ج5 - ف13

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء الخامس/ القسم الأول

 

13- (عودة الثمانية. في أَكزِيب)

 

10 / 11 / 1945

 

يسوع -يسوع نحيل جدّاً وشاحبّ، حزين جدّاً، بل أقول متألّم- هو على القمّة، بالضبط على أعلى قمّة جبل صغير حيث توجد قرية. ولكن يسوع ليس في القرية، التي هي على القمّة، نعم، إنّما التي تميل إلى جهة السفح الجنوب- الشرقيّ. بل على العكس، يسوع موجود على أنف الجبل، الأعلى، المائل إلى الشمال-الغربيّ، في الحقيقة إلى الغرب أكثر منه إلى الشمال.

 

بينما يَنظُر يسوع، كما يفعل عادة، إلى عدّة جهات، يرى سلسلة جبال متماوجة، طرفها الشمال-الغربيّ والجنوب-الغربيّ تغوص نهايته في البحر، في الجنوب-الغربيّ مع الكرمل، الذي يتلاشى في البعيد في اليوم الصافي؛ في الشمال-الغربيّ، حيث رأس حادّ مثل مقدّمة السفينة بعروقه الصخريّة التي تبدو بيضاء تحت الشمس. مِن سلسلة الجبال المتماوجة هذه تَنحَدِر سيول وجداول، جميعها مُوحِلة في هذا الفصل مِن السنة، وهي تجري عبر السهل الساحليّ لترتمي في البحر. قرب خليج سيكامينون [حيفا] الرَّحب، الأكثر غزارة، قيسون، يصبّ في البحر بعد أن يصبح مرآة ماء في ملتقى جدول آخر، قُرب مصبّه. الشمس، في ظهيرة يوم صافٍ، تعكس ومضات مِن الياقوت أو الزفير على سطح مياههما، بينما البحر ياقوتة لا حدّ لها، مُعرّقة بأطواق خفيفة مِن اللآلئ. ربيع الجنوب آخذ بالظهور مِن خلال الأوراق الجديدة الخارجة مِن البراعم المغلقة، ناعمة، لامعة، أقول عنها عذريّة لجدّتها (حداثتها)، لم يمسسها الغبار بعد ولا العواصف ولا لسعات الحشرات ولا التّماس البشريّ. أغصان اللوز ندفات مِن زَبَد أبيض ورديّ، حريريّة، رقيقة القوام لدرجة أنّها تعطي الانطباع بأنّها سَتُفلت مِن أغصانها التي بَزَغَت عليها لترحل في الجوّ على أنّها غيمات صغيرة. وحتّى حقول السهل المكتظّة، إنّما الخصبة، الممتدّة بين رأس الشمال-الغربيّ ورأس الجنوب-الغربيّ، تُقدّم مشهد القمح خفيف الاخضرار، الذي يُزيل مُجمل حُزن الحقول العارية منذ زمن.

 

يَنظُر يسوع. ومِن الموقع الذي هو فيه، يرى ثلاثة دروب: الدرب الذي يَصِل الموقع بالقرية، وهو درب للأشخاص فقط، ودربين آخرين يتفرّعان مِن القرية في اتّجاهين متعاكسين: في اتّجاه الشمال-غرب، وفي اتّجاه الجنوب-غرب.

 

كَم تألُّم يسوع! وقد ظَهَر ذلك في الكفّارة أكثر منه في صوم البريّة. حينذاك كان رجلاً قد شَحَب، ولكنّه ظَلَّ شابّاً وقويّاً، أمّا الآن فإنّه رجل أصابه الإعياء بسبب مجموعة مِن الآلام تُنهِك القوى البدنيّة والقوى الوجدانيّة. عينه حزينة جدّاً، حُزناً تمتَزِج فيه العذوبة بالصرامة. وخَدّاه وقد نَحَلا يُبرِزان أكثر روحانيّة مظهره الجانبيّ، جبهته العالية، أنفه الطويل والمستقيم، وشفتيه الخاليتين تماماً مِن كلّ شهوة. وجه ملائكيّ مُستثنى مِن المادّيّة. ولحيته أطول مِن المعتاد. لقد نبتت حتّى على خدّيه، حتّى اختلطت بالشعر المتدلّي على أُذُنيه، لدرجة أنّه لم يعد يُرى مِن وجهه سوى الجبهة والعينين والأنف والوجنتين الناعمتين بلون العاج دون أيّة مسحة ورديّة. شعره ممشّط بشكل مبدئيّ، مُغبرّ، وقد احتفظ بذكرى مِن الكهف الذي مَكَثَ فيه، بقايا أوراق جافّة وزغف (دقاق الحطب)، وهي عالقة على شعره الطويل. ثوبه ومعطفه المجعدان والمغبرّان يُشيران كذلك إلى المكان القفر الذي كانا فيه، وحيث استُخدِما باستمرار.

 

يَنظُر يسوع... شمس الظهيرة تُشعِره بالدفء، ويبدو أنّها تُمتِعه، ذلك أنّه يَهرُب مِن ظلّ البلوط ليمكث تحت الشمس مباشرة، ورغم الشمس الساطعة، لا تَألُّق في شعره المغبرّ وعينيه التَّعِبتين، وهي لم تلوّن خدّيه وقد نَحَلا.

 

وليست الشمس هي التي تعيد إليه نشاطه ونضارة ألوانه، بل رؤيته رُسُله الأحبّاء يَصعَدون وهُم يشوّرون ويَنظُرون صوب القرية، عبر الطريق القادمة مِن الشمال الغربيّ، وهي الأكثر انبساطاً. حينئذ يَحدُث التحوّل. تعود الحيويّة إلى عينه، ويبدو وجهه أقلّ نحولاً بفعل آثار مِن اللون الورديّ، التي تمتدّ على وجنتيه وابتسامة وتجعله مُشرِقاً. يُباعِد ذراعيه اللتين كانتا متصالبتين ويَهتف: «أحبّائي!» يقولها بينما هو يرفع وجهه ويجيل نظره على الأشياء، كما لِيُشارك النباتات والأشجار والسماء الصافية فرحته، وكذلك الجوّ الذي استشعر الربيع.

 

يَشدّ معطفه حول جسده لكي لا يَعلَق في الأدغال، ويَهبط مسرعاً، عَبْر طريق مُختَصَرة، للقاء الصاعِدِين الذين لم يَلحَظوه بعد. وعندما يَصِل إلى حيث يمكن سماعه، يناديهم ليوقِف مسيرتهم صوب القرية.

 

يَسمَعون النداء البعيد. قد يكون متعذّراً عليهم رؤية يسوع مِن المكان الذي هُم متواجدون فيه، وذلك بسبب اختلاط لون ثوبه الداكن بأوراق الغابة التي تغطّي المنحدر. يَنظُرون حولهم ويشوّرون... يناديهم يسوع مِن جديد... أخيراً يَلمَحونه في فسحة مشمسة مِن الغابة، وذراعاه ممدودتان قليلاً كما لو أنّه كان يريد معانقتهم.

 

حينئذ صرخة هائلة تدوّي على المنحدر: «المعلّم!» وجَري سريع خارج الطريق. يُخدَشون، يتعثّرون ويَلهَثون، دون إحساس منهم بثقل الحقائب وتَعَب المسير... وقد استولى عليهم فرح رؤيته مِن جديد.

 

بالطبع، الواصلون الأوائل هُم الأكثر شباباً والأكثر رشاقة، أي ابنا حلفى، بخطواتهما الثابتة، خطوات مَن وُلِدا على الروابي، ثمّ يوحنّا وأندراوس اللذين يَجريان مِثل ظبيين وهما يضحكان، مُفعَمَين فَرَحاً. ويرتمون عند قدميه، بودّ واحترام، سعداء، سعداء، سعداء... ثمّ يَصِل يعقوب بن زَبْدي، وبعده يَصِل معاً، تقريباً، الثلاثة الأقلّ تمرساً على الجري وعلى السير في الجبال، متّى، والغيور، وفي آخر السلسلة تماماً بطرس.

 

ولكنّه يشقّ لنفسه طريقاً، آه! يشقّ لنفسه طريقاً! لِيَصِل إلى المعلّم الذي يحيط به الواصِلون الأوائل وهُم جاثون ولا يَكلّون مِن تقبيل ثيابه أو يديه اللتين أَسلَمَهما لهم. يُمسِك يوحنّا وأندراوس المتشبّثين بثياب يسوع، كما المحار بالصخرة، بقوّة بينما هو يَلهَث، ويُبعِدهما ليتمكّن مِن الارتماء عند قدميّ يسوع وهو يقول: «آه! معلّمي! أخيراً عدتُ إلى الحياة! لم يكن باستطاعتي الاستمرار. لقد شِختُ ونَحلتُ كما لو أنّني كنتُ مريضاً جدّاً. انظر إذا لم يكن ذلك صحيحاً، يا معلّم...» ويرفع رأسه ليسمح ليسوع بالنَّظَر إليه. ولكنّه عندما يَفعَل، يرى كم تغيّر يسوع ويَنهَض هاتفاً: «يا معلّم!؟ ماذا فعلتَ؟ أغبياء! ولكن انظروا! ألا تَرَون شيئاً، أنتم؟ يسوع كان مريضاً!... يا معلّم، يا معلّمي، ماذا أصابكَ؟ بُحْ به لسمعانكَ!»

 

«لا شيء يا صديقي.»

 

«لا شيء؟ مع هذا الوجه؟ إذن أُسيءَ إليكَ؟»

 

«ولكن، لا، يا سمعان.»

 

«غير معقول! إمّا أنّكَ كنتَ مريضاً أو مضطَهَداً! أنا لستُ أعمى، لي عين تَرى!...»

 

«وأنا كذلك. وأراكَ وقد نحلتَ وشختَ، بالفعل. لماذا إذن أنتَ هكذا؟» يَسأَل الربّ، مبتسماً، بطرسه الذي يُمعِن النَّظر فيه وكأنّه كان يريد قراءة الحقيقة في شعر وجلد ولحية يسوع.

 

«ولكنّني تألّمتُ، أنا! ولستُ أُنكِر ذلك. هل تظنّ أنّه كان يروق لي رؤية ذاك الألم؟»

 

«أنتَ قُلتَ! أنا كذلك، تألّمتُ لنفس السبب...»

 

«أما مِن سبب آخر يا يسوع؟ يَسأَل يوضاس بن حلفى بإشفاق وعطف.

 

«بسبب الألم، نعم يا أخي. بسبب الألم الذي سَبَّبَته حتميّة الإبعاد...»

 

«وبسبب ألم أنّ الذي أرغمكَ على ذلك هو...»

 

«أرجوكَ!... اصمت! فالصمت هو أعزّ على جرحي مِن كلّ كلمة تَبغي مواساتي بالقول: "أنا أعرف لماذا تألّمتَ". وفي ما عدا ذلك، فاعلموا جميعكم بأنّني تألّمتُ لأسباب كثيرة، ليس لهذا السبب فقط. ولو لم يقاطعني يوضاس لكنتُ سأرويها لكم.» يبدو يسوع متجهّماً أثناء قوله ذلك. ويبقى الجميع في دهشة عَقَلَت ألسنتهم.

 

ولكنّ بطرس هو أوّل مَن يستعيد رباطة جأشه ويَسأَل: «وأين كنتَ يا معلّم؟ ماذا فعلتَ؟»

 

«مَكَثتُ في كهف... أُصلّي... أتأمّل... أُقوّي روحي، لأحصل لكم على القوّة، لكم، في رسالتكم، وليوحنّا وسِنْتيخي في آلامهما.»

 

«ولكن أين، أين؟ بلا ثياب ولا دراهم! كيف تدبّرتَ أموركَ؟» سمعان مضطرب.

 

«لا حاجة لأيّ شيء في كهف.»

 

«والطعام؟ والنار؟ والسرير؟ ولكن، كلّ هذا! كنتُ أتمنّى، لو حَصَلتَ على الضيافة، أقلّه كمسافر تائه، كيفتائيل، بالنتيجة في منزل. وكان ذلك ليطمئنني قليلاً. ومع ذلك، ماذا؟ قولوا أنتم، إذا لم يكن ذلك يسبّب لي العذاب، أن أُفكِّر أنّه كان بلا ثياب، بلا طعام، مع صعوبة تأمينه، هذا بشكل خاصّ، دون أن تكون له الرغبة في تأمينه. آه! يا يسوع! لم يكن يجدر بكَ أن تفعل ذلك! وأبداً لن ندعكَ تفعله! لن أترككَ ولا حتّى لساعة واحدة. سوف أُخيط نفسي إلى ثوبكَ لأتبعكَ كظلّكَ، شئتَ ذلك أم لم تشأ. لن أنفصل عنكَ إلّا إذا دان أجلي.»

 

«أو إذا متُّ أنا.»

 

«آه! أنتَ، لا. يجب ألّا تموت قبلي. لا تقل هذا. هل تريد أن تُحزِنني تماماً؟»

 

«لا. بل على النقيض مِن ذلك، أريد أن أفرح معكَ، معكم جميعاً، في هذه الساعة التي تعيد إليَّ أصدقائي الأحبّاء والمفضّلين. انظروا! إنّني الآن أفضل، لأنّ حبّكم الصادق يُغذّيني، يُدفّئني ويُعزّيني» ويُلاطفهم، الواحد تلو الآخر، بينما تُشرِق وجوههم بابتسامة غبطة. وتشعّ عيونهم، وترتجف شفاههم مِن التأثّر وهُم يَسمَعون تلك الكلمات، ويَسأَلون: «أحقّاً يا معلّم؟» «أحقّاً هكذا يا معلّم؟» «هل نحن أعزّاء عليكَ إلى هذه الدرجة؟»

 

«نعم، أعزاء إلى هذه الدرجة. هل معكم طعام؟»

 

«نعم، كان لديَّ إحساس بأنّكَ تتضوّر جوعاً، واشتريتُ في الطريق. معي لكَ خبز ولحم مشويّ، وكذلك حليب وجبن وتفّاح؛ وعلاوة على ذلك زجاجة نبيذ فاخر وبيض. آمُل ألّا تكون قد تَكَسَّرَت...»

 

«حسناً، فلنجلس إذن هنا، تحت الشمس الجميلة هذه، ولنأكل، وأثناء الطعام تُحدّثونني...»

 

يَجلسون في الشمس، على منحدر. يَفتَح بطرس حقيبته، يَنظُر إلى كنوزه ويهتف: «كلّ شيء في حال جيّدة! حتّى عَسَل أنتيجونيا. ولكن لا! قُلتُها أنا! حتّى لو كنّا وُضِعنا أثناء العودة في برميل يُدحرِجه مجنون، أو في مَركَب بلا مجاذيف، ومَثقوب فوق البيعة، في قلب عاصفة، كنّا سنصل سليمين معافين... إنّما أثناء الذهاب! تزداد قناعتي باطّراد أنّ الشيطان هو الذي كان في البدء يَضَع العراقيل في طريقنا. ليمنعنا مِن الذهاب مع هذين التعيسين...»

 

«بالطبع! أمّا الآن فلم يعد له غاية...» يؤكِّد الغيور.

 

«يا معلّم، هل صنعتَ كفّارة عنّا؟» يَسأَل يوحنّا الذي ينسى الأكل ليتأمّل يسوع.

 

«نعم يا يوحنّا. لقد تبعتُكم بالفِكر. لقد تنبَّهتُ للأخطار والأتعاب التي لحقت بكم. وساعدتُكم قَدر الإمكان...»

 

«آه! أنا شعرتُ بذلك! حتّى إنّني قُلتُها لكم. هل تذكرون؟»

 

«نعم، صحيح» يؤكّد الجميع.

 

«حسناً، الآن أعيدوا إليَّ ما أَعطَيتُكم إيّاه.»

 

«هل صُمتَ يا ربّ؟» يَسأَل أندراوس.

 

«بالتأكيد! حتّى ولو أراد الأكل، فَبِدون دراهم، في كهف، كيف تريده أن يأكل؟» يُجيبه بطرس.

 

«هذا بسببنا! كم يسوءني ذلك!» يقول يعقوب بن حلفى.

 

«آه! لا! لا تحزنوا لذلك! فليس مِن أجلكم وحدكم. بل مِن أجل العالم أجمع. كما فعلتُ عند بداية رسالتي، أفعل الآن. حينذاك أَسعَفَني الملائكة. أمّا الآن فأنتم. وثِقوا أنّها فرحة مزدوجة. لأنّ لدى الملائكة، المحبّة لا بدّ منها، أمّا عند البشر فإنّ وجودها ليس بالأمر السهل. وأنتم تُمارِسونها. وكبشر، قد أصبحتم ملائكة، حبّاً بي، ذلك أنّكم اخترتم القداسة خلافاً لكلّ شيء. لذلك تُسعِدونني كإله، وكإنسان إله، لأنّكم تهبونني ما هو مِن الله: المحبّة، وتمنحونني ما هو مِن الفادي: نموّكم في الكمال. وأحصل على هذا منكم، وهو يُغذّي أكثر مِن أيّ طعام. وفي البريّة آنذاك كذلك تغذَّيتُ بالحبّ بعد الصوم، وقد استعدتُ قواي. كذلك الآن، الأمر ذاته الآن، لقد تألّمنا جميعنا، أنتم وأنا. إنّما لم يكن الألم بغير فائدة. أعتقد، بل أعرف أنّه كان بالنسبة لكم أكثر فائدة مِن سنة كاملة مِن التعليم. الألم، التأمّل بالألم الذي يمكن أن يُسبِّبه الإنسان للإنسان، الرحمة، الإيمان، الرجاء، المحبّة التي مارستموها بمبادرة منكم قد جَعَلَتكم تَنضجون كأطفال أَصبَحوا رجالاً...»

 

«آه! نعم! لقد أَصبَحتُ عجوزاً، أنا. ولن أكون أبداً سمعان بن يونا الذي كُنتُه في البداية. لقد أدركتُ كم رسالتنا مؤلمة، رغم بهائها...» ويتنهّد بطرس.

 

«حسناً، نحن هنا الآن، معاً، تحدّثوا إذاً...»

 

«تكلّم أنتَ يا سمعان. فإنّكَ تُجيد الكلام أفضل منّي» يقول بطرس للغيور.

 

«لا. أنتَ، كقائد ممتاز، تُقدِّم التقرير باسم الجميع» يُجيب الآخَر.

 

ويبدأ بطرس، مُستهلّاً كلامه بالقول: «أمّا أنتم فسوف تساعدونني.»

 

ويَروي الأحداث بالترتيب حتّى مغادرة أنطاكية. ثمّ يَروي أحداث العودة: «كنّا نتألّم جميعنا، هل تَعلَم؟ لن أنسى ما حييتُ الكلمات الأخيرة لأولئك الاثنين...» ويمسح بطرس، بِظَهر يده، دمعتين كبيرتين تَسيلان فجأة... «وقد بدا لي ذلك وكأنّه الصرخة الأخيرة لإنسان يَغرَق... ولكن! قُصارى القول، تكلّموا أنتم... أنا، لا أستطيع...» ويَنهَض مبتعداً قليلاً ليسيطر على مشاعره.

 

ويُتابع سمعان الغيور الكلام: «صَمَتنا جميعنا شوطاً كبيراً مِن الطريق... لم نكن لنستطيع الكلام... كانت حلوقنا تؤلمنا لشدّة انتفاخها بسبب الدموع... ولم نكن نريد البكاء... لأنّنا، لو كنّا بدأنا، ولو واحد فقط، لما كنّا انتهينا أبداً. أَمسَكتُ أنا بالعنان، لأنّ سمعان بن يونا، لكي لا يُظهِر أنّه كان يتألّم، نَزَل إلى عمق العربة يُنقّب في الحقائب. توقّفنا في قرية صغيرة، في منتصف الطريق بين أنطاكية وكولوسّي. ورغم أنّ ضوء القمر كان يتنامى كلّما تقدّم الليل، ولجهلنا بطبيعة المنطقة، فقد توقّفنا هناك. وغفونا وسط أغراضنا. لم نأكل، لم يأكل أحد لأنّه... لم يكن بمقدورنا ذلك. كنّا نفكّر بهذين الاثنين... وعند بزوغ الفجر، اجتزنا الجسر ووصلنا، قبل الساعة الثالثة، إلى كولوسّي. أَعَدنا العربة والحصان إلى صاحبّ الفندق، وقد كان رجلاً طيّباً، وقد استفدنا مِن نصائحه في ما يخصّ السفينة. قال: "سوف أجيء إلى المرفأ، أنا. فأنا عارف ومعروف". وفَعَل ذلك. وَجَدَ ثلاث سفن تستعدّ للإقلاع إلى هذه المرافئ. إنّما على أحدها، كان بعض الأشخاص... الذين لم نكن لنرضى بمجاورتهم. هذا ما قاله لنا الرجل، وما كان قد عَلِم به مِن ربّان السفينة. وكانت الأخرى مِن أشقلون، ولكنّ الربّان لم يكن يريد التوقّف في صور مِن أجلنا إلّا مقابل دفع مبلغ لم يكن متوفّراً لدينا. أمّا الثالثة فكانت صغيرة، مُحمَّلة بالخشب الخام. هي مَركَب فقير وطاقم مُختَصر، وأظنّه بائساً جدّاً. لذلك، رغم أنّ وجهته كانت إلى قيصريّة، فقد رضي أن يتوقّف في صور مقابل دفع مبلغ يكفي لمعيشة يوم مع أجر للطاقم كلّه. وكان ذلك مناسباً لنا. أمّا أنا، ومعي متّى، فقد كنّا في الحقيقة خائِفَين قليلاً. إنّه موسم العواصف... وتَعرف كيف كان الحال معنا أثناء الذهاب. ولكنّ سمعان بطرس قال: "لن يحصل شيء" وصعدنا. كانت أشرعة الـمَركَب تبدو وكأنّها ملائكة، ذلك أنّ المسير كان منتظماً وسريعاً. لقد اختصرنا الزمن بمعدل ضعفي الذي لزمنا أثناء الذهاب، كي نَصِل إلى صور، وقد كان الربّان لطيفاً جدّاً حتّى إنّه سمح لنا بجرّ الـمَركَب حتّى بتولمايس [عَكّا]. ومِن أجل قيادته، نزل إليه بطرس وأندراوس بالإضافة إلى يوحنّا، ولكنّ الأمر كان بسيطاً جدّاً... ليس كما كان أثناء الذهاب... في بتولمايس [عَكّا]، افترقنا، وقد كنّا في غاية السرور كوننا أعطيناه مِن الدراهم أكثر مما كنّا قد اتّفقنا عليه معه، قبل نزولنا إلى الـمَركَب، جميعنا، حيث كانت أغراضنا كلّها. مكثنا يوماً في بتولمايس [عَكّا]، ثمّ قَدِمنا إلى هنا... ولكنّنا لن ننسى أبداً معاناتنا وألمنا. سمعان بن يونا كان على حقّ.»

 

«ألسنا على حقّ، نحن كذلك، في قولنا إنّ الشيطان لم يضايقنا إلّا أثناء الذهاب؟» يَسأَل البعض.

 

«بلى أنتم على حقّ. أمّا الآن فاسمعوا. مهمّتكم انتهت. والآن سنعود إلى يفتائيل لانتظار فليبّس ونثنائيل، ويجب الإسراع. ثمّ يأتي الآخرون... وفي هذه الأثناء نُبشّر هنا، في تخوم فينيقيا، وفي فينيقيا نفسها. أمّا بالنسبة لما حصل فقد دُفِن في قلوبنا للأبد. ولا إجابة على أيّ سؤال.»

 

«ولا حتّى لفليبّس ونثنائيل؟ فهما يَعلَمان أنّنا أتينا معكَ...»

 

«أنا مَن سأتكلّم. لقد تألّمتُ كثيراً، أيّها الأصدقاء، رأيتم ذلك. لقد دفعتُ ألمي ثمناً لسلام يوحنّا وسِنْتيخي. فلا تجعلوا ألمي عديم الفائدة. لا تضعوا حِملاً إضافيّاً على كتفيّ. يكفيني ما عليهما!... ويزداد الثّقل يوماً بعد يوم، وساعة إثر ساعة... قولوا لنثنائيل إنّني تألّمتُ كثيراً، وقولوا ذلك لفليبّس، وليكونا صالحين. وقولوا للاثنين الآخرين ذلك. إنّما لا تزيدوا كلمة. القول إنّكم أدركتم أنّني تألّمتُ، وإنّني أكّدتُ لكم ذلك، هو الحقيقة. ويجب ألّا يُقال أكثر مِن ذلك.»

 

يتكلّم يسوع بكثير مِن الألم... يَنظُر إليه الثمانية بحزن، أمّا بطرس فيسمح لنفسه بأن يُداعِب له رأسه، مع بقائه خلفه. يرفع يسوع رأسه ويَنظُر إلى سمعانه النـزيه مع ابتسامة مَشوبة بحزن ودّي.

 

«آه! لا يمكنني أن أراكَ هكذا! يبدو لي، لديَّ انطباع بأنّ فرحة اجتماعنا قد تلاشت، ولم يبق سوى القداسة، فقط هي! أمّا الآن... فلنمض إلى أَكزِيب. وستبدّل ثيابكَ وتحلق ذقنكَ، وتُسرِّح شعركَ. هكذا لا، ليس هكذا! لا يمكنني رؤيتكَ هكذا... تبدو... كهارب مِن بين أيدي وحوش، وقد لحقوا بكَ، ولم يعد بإمكانكَ... تُذكّرني بهابيل الذي مِن بيت لحم الجليل، المنتَشَل مِن بين أيدي أعدائه...»

 

«نعم، يا بطرس. ولكنّ قلب معلّمكَ هو الذي جُرِحَ... ولن يُشفى أبداً... بل على العكس، سيُجرح باطّراد. لنمضِ...»

 

يتنهّد يوحنّا: «هذا لا يروق لي... فقد كنتُ أريد أن أروي لتوما، الذي يحبّ أُمّكَ حبّاً جمّاً، معجزة النشيد والمرهم...»

 

«ستقول ذلك يوماً... إنّما ليس الآن. ستروون يوماً كلّ شيء. حينذاك يمكنكم التحدّث. أنا أقول لكم بنفسي: "اذهبوا وقولوا كلّ ما تعرفون". ولكن، في هذه الأثناء، اعرفوا أن تَروا، في المعجزة، الحقيقة. وفي هذه: قُدرة الإيمان. فيوحنّا وكذلك سِنْتيخي سَكَّنا البحر ومَنَحا الرجل الشّفاء، ليس بالكلام ولا بالمرهم، بل إنّما بالإيمان الذي به جعلوا اسم مريم فاعلاً، وكذلك المرهم الذي كانت قد صَنَعَته. وكذلك: جرى ذلك، لأنّه إلى جانب إيمانهما، كان إيمانكم، جميعكم، ومحبّتكم. محبّة تجاه الجريح، ومحبّة تجاه الكريتيّ. بالنسبة للأوّل، كنتم تريدون المحافظة على حياته، أمّا الآخر فكنتم تريدون منحه الإيمان. ولكنّ شفاء الجسد ما يزال سهلاً، ولكن شفاء النَّفْس أمر صعب... ما مِن مرض أصعب مِن مرض الروح في التغلّب عليه...» ويتنهّد يسوع بعمق.

 

إنهم على مرمى النَّظَر مِن أَكزِيب. يسبقهم بطرس مع متّى لإيجاد مأوى. الآخرون يتبعونه، متراصّين حول يسوع، وفي اللحظة التي يَدخُلون فيها القرية، تَغيب الشمس بسرعة...