ج5 - ف47
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الثاني
47- (الليل في جدرة والرحيل. الطّلاق)
11 / 12 / 1945
النجوم الرائعة تتلألأ في سماء الشرق في إحدى ليالي آذار (مارس) الصافية، الجليّة والحيويّة لدرجة أنّ السماء باتت تبدو وكأنّها هَبَطَت كمظلّة على شُرفة المنـزل الذي استضاف يسوع. إنّه بيت مرتفع جدّاً، يقع في واحد مِن أعلى المواقع في المدينة، بحيث يمتدّ أفق لامتناه أمامه وحوله في كلّ الاتّجاهات. وإذا غابت الأرض في ظلمة الليل الذي لا يُبهِجه بَعدُ القمر الذي يتضاءل، فإنّ السماء تتلألأ بألف ألف نور. إنّه حقّاً رَدّ قُبّة السماء التي تُظهِر بِزَهو زهراء نجومها، حقولها التي في درب التبّانة، كواكبها العملاقة، غيضاتها مِن الكويكبات، في مقابل إنباتات الأرض الوقتيّة التي، حتّى وإن كانت قديمة العهد، فهي لا تعدو كونها ساعة واحدة نسبة إلى النجوم مُذ أَوجَد الخالق قُبّة السماء. وعندما يتيه المرء وهو يَنظُر إلى العلاء، وهو يجيل نَظَرَه عَبْر الطرق الرائعة، حيث النباتات هي النجوم، يبدو وكأنّه يَسمَع أصواتها، غناء غابات الروعة تلك، أعظم أرغن كَنَسيّ، حيث يروق لي تصوُّر أنَّ منفاخه ومدى صوته هما رياح جريان الكواكب، والأصوات هي النجوم وقد تمّ قذفها في مساراتها. وهذا الانطباع يَفرض نفسه عليَّ كما الصمت الليليّ الـمُطبِق على جدرة النائمة. ما مِن ينبوع يشدو، ولا عصفور يُغرّد. العالم نائم وكذلك الخلائق. الناس نيام، بأقلّ براءة مِن الخلائق الأخرى، ونومهم هادئ إلى حدّ ما في بيوتهم الغارقة في الظلام.
ولكن مِن الباب المؤدّي إلى الشُّرفة السُّفلى -ذلك أنّ هناك شُرفة أعلى فوق الغرفة التي في الأعلى- يبدو ظلّ كبير، بالكاد هو مرئيّ في الليل، إنّما يمكن التكهّن ببياض الوجه واليدين الذي يتجلّى على الثوب الداكن. يليه ظلّ أصغر. يسيران على أطراف الأصابع كي لا يُوقِظا مَن قد يكونون نياماً في الغرفة السفلى، وعلى أطراف الأصابع يصعدان السلّم الخارجي المؤدّي إلى الشرفة العليا. ثمّ يمسك كلّ منهما بيد الآخر، ويمضيان هكذا ليجلسا على مقعد على طول حاجز مرتفع يحيط بالشرفة. وبسبب المقعد المنخفض والحاجز المرتفع، يحتجب كلّ شيء عن ناظريهما. حتّى ولو كان هناك أجمل نور للقمر، النازل ليضيء العالم، فهو بالنسبة إليهما لا شيء. إنّ الحاجز قد حجب المدينة كلّها، ومعها الظلال الأكثر ظلاماً للجبال المحيطة، في ظلمة الليل. فقط السماء مكشوفة لهما بكويكباتها الربيعيّة ونجوم الجوزاء الرائعة: الدَّبَران وبيرسي وأندروميد وكاسيوبيه ونجوم الثريّا السبعة المجتمعة كأخوات. وفينوس بلون الزفير المتلألئة كالماس، وياقوت مارس الشاحب، وزبرجد جوبيتير، هي ملوك حشد الكواكب، وهي تهتزّ وتهتز، كما لتحيّي الربّ، مُضاعِفة اهتزاز أنوارها إكراماً لنور العالم.
يرفع يسوع رأسه لينظر إليها، مُسنِداً إيّاه على الجدار العالي، ويفعل يوحنّا الشيء ذاته جاعلاً نظره يتيه في الأعالي حيث يمكن تجاهل العالم... ثمّ يقول يسوع: «الآن وقد تطهَّرنا بمنظر النجوم، فلنصلِّ.» يَنهَض، ويَنهَض يوحنّا معه. صلاة مطوّلة، صامتة، مُلِحّة، مِن الأعماق، الذراعان متصالبان، الوجه إلى الأعلى، ملتفتاً صوب الشرق حيث يَظهَر أوّل بريق للقمر. بعد ذلك «الأبانا» يتلوانها معاً، ببطء، ليس مرّة واحدة بل ثلاث، وبإصرار مُتزايِد في الطلب، بحيث يتجلّى صوتاهما بأكثر وضوحاً. تَضرُّع يَفصل النَّفْس عن الجسد، بحرارة تَضَعهُما على درب اللانهاية.
بعد ذلك يسود الصمت. يجلسان حيث كانا سابقاً، بينما القمر يستمرّ في إضفاء نوره أكثر فأكثر على العالم النائم.
يُمرِّر يسوع ذراعه حول كتفي يوحنّا ويسحبه إليه قائلاً: «قُل لي إذن الأمور التي تَشعُر أنّ عليكَ أن تقولَها لي. ما هي الأمور التي رآها يوحنّاي بمعونة النور الروحيّ في نَفْس الرفيق المظلمة؟»
«يا معلّم... لقد ندمتُ على قولي ذلك لكَ. فأنا ارتكبتُ خطيئتين...»
«لماذا؟»
«لأنّني جعلتُكَ تتألّم بإفصاحي لكَ عمّا لا تَعلَمه، و... لأنّ... يا معلّم، خطيئة هو قول الإساءة التي نراها في أحد آخر. نعم، أليس كذلك؟ وإذن، كيف يمكنني قول ذلك، جارحاً المحبّة؟...» يوحنّا مُنقَبِض.
يسوع يُنير له النَّفْس: «اسمع يا يوحنّا. مَن هو الأهمّ بالنسبة إليكَ، المعلّم أم التلميذ؟»
«المعلّم، يا ربّي. أنتَ الأهمّ.»
«وما أكون بالنسبة إليكَ؟»
«أنتَ البداية والنهاية. أنتَ كلّ شيء.»
«وبما أنّني كلّ شيء، هل تؤمن أنّني كذلك أعرف كلّ ما هو موجود؟»
«نعم، يا ربّي. ولهذا أنا حائر. ذلك أنّني أُفكّر أنّكَ تَعرِف وتتألّم. ولأنّني أَذكُر أنّكَ قُلتَ لي يوماً إنّكَ أحياناً تكون الإنسان، وفقط الإنسان، وبالتالي فالآب يجعلكَ تعرف ماذا يعني أن يكون المرء إنساناً، إنساناً عليه أن يُوجِّه نفسه بحسب العقل. وأُفكِّر أنّ الله، رأفة بكَ، يُخفي عنكَ تلك الوقائع القبيحة...»
«تَمسَّك بهذه الفكرة، يا يوحنّا، وتكلّم. بثقة. أفضِ للذي هو بالنسبة إليكَ "كلّ شيء"، بما تَعرِف، وهذه ليست خطيئة. ذلك أنّ الـ "كلّ شيء" لا يتعثَّر، لا ينمّ على أحد، ولا يخلو مِن المحبّة، ولا حتّى بالفِكر، حيال البؤساء. وتكون خطيئة لو كنتَ تقول ما تعرفه لِمَن لا يمكنه أن يكون محبّة بكلّيّته، لرفاقكَ مثلاً، الذين قد ينمُّون، أو حتّى يواجِهون الـمُذنِب بدون رحمة، مسيئين بذلك له ولأنفسهم. بالفعل، يجب أن تكون لدى المرء رحمة، رحمة تتعاظَم بِقَدر ما يُواجِه نَفْساً مسكينة تعاني مِن كلّ الشرور. فالطبيب، الممرِّض الشَّفوق، أو الأُمّ، إذا كان الأمر يتعلّق بمجرّد انزعاج بسيط، يتأثّرون قليلاً ولا يهتمّون بالشفاء. ولكن إذا كان الوَلَد أو الرجل مريضاً جدّاً، في خطر الموت، مصاباً بالغنغرينا أو الشلل، فكم يُكافِحون، غير آبهين بالاشمئزاز والتعب، مِن أجل شفائه! أليس كذلك؟»
«هو هكذا، يا معلّم.» يقول يوحنّا الذي اتَّخَذَ وضعيّته الاعتياديّة، ذراعه على عُنق معلّمه ورأسه مُستَنِد إلى كَتِفه.
«حسناً، لا يعرف الجميع أن يكونوا رحماء تجاه النُّفوس المريضة. وإذن علينا أن نكون حذرين في فضح إساءاتهم، كي لا يَنفر منهم العالم ولا يؤذيهم باحتقاره إيّاهم. فالمريض الذي يرى نفسه مُحتَقَراً يغتمّ ويشتدّ عليه مرضه. إنّما، على العكس، لو تمّ الاعتناء به بأريحيّة وبهجة، فيمكن أن يُشفى، ذلك أنّ الأريحيّة الـمُطَمئِنة للمعالِج تخترقه وتدعم فاعليّة الدواء. ولكنّكَ تَعلَم أنّني الرحمة، وأنّني لن أذلّ يهوذا. تكلّم إذن بدون تَـحَرُّج. أنتَ لستَ جاسوساً. أنتَ ابن يُسِرّ إلى أبيه، بلهفة مُحِبّة، المرض الـمُكتَشَف في أخيه، كي يُعالِجه الأب. هيّا...»
يتنهّد يوحنّا بعمق، ثمّ يَخفض رأسه أكثر حتّى يَنـزل على صدر يسوع، ويقول: «كم هو شاقّ الكلام عن الفساد!... ربّي... يهوذا نَجِس... ويُحاوِل جَرّي إلى النجاسة. فليحتقرني هو، هذا لا يهمّني. ولكنّني حزين لمجيئه إليكَ ملطّخاً بأهوائه. منذ عودته، أغواني مرّات عديدة، عندما تدعو الصدفة إلى وجودنا بمفردنا -ويُحاوِل بشتّى الطرق أن يَحصل ذلك- فهو لا يفعل شيئاً سوى التحدّث عن النساء... وأَختَبِر الاشمئزاز في ذلك كما لو أنّي أَغطُس في نتانة يُحاوِل بعضهم إدخالها في فمي...»
«ولكن هل اضطربتَ لذلك في أعماق ذاتكَ؟»
«اضطربتُ، كيف؟ نفسي ترتعد. عقلي يصرخ ضدّ هذه التجارب... أنا لا أريد أن أَفسُد...»
«وجسدكَ، ماذا تراه يَختبر؟»
«إنّه ينتفض هَلَعاً.»
«أهذا فقط؟»
«نعم، يا معلّم. وحينئذ أبكي، إذ يبدو لي أنّ يهوذا لا يمكنه أن يُهين مُكَرَّساً لله أكثر مِن ذلك. قل لي: هل هذا يُلحِق الضرر بتقدمتي؟»
«لا، ليس أكثر مِن قبضة طين رُميَت على صفيحة ماس. فهي لا تُحزّز الصفيحة، لا تخترقها. كوب ماء نقي يكفي إذا ما أُلقي عليها كي يعيد لها جلاءها. فتكون أجمل مما كانت عليه سابقاً.»
«طَهِّرني إذن.»
«محبّتكَ تُطهّركَ وكذلك ملاككَ. فلا يبقى شيء عالقاً بكَ. أنتَ هيكل مُطَهَّر يَحلّ الله عليه. وماذا يمكن ليهوذا أن يفعل غير ذلك؟»
«ربّي، هو... آه! ربّي» ويَنـزلق رأس يوحنّا إلى أَخفَض.
«ماذا؟»
«هو... ليس صحيحاً أنّه يعطيكَ ماله مِن أجل الفقراء. إنّه مِن مال الفقراء الذي يَختَلِسه لنفسه، كي يُمتَدَح لسخاء غير حقيقيّ. لقد جَعَلتَه يهيج حين أخذتَ منه المال كلّه بعد العودة مِن طابور. وقد قال لي: "هناك جواسيس بيننا". فقلتُ له: "ليتجسّسوا على ماذا؟ أربّما تكون تَسرُق؟" فأجابني: "لا، ولكنّني مع ذلك أحتاط ولديَّ كِيسان. أحدهم قال ذلك للمعلّم وهو فَرَضَ عليَّ أن أُعطي كلّ شيء، وقد فَرَضَ عليَّ ذلك بشدّة اضطرتني إلى فِعل ذلك". ولكن يا ربّ، ذلك غير صحيح، أنّه لا يَفعَل ذلك على سبيل الحيطة. بل هو يفعل ذلك للحصول على المال. يمكنني إثبات ذلك بِشِبه التأكّد مِن قول الحقيقة.»
«شِبه التأكّد! هذا الشكّ، نعم، هذه خطيئة خفيفة. لا يمكنكَ الحُكم عليه بأنّه سارق، إذا لم تكن متأكّداً بشكل مُطلَق. أفعال الناس تَتَّخِذ أحياناً مظهراً مؤسفاً، مع أنّها جيّدة.»
«هذا صحيح، يا معلّم. لن أتّهمه بعد، ولا حتّى بالفِكر. إنّما مع ذلك، أن يكون لديه كِيسا نقود، وأنّ تلك التي يقول إنّها له والتي يعطيك إيّاها وهي أيضاً لك، وأنّه يفعل ذلك كي يحظى بالمديح، فهذا صحيح. وأنا لم أكن لأفعل ذلك. أشعر أنّ فِعله غير جيّد.»
«أنتَ على حقّ. ما الذي تَبغي قولَه بَعد؟»
يَرفَع يوحنّا وجهه الـمُروَّع، هو على وشك الكلام، ولكنّه يؤثِر الصمت ويَنـزَلِق على رُكبتيه ساتراً وجهه في ثوب يسوع الذي يضع يده على شعره.
«هيّا! قد تكون أَسَأتَ الرؤية، سوف أساعدكَ على أن تُحسِن النَّظَر. ينبغي لكَ كذلك أن تقول لي عمّا يجول في خاطركَ حول الأسباب المحتَملة لخطيئة يهوذا.»
«ربّي، إنّ يهوذا يشعر بنفسه أنّه محروم مِن القُدرة التي يريدها لاجتراح المعجزات... تَعلَم أنّه طَموح دائماً... هل تَذكُر عين دور؟ وعلى العكس، هو أقلّ مَن يجترحها. ومنذ أن عاد، لم يَعُد يَنجَح في شيء... وحتّى أثناء الليل، يَنتَحِب على ذلك في الحلم كما لو كان كابوساً، و... يا معلّم، يا معلّمي!»
«هيا، تكلّم. قُل كلّ ما عندكَ.»
«إنّه يُطلِق اللّعنات... ويُمارِس السحر. وهذا ليس كذباً ولا شَكّاً. أنا رأيتُه. لقد اختارني رفيقاً لأنّني أنام بعمق، أو بالحري لأنّني كنتُ أنام بعمق. الآن، أنا أقرّ وأعترف، أنّني أُراقِبه، ونومي أَصبَحَ أقلّ عُمقاً، ذلك أنّني، ما أن يتحرّك حتّى أَسمَعه... قد أكون أسأتُ التصرّف. ولكنّني كنتُ أتظاهر بالنوم كي أرى ماذا كان يفعل. ولمرّتين رأيتُه وسَمِعتُه يَفعَل ما لا يَليق. أنا لستُ عالماً بالسحر، ولكنّ هذا بالضبط هو المقصود.»
«وحده؟»
«نعم ولا. لقد تَبِعتُه في طبريّا. قَصَدَ بيتاً. سألتُ لاحقاً مَن يكون قاطِنه. إنّه أحد الذين يُمارِسون تحضير الأرواح مع آخرين. وعندما خَرَجَ يهوذا، في حوالي الصباح، وبحسب الكلام المتبادَل، أدركتُ أنّهم يعرفون بعضهم، وأنّهم كثيرون... وليسوا جميعهم غرباء. إنّه يَطلُب مِن الشيطان القوّة التي لم تمنَحه إيّاها. لأجل ذلك قدَّمتُ تضحيتي للآب، كي يُمرِّرها له ولا يعود يخطئ.»
«ينبغي لكَ أن تُعطيه نفسكَ، ولكنّ ذلك، لا الآب ولا أنا، نسمح به...»
صَمْت طويل. ثمّ يقول يسوع، بصوت متعب: «هيّا بنا، يا يوحنّا، ولنهبط. وسوف نستريح في انتظار الفجر.»
«أنتَ الآن أكثر حُزناً ممّا كنتَ عليه، يا ربّ! لقد أخطأتُ بالحديث!»
«لا. كنتُ أَعلَم ذلك. إنّما أنتَ، على الأقلّ، سُرّيَ عنكَ... وهذا هو المهمّ.»
«يا ربّ، هل عليّ أن أتجنّبه؟»
«لا. لا تخف. فالشيطان لا يمكنه أن يؤذي الذين هُم مِثل يوحنّا. إنّه يُرهِبهم، ولكنّه لا يستطيع نَزع النّعمة التي لا يتوقّف الله عن مَنحهم إيّاها. في الصباح سوف أتحدّث. وبعد ذلك نمضي إلى بيللا. يجب الإسراع، ذلك أنّ النهر قد امتلأ مِن الثلوج التي ذابت ومِن مياه الأمطار في الأيّام الأخيرة. لذلك فإنّه على وشك أن يفيض، خاصّة وأنّ الهالة المحيطة بالقمر تبشّر بأمطار غزيرة...»
يَهبطان ويختفيان في الغرفة التي تحت الشرفة...
...إنّه الصباح، صباح مِن آذار (مارس). انقشاعات وغيوم تتعاقب في السماء. إنّما الغيوم أكثر مِن الانقشاعات، وهي تميل إلى أن تُغطّي السماء. ريح ساخنة تهبّ على دفعات وتجعل الجوّ ثقيلاً ممتلئاً غباراً قادماً مِن مناطق أعالي النجود.
«إذا لم يتغيّر الهواء، فستكون المياه!» يقول بطرس بأسلوب الحِكَم، وهو خارج مِن البيت مع الآخرين.
في النهاية يَخرُج يسوع الذي يتحرّر مِن ربّ البيت الذي يَخرُج معه. يتوجّهون صوب إحدى الساحات. على بُعدِ خطوات، يُوقِفهم ضابط رومانيّ بصحبة بعض الجنود.
«أأنتَ هو يسوع الناصريّ؟»
«نعم.»
«ماذا تَفعَل؟»
«أتحدّث إلى الجموع.»
«أين؟»
«في الساحة.»
«كلاماً مُحرِّضاً على الفتنة؟»
«لا. أحكام الفضائل.»
«انتبه! لا تكذب. لدى روما آلهة كاذبة بما فيه الكفاية.»
«تعال أنتَ كذلك. وسترى أنّني لا أكذب.»
الرجل الذي استضاف يسوع شَعَرَ أنّ عليه أن يتدخّل: «ولكن منذ متى كلّ هذه الأسئلة تُوَجَّه لرابّي؟»
« لقد أُبلِغ عنه أنّه مُحرِّض على الفِتَن.»
«مُحرِّض على الفِتَن؟ هو؟ ولكنّكَ مُخطئ يا ماريوس سيفيروس! إنّه الرجل الأكثر وداعة على وجه الأرض. أنا مَن يقول لكَ ذلك.»
يرفع الضابط كتفيه ويقول: «هذا أفضل له. إنّما هكذا وُشِيَ به لدى قائد المائة. اذهب إذن. فلقد أُخطِرتَ.» ويَدور كي يعود مع تابِعِيه.
«ولكن مَن يمكن أن يكون ذاك؟ أنا لا أفهم!» يقول كثيرون.
«لا تحاولوا الفهم.» يُجيب يسوع. «هيّا طالما الناس كثيرٌ عددهم في الساحة. بعد ذلك نرحل مِن هنا.»
تلك الساحة هي بالأحرى تجاريّة. هي ليست سوقاً، إنّما ما يُشبه ذلك، فهي مُحاطة بالمحال حيث تُعرَض بضائع مِن كلّ صنف. وجاء رهط مِن الناس إليها. كذلك أناس كثيرون هُم في الساحة، ويُشير بعضهم إلى يسوع، وفي الحال يُصبح الناصريّ محاطاً. هناك أناس مِن كلّ المقامات ومِن كلّ الجنسيّات. البعض جاء إجلالاً والبعض الآخر مِن قبيل الفضول.
يُشير يسوع أنّه سيتحدّث.
«فلنستمع إليه!» يقول أحد الرومان وقد خَرَجَ مِن أحد المحلاّت.
«أَمِن أجل الاستماع إلى مناحة؟» يُجيبه رفيق له.
«لا تعتقد ذلك يا كونستانس. إنّه أكثر تقبّلاً مِن خُطَبائنا الاعتياديّين.»
«السلام لِمَن يُنصِتون إليَّ! قيل في سفر عزرا، في صلاة عزرا: "والآن يا إلهنا ماذا نقول، بعد الذي جرى؟ فإنّنا قد أهملنا وصاياكَ، تلك التي أَمَرتَ بها على ألسنة عبيدكَ الأنبياء..."»
«توقَّف، أنتَ يا مَن تتكلّم. الموضوع، نحن مَن يُحدِّده لكَ.» يَصيح حفنة مِن الفرّيسيّين الذين شقّوا لهم طريقاً وسط الجمع. وفي الحال عاد حَرَس الجيش للظهور والتوقّف في الركن الأقرب. الفرّيسيّون الآن في مواجه يسوع. «أأنتَ الجليليّ؟ يسوع الناصريّ؟»
«نعم!»
«المجد لله أنّنا وجدناكَ!» حقّاً الحقد ظاهر على وجوههم لدرجة أنّهم يبدون غير سعيدين للمقابلة…
الأكبر سنّاً يتكلّم: «نتبعكَ منذ عدّة أيّام، ولكنّنا كنّا نصل دائماً بعد رحيلكَ.»
«لماذا تتبعونني؟»
«لأنّكَ المعلّم ونريد أن نستنير حول نقطة مِن الشريعة مظلمة.»
«ليس في شريعة الله نقاط مظلمة.»
«فيها، لا. ولكن، هه! هه!... ولكن على الشريعة أتت "الإضافات" كما تقول، هه! هه!... وهي خَلَقَت الظُّلمة.»
«بل شِبه ظلّ، على الأكثر. ويكفي أن يتوجّه المرء بتفكيره صوب الله حتّى يبدّده.»
«لا يَعرِف الجميع أن يفعلوا ذلك. نحن، على سبيل المثال، نحن باقون في شِبه الظلّ. وأنتَ الرابّي، هه! هه! ساعِدنا إذن.»
«ما الذي تريدون معرفته؟»
«كنّا نريد معرفة ما إذا كان مسموحاً للرجل أن يُطلِّق امرأته لسبب ما. هذا أمر يحدث غالباً، وفي كلّ مرّة تَحدُث جَلَبة حيث يحصل. والناس يقصدوننا لمعرفة ما إذا كان ذلك مسموحاً به، ونحن نُجيب بحسب الحالات.»
«مع الموافقة على أن يتمّ ذلك في تسعين بالمائة مِن الحالات. والعشرة بالمائة من الحالات التي لم توافِقوا عليها فهي إمّا لفقراء وإمّا لأعداء لكم.»
«كيف عرفتَ؟»
«لأنّ الأمور تسير على هذا المنوال في كلّ المسائل البشريّة. وأُضيف فئة ثالثة: تلك التي إذا ما كان الطلاق مسموحاً فيه، فهو مبرَّر أكثر، تلك التي يكون فيها لأوضاع أليمة، كما في حالات برص غير قابل للشفاء، حُكم مدى الحياة، أو مَرَض مُخجِل...»
«إذن، بالنسبة إليكَ، هو غير مسموح به على الإطلاق؟»
«لا بالنسبة إليَّ ولا بالنسبة إليه تعالى، ولا بالنسبة إلى أيّ نَفْس مستقيمة. ألم تقرؤوا أنّ الخالق، في بدء الزمان، خَلَقَ الرجل والمرأة؟ وأنّه ذَكراً وأنثى خَلَقَهما. لم يكن في حاجة لأن يَفعَل ذلك. كان يمكنه أن يَخلق لِمَلك الخليقة، المخلوق على صورته كمثاله، طريقة أُخرى للإنجاب، وكانت ستبقى صالحة مع كونها مختلفة عن أيّة وسيلة طبيعيّة أخرى. وقال: "لهذا يَترك الرجل أباه وأُمّه ويلزم امرأته فيصيران كلاهما جسداً واحداً". لقد جمعهما الله في وحدة فريدة. فَلَم يَعودا إذن جسدين "اثنين" بل هما جسد "واحد". وما جَمَعَه الله، لأنّه رأى أنّه "أمر حسن"، لا يفرّقه إنسان، لأنّه لو حَصَلَ لما عاد أمراً حسناً.»
«ولكن لماذا قال موسى إذن: "إذا اتَّخَذَ رجل امرأة ولم تجد رضا في عينيه لأمر ما مُخجِل، فليكتُب لها كتاب طلاق ويسلّمها إيّاه في يدها، ويعيدها إلى بيتها"؟»
«مِن أجل قسوة قلوبكم كَتَبَ لكم هذه الوصية، مِن أجل تحاشي قلاقل جسيمة جدّاً. لذلك سَمَحَ لكم بطلاق نسائكم. إنّما في البدء لم يكن الأمر هكذا. ذلك أنّ المرأة ليست مجرّد بهيمة خاضعة، بحسب نزوات صاحبها أو الظروف الطبيعيّة الحرّة، لهذا أو ذاك مِن الذكور، إنّها ليست جسداً دون نَفْس تتزاوج مِن أجل الإنجاب. فلدى نسائكم نَفْس كالتي لديكم، وليس عدلاً أن تدوسوها دون شفقة. وإذا ما قيل لها في إدانتها: "تخضعين لسلطان بعلك (إلى بعلكِ تنقاد أشواقكِ) وهو يسود عليكِ"، فينبغي أن يحصل ذلك بموجب العدل والاستقامة، وليس بحسب الاستبداد الذي يهضم حقوق نَفْس حرّة وجديرة بالاحترام.
أنتم، بممارستكم الطلاق في الوقت الذي هو غير مسموح به، تُهينون نَفْس شريككم، الجسد التوأم الذي اتّحد بجسدكم، ومجمل هذا الذي هو المرأة التي تزوّجتم متشدّدين في أمر عفّتها، بينما أنتم، أيّها الكاذبين في عهودكم، تَمضون إليها وقد تسربلتم العار، وأصبحتم وضيعين وأحياناً فاسدين، وتستمرّون في ذلك مستغلّين كلّ فرصة لتجرحوها، مطلقين العنان لشهواتكم التي لا تقف عند حدّ. تجعلون مِن نسائكم عاهرات! لا يمكنكم الافتراق عن المرأة التي اتّحدتم بها بموجب الشريعة والبركة لأيّ سبب كان. ولا يكون ذلك إلاّ في حال لمستكم النعمة، أي عندما تُدرِكون أنّ المرأة ليست شيئاً نمتلكه، بل هي نَفْس، وبالتالي فحقوقها مساوية لحقوقكم، بالاعتراف بها كجزء مُكمِّل للرجل، وليست غرضاً للمتعة، وفقط في حال كون قلبكم بَلَغَ درجة مِن القسوة لا يعود معها قادراً على رفعها إلى مرتبة الزوجة بعد الاستمتاع بها وكأنّها عاهر، وفقط مِن أجل تحاشي عثار مساكنة شخصين دون بركة الله لاتّحادهما، يمكنكم أن تصرفوا امرأة. فحينذاك لا يعود الأمر يعني اتّحاداً بل فسقاً، وهو في الغالب لا يتكلّل بالأطفال الذين يتمّ إلغاؤهم بأساليب مضادّة للطبيعة أو إبعادهم (التخلّي عنهم) وكأنّهم مجلبة للعار.
ليس في أيّ حال آخر، ليس في أيّ آخر. ذلك أنّه لو كان لكم أولاد غير شرعيين مِن خليلة، فَمِن واجبكم وضع حدّ للفضيحة بالزواج منها إذا كنتم غير مرتبطين. لا أتوقّف عند الزنى المقترف على حساب امرأة جاهلة. فهذا يستوجب حجارة الرجم ونيران شيول. أمّا بالنسبة إلى الذي يصرف زوجته الشرعيّة لأنّه تعب منها ويتزوّج بأخرى، فهذا ليس سوى فاسق زانٍ. وكذلك الذي يتزوّج مِن امرأة مطلَّقة، ذلك أنّ الرجل إذا ما ادّعى لنفسه حقّ تفريق ما جمعه الله، فالوحدة الزوجيّة تستمرّ في عينيّ الله، وملعون هو الذي يتّخذ أُخرى وهو لم يصبح بعد أرملاً. وملعون هو الذي، بعد أن يُطلّق زوجته، بعد أن يتركها لمخاطر الحياة التي تجعلها ترضى بزواج آخر لتأمين قوتها، يعود ليأخذها بعد أن تُصبح أرملة الزوج الآخر. ذلك أنّها، رغم كونها أرملة، فقد أصبحت زانية بسبب خطيئتكم، وأنتم تُضاعِفون زناها.
هل فهمتم، أيّها الفرّيسيّون الذين تجرّبونني؟»
«إنَّ الرجل صارم. لو كان في روما لرأى حمأة أكثر نتانة تتخمّر.» يقول أحد الرومان.
يُهمهِم بعض رجال جدرة كذلك: «إنّه لأمر صعب أن يكون المرء رجلاً إذا ما توجّب عليه أن يكون عفيفاً هكذا!...»
وآخرون يقولون بصوت أعلى: «إذا كان هذا هو وضع الرجل بالنسبة إلى المرأة، فالأفضل له ألاّ يتزوّج.»
وقد تبنّى الرُّسُل كذلك هذا الرأي بينما هُم يُعاودون السير صوب الريف، بعد مغادرتهم أهالي جدرة. يهوذا يتحدّث عن ذلك باحتقار. يعقوب يتحدّث باحترام ورويّة. ويسوع يُجيب هذا وذاك: «لا يُدرك الجميع ذلك، ولا الذين يفهمونه، يفهمونه كما يجب. بالفعل، البعض يفضّلون العزوبية ليكونوا أحراراً في إشباع رذائلهم. آخرون لتحاشي ارتكاب الخطيئة، بعدم كونهم أزواجاً صالحين. إنّما هناك البعض فقط مُنِحوا إدراك جمال الخلوّ مِن الشهوانيّة وحتّى مِن الرغبة النـزيهة بالمرأة. وهؤلاء هُم الأكثر قداسة، الأكثر حريّة، والأكثر ملائكيّة على الأرض. أتحدّث عن الذين يخصّون أنفسهم مِن أجل ملكوت الله. مِن الرجال مَن يُولدون كذلك؛ آخرون يُجعَلون كذلك. الأوّلون لديهم تشويه خلقيّ مثير للشفقة، بالنسبة إلى الآخرين هو تعسُّف مُدان. ولكن هناك الفئة الثالثة: فئة المخصيّين بإرادتهم الذين بغير عنف، وبالتالي بأجر مضاعف، يعرفون أن يتبنّوا طلب الله ويعيشون كالملائكة كيما يبقى في هيكل الأرض المهجور زهور وبخور للربّ. أولئك يرفضون إشباع الجزء الأدنى مِن كيانهم كي ينمو الجزء الأعلى، الذي به يُزهِرون في السماء، في الزهراء الأقرب مِن عرش الـمَلِك. الحقّ أقول لكم إنّهم ليسوا مشوّهين، ولكنّهم موهوبون بما يفتقده أغلب الرجال. ليست الأشياء المحتقرة ببلاهة، بل بالحريّ ذات الإجلال العظيم. فليفهم ذلك مَن عليه أن يفهمه ويحترمه، إذا ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.»
المتزوّجون مِن الرُّسُل يُهمهِمون فيما بينهم.
«ماذا بكم؟» يَسأَل يسوع.
«ونحن؟» يَسأَل برتلماوس باسم الجميع. «لم نكن نعرف ذلك واتّخذنا لنا نساء. إنّما يرضينا أن نكون كما تقول...»
«ليس محظوراً عليكم أن تكونوا كذلك الآن. عيشوا في العفاف وأنتم تَرَون في شريكتكم أختاً، وستنالون أجراً عظيماً في عينيّ الله. ولكن أَسرِعوا الخُطى لنصل إلى بيللا قبل المطر.»