإيمانكِ الّذي تمتلكين. وارفعيه مثل نجمة في ساعات العاصفة كي تتفرّس به القلوب وتتحلّى بالرجاء، أقلّه هذا…»

 

ثمّ يتوجّه إلى جميعهنّ ويقول: «لقد استدعيتكنّ لأنّنا في الأيام الآتية لن نستطيع أن نلتقي إلّا قليلاً، في السلام. فالعالم سوف يحيط بنا. وأسرار القلوب سيكون حياؤها أعظم مِن سرّ الأجساد. اليوم أنا لستُ المعلّم. إنّني الصديق. ليس لدى جميعكنّ آمال أو مخاوف كي تقلنها لي. إنّما كان يسعد جميعكنّ أن تروني في السلام مرّة أخرى بعد. وأنا قد استدعيتكنّ، أنتنّ، صفوة إسرائيل والملكوت الجديد. وأنتنّ، صفوة الوثنيّة اللواتي تغادرن موضع الظلمات لدخول الحياة. احفظن هذا في قلبكنّ للأيّام الآتية: فليخفّف تكريمكنّ لِـمَلِك إسرائيل الـمُضطَهَد، المدان البريء، المعلّم الّذي لم يتمّ الإصغاء إليه، ألمي.

 

أطلب منكنّ أن تبقين متّحدات للغاية، أنتنّ الإسرائيليّات، أنتنّ يا مَن أتيتنّ إلى إسرائيل، أنتن المقبلات صوب إسرائيل. ليعضد بعضكنّ بعضاً. مَن هنّ أقوى بالروح ليعضدن الأضعف. مَن هنّ أكثر حكمة ليعضدن اللواتي يعرفن القليل أو اللواتي لا يعرفن شيئاً، ويملكن فقط الرغبة في حكمة جديدة، بحيث أنّ رغبتهنّ البشريّة، بفضل اعتناء الأخوات الأكثر ارتقاءً، تتطوّر إلى رغبة فائقة الطبيعة للحقّ. كُنَّ مفعمات رحمة تجاه بعضكنّ البعض. واللواتي أَهَّلَتهنّ في البرّ عصور مِن الشريعة الإلهيّة ليتحلّين بالرأفة تجاه اللواتي تجعلهنّ الوثنيّة… مختلفات. إنّ العادات الأخلاقيّة لا تتغيّر مِن يوم إلى يوم إلّا في حالات استثنائيّة، تتدخّل فيها قدرة إلهيّة لإعمال التغيير، كي تعضد إرادة بغاية الصلاح. لا تندهشن إذا ما رأيتنّ في اللواتي يأتين مِن ديانات أخرى توقّفاً في تقدّمهن أو حتّى في بعض الأحيان عودةً إلى الدروب القديمة. فكّرن في تصرّف إسرائيل تجاهي، ولا تتوقّعن مِن الوثنيّين الوداعة والفضيلة اللّتان لم يعرفهما إسرائيل، اللّتان لم يرد امتلاكهما تجاه المعلّم.

 

انظرن كأخوات بعضكن لبعض. أخوات قد جمعهنّ المصير حولي، في هذا الزمن الأخير لحياتي الفانية… لا تبكين! والّذي قد جمعكنّ آتياً بكنّ مِن أماكن مختلفة. وبالتالي بعادات ولغات مختلفة ممّا يجعل التفاهم البشريّ صعباً بعض الشيء. إنّما في الحقيقة هي المحبّة الّتي لها لغة واحدة، وهي هذه: فِعل ما يُعلّمه المحبوب، وفِعله لمنحه تكريماً وفرحاً. ها إنّكنّ في هذا تستطعن التفاهم جميعكنّ، واللواتي يفهمن أكثر ليساعدن الأخريات على الفهم. ومِن ثمّ… مستقبلاً، في مستقبل بعيد كثيراً أو قليلاً، في ظروف مختلفة، سوف تعاودن الانفصال عبر مناطق الأرض، قسم بالعودة إلى مسقط رأسكنّ، وقسم بالمضيّ إلى منفىً لن يثقل عليهنّ، لأنّ اللواتي سوف يكابدنه سيكنّ قد بلغن كمال الحقّ الّذي يجعلهنّ يفهمن أنّ ليس اقتيادهنّ إلى هنا أو هناك هو ما يشكّل نفياً مِن الوطن الحقيقيّ. بالفعل إنّ الوطن الحقيقيّ هو السماء. لأنّ مَن هو في الحقّ هو في الله ويحظى بالله فيه. وهو بالتالي قد أصبح في ملكوت الله، وملكوت الله لا يعرف حدوداً، ولن يخرج مِن هذا الملكوت الّذي مثلاً، يُقاد مِن أورشليم إلى إيبيريا [ما بين اسبانيا والبرتغال]، أو إلى بانوني [وسط أوروبا]، أو إلى الغول [فرنسا]، أو إلى إليريا [البلقان]. سوف تكنّ دوماً في الملكوت إن بقيتنّ دوماً في يسوع، أو إن أتيتنّ إلى يسوع. لقد أتيتُ لأجمع كلّ النعاج. نعاج القطيع الأبويّ، نعاج الآخرين، وتلك الّتي لا راعي لها، البريّة، التائهة أكثر منها برّية، الغارقة في ظلمات معتمة إلى درجة لا تسمح لها ولا حتّى برؤية أصغر حرف2، ليس مِن الشريعة الإلهيّة، بل كذلك مِن الشريعة الأخلاقيّة. أقوام مجهولة تنتظر أن تغدو معروفة في الساعة الّتي حددها الله لذلك، والّتي ستشكّل حينذاك جزءاً مِن قطيع المسيح. متى؟ آه! أعوام أو عصور هي سيّان بالنسبة للأزليّ! إنّما أنتنّ ستكنّ سابقات اللواتي سيمضين، مع الرعاة المستقبليّين، لجمع النعاج والحملان البريّة في المحبّة المسيحيّة، لقيادتها إلى المراعي الإلهيّة.

 

ولتكن هذه المواضع حقل اختباركنّ الأول. إنّ السنونوة الصغيرة الّتي ترفع جناحيها كي تطير لا تلقي بنفسها على الفور في المغامرة الكبرى. إنّها تجرّب طيرانها الأوّل مِن الإفريز إلى الكرمة الّتي تظلّل الشرفة، ثمّ تعود إلى عشّها وتنطلق مجدّداً إلى شرفة أبعد مِن شرفتها، وتعود. ومِن ثمّ إلى أبعد مجدّداً… إلى أن تشعر بأنّ عَصَب جناحها قويّ وتَوَجّهه واثق، حينذاك تُلاعِب الرياح والفضاء وتروح وتجيء مُزقزقةً، مُطارِدةً الحشرات، لامِسة الماء، معاودةً الارتفاع صوب الشمس، إلى أن في اللحظة المناسبة، تفتح جناحيها بثقة لطيران طويل إلى المناطق الأكثر دفئاً والغنيّة بطعام جديد، ولا تخشى عبور البحار، هي الصغيرة جدّاً، نقطة صلب مائل إلى البنّيّ تائهة بين زرقتيّ البحر والسماء الشاسعتين، نقطة تمضي بلا خوف، فيما كانت قبلاً تخشى الطيران القصير مِن طرف السطح إلى غصن الكرمة الـمُورِق، جسد عصبيّ، كامل، يشقّ الهواء كالسهم، ولا ندري إن كان الهواء هو الّذي ينقله بمحبّة، مَلِك الهواء الصغير هذا، أو إن كان هو، مَلِك الهواء الصغير، هو الّذي يجوب أملاكه بمحبّة. ومَن، إذ يرى طيرانه الواثق الّذي يستغل الرياح والكثافة الجوية ليمضي أسرع، يفكر بطيرانه الأوّل، خفق الأجنحة الأخرق والمملوء خوفاً؟

 

هكذا سيكون الأمر بالنسبة لكنّ. ليكن هكذا أمركنّ. أنتنّ وكلّ النفوس الّتي تقتدي بكنّ. إنّنا لا نغدو قادرين فجأة. لا تثبط عزيمتكنّ مِن الهزائم الأولى. لا يأخذكنّ الكبرياء عند الانتصارات الأولى. إنّ الهزائم الأولى تفيد في معاودة العمل على نحو أفضل. والانتصارات الأولى تفيد كمُـحَفِّز للعمل بشكل أفضل في المستقبل، والاقتناع بأنّ الله يعين الإرادات الصالحة.

 

كُنَّ دوماً خاضعات للرعاة فيما يخص الطاعة لنصائحهم وأوامرهم. كُنَّ دوماً أخوات لهم فيما هو عون في رسالتهم، وسند في تعبهم. قلن هذا كذلك لِمَن هنّ غير حاضرات هنا اليوم. قُلنه للواتي سيأتين في المستقبل.

 

وكُنَّ الآن وعلى الدوام كأنّكنّ بنات لأُمّي. هي سوف ترشدكنّ في كلّ شيء. يمكنها أن ترشد الصبايا كما الأرامل، الزوجات كما الأُمّهات، إذ أنّها قد اختبرت متطلّبات كلّ الحالات بتجربتها الشخصيّة، بالإضافة إلى حكمة فائقة الطبيعة. أحببن بعضكنّ وأحببنني في مريم. لن تفشلن أبداً، لأنّها شجرة الحياة، فُلْك الله الحيّ، هيئة الله الّتي اتّخذتها الحكمة مستقرّاً، وفيها النعمة تجسدت.

 

والآن وقد تكلّمتُ بشكل عام، الآن وقد رأيتكنّ، فإنّني أرغب بالاستماع إلى تلميذاتي، وإلى اللواتي هنّ مرتجى التلميذات المستقبليّات. اذهبن. أنا باقٍ هنا. لتأتي مِن بينكنّ اللواتي يردن التحدث إليَّ، لأنّنا لن نحظى أبداً بلحظة سلام حميم كهذه مرّة أخرى.»

 

النسوة يتشاورن فيما بينهن. إليز تخرج مع مريم ومريم الّتي لحلفى. مريم أخت لعازر تُنصِت إلى بلوتينا الّتي تريد إقناعها بأمر ما، إنّما يبدو أنّ مريم لا تريد، لأنّها هزّت رأسها بعلامات إنكار واضحة، ومِن ثمّ تمضي تاركةً مُـحَدِّثتها، وفيما تمرّ تأخذ معها أختها وسُوسَنّة قائلةً: «نحن سوف نحظى بوقت للتحدّث إليه. لندع معه اللواتي عليهنّ أن يرحلن.»

 

«تعالي يا سارة. نحن سنأتي في الآخِر.» تقول أناليا.

 

يخرجن كلّهنّ على مهل، ما عدا مريم سالومة الّتي تقف متردّدة عند الباب.

 

«تعالي إلى هنا يا مريم. أَغلِقي وتعالي إلى هنا. ممّاذا تخافين؟» يقول لها يسوع.

 

«الأمر هو أنّني… أنّني دوماً معكَ. أسمعتَ مريم أخت لعازر؟»

 

«لقد سمعتُ. إنّما تعالي إلى هنا. أنتِ أُمّ رسوليّ الأوَّلَين. ما الّذي تريدين قوله لي؟»

 

المرأة تقترب ببطء كَمَن يريد أن يطلب أمراً عظيماً ولا يعلم إن كان يستطيع فِعل ذلك.

 

يسوع يشجّعها بابتسامة وبقوله: «ماذا؟ أربّما تريدين أن تطلبي منّي مكاناً ثالثاً لزَبْدي؟ ولكنّه حكيم. حتماً هو لم يرسلكِ لتقولي هذا! تكلّمي إذن…»

 

«آه! يا ربّ! بالضبط عن هذا المكان كنتُ أريد أن أحدّثكَ. فأنتَ… تتكلّم بطريقة… كما لو أنّكَ على وشك أن تفارقنا. وأنا أودّ أن تقول لي قبل ذهابكَ أنّكَ قد غفرتَ لي حقّاً. ليس بي سلام لمجرّد التفكير بأنّني جعلتُكَ تستاء.»

 

«ألا تزالين تفكّرين بذلك؟ ألا يبدو أنّني أحبّكِ كما السابق وأكثر مِن السابق؟»

 

«آه! هذا نعم يا ربّ. إنّما قل لي بالضبط كلمة المغفرة. كي أتمكّن مِن أن أقول لزوجي كم كنتَ طيّباً معي.»

 

«إنّما لا حاجة لأن تروي خطيئة قد غُفِرت يا امرأة!»

 

«بالتأكيد سأرويها! لأنّه، هل ترى؟ إنّ زَبْدي، برؤيته كم تحبّ ابنيه، قد يقع في خطيئتي ذاتها و… إذا ما فارقتَنا، فَمَن يمكنه أن يغفر لنا؟ أودّ لو ندخل كلّنا إلى ملكوتكَ. كذلك زوجي. لا أعتقد بأنّني غير عادلة إن أردتُ ذلك. إنّني امرأة مسكينة ولا أعرف الكُتُب. إنّما حين تقرأ لنا أُمّكَ أو تتلو علينا مقاطع مِن الكتابات المقدّسة، لنا نحن النسوة، فإنّها غالباً ما تتحدّث عن نساء إسرائيل المختارات، وعن المواضع الّتي تتحدّث عنّا. وفي سفر الأمثال، الّذي يعجبني كثيراً، قد قيل أنّ قلب الزوج يثق بامرأته الشجاعة. وأنا أعتقد أنّه مِن العدل أن تعطي المرأة هذه الثقة لزوجها، حتّى فيما هو تجارة سماويّة. وإذا ما استحصلتُ له على مكان أكيد في السماء، مانعةً إيّاه مِن أن يخطئ، فإنّني أظنّ بأنّني أفعل أمراً حسناً.»

 

«نعم يا سالومة. حقّاً إنّكِ الآن قد فتحتِ فمكِ بالحكمة، وعلى لسانكِ مبادئ صلاح. اذهبي بسلام. لكِ أكثر مِن مغفرتي. وابناكِ، وفقاً للسفر الّذي يعجبك كثيراً، سوف يُعلنانكِ مغبوطة، وزوجكِ سوف يمتدحكِ في موطن الأبرار. اذهبي مطمئنّة. اذهبي بسلام. كوني سعيدة.» يباركها ويصرفها.

 

سالومة تمضي سعيدة تماماً.

 

تدخل العجوز حنّة الّتي مِن المنزل القريب مِن بحيرة ميرون، ممسكة بيديها صبيّين صغيرين، وخلفها فتاة صغيرة خجولة وشاحبة تسير خافضة الرأس، تكاد تكون أُماً وهي تقود طفلاً بالكاد يُحسِن المشي.

 

«آه! حنّة! أأنتِ أيضاً تريدين أن تتكلّمي معي إذن؟ وزوجكِ؟»

 

«مريض يا ربّ. مريض. مريض جدّاً. قد لا أعود لألقاه حيّاً…» دموع تسيل بين تجاعيد الوجه الـهَرِم.

 

«وأنتِ هنا؟»

 

«أنا هنا. هو قد قال لي: "أنا لا أستطيع. اذهبي أنتِ للفصح واحرصي على أن ابنينا…» بكاؤها يتعاظم ولا تستطيع الكلام.

 

«لماذا تبكين هكذا يا امرأة؟ إنّ زوجكِ قد أحسن القول: "احرصي على ألّا يكون ابنانا ضدّ المسيح لأجل سلامهما الأبدي". إنّ يهوذا بارّ هو، إنّه يحرص على خير ابنيه أكثر منه على حياته والتعزية الّتي كانت لتحظى بها جراء اعتنائكِ. إنّ الحُجُب تُرفَع في الساعات الّتي تسبق موت الأبرار، وعينا الروح تريان الحقّ. لكنّ ابنيكِ لا يصغيان إليكِ يا امرأة. وما الّذي بإمكاني فِعله إن كانا يصدّانني؟»

 

«لا تكرههما يا رب!»

 

«ولماذا عليَّ أن أفعل ذلك؟ سوف أصلّي مِن أجلهما. ولهؤلاء، الأبرياء، سوف أضع يديَّ كي أُبقي الكراهية الّتي تقتل بعيدةً عنهم. تعالوا إليَّ. أنتَ مَن تكون؟»

 

«يهوذا، مثل والد والدي.» يقول الصبيّ الأكبر، والصبي الأصغر، الّذي تمسكه أخته بيده، يقفز ويصيح: «أنا، أنا يهوذا!»

 

«نعم. لقد أكرما الأب بمنح اسمه لابنيهما. إنّما ليس بأمور أخرى…» تقول العجوز.

 

«فضائله سوف تنبعث فيهما. تعالي أنتِ أيضاً أيّتها الصغيرة. كوني طيّبة وحكيمة مثل الّتي أتت بكِ إلى هنا.»

 

«آه! مريم هي كذلك! سوف أصطحبها معي إلى الجليل كي لا أكون وحدي.»

 

يسوع يبارك الأطفال، مُبقياً يده على رأس الفتاة الصغيرة الطيّبة. ثمّ يَسأَل: «ولنفسكِ ألا تطلبين شيئاً يا حنّة؟»

 

«أن أعود لأجد عزيزي يهوذا حيّاً، وأن أمتلك الشجاعة كي أكذب قائلةً إنّ ابنيه…»

 

«لا. كذب لا. أبداً. ولا حتّى لأجل أن يموت محتضر بسلام. ستقولين ليهوذا: "لقد قال المعلّم أنّه يبارككَ، ومعكَ يبارك دمكَ". إنّ هذه الطفولة البريئة هي دمه كذلك، وأنا قد باركتُها.»

 

«لكن إن سأل إذا ما ابنانا…»

 

«ستقولين: "إنّ المعلّم قد صلّى لأجلهما". ويهوذا سوف يرقد في يقين أنّ صلاتي قادرة، وستكون الحقيقة قد قيلت دون تثبيط عزيمة المحتضر. لأنّني سوف أصلي كذلك لأجل ابنيكِ. امضي أنتِ أيضاً بسلام يا حنّة. متى تغادرين المدينة؟»

 

«غداة السبت، كي لا أتوقّف في الطرقات بسبب السبت.»

 

«حسناً. إنّني مسرور لبقائكِ هنا لما بعد السبت. ابقي متّحدةً جدّاً بإليز ونيقي. امضي. وكوني شُجاعة ووفيّة.»

 

المرأة أصبحت تقريباً قرب الباب عندما يعاود يسوع مناداتها: «اسمعي. إنّ أحفادكِ سيبقون طويلاً معكِ، أليس كذلك؟»

 

«دوماً، طالما أنا في المدينة.»

 

«خلال هذه الأيّام… أبقيهم في المنزل، إذا ما خرجتِ كي تتبعيني.»

 

«لماذا يا ربّ؟ أتخشى الاضطهاد؟»

 

«نعم. ويُستحسن ألّا ترى البراءة وألّا تسمع…»

 

«لكن… ما الّذي تتصوّر حدوثه؟»

 

«امضي يا حنّة، امضي.»

 

«يا ربّ، إذا… إذا كان ينبغي أن يفعلوا ما يقال، فحتماً ابناي… وآنذاك سيكون المنزل أسوأ مِن الشارع…»

 

«لا تبكي. الله سيدبّر الأمر. السلام لكِ.»

 

العجوز تمضي باكيةً.

 

لبرهة لا أحد يدخل، ثمّ، التلميذتان يُوَنّا وفاليريا تدخلان معاً. إنّهما مضطربتان. خصوصاً يُوَنّا. الأخرى شاحبة وتتنهّد، ولكنّها أكثر رباطة جأش.

 

«يا معلّم إنّ حنّة قد أخافتنا. لقد قلتَ لها… آه! لكن ذلك ليس بصحيح! إنّ خُوزي قد يكون مُرتاباً… قد يكون متحسّباً… إنّما هو ليس بكاذب! هو يؤكّد لي أنّ هيرودس لا رغبة له بإيذائكَ… أنا لا أعلم شيئاً عن البنطيّ…» وتنظر إلى فاليريا الّتي تصمت. وتستأنف: «كنتُ آمل بأن أفهم شيئاً ما عن طريق بلوتينا، لكنّني لم أفهم الكثير…»

 

«لا شيء، ينبغي أن تقولي، ما عدا أنّها لم تتقدّم خطوة واحدة مِن النقطة الّتي كانت فيها. إنّها لم تتحدّث لي أنا أيضاً. لكن، إذا ما أنا قد فهمتُ حسناً، فإنّ عدم الاكتراث الرومانيّ، القويّ جدّاً على الدوام عندما لا يكون لحدث ما تداعيات على الوطن أو على الأنا الشخصيّة، قد أطبق بشدّة على أولئك اللواتي كنّ يبدين مستعدّات للتحرّك فيما مضى. وأكثر بعد مِن كَون دُنوّي من الهيكل يفصلنا، فإنّ عدم الاكتراث ذاك، خمولهنّ الفكريّ ذاك، الّذي أصبح مختلفاً جدّاً عن فِكري، يفصلاننا مثلما يفصل خندق قطعتي أرض كانتا قبلاً متّحدتين. لكنّهن سعيدات. سعيدات على طريقتهنّ… والسعادة البشريّة لا تساعد على إبقاء الفِكر يقظاً.»

 

«وعلى إيقاظ الروح يا فاليريا.» يقول يسوع.

 

«هو هكذا يا معلّم. أنا… وهو أمر آخر… أرأيتَ تلك المرأة الّتي كانت معنا؟ هي واحدة مِن العائلة. أرملة ووحيدة. لقد أتت إليَّ مُرسَلةً مِن أهلي لإقناعي بالعودة إلى إيطاليا. آه! وعود كثيرة بأفراح مستقبليّة! أفراح ما عدتُ أُقدّرها، والّتي لهذا السبب لم تعد تبدو لي كذلك، وأدوسها. لن أذهب إلى إيطاليا. هنا لديَّ أنتَ وطفلتي، الّتي خلّصتَها لي والّتي علّمتَني أن أحبّها لأجل نَفْسها. لن أترك هذه الأماكن… مارسيلّا… قد أحضرتُها معي كي ترى وتفهم أنّني لا أبقى هنا لأجل عشق معيب ليهوديّ -بالنسبة لنا هو معيب- بل لأنّني وجدتُ فيكَ تعزيةً في ألمي كامرأة مُطَلَّقة. مارسيلّا ليست سيّئة. لقد عانت. وهي تفهم. إنّما هي مع ذلك ما تزال غير قادرة على فهم ديانتي الجديدة. إنّها تؤنّبني بعض الشيء، مُتصوّرةً أنّها ديانة خياليّة... لا يهمّ. وإن أرادت. فستأتي هي إلى حيث أصبحتُ أنا. وإن لا، فسأبقى هنا مع توسنيلدا. إنّني حرّة. غنيّة. يمكنني أن أفعل ما أشاء. وأفعل ما أشاء، دون ارتكاب إثم.»

 

«وعندما لا يعود المعلّم موجوداً بعد؟»

 

«ستبقى تلميذاته. بلوتينا، ليديا، كلوديا نفسها، الّتي هي، مِن بعدي، أكثر مَن تتبعكَ في عقيدتكَ والأكثر تكريما لكَ، لم يفهمن بعد بأنّني لم أعد تلك المرأة الّتي يعرفنها، ويعتقدن بأنّهنّ لا زلن يعرفنها. لكنّني واثقة مِن أنّني أصبحتُ أعرف نفسي. إلى درجة أن أقول بأنّني، وإن كنتُ سأخسر كثيراً بخسارتي للمعلّم، فإنّني لن أخسر كلّ شيء، لأنّ الإيمان سيبقى. وأنا أريد أن أبقى حيث وُلِد. لا أريد أن آخذ فوستا إلى حيث لا شيء يتحدّث عنكَ. هنا… كلّ شيء يتحدّث عنكَ، وحتماً أنتَ لن تتركنا دونما مُرشِد، نحن اللواتي أردنا أن نتبعكَ. ولماذا يجب أن أكون أنا، الوثنيّة، مَن يجب أن تمتلك هذا الأفكار، فيما كثيرات منكنّ، أنتِ بذاتكِ، تبدين كأنّكنّ ضائعات وأنتن تفكّرن باليوم الّذي لن يعود فيه المعلّم بيننا؟»

 

«هذا لأنّهن قد اعتدن على عصور مِن الجمود يا فاليريا. إنّها فكرتهنّ بأنّ العليّ هو هناك، في مسكنه، فوق المذبح غير المنظور حيث وحده الكاهن الأعظم يراه في مناسبات احتفاليّة. هذا ما ساعدهنّ في المجيء إليّ، فقد كان بإمكانهنّ أخيراً أن يقتربن مِن الربّ. لكنّهن الآن يخشين ألّا يحظين بعد لا بالعليّ في مجده ولا بكلمة الآب وسطهنّ. ولكن ينبغي التماس العذر… والارتقاء بالروح يا يُوَنّا. أنا سأكون داخلكنّ. تذكّري ذلك. إنّني سأمضي. لكنّني لن أترككنّ يتيمات. سوف أترك لكنّ مسكني: كنيستي. كلمتي: البشرى الحسنة [الإنجيل]. محبّتي سوف تقيم في قلوبكنّ. وأخيراً سأترك لكنّ عطيّة أعظم سوف تغذيكنّ منّي، وتعمل، لا روحيّاً فقط، بحيث أكون بينكنّ وداخلكنّ. سوف أفعل ذلك كي أمنحكنّ تعزية وقوّة. إنّما الآن… فإنّ حنّة مُكدّرة للغاية بسبب الأطفال…»

 

«لقد حَدّثَتنا عن ذلك، بقلق…»

 

«نعم. لقد قلتُ لها بأن تبقيهم بعيداً عن الناس. وأقول ذات الشيء لكِ يا يُوَنّا، ولكِ يا فاليريا.»

 

«سوف أرسل فوستا مع توسنيلدا إلى بِتّير قبل الموعد المحدّد. كان عليهما الذهاب إلى هناك بعد العيد.»

 

«أنا لا. إنّني لن أنفصل عن الأولاد. سوف أبقيهم في المنزل. لكنّني سأقول لحنّة أن تدع أطفالها هنا. إنّ أولاد تلك المرأة أشقياء، لكنّهم سيُكرّمون بدعوتي ولن يعارضوا أُمّهم. وأنا…»

 

«أنا أودّ…»

 

«ماذا يا معلّم؟»

 

«أن تكنّ متّحدات جدّاً في هذه الأيّام. سأُبقي معي أخت أُمّي، سالومة وسُوسَنّة وأُختَي لعازر. إنّما أودّ رؤيتكنّ متّحدات، متّحدات جدّاً.»

 

«ولكن ألن نستطيع المجيء إلى حيث تكون؟»

 

«في تلك الأيّام سأكون مثل برق يلتمع سريعاً ويختفي. سوف أصعد إلى الهيكل في الصباح ومِن ثمّ سأغادر المدينة. ولن تستطعن لقائي خارج هذا المرور كلّ صباح إلى الهيكل.»

 

«في العام الماضي كنتَ عندي…»

 

«هذا العام لن أكون في أيّ منزل. سأكون البرق الّذي يعبر بسرعة…»

 

«إنّما الفصح…»

 

«أرغب أن أتمّه مع رسلي يا يُوَنّا. وإن كان معلّمكِ يشاء هذا، فحتما هو يريد ذلك لسبب محقّ.»

 

«هذا صحيح… سأكون إذن وحدي… لأنّ أَخَوَيّ قد قالا لي بأنّهما يريدان أن يكونا حرّين في هذه الأيّام، وخُوزي...»

 

«يا معلّم، أنا أنصرف. إنّها تمطر بشدّة. سأقصد الأطفال الّذين تجمّعوا تحت الرواق.» تقول فاليريا الّتي تنسحب بفطنة.

 

«إنّها تمطر بشدّة كذلك في قلبكِ يا يُوَنّا.»

 

«هذا صحيح يا معلّم. إنّ خُوزي هو بغاية… الغرابة. لم أعد أفهمه. إنّه تناقض مستمرّ. ربّما لديه أصدقاء يؤثّرون على تفكيره… أو قد تمّ توجيه تهديد ما إليه… أو يخشى على مستقبله.»

 

«هو ليس الوحيد. وبالأحرى، يمكنني القول بأنّهم قلائل ومنفردون موزّعون هنا وهناك أولئك الّذين لا يخشون الغد مثلي، ودوماً سيكونون أقلّ عدداً. كُوني وديعة وصبورة جدّاً معه. فهو ليس سوى إنسان…»

 

«لكنّه قد تلقّى الكثير مِن الله، منكَ، بحيث كان عليه…»

 

«بحيث كان عليه! نعم. إنّما مَن لم يتلقّ منّي في إسرائيل؟ لقد صنعتُ خيراً مع الأصدقاء والأعداء، غفرتُ، شفيتُ، عزّيتُ، عَلَّمتُ… إنّكِ ترين، وسترين أكثر على الدوام، كيف أنّ الله وحده هو الّذي لا يتبدّل، كم هي مختلفة ردود فِعل البشر، وكم غالباً مَن تلقّى أكثر هو الأكثر استعداداً لضرب مَن أحسن إليه. حقّاً سوف يمكن القول أنّ ذاك الّذي أكل معي خبزي قد رفع عليَّ عَقِبَهُ.»

 

«أنا لن أفعل ذلك يا معلّم.»

 

«أنتِ لا. إنّما كُثُر فنعم.»

 

«هل يمكن أن يكون زوجي مِن هؤلاء؟ إن كان الأمر كذلك، فأنا لن أعود إلى منزلي هذا المساء.»

 

«لا. هو ليس مِن هؤلاء هذا المساء. إنّما، حتّى ولو كان كذلك، فإنّ مكانكِ هناك. بحيث إن هو خطئ، فأنتِ يجب ألّا تخطئي. وإن هو ترنّح، فعليكِ أن تسنديه. وإن هو داسكِ، فيجب أن تغفري.»

 

«آه! يدوسني، لا! هو يحبّني. لكنّني أودّه أكثر وثوقاً بنفسه. فهو يؤثّر كثيراً على هيرودس. أودّ لو ينتزع مِن حاكم الربع وعداً لأجلكَ، مثلما تعتزم كلوديا انتزاعه مِن بيلاطس. لكنّ خُوزي لم يُحسِن سوى أن ينقل لي عبارات مُبهَمَة لهيرودس… وأن يؤكّد لي أنّ ليس به سوى رغبة أن يرى منكَ معجزة ما، وأنّه لن يضطهدكَ… آمِلاً بأن يُسكِت بذلك تأنيب ضميره بسبب يوحنّا. خُوزي يقول: "إنّ مَلِكي لا يكفّ عن القول: حتّى لو كانت السماء تأمرني بذلك، فلن أرفع يدي عليه. إنّ بي خوفاً شديداً".»

 

«إنّه يقول الحقيقة. فهو لن يرفع يده عليَّ. كُثُر في إسرائيل لن يفعلوا ذلك، لأنّ كثيرين يخافون أن يدينونني بشكل ملموس، لكنّهم سيطلبون مِن آخرين أن يفعلوا ذلك، كأنّ هناك فرق في عينيّ الله بين مَن يضرب تحت ضغط إرادة الشعب، ومَن يأمر بالضرب.»

 

«آه! ولكنّ الشعب يحبّكَ! احتفالات عظيمة تُعَدّ لأجلكَ. وبيلاطس لا يريد فوضى. لقد عزّز الجند هذه الأيّام. إنّني أرجو كثيراً بأن… لا أدري بماذا أرجو يا ربّ. أرجو وأُحبَط. إنّ فِكري متقلّب مثل هذه الأيّام حيث الشمس والمطر يتناوبان…»

 

«صلّي يا يُوَنّا وكوني في سلام. لا تكفّي عن التفكير بأنّكِ لم تَتَسبّبي أبداً بألم للمعلّم، وأنّه يتذكّر ذلك. امضي.»

 

يُوَنّا، الّتي غدت شاحبة والّتي نحلت خلال هذه الأيّام القليلة، تخرج مستغرقة بالتفكير.

 

هو وجه أناليا اللطيف الّذي يطلّ.

 

«تقدّمي. أين هي رفيقتكِ؟»

 

«هناك يا معلّم. تريد العودة، إنّهن يشرعن بالرحيل. مرثا أدركت رغبتي وستبقيني حتّى مغيب الغد. سارة تعود إلى المنزل كي تقول أنّني أبقى. إنّها تودّ بركتكَ لأنّ… إنّما سأقول لكَ فيما بعد.»

 

«فلتأتي. سوف أباركها.»

 

الصبيّة تخرج لتعود مع رفيقتها، الّتي تسجد أمام الربّ.

 

«ليكن السلام معكِ، ولتقدكِ نعمة الربّ إلى الدروب حيث قادتكِ الّتي تقدّمتكِ. كوني عطوفةً على أُمّها، وباركي السماء الّتي جنّبتكِ الارتباطات والآلام كي تكوني بكلّيتكِ لها. يوماً ما، بأكثر مِن الآن، سوف تباركينها لأنّكِ بقيتِ عاقراً بإرادتكِ. امضي.»

 

الصَّبيّة تمضي متأثّرة.

 

«لقد قلتَ لها كل ما كانت ترجوه. إنّ هذه الكلمات كانت حلمها. فسارة كانت تقول دوماً: "يعجبني مصيركِ، ولو أنّه جديد جدّاً في إسرائيل، وأريده أنا أيضاً. وحيث أنّه لم يعد لديَّ أب، وأُمّي وديعة كما حمامة، فإنّني لا أخشى عدم تمكّني مِن اتّباعه. إنّما كي أكون واثقة مِن قدرتي على إتمام ذلك، وأنه مقدّس بالنسبة لي كما هو بالنسبة لكِ، فإنّني أودّ أن أسمع ذلك مِن فمه". الآن أنتَ قلتَه لها. وأنا أيضاً في سلام. فأحياناً كانت تصيبني الخشية مِن أنّني قد هَيَّجتُ قلباً…»

 

«منذ متى هي معكِ؟»

 

«منذ… حين وصل إخطار السنهدرين قلتُ لنفسي: "إنّ ساعة المعلّم قد حانت، وينبغي أن أعدّ نفسي للموت. فأنا قد طلبتُ منكَ ذلك يا معلّم… واليوم أذكّركَ به… إن أنتَ تمضي إلى التضحية، فأنا، أضحية، معكَ.»

 

«ألا تزالين تريدين بشدّة الأمر ذاته؟»

 

«نعم يا معلّم. فلن أستطيع العيش في عالم أنتَ لستَ فيه… ولن أستطيع الصمود أمام تعذيبكَ. بي خوف شديد عليكَ! كثيرات منّا يتوهّمن… لا أنا! إنّني أشعر بأنّ الساعة قد حانت. فالكراهية شديدة هي… وأرجو أن تتقبّل تقدمتي. لا أملك ما أمنحكَ سوى حياتي، لأنّني فقيرة، أنتَ تعلم ذلك. حياتي وطهارتي. لذلك فقد أقنعتُ أُمّي بأن تستدعي أختها لعندها. كيلا تبقى وحدها. سارة ستكون ابنتها مكاني، وأُمّ سارة ستكون تعزية لها. لا تخذل قلبي يا ربّ! ليس للعالم أيّ جاذب بالنسبة لي. هو بالنسبة لي سجن حيث أمور كثيرة تسبّب لي أشدّ النّفور. ربّما لأنّني كنتُ على أعتاب الموت قد أدركتُ أنّ ما يمثّل الفرح بالنسبة لكثيرين ما هو إلّا فراغ لا يُشبِِع. حتماً أنا لا أرغب إلّا بالتضحية… وأن أسبقكَ... كي لا أرى كراهية العالم ملقاة كما سلاح تعذيب على ربّي، وأشبهكَ في العذاب.»

 

«سوف نضع إذن الزنبقة المقطوفة على المذبح حيث يضحّي الحَمَل بنفسه، وسوف تغدو حمراء بالدم الفادي. ووحدها الملائكة ستعرف أنّ المحبّة هي كانت المضحيّة برِخْلَة [مؤنث حَمَل] بيضاء تماماً، وسوف يسجّلون اسم ضحيّة المحبّة الأولى، استمراريّة المسيح الأولى.»

 

«متى يا ربّ؟»

 

«امسكي مصباحك الجاهز وابقي بملابس العرس. إنّ العريس عند الباب. سوف ترين انتصاره لا موته، إنّما سوف تنتصرين معه بدخولكِ ملكوته.»

 

«آه! إنّني أكثر نساء إسرائيل سعادة! إنّني الـمَلِكة الـمُكلّلة بإكليلكَ! أيمكنني، كوني كذلك، أن أسألك نعمةً؟»

 

«أيّة نعمة؟»

 

«لقد أحببتُ رجلاً، تعلم ذلك. ما عدتُ أحببتُه كما عريس لأنّ محبّةً أعظم قد تملّكتني، وهو ما عاد بعد يحبّني لأنّ… ولكنّني لا أريد التذكير بماضيه. إنّني أسألكَ أن تفتدي ذاك القلب. أيمكنني ذلك؟ ليس خطيئةً ابتغائي تذكّر مَن كنتُ أحبّه، فيما أنا على عتبة الحياة، كي أمنحه الحياة الأبديّة، أليس كذلك؟»

 

«هو ليس خطيئة. بل الوصول بالمحبّة إلى الخاتمة المقدّسة للتضحية في سبيل خير المحبوب.»

 

«باركني إذن يا معلّم. أَبرِئني مِن كلّ خطيئتي. اجعلني جاهزةً للعرس ولمجيئكَ، لأنّكَ أنتَ الّذي يأتي، يا إلهي، لاصطحاب خادمتكَ المسكينة وجعلها عروسكَ.»

 

الصّبيّة، المتألّقة فَرَحاً وعافية، تنحني لتقبيل قدميّ المعلّم، فيما هو يباركها وهو يصلّي عليها. وفي الحقيقة إنّ القاعة، البيضاء كما لو أنّها كلّها مِن زنبق، هي بحقّ بيئة جديرة بهذا الطقس، وتتوافق مع بطليها، الشابّيَن، الجميليَن، اللّابِسيَن بياضاً، المتألقيَن بمحبّة ملائكيّة وإلهيّة.

 

يسوع يغادر الصبيّة، المستغرقة في فرحها، ويخرج بهدوء كي يذهب ويبارك الأطفال، الّذين يندفعون بصيحات فرح صوب العربة ويصعدون إليها مسرورين إلى جانب النسوة الراحلات. تبقى إليز ونيقي كي ترافقا أناليا إلى المدينة في اليوم التالي. توقّف هطل المطر، والسماء، إذ تفرّقت الغيوم، تُظهِر زُرقتها، والشمس تلقي بأشعّتها كي تجعل قطرات المطر تشعّ بالنور. قوس قزح بديع يصل بانحنائه بيت عنيا بأورشليم. العربة تمضي وهي تُصدِر صريراً وتخرج عبر البوابة. تختفي.

 

لعازر، الّذي هو قرب يسوع، عند طرف الرواق، يَسأَل: «هل منحتكَ التلميذات فَرَحاً؟» ويراقب المعلّم.

 

«لا يا لعازر. فجميعهنّ، إلّا واحدة، قد أعطينني آلامهن وكذلك خيبات أمل، إذا ما أوهمتُ نفسي.»

 

«أتقصد أنّ الرومانيّات قد خيّبن أملكَ؟ هل حدّثنكَ عن بيلاطس؟»

 

«لا.»

 

«فإذن ينبغي أن أفعل أنا ذلك. كنتُ آمل بأن يحدّثنكَ هنّ عنه. لذلك انتظرتُ. لندخل إلى هذه الغرفة المنعزلة. فالنسوة قد مضين لأشغالهنّ مع مرثا. أمّا مريم فهي مع أُمّكَ، في المنزل الآخر. إنّ أُمّكَ قد أمضت وقتاً طويلاً مع يهوذا، والآن هي قد اصطحبته معها… اجلس يا معلّم… لقد كنتُ عند الوالي… لقد وعدتُ بذلك وقمتُ به. لكنّ سمعان بن يونى لن يكون بغاية الرضى عن مهمّتي!... لحسن الحظ أنّ سمعان لم يعد يفكّر بالأمر. والوالي قد استمع لي وأجابني بهذه الكلمات: "أنا؟ أتعاطى بشأنه؟ إنّما ليس بي ولا حتّى ظلّ أبعد فكرة لفعل ذلك! أقول فقط هذا: أنّ ليس بسبب الرجل -أي أنتَ يا معلّم- بل لأجل كلّ المتاعب الّتي تأتيني بسببه، فإنّني قرّرتُ بحزم ألّا أتعاطى بشأنه بعد، لا في الخير ولا في الشرّ. إنّني أغسل يديّ منه. إنّني أعزّز الجند حيث أنّني لا أريد فوضى. فبهذه الطريقة سوف أرضي قيصر، زوجتي ونفسي. أي الوحيدين الّذين أهتمّ بهم اهتماماً مقدّساً. وبالنسبة للباقي فلا أحرّك إصبعاً. فنزاعات أولئك الساخطين الأبديّين، هم يخلقونها، وهم يستمتعون بها. إنّني أجهل الرجل شرّيراً كان أم فاضلاً أم حكيماً. وأريد أن أجهله. أن أتابع جهلي له. ومع ذلك، رغم رغبتي تلك، فأنّني لا أتمكّن مِن ذلك إلّا بصعوبة، فرؤساء إسرائيل يحدّثونني عنه بنحيبهم، وكلوديا بمديحها، وأنصار الجليليّ بتذمّرهم مِن السنهدرين. ولو لم يكن لأجل كلوديا، لكنتُ قبضتُ عليه وسلّمتُه لهم كيما ينتهوا مِن هذه القضيّة ولا أعود أسمع عنها. إنّ الرجل هو التابع الأهدأ في الامبراطوريّة بأسرها. لكنه، رغم ذلك، قد سبّب لي متاعب كثيرة بحيث أنّني أودّ حَلّاً…" إنّه بهذا المزاج يا معلّم…»

 

«أتريد القول بأنّ لا مجال للاطمئنان. أنّ مع البشر لا اطمئنان أبداً…»

 

«إنّما مع ذلك يتبيّن لي أنّ السنهدرين هو أكثر هدوءاً. إنّهم لم يُذكّروا بأمر التوقيف، والتلاميذ لم يتمّ إزعاجهم. بعد قليل سيعود أولئك الّذين ذهبوا إلى المدينة. وسوف نستعلم منهم… معارضتكَ: دوماً. أمّا مهاجمتكَ؟… إنّ الجموع تحبّك كثيراً كي يمكن تحدّيها بتهوّر.»

 

«أنذهب صوب الطريق لملاقاة مَن يعودون؟» يقترح يسوع.

 

«لنذهب.»

 

يخرجان إلى الحديقة، وفي منتصف الطريق يَسأَل لعازر: «إنّما متى تناولتَ الطعام؟ وأين؟»

 

«عند الساعة الأولى.»

 

«لكنّ الشمس توشك على المغيب. فلنعد أدراجنا.»

 

«لا. لا أشعر بالحاجة لذلك. أُفضّل الذهاب. هناك عند البوّابة أرى طفلاً مسكيناً يتشبّث بها. قد يكون جائعاً. إنّه مكروب وشاحب. إنّني أراقبه منذ بعض الوقت. لقد كان هناك عندما خرجت العربة، وقد هرب لئلّا يُرى وربّما يُطرَد. ثمّ عاد وهو ينظر صوب المنزل وصوبنا بإلحاح.»

 

«إذا كان جائعاً فيكون مِن المستحسن أن أذهب لأجلب طعاماً. تقدّم يا معلّم. سأوافيكَ حالاً.» ولعازر يعود على أعقابه راكضاً فيما يسوع يحثّ الخطى صوب البوّابة.»

 

الطفل، وجه متهالك وغير متّسق، فيه تلتمع فقط عينان جميلتان وحيويّتان، ينظر إليه.

 

يسوع يبتسم له بلطف ويقول له، فيما يحرّك مزلاج القفل: «عمّن تبحث أيّها الطفل؟»

 

«هل أنتَ الربّ يسوع؟»

 

«أنا هو.»

 

«أبحث عنكَ.»

 

«مَن مُرسلكَ؟»

 

«لا أحد. لكنّني أريد أن أكلّمكَ. كُثُر يأتون للتحدّث إليكَ. وأنا كذلك. إنّكَ تستجيب كثيرين. وأنا كذلك.»

 

يسوع يحرّك القفل، ويرجو الطفل أن يترك القضبان الّتي يمسكها بيديه النحيلتين، كي يتمكّن مِن أن يفتح. الطفل يبتعد، وفيما هو يفعل ذلك، يحرّك ثوبه الصغير الباهت الّذي يكسو جسده المشوّه، فيمكن رؤية أنّه طفل مسكين معاق (كَسيح)، رأسه غائر بين كتفيه بسبب بداية حدبة، الساقان متباعدتان بفعل مشيته غير الثابتة. بائس صغير بحقّ. إنّه ربّما أكبر سناً ممّا توحي به قامته، الّتي هي قامة طفل يبلغ مِن العمر ستّة أعوام تقريباً، بينما وجهه الصغير هو وجه رجل، متجعّد بعض الشيء، بذقن بائنة، يكاد يكون وجه رجل مسنّ.

 

يسوع ينحني كي يلاطفه ويقول له: «قلّ لي إذن ما الّذي تريده. أنا صديقكَ. إنّني صديق جميع الأطفال.» بأيّ عذوبة مُفعمة بالمحبّة يأخذ يسوع الوجه الصغير بين يديه ويقبّله عند الجبهة!

 

«أعلم ذلك. لذلك أتيتُ. أنتَ ترى حالي؟ أودّ أن أموت كي لا أعاني بعد. وكي لا أعود بعد تابعاً لأحد… أنتَ الّذي شفيتَ الكثيرين وأقمتَ الموتى، اجعلني أموت، أنا الّذي لا يحبّني أحد ولن أستطيع العمل أبداً.»

 

«أليس لكَ أهل؟ هل أنتَ يتيم؟»

 

«لديّ أب، نعم. لكنّه لا يحبّني لأنّني هكذا. لقد طرد أُمّي وأعطاها ورقة طلاق، وطردني معها، وأُمّي ماتت. بسببي لأنّني مشوّه هكذا.»

 

«ولكن مع مَن تُقيم؟»

 

«عندما ماتت أُمّي، أعادني الخدّام إلى أبي، إنّما هو، الّذي تزوّج مجدّداً ولديه أولاد رائعون، طردني. لقد أعطاني إلى فلّاحيه، الّذين يتصرّفون مثل معلّمهم لنيل رضاه… ويعذّبونني.»

 

«هل يضربونكَ؟»

 

«لا. لكنّهم يعتنون بالبهائم أكثر مِن اعتنائهم بي، ويحتقرونني، ولأنّني غالباً مريض فقد ضجروا منّي. إنّني أغدو مُشوّهاً أكثر فأكثر، وأولادهم يسخرون منّي ويوقعونني. لا أحد يحبّني. وهذا الشتاء، عندما أصابني سعال شديد وكانت تلزمني أدوية، فإنّ أبي لم يرد أن ينفق شيئاً، قائلاً أنّ الشيء الوحيد الجيّد الّذي كان بإمكاني فِعله هو أن أموت. ومنذ ذلك الحين وأنا أنتظركَ كي أقول لكَ: "اجعلني أموت".»

 

يسوع يحمله على عنقه، صامّاً أذنه عن سماع كلمات الطفل الّذي يقول له: «إنّ قدميَّ موحلتان، وكذلك ثوبي، لأنّني جلستُ على الأرض. سوف ألطّخ ثوبكَ.»

 

«أتأتي مِن بعيد؟»

 

«مِن ضواحي المدينة، لأنّ مَن يرعاني يقيم هناك. لقد رأيتُ رُسُلكَ يعبرون. أعلم أنّهم هم، لأنّ الفلّاحين قالوا: "ها هم تلاميذ رابّي الجليل. إنّما هو غير موجود". وقد أتيتُ.»

 

«إنّكَ مبلّل أيّها الطفل. أيّها الطفل المسكين! سوف تمرض مجدّداً.»

 

«إن أنتَ لم تسمعني، فأقلّه سيجعلني المرض أموت! إلى أين تأخذني؟»

 

«إلى المنزل. لا يمكنكَ البقاء هكذا.»

 

يسوع يعاود الدخول إلى الحديقة والطفل المشوّه بين ذراعيه، وينادي لعازر، الّذي يصل: «أقفل أنتَ البوّابة. إنّني أحمل بين ذراعيّ هذا الصغير المبلّل تماماً.»

 

«ولكن مَن يكون يا معلّم؟»

 

«لا أعلم. حتّى اسمه لا أعلمه.»

 

«ولا أقوله كذلك. لا أريد أن أُعرَف. أريد ما قلتُه لكَ. كانت أُمّي تقول لي: "يا بنيّ، يا بنيّ المسكين، أنا أموت، إنّما أودّ لو تموت معي، فهناك لن تعود بعد مشوّهاً كي تعاني في عظامكَ وقلبكَ. هناك لا يسخرون ممّن يولدون تعساء. فالله طيّب مع الأبرياء والتعساء". هل سترسلني إلى الله.»

 

«الطفل يريد أن يموت. إنّها قصّة حزينة…»

 

لعازر، الّذي يحدّق مليّاً بالصبي، يقول فجأةً: «ولكن ألستَ ابن ابن ناحوم؟ ألستَ أنتَ مَن يجلس تحت الشمس قرب شجرة الدُلْب الّتي عند حدود أشجار زيتون ناحوم، والّذي قد عهد بكَ أبوكَ إلى يوشع الفلّاح عنده؟»

 

«إنّه أنا. إنّما لماذا قلتَ ذلك؟»

 

«يا للطفل المسكين! ليس استهزاءً بكَ. صدّق يا معلّم أنّ مصير كلب في إسرائيل هو أقل بؤساً مِن مصير هذا الطفل. وإن هو لم يعد إلى المنزل مِن حيث أتى، فلن يبحث عنه أحد. الخدّام كما الأسياد. ضباع بقلب ضارٍ. يوسف يعلم القصّة جيّداً… لقد أثارت الكثير مِن الضجّة. إنّما أنا وقتها كنتُ محزوناً جدّاً لأجل مريم… ثمّ، بعد موت الزوجة التعيسة، أتى هو إلى عند يوشع، كنتُ أراه عندما كنتُ أمرّ… منسيّاً في الشمس أو الريح على البيدر، لأنّه قد بدأ المشي متأخّراً جدّاً… وقليلاً جدّاً على الدوام. لا أعلم كيف استطاع المجيء اليوم إلى هنا. مَن يدري منذ كم مِن الوقت وهو على الطريق!»

 

«منذ أن مرّ بطرس مِن ذاك الموضع.»

 

«والآن؟ ماذا سنفعل به؟»

 

«أنا لن أعود إلى المنزل. أريد أن أموت. أن أرحل. لُطفاً ورأفةً بي يا ربّ!»

 

لقد دخلوا إلى المنزل، ولعازر ينادي خادماً كي يجلب غطاء، ويرسل نُعْمي كي تعتني بالطفل الشاحب مِن البرد في ملابسه المبلّلة.

 

«إنّه ابن أحد أكثر أعدائكَ ضراوة! أحد الأسوأ في إسرائيل. كم عمركَ أيّها الطفل؟»

 

«عشرة أعوام.»

 

«عشرة أعوام! عشرة أعوام مِن العذاب!»

 

«وهذا يكفي!» يقول يسوع بصوت عالٍ وهو يضع الطفل أرضاً.

 

إنّه مشوّه جدّاً! الكتف اليمنى أعلى مِن اليسرى، الصدر ناتئ بشكل مفرط، الرقبة النحيلة غارقة بين عظم الترقوتين، الساقان متباعدتان!...

 

يسوع ينظر إليه بإشفاق، فيما نُعْمي تخلع عنه ثوبه وتُنشّفه قبل أن تلفّه بغطاء دافئ. كذلك لعازر ينظر إليه بإشفاق.

 

«سوف أُضجِعه في سريري يا ربّ، بعدما أكون قد أعطيتُه حليباً ساخناً.» تقول نُعْمي.

 

«ولكن ألا تجعلني أموت؟ ارحمني! لماذا تركي أعيش كي أكون هكذا وأعاني كثيراً؟» ويُنهي: «لقد رجوتُ بكَ يا ربّ.» في صوته لوم، وخيبة أمل.

 

«كن طيّباً. أَطِع والسماء سوف تعزّيكَ.» يقول يسوع وينحني ليعاود ملاطفته، بتمرير يده على الأطراف المشوّهة المسكينة.

 

«احمليه إلى السرير واعتني به. ثمّ… سنتدبّر الأمر.»

 

الطفل يؤخذ وهو يبكي.

 

«وهم أولئك الّذين يظنّون أنفسهم قدّيسين!» يصيح لعازر وهو يفكّر بناحوم.

 

يُسمَع صوت بطرس الّذي ينادي معلّمه…

 

«آه! يا معلّم! أأنتَ هنا؟ كلّ شيء على ما يرام. ما مِن مضايقات. أوه! لا بل هدوء كثير. في الهيكل لم يزعجنا أحد. يوحنّا قد حصل على أخبار جيّدة. التلاميذ يُترَكون في سلام. الناس ينتظرونكَ بابتهاج. إنّني مسرور. وأنتَ ماذا فعلتَ يا معلّم؟»

 

يبتعدان وهما يتحدّثان معاً، بينما لعازر يمضي إلى حيث يناديه مكسيمين.

----------

1-اسم الله الموحى به لموسى عندما سأله بماذا يجيب عن السؤال عن اسمه: فقال الله لموسى: «أَهْيَهِ الّذي أَهْيَهْ» وقال: «هكذا تقول لبني إسرائيل: أَهْيَهِ أرسلني إليكم».

2- الحرف التاسع من الأبجدية الإغريقية I والعاشر من الأبجدية العبرية (י).

3- مزمور 41-9.