ج7 - ف222

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السابع / القسم الثاني

 

222- (صابئة بيت ليخي تعلن عن يسوع)

 

05 / 11 / 1946

 

إنّها مزرعة فقيرة جدّاً تلك الّتي تُطعِم مجموعة أصدقاء زكّا غير المتجانسة. وهي حتماً لا تبهج القلب، خصوصاً الآن حيث الفصل شتاء. ومع ذلك هم يحبّونها ويشيرون ليسوع إليها بفخر. حقول القمح الثلاثة، المحروثة والبُنّية، البستان مع بعض الأشجار المثمرة، والأخرى الّتي لا تزال صغيرة كي يُؤمَل أن تحمل ثماراً، بعض صفوف كروم هزيلة، مساكب الخضار… اسطبل صغير مع بقرة وحمار للناعورة، قنّ مع بضعة دجاجات، وخمسة أزواج حمام، ست نعاج، كوخ مع مطبخ وثلاث غرف، عنبر للحطب والمهملات ومخزن للتبن، بئر بفتحة متصدّعة، خزّان ماء موحل. لا شيء أكثر.

 

«إذا كان الفصل ملائماً...»

 

«إذا ما أنجبت البهائم...»

 

«إذا ما تجذّرت الأشجار الصغيرة...»

 

كلّ شيء مشروط… آمال متزعزعة جدّاً…

 

ولكنّ أحدهم يتذكّر ما سمعه يقال عن السنوات السابقة: الحصاد العجائبيّ الّذي جناه دوراس بفضل بركة منحها المعلّم كي يتحلّى دوراس بالإنسانيّة تجاه خُدّامه الفلّاحين، ويقول: «ولو كنتَ باركتَ هذا المكان… كذلك دوراس كان خاطئاً...»

 

«معكَ حقّ. إنّ ما فعلتُه مع علمي بأنّني ما كنتُ لأغيّر ذاك القلب، سوف أفعله أيضاً لأجلكم أنتم الّذين تغيّر قلبكم.»

 

ويفتح ذراعيه ليبارك قائلاً: «أَفعَل ذلك حالاً، لأنّني أريد أن أقنعكم بأنّني أحبّكم.»

 

ثمّ يتابعون طريقهم صوب النهر، محاذين حقولاً محروثة، بتربتها القاتمة الخصبة، وبساتين قد عرّاها الفصل.

 

ها إنّ بعض الكتبة يتقدّمون مِن عند منعطف. «السلام لكَ يا معلّم. لقد انتظرناكَ هنا… لتبجيلكَ.»

 

«لا. كي تكونوا متأكّدين مِن أنّني لا أغشّ. لقد أحسنتم صنعاً. كونوا مقتنعين بأنّه لم يكن لي سبيل لرؤية المرأة ولا أيّ أحد مِمّن هم معها. وأنتما، أنتَ وأنتَ، كنتما حارسَين على منزل زكّا، ورأيتما أنّ لا أحد منّا قد خرج. لقد سبقتماني على الطريق ورأيتما أنّ لا أحد منّا قد تقدّم. إنّ لديكم في قلوبكم شروطاً لفرضها عليَّ عند مقابلتي لتلك المرأة، وأنا أقول لكم بأنّني أقبلها حتّى قبل أن تطرحوها.»

 

«إنّما… إن كنتَ لا تعرفها...»

 

«أليس صحيحاً يا ترى أنّكم تريدون طرحها؟»

 

«صحيح.»

 

«فكما إذن أعرف نواياكم، الّتي هي معلومة مِن قبلكم وحدكم، كذلك أعرف ما ستقولونه لي. وأنا أقول لكم بأنّني أقبل ما تريدون عرضه عليَّ، لأنّه سيفيد في تمجيد الحقّ. تكلّموا.»

 

«أتعلم بما يتعلّق الأمر؟»

 

«أعلم أنّكم حكمتم بأنّ المرأة ممسوسة، وأنّه مع ذلك ما مِن طارد أرواح قد تمكّن مِن طرد الشيطان منها. وأعلم أنّها لا تتفوّه مع ذلك بكلام شيطانيّ. هذا ما يقوله الّذين سمعوها تتكلّم.»

 

«أيمكنكَ أن تُقسِم بأنّكَ لم ترَها أبداً؟»

 

«إنّ البارّ لا يُقسِم أبداً، لأنّه يعلم بأنّ له الحقّ بأن تكون كلمته موضع تصديق. أنا أقول لكم بأنّني لم أرَها أبداً، وبأنّني لم أمرّ أبداً ببلدتها، وكلّ البلدة يمكن أن تؤكّد ذلك.»

 

«ومع ذلك فهي تدّعي أنّها تعرف وجهكَ وصوتكَ.»

 

«إنّ نفسها تعرفني بالفعل بمشيئة الله.»

 

«أنتَ تقول "بمشيئة الله". إنّما كيف يمكنكَ تأكيد ذلك؟»

 

«لقد قيل لي بأنّها تقول كلاماً موحىً به.»

 

«كذلك الشيطان يتحدّث عن الله.»

 

«إنّما بأخطاء ممزوجة عمداً، كي يضلّل البشر بأفكار خاطئة.»

 

«حسناً… نودّ أن تدعنا نختبر تلك المرأة.»

 

«بأيّة طريقة؟»

 

«ألا تعرفها بحقّ؟»

 

«أقول لكم لا.»

 

«هو ذا إذن. نرسل شخصاً يصيح: "ها هو الربّ" ونرى إذا ما كانت ستقوم بتحيّة مَن هو معه كما لو أنّه أنتَ.»

 

«بئس الاختبار! إنّما أقبله رغم ذلك. اختاروا أنتم، مِن بين مَن يرافقونني، مَن تريدون إرسالهم في المقدّمة، وأنا سأتبعكم مع الآخرين. حينئذٍ إذا تكلّمت المرأة، فعليكم أن تدعوها تتكلّم، كي أحكم على كلامها.»

 

«هذا عادل. إنّ الاتّفاق قد أبرم، وسوف نتقيّد به بأمانة.»

 

«ليكن كذلك، وليكن ذلك صالحاً للمس قلوبكم.»

 

«يا معلّم، لسنا جميعنا خصوماً. البعض منّا متردّدون… ولديهم إرادة صادقة ليروا الحقّ كي يتبعوكَ.» يقول كاتب.

 

«هذا صحيح. وأولئك سيكونون محبوبين كذلك مِن الله.»

 

الكَتَبَة يتفحّصون الرُّسُل ويُدهَشون لغياب الكثيرين، وخصوصاً الاسخريوطيّ، ومِن ثمّ يختارون يوضاس تدّاوس ويوحنّا. وزيادة يأخذون الشاب اللصّ المهتدي، الشاحب والنحيل وذا الشعر الأصهب قليلاً. بالنتيجة أولئك الّذين لديهم، بالنسبة للعمر أو المظهر، نقاط مشتركة مع المعلّم.

 

«نحن نتقدّم معهم. أنتَ امكث هنا مع رفاقنا ورفاقكَ، والحق بنا بعد برهة.»

 

وهكذا يفعلون.

 

لقد أصبحوا على مرأى مِن الأحراج الّتي تحاذي النهر. إنّها شمس شتائيّة في مغيبها، تجعل قمم الأشجار ذهبيّة، وتُلقي نوراً أصفر ساطعاً على الأشخاص المجتمعين قرب الأشجار.

 

«هو ذا! هو ذا المسيا! انهضوا! تعالوا لملاقاته!» يصيح الكَتَبَة الّذين تقدّموا، متّخذين مسلكاً يُفضي إلى شجرة بلّوط ضخمة، ذات جذور قويّة شبه مكشوفة، بحيث تصلح كمقاعد لِمَن يلوذون قرب جذعها.

 

مجموعة الأشخاص المتجمّعين حولها تلتفت، تنهض، تنفتح تتباعد للذهاب لملاقاة القادمين. وعند الجذع يبقى فقط ثلاثة كَتَبَة، يوحنّا الذي مِن أفسس، ورجل وامرأة مسنّان، بالإضافة إلى امرأة أخرى تلبث جالسة على جذر ناتئ، ظهرها مستند إلى الجذع، رأسها منحن فوق ركبتيها اللتين تضمّهما ذراعاها المشبوكتان، مغطّاة تماماً بوشاح بنفسجي داكن حتّى إنّه يبدو أسوداً. إنّها تبدو غريبةً عن كلّ شيء. والصياح لا يجعلها تتحرّك.

 

أحد الكَتَبَة يلمسها مِن كتفها: «المعلّم هنا يا صابئة. انهضي وحيّيه.»

 

المرأة لا تجيب ولا تتحرّك.

 

الكَتَبَة الثلاثة يتبادلون النظر ويبتسمون بسخرية، فيما يومئون بإشارة لها دلالة للآخرين الّذين يتقدّمون. وحيث إنّ أولئك الّذين كانوا ينتظرون قد صمتوا إذ لم يروا يسوع، فإنّهم يصرخون بصوت أعلى مِن ذي قبل، هم ورفاقهم، حتّى لا تكتشف المرأة الحيلة.

 

«يا امرأة.» يقول كاتب للأُمّ العجوز الّتي ترافق ابنتها «أقلّه قومي أنتِ بتحيّة المعلّم وقولي لابنتكِ أن تفعل ذلك.»

 

المرأة تسجد مع زوجها أمام تدّاوس ويوحنّا واللص التائب، ومِن ثمّ تقول لابنتها وهي تنهض: «يا صابئة، سيّدكِ هنا. قَدّمي له التبجيل.»

 

الشابّة لا تتحرّك.

 

ابتسامة الكَتَبَة الساخرة تتعاظم، وأحدهم، هو نحيل وضخم الأنف، يقول بصوت أنفيّ أخن ومتشدّق: «لم تكوني تتوقّعين هذا الاختبار، أليس كذلك؟ وقلبكِ يرتجف. أنتِ تشعرين بأنّ سمعتكِ كنبيّة في خطر، ولا تجرّبين حظّكِ… يبدو لي أن هذا يكفي لإعلانكِ كاذبة...»

 

المرأة ترفع رأسها فجأة. ترمي وشاحها إلى الوراء، وتنظر بعينين مفتوحتين جيّداً فيما تقول: «إنّني لا أكذب أيّها الكاتب. ولستُ خائفةً، لأنّني في الحقّ. أين الربّ؟»

 

«كيف؟ تقولين إنّكِ تعرفينه ولا ترينه؟ إنّه أمامكِ.»

 

«لا أحد مِن هؤلاء هو الربّ. لهذا لم أتحرّك. لا أحد مِن هؤلاء.»

 

«لا أحد مِن هؤلاء؟ كيف؟ أليس هذا الجليليّ الأشقر هو الربّ؟ أنا لا أعرفه، إنّما أعلم أنّه أشقر وأنّ عينيه بلون السماء.»

 

«ليس هو الربّ.»

 

«إذاً هذا طويل القامة والصارم. انظري أيّة قَسَمات مَلِك. إنّه حتماً هو.»

 

«لا، ليس هو الربّ. لا أحد مِن هؤلاء هو الربّ.» والمرأة تعاود خفض رأسها على ركبتيها كما قبلاً.

 

يمرّ بعض الوقت. ثمّ ها هو يسوع يتقدّم. الكَتَبَة فرضوا الصمت على القلّة الموجودين هناك. لذلك فإنّ مجيئه لا تفضحه أيّة هوشعنا.

 

يسوع يتقدّم بين بطرس وابن عمّه يعقوب. يمشي ببطء… بصمت… إنّ العشب الكثيف يُخمِد كلّ وقع خطىً. وفيما المرأة العجوز تمسح دموعها بوشاحها، وكاتب يهينها قائلاً: «إنّ ابنتكِ مجنونة وكاذبة.» وفيما الأب يتنهّد ويوجّه أيضاً ملامات إلى ابنته، فإنّ يسوع يصل إلى طرف المسلك ويتوقّف.

 

الشابة، الّتي لم تستطع أن تسمع شيئاً، الّتي لم تستطع أن ترى شيئاً، تهبّ واقفةً، ترمي الوشاح، كاشفةً بذلك رأسها كلّه، تمدّ ذراعيها وتصيح بقوّة: «ها هو ذا ربّي يأتي إليَّ! إنّه هو المسيا، أيا أيّها الرجال الّذين تريدون خداعي وإذلالي. إنّني أرى فوقه نور الله الّذي يدلّني إليه، وأبجّله!» وترتمي أرضاً إنّما لابثةً في مكانها، على بُعد حوالي مترين مِن يسوع. الوجه إلى الأرض، وسط العشب، وتصيح: «أحيّيكَ، أيا مَلِك الشعوب، يا أيّها البديع، أيا أمير السلام، أبا الدهر الّذي لا نهاية له، رئيس شعب الله الجديد!» وتبقى ساجدةً تحت ردائها الداكن الفضفاض، بنفسجيّ اللون، الأسود تقريباً مثل الوشاح. إنّما في اللحظة الّتي نهضت فيها أمام الجذع الأسود -وبعدما ردّت الوشاح، ولبثت وذراعاها ممدودتان إلى الأمام، كما تمثال- استطعتُ أن ألاحظ أنّها تلبس تحت الرداء ثوباً ثقيل الصوف ذا بياض عاجيّ، مشدوداً فقط بحبل إلى العنق والخصر. واستطعتُ خصوصاً أن أبدي إعجابي بجمالها كامرأة ناضجة. لا بدّ أنّ عمرها حوالي الثلاثين عاماً. والأعوام الثلاثون في فلسطين تعادل أقلّه أربعين عاماً مِن أعوامنا عموماً، وإذا ما كانت مريم كلّية القداسة تشكّل استثناءً لهذه القاعدة، فإنّ النضوج بالنسبة للنسوة الأخريات يحلّ باكراً، وخصوصاً بالنسبة لِمَن هنّ سمراوات الشعر والوجه، والممتلئات الجسم كما هذه.

 

إنّها النموذج التقليديّ للمرأة العبرانيّة. أظنّ أنّ راحيل وراعوت ويهوديت كنّ هكذا، شهيرات بجمالهنّ. إنّها طويلة القامة، ممتلئة الجسم ومع ذلك ممشوقة، بشرتها ملساء ذات شحوب بنيّ قليلاً، فمها صغير وشفتاها ضخمتان بعض الشيء، شديدتا الحُمرة، أنفها مستقيم، طويل ودقيق، عيناها غائرتان، غامقتان، مخمليّتان في قوس رموش طويلة وكثيفة، جبهتها عالية، ملساء، مَلَكيّة، بيضاويّة مائلة للاستطالة، شعرها مِن أبنوس بهيّ مثل إكليل مِن عقيق. ليس جوهرة، إنّما جسد منحوت وأبّهة مَلِكة.

 

ها هي تنهض مادّة يديها الطويلتين، السمراويين، الجمليتين جدّاً، المتّصلتين بالذراع بمعصم نحيل. ها هي واقفة مجدّداً مستندة إلى الجذع القاتم. هي الآن تنظر بصمت إلى المعلّم، وتهزّ رأسها لأنّ كَتَبة يقولون لها: «إنّكِ تخطئين يا صابئة. ليس هو المسيا، إنّما ذاك الّذي رأيتِه قبلاً دون أن تتعرّفي إليه.»

 

تهزّ رأسها، حازمة، صارمة، ولا ترفع عينيها عن الربّ. ومِن ثمّ يتجلّى وجهها متّخذاً تعبيراً لا أعرف فيما إذا كان بفعل فرح متّقد أم استرخاء انتشائيّ. ففيها مِن الواحد والآخر، وتبدو أنّها تشحب كمن يوشك على الإغماء، فيما كلّ الحياة تتركّز في العينين اللتين تسطعان بنور فرح، انتصار، محبّة… لا أدري. أتضحك هاتان العينان؟ لا، لا تضحكان، كما لا يضحك الفم الصارم. ومع ذلك فيهما نور فرح، وهاتان العينان تكتسبان باطّراد قوّة نافذة مؤثّرة. يسوع يرمقها بنظره الوديع، الحزين بعض الشيء.

 

«أترى أنّها مجنونة؟» يهمس له أحد الكَتَبَة.

 

يسوع لا يردّ. يده اليسرى متدلّية على طول جنبه، واليد اليمنى تمسك بردائه فوق صدره، ينظر ويصمت.

 

المرأة تفتح فمها وتمدّ ذراعيها كما قبلاً. إنّها تبدو كفراشة عملاقة بنفسجيّة الجناحين، وجسدها مِن عاج عتيق. صيحة جديدة تخرج مِن شفتيها: «أيا أدوناي، إنّكَ عظيم! أنتَ وحدكَ العظيم يا أدوناي! إنّكَ عظيم في السماء وعلى الأرض، وفي الزمان وإلى دهر الدهور، وما وراء الزمن، منذ الأزل وإلى الأبد، أيا أيّها الربّ، ابن الربّ. إنّ أعداءكَ تحت قدميكَ، ومحبّة الّذين يحبّونكَ تدعم عرشكَ.»

 

الصوت يغدو واثقاً وقويّاً أكثر فأكثر فيما تبتعد عيناها عن وجه يسوع وتنظران إلى البعيد، قليلاً فوق الرؤوس المتنبّهة الّتي تحيط بها، وهي، الواقفة منتصبة مستندة إلى جذع البلوط، الّذي هو على أرض مرتفعة، تهيمن دونما صعوبة.

 

تستأنف بعد استراحة: «إنّ عرش ربّي يزيّنه اثنا عشر حجراً مِن حجارة الأسباط الاثني عشر الأبرار. الجوهرة العظيمة الّتي هي العرش، العرش الأبيض والثمين المتلألئ للحَمَل كلّيّ القداسة، مرصّعة بياقوت أصفر مع جَمَشْت، زُمرُّد ذُبَابيّ مع ياقوت أزرق، ياقوت أحمر مع جَزَع عَقيقيّ، عقيق وزبرجد وزُمرُّد سِلْقِيّ، جَزْع، يَشْبٍ بَلُّوريّ، عين الشمس (أوبال). أولئك الّذين يؤمنون، أولئك الّذين يرجون، أولئك الّذين يحبّون، أولئك الّذين يتوبون، أولئك الّذين يحيون ويموتون في البرّ، أولئك الّذين يتألّمون، أولئك الّذين يتركون الضلال لأجل الحقّ، أولئك الّذين كانوا قساة القلب واستحالوا ودعاء باسمه، الأبرياء، التائبون، أولئك الّذين يتجرّدون مِن كلّ شيء كي يكونوا رشيقين لاتّباع الربّ، العذارى بالروح المتألّق بنور شبيه بفجر سماء الله… المجد للربّ! المجد لأدوناي! المجد للمَلِك الجالس على عرشه!»

 

الصوت مجلجل. الناس يقشعرّون تأثّراً. تبدو المرأة أنّها ترى حقّاً ما تقول، كما لو أنّ السحابة الـمُذَهَّبة، الّتي تُبحِر في سماء صافية، والّتي تبدو متابعةً لها بنظرها المفتون، كانت لها بمثابة عدسة لرؤية الأمجاد السماويّة. إنّها ترتاح كما لو أنّها متعبة إنّما مِن دون أن تُبدّل وضعها. وحده وجهها يتجلّى أكثر بعد، بشحوب الجلد وبريق العينين.

 

ومِن ثمّ تعاود الكلام خافضةً نظرها صوب يسوع، الّذي يصغي إليها بانتباه وسط حلقة مِن الكَتَبَة، الّذين يهزّون الرأس مشكّكين وساخرين، ورُسُل وأتباع يجعلهم تأثّر مقدّس شاحبين. تعاود الكلام بصوت جليّ إنّما أقلّ قوّة: «إنّني أرى! إنّني أرى في الإنسان ما يحتجب في الإنسان. قدّيس هو الإنسان، إنّما ركبتاي تنحنيان أمام قدس الأقداس الكامن في الإنسان.»

 

الصوت يعود قويّاً، حازماً مثل أمر: «انظر إلى مَلِككَ، أيا شعب الله! اعرف وجهه! إنّ جمال الله أمامكَ هو. حكمة الله قد اتّخذت فماً كي تثقّفكَ، لم يعد الأنبياء، أيا شعب إسرائيل، مَن يكلّمكم عن الّذي لا يمكن ذِكر اسمه. إنّه هو ذاته. هو، الّذي يعرف السرّ الّذي هو الله، مَن يكلّمكم عن الله. هو، الّذي يعرف فِكر الله، الّذي يقرّبكم مِن حضنه، أيّها الشعب الّذي ما تزال طفلاً بعد عصور كثيرة، ويغذّيكم بحليب حكمة الله كي يجعلكم راشدين بالله. وكي يفعل ذلك فقد تجسّد في أحشاء، في أحشاء امرأة مِن إسرائيل، أعظم مِن أيّة امرأة أخرى في نَظَر الله والبشر. لقد خلبت قلب الله بواحدة مِن خفقاتها الّتي لحمامة. إنّ جمال روحها قد استهوى العليّ، وهو منها جعل عرشه. إنّ مريم هارون قد خطئت لأنّ الخطيئة كانت فيها. دَبُورَةُ قد ارتأت ما كان يجب فِعله، لكنّها لم تفعله بيديها. يَاعِيلَ كانت شجاعة، إنّما تلطّخت بدم. يهوديت كانت بارّة وتخاف الربّ، والله كان في كلامها، وسمح لها بالتصرّف كي ما ينجو إسرائيل، إنّما استخدمت مكراً قاتلاً محبّةً بالوطن. لكنّ المرأة الّتي ولدته تفوق أولئك النسوة، لأنّها أَمَة الله الكاملة وتخدمه دونما خطيئة. كلّها طهارة، بريئة وجميلة، إنّها نجمة الله الجميلة، مِن إشراقها إلى أفولها. كلّها جمال، متألّقة ونقيّة، كي تكون نجمةً وقمراً، نوراً للبشر كي يجدوا الربّ. إنّها لا تتقدّم ولا تتبع تابوت العهد مثل مريم بنت هارون، لأنّها هي ذاتها تابوت العهد. وعلى المياه العَكِرة للأرض، الّتي غطّاها طوفان الخطايا، هي تنزلق وتُخلّص، لأنّ مَن يدخل إليها يجد الربّ. حمامة بلا دَنَس، تخرج وتجلب الزيتون، زيتون السلام للبشر، لأنّها الزيتونة الجميلة. إنّها تصمت، وفي صمتها تتكلّم وتعمل أكثر مِن دَبُورَةُ، يَاعِيلَ ويهوديت، ولا تنصح بالمعركة، لا تدفع إلى المجازر، لا تهرق دماً سوى دمها الأكثر اختياراً، ذاك الّذي جعلت منه ابنها. أُمّ مسكينة! أُمّ سامية!... يهوديت كانت تخاف الربّ، لكنّ زهرتها كانت ملك إنسان. أمّا هذه فزهرتها الّتي لم تمسّ قد أعطتها للعليّ، ونار الله نزلت في كأس الزنبقة العذبة، وأحشاء امرأة احتوت وحملت قدرة، حكمة ومحبّة الله. المجد للمرأة! أيا نساء إسرائيل أنشدن مدائحها!»

 

تصمت المرأة كما لو أنّ صوتها كان منهكاً. فعلاً لا أعلم كيف تفعل لتحافظ على هذه النبرة القويّة جدّاً.

 

الكَتَبَة يقولون: «إنّها مجنونة! إنّها مجنونة! أَسكِتها. إنّها مجنونة أو ممسوسة. افرض على الروح الّذي يستحوذ عليها أن يرحل.»

 

«لا أستطيع. ليس هناك سوى روح الله، والله لا يطرد نفسه.»

 

«إنّكَ لا تفعل ذلك لأنّها تمتدحك وتمتدح أُمّك، وهذا يدغدغ كبرياءكَ.»

 

«أيّها الكاتب، فَكّر بما تعرفه عنّي وسوف ترى بأنّني لا أعرف الكبرياء.»

 

«ومع ذلك فقط شيطان يمكنه أن يتكلّم فيها لتمجيد امرأة بهذا الشكل… المرأة! وما هي المرأة في إسرائيل ولإسرائيل؟ وما هي، إن لم تكن سوى خطيئة في عينيّ الله؟ الـمُغوَاة والـمُغوِية! ولو لم يكن الإيمان، لكنّا وجدنا صعوبة في التفكير بأنّ هناك نَفْساً في الأنثى. إنّه ممنوع عليها الاقتراب مِن قدس الأقداس بسبب نجاستها. وهذه تقول بأنّ الله حلّ فيها!...» يقول كاتب آخر، مُرَوَّعاً، ورفاقه يقتدون به.

 

يسوع يقول مِن دون أن ينظر إلى وجه أيّ أحد، يبدو كما لو أنّه يُكلّم نفسه: «"المرأة ستسحق رأس الحيّة… العذراء ستحبل وتلد ابناً يُدعى عمانوئيل… برعم يخرج مِن جذع يسّى، زهرة ستأتي مِن هذا الجذع وعليها سيحلّ روح الربّ". هذه المرأة. أُمّي. أيّها الكاتب، إكراماً لعلمكَ، تذكّر وافهم كلام الكتاب المقدّس.»

 

الكَتَبَة لا يعرفون بما يجيبون. لقد قالوا هذا الكلام ألف مرة وأقرّوا بصحّته. أيمكنهم أن ينكروه الآن؟ يصمتون.

 

أحدهم يأمر بإشعال النار، لأنّ البرد يُستَشعَر به عند الضفّة حيث تهبّ ريح المساء. يطيعون. ونار الأغصان تتّقد على شكل حلقةً حول المجموعة المزدحمة.

 

يبدو أنّ نور النار المتراقص يوقظ المرأة، الّتي كانت قد صمتت ولبثت مغمضة العينين، كما لو أنّها مستغرقة في ذاتها. تعاود فتح عينيها، تنتفض. تنظر مجدّداً إلى يسوع وتصيح مجدّداً: «أدوناي! أدوناي، إنّكَ لعظيم! لنُنشِد للإلهيّ نشيداً جديداً! شَالِـم! شَالِـم! مَلخيخ!!... سلام! سلام! أيّها الـمَلِك الّذي لا يقاومه شيء...»

 

المرأة تصمت فجأة. تدير عينيها، للمرة الأولى مذ بدأت تتكلّم، نحو الّذين يحيطون بيسوع، وتُحدّق بالكَتَبَة كما لو أنّها تراهم للمرّة الأولى، ودونما سبب ظاهر، تتشكّل دموع في عينيها الكبيرتين، ووجهها يغدو حزيناً وبلا إشراق. إنّها الآن تتكلّم على مهل، وبصوت عميق كمن يتكلّم عن أمور مؤلمة: «لا. هناك مَن يقاومكَ! أيا أيّها الشعب، أَنصِت! منذ ألمي، أيا شعب بيت ليخي، قد سَمِعتَني أتكلّم. بعد سنوات مِن الصمت والألم قد سمعتُ وقلتُ ما كنتُ أسمعه. لم أعد الآن وسط أحراج بيت ليخي الخضراء، عذراء أرملة تجد في الربّ سلامها الوحيد. ليس مِن حولي فقط مواطنيّ كي أقول لهم: "لنخشَ الربّ لأنّ الساعة قد أزفت لنكون مستعدّين لندائه. فلنجعل ثوب قلبنا جميلاً لئلّا نكون غير جديرين في حضرته. فلنتمنطق بالقوّة، لأنّ ساعة المسيح هي ساعة الاختبار. لنطهّر أنفسنا مثل قرابين للهيكل كي نتمكّن مِن أن يستقبلنا مَن يرسله. مَن كان حسناً فليجعل نفسه أفضل. مَن كان متكبّراً فليغدُ متواضعاً. فليتجرّد مَن يعاني الفسق مِن الجسد كي يستطيع أن يتبع الحَمَل. ليَغدُ البخيل كريماً لأنّ الله يغمرنا بمسيحه، وليمارس كلّ واحد البرّ كي يتمكّن مِن الانتماء إلى شعب المبارك الآتي". الآن أتكلّم أمامه وأمام مَن يؤمنون به، وأيضاً أمام مَن لا يؤمنون ويسخرون مِن القدّوس وممّن يتكلّمون ويؤمنون باسمه. لكنّني لستُ خائفة. تقولون بأنّني مجنونة، تقولون إنّ شيطاناً يتكلّم فيَّ. إنّني أعلم بأنّكم تستطيعون أن ترجموني باعتباري مُجدِّفة. أعلم أنّ ما سأقوله سيبدو لكم إهانةً وتجديفاً، وسوف تكرهونني. لكنّني لستُ خائفة. ربّما، الصوت الأخير مِن الأصوات الّتي تتحدّث عنه قبل تجلّيه، ربّما سيكون لي مصير العديد مِن الأصوات الأخرى، ولستُ خائفة. طويل جدّاً هو النفي في برد ووحدة الأرض لِمَن يفكّر بحضن إبراهيم، وبملكوت الله الّذي سيفتحه لنا المسيح، الأكثر قداسة مِن حضن إبراهيم المقدّس. إنّ صابئة الكرمل مِن نسل هارون لا تخشى الموت. إنّما تخاف الربّ. وتتكلّم حين يجعلها تتكلّم كي لا تعصى مشيئته. وتقول الحقّ لأنّها تتكلّم عن الله بالكلام الّذي يعطيها إيّاه الله. لا أخشى الموت. حتّى لو دعوتموني شيطانةً ورجمتموني كمُجدِّفة، حتّى ولو أنّ أبي وأُمّي وإخوتي سيموتون بسبب هذا العار، لن أرتجف خوفاً وألماً. أعلم أنّ الشيطان ليس فيَّ، لأنّ كلّ بؤرة للشرّ خامدة فيَّ، وكلّ بيت ليخي تعلم ذلك. أعلم أنّ الحجارة لن تستطيع أن توقف نشيدي لفترة أطول مِن وقت نَفَس، وبعدها سأنشد بأكثر حرّية فيما بعد الأرض. أعلم أنّ الله سوف يعزّي ألم أولئك الّذين هم مِن دمي، وسيكون قصيراً، بينما سيكون بعدها فرحهم كأهلٍ شهداء لشهيدة أبديّاً. أنا لا أخشى موتكم، إنّما الموت الّذي يأتيني مِن الله إذا لم أكن أُطيع. وأتكلّم. وأقول ما بُلّغ لي. أيا أيّها الشعب أَنصِت، وأنصِتوا أنتم يا كَتَبَة إسرائيل.»

 

ترفع مجدّداً صوتها الحزين وتقول: «صوت، صوت يأتي مِن العُلى ويصيح في قلبي. ويقول: "إنّ شعب الله القديم لا يستطيع إنشاد النشيد الجديد لأنّه لا يحبّ مخلّصه. النشيد الجديد سوف يُنشِده الـمُخَلَّصون مِن كلّ الأمم، أولئك الّذين مِن الشعب الجديد للمسيح الربّ، لا أولئك الّذين يكرهون كلمتي"... يا للهول! (تُطلِق بالفعل صرخةً تبعث على القشعريرة). الصوت يُعطي نوراً، النور يعطي رؤيةً! يا للهول! إنّني أرى!» هي تنوح أكثر منها تصيح. إنّها تتلوّى كما لو كانت مُسَمَّرةً أمام مشهد مَهول يعذّب قلبها، وتسعى لإنهائه بالهروب. الرداء ينزلق عن كتفيها، وتبقى بثوبها الأبيض، مستندة على الجذع الضخم الأسود. إنّ وجهها، في النور الّذي يخفت ببطء في انعكاس الحرج الأخضر وفي الانعكاس المحمرّ والمتراقص للشعلة، يتّخذ شكلاً مأساوياً مؤثّراً. ظِلال ترتسم تحت عينيها، حول الـمِنخَرين، تحت الشفتين. تحسبه وجهاً قد حفره الألم. إنّها تفتل يديها مكرّرةً ببطء أكثر: «إنّني أرى! إنّني أرى!» وتشرب دموعها فيما تتابع: «أرى جرائم شعبي هذا. وأنا عاجزة عن إيقافها. إنّني أرى قلب مُواطِنيَّ ولا أستطيع تغييره. يا للهول! يا للهول! إنّ الشيطان قد غادر مواضعه وجاء ليتّخذ مسكناً في قلبهم.»

 

«أَسكِتها!» الكَتَبَة يأمرون يسوع.

 

«لقد وعدتم بتركها تتكلّم...» يجيب يسوع.

 

المرأة تتابع: «وجهكَ إلى الأرض، في الوحل، أيا إسرائيل الّذي ما تزال تعرف أن تحبّ الربّ. تعفّر بالرماد، ارتَدِ المسح. لأجلكَ! لأجلهم! يا أورشليم! يا أورشليم خلّصي نفسكِ!  إنّني أرى مدينةً تَهيج طالبة جريمة. إنّني أسمع، أسمع صياح مَن، بفعل كراهية، يستجلبون دماً عليهم. أرى الضحيّة تُرفَع في فصح الدم، وذاك الدم الّذي يسيل، وذاك الدم الّذي يصرخ أكثر من دم هابيل، فيما تنفتح السماوات، والأرض تتزلزل، والشمس تُظلم. وذاك الدم لا يستصرخ الانتقام، بل يطلب الرحمة لشعبه الّذي يقتله، الرحمة لأجلنا! يا أورشليم!!! اهتدي! ذاك الدم! ذاك الدم! نهر! نهر يغسل العالم شافياً كلّ مرض، ماحياً كلّ خطيئة. إنّما لنا، لنا نحن الإسرائيليّين، فذاك الدم هو نار، هو مبضع يخطّ على أبناء يعقوب اسم قتلة الله ولعنة الله. يا أورشليم! ارحمي نفسك وارحمينا!...»

 

«إنّما أَسكِتها، إنّنا نأمركَ!» يصيح الكَتَبَة، فيما المرأة تنتحب حاجبةً وجهها.

 

«لا يمكنني فرض الصمت على الحقيقة.»

 

«الحقيقة! الحقيقة! إنّها مجنونة تهذي! أيّ معلّم أنتَ، إن كنتَ تعتبر كلام امرأة تهذي حقيقة؟»

 

«وأيّ مسيا أنتَ إن كنتَ لا تُحسِن إسكات امرأة؟»

 

«وأيّ نبيّ أنتَ إن كنتَ لا تُحسِن طرد الشيطان؟ مع أنّكَ قد فعلتَ ذلك في مرّات أخرى!»

 

«لقد فعل ذلك، نعم. إنّما هذا لا يناسبه الآن. إنّها لعبة مُدَبّرة بشكل جيّد لتخويف الجموع!»

 

«وهل اخترتُ هذا الوقت، هذا الموضع وهذه القلّة مِن الناس كي أفعل ذلك، بينما كان بإمكاني أن أفعله في أريحا، حينما حظيتُ بخمسة آلاف شخص وأكثر قد تبعوني وأحاطوا بي لمرّات عدّة، حينما كان سور الهيكل ضيّقاً جدّاً ليستقبل كلّ مَن كانوا يريدون سماعي؟ وهل يا ترى يمكن للشيطان أن يقول كلام حكمة؟ مَن منكم يمكنه أن يقول، بصدق، أنّ كلمة مُضلِّلة قد خرجت مِن هاتين الشفتين؟ ألا يدوّي على شفتيها، بصوت امرأة، كلام الأنبياء الرهيب؟ ألا تسمعون عويل إرميا ونحيب إشَعياء والأنبياء الآخرين؟ ألا تسمعون صوت الله عبر الخليقة، الصوت الّذي يسعى لأن تستقبلوه لأجل خيركم؟ أنا، لا تُنصِتون إليّ. أنا أتكلّم، وأنتم يمكن أن تفكّروا بأنّني أتكلّم لصالحي. إنّما هي، المجهولة بالنسبة لي، أيّ صالح تترجّى مِن هذا الكلام؟ ما الّذي ستناله منه، إن لم يكن احتقاركم، تهديداتكم، ربّما انتقامكم؟ لا، لن أفرض عليها الصمت! بل بالأحرى آمرها، كي يسمعها هذا البعض، ولتسمعوها أنتم أيضاً وتتمكّنوا مِن أن تتوبوا: "تكلّمي! تكلّمي، أقول لكِ، باسم الربّ!"»

 

الآن يسوع هو المهيمن، إنّه المسيح ذو السلطان في ساعات المعجزة، صاحب العينين الكبيرتين المغناطيسيّتين في تألّقهما كأنّهما نجمتان زرقاوان، تُذكيهما أكثر بعد الشعلة المجمّرة، الموقدة بينه وبين المرأة.

 

المرأة، وقد استولى عليها الألم، فهي على العكس، أقلّ مَلَكيّة وتلبث برأس منحنٍ، وجهها تحجبه يداها، وشعرها الأسود، الّذي انحلّ وانسدل على كتفيها وإلى الأمام، كما وشاح حداد على ثوبها الأبيض.

 

«تكلّمي، أقول لكِ. فكلامكِ المؤلم ليس بلا ثمر. يا صابئة، الّتي مِن نسل هارون، تكلّمي!»

 

المرأة تطيع. لكنّها تتكلّم بهدوء، إلى درجة أنّ الجميع يتقاربون أكثر كي يسمعوها بشكل أفضل. تبدو وكأنّها تتحدّث إلى نفسها، وهي تنظر صوب النهر الّذي يجري هادراً عن يمينها، مع انعكاس أخير لمياهه، في نور النهار الأخير. وتبدو كأنّها تتحدّث إلى النهر: «أيا أيّها الأردن، نهر الآباء المقدّس، الّذي موجكَ سماويّ ومجعّد مثل حرير ثمين، الّذي تعكس النجوم النقيّة والقمر الأبيض، وتداعب صفصاف ضفافكَ، أنتَ نهر السلام، ومع ذلك تختبر ألماً كثيراً، أيا نهر الأردن، يا مَن في ساعات العاصفة تحمل رمال ألف سيل وما سَلَبَته فوق أمواجكَ المنتفخة والمضطربة، وأحياناً تقتلع شجيرة صغيرة عليها عش وتحملها بلا هوادة إلى هوّة البحر المالح القاتلة، ولا ترحم زوج الطيور الّذي يتبع، محلّقاً وصارخاً مِن الألم، عشّه الّذي دمّره عنفكَ. هكذا سوف ترى، أيّها الأردن المقدّس، الشعب الّذي لم يرد المسيا، يمضي إلى الهلاك، وقد ضربه الغضب الإلهيّ، واقتُلِع مِن المنازل والمذبح، ليفنى في الموت الأعظم. يا شعبي، خلّص نفسكَ! آمِن بربّكَ! اتبع مسيحكَ! اعرفه على حقيقته. ليس مَلِك شعوب وجيوش. إنّه مَلِك النفوس، نفوسكم، مَلِك كلّ النفوس. لقد نزل كي يجمع النفوس البارّة، وسيعاود الصعود كي يقودها إلى الملكوت الأبديّ. أنتم يا مَن لا تزالون تستطيعون أن تحبّوا، تقرّبوا مِن القدّوس! أنتم يا مَن تحرصون على مصير الوطن، اتّحدوا بالمخلّص! احرصوا على ألّا تموت سلالة إبراهيم كلّها! اهربوا مِن الأنبياء الكَذَبَة ذوي أفواه الكذب وقلوب السلب الّذين يريدون انتزاعكم مِن الخلاص. اخرجوا مِن الظلام الّذي يرتفع حولكم. أصغوا إلى صوت الله! العظماء الّذين تخشونهم اليوم هم منذ الآن غبار بحسب قضاء الله. ما مِن حيّ سوى واحد. إنّ المواضع الّتي يسودونها، والّتي منها يَضطَهِدون هي منذ الآن خرائب. موضع واحد فقط يدوم. يا أورشليم! أين هم أبناء صهيون المتكبّرون الّذين بهم تتفاخرين؟ أين هم الرابّيين والكَهَنَة الّذين بهم تتزيّنين ولهم تحملين التقدير؟ انظري إليهم! مقهورين، مُقَيَّدين، يمضون إلى المنفى، عبر أنقاض قصوركِ، وسط نتانة مَن ماتوا بالسيف أو جوعاً. إنّ عليكِ غضب الله، أيا أورشليم الّتي تصدّين مسيحكِ وتضربين وجهه وقلبه. كلّ جمال فيكِ قد دُمِّر. كلّ رجاء فيكِ قد مات. مُدَنَّسان هما الهيكل والمذبح...»

 

«أَسكِتها! إنّها تُجدّف! أَسكِتها، نقول لكَ.»

 

«… الرداء الحَبْري [الأَفُود] مُنتَزَع. ما عاد يصلح...»

 

«إنّكَ مُذنِب إن لم تفرض عليها الصمت!»

 

«...لأنّه لم يعد يسود. هناك آخر، حَبْر أعظم أبديّ، وقدّوس، ومُرسَل مِن الله: مَلِك وكاهن إلى الأبد، مِن قِبَل مَن يعتبر الإساءات الموجهّة إلى المسيح موجهةً إليه وينتقم منها. حَبْر أعظم آخر. الحقيقيّ، القدّوس، الممسوح مِن قِبَل الله وبتضحيته، في مكان أولئك الّذين التاج على جبهتهم خِزي، لأنّه يغطّي أفكار هَول!...»

 

«اصمتي يا ملعونة! اصمتي أو نضربكِ!» ويعاملها الكَتَبَة بخشونة. إنّما هي تبدو وكأنّها لا تشعر.

 

الناس يحتجّون بعنف: «دعوها تتكلّم، أنتم يا مَن تتكلّمون كثيراً. إنّها تقول الحقيقة. الأمر هو هكذا. ما عادت هناك قداسة وسطكم. واحد فقط هو القدّوس، وتنغّصون عيشه.»

 

الكَتَبَة يرون أنّه مِن الحكمة التزام الصمت، وتتابع المرأة بصوتها الـمُنهَك والمتألّم: «كان قد أتى كي يحمل لكَ السلام، وأنتَ حاربتَه… الخلاص، وأنتَ احتقرتَه… المحبّة، وأنتَ كرهتَه… المعجزة، وأنتَ دعوتَه شيطاناً… يداه شفتا مرضاكَ، وأنتَ ثقبتَهما. كان يحمل إليكَ النور، وأنتَ غطّيتَ وجهه بالبصاق والقذارة. كان يحمل إليكَ الحياة، وأنتَ أعطيتَه الموت. يا إسرائيل، ابكِ ضلالكَ ولا تعتب على الربّ فيما تمضي إلى منفاكَ، الّذي لن تكون له نهاية كما كان للمنافي السابقة. ستجوب كلّ الأرض يا إسرائيل، إنّما مثل شعب مغلوب وملعون، يلاحقه صوت الله، وبالكلام ذاته الّذي قيل لقايين. وإلى هنا لن تستطيع العودة لتبني عشّاً متيناً، إن لم تعترف مع الشعوب الأخرى بأنّ هذا هو يسوع [المخلّص]، المسيح، الربّ ابن الربّ...» إنّ صوت المرأة واهن مِن التعب والألم، منهك كصوت شخص يحتضر.

 

إنّما هي فلا تصمت بعد، لا بل تنتعش لتصدر أمراً أخيراً: «اركع، أيا أيّها الشعب الّذي لا تزال تُحسِن المحبّة. تعفّر بالرماد، البس المسح. إنّ غضب الله معلّق فوقنا كغيمة مثقلة بالبَرَد والبروق فوق حقل ملعون.»

 

المرأة تخرّ على ركبتيها، ذراعاها مبسوطتان صوب يسوع، وتهتف: «سلام، سلام، يا مَلِك العدل والسلام! سلام أيا أدوناي العظيم والقادر، الّذي حتّى الآب لا يقاومه! التمس لنا السلام، باسمكَ، أيا يسوع، المخلّص والمسيا، الفادي والـمَلِك، والله، المثلّث التقديس!» وتنهار، يهزّها النحيب، وجهها فوق العشب.

 

الكَتَبَة يحيطون بيسوع، جاذبين إيّاه على حدة، ومبعدين كلّ شخص آخر بنظرات وكلام متوعّد، وأحدهم يقول: «أقلّ ما يمكنكَ فِعله هو أن تشفيها. لأنّكَ إن كنتَ تريد بحقّ أن تقول أنّ ليس بها شيطان، فلا يمكنكَ إنكار أنّها مريضة. النساء!... ونساء مصيرهنّ التكريس… لا بدّ أن تفيض حيويتهنّ في مكان ما… ويهذين… ويرين أموراً غير حقيقيّة… وخصوصاً يرينكَ أنتَ، الشاب والجميل… و.»

 

«اصمت يا فم الحيّة! أنتَ نفسكَ لا تؤمن بما تقول.» يُعاجل يسوع بهيمنة تقطع الكلام عن شفتيّ الكاتب النحيل ذي الأنف الضخم، الّذي في البداية سخر مِن المرأة باعتبارها نبيّة كاذبة.

 

«دعونا لا نسيء إلى المعلّم. لقد اخترناه حَكَماً لحالة لا نستطيع البتّ فيها...» يقول كاتب آخر، ذاك الّذي، وقد ذهب مع الآخرين لملاقاة يسوع على الطريق، قد قال ليسوع بأنّ ليس كلّ الكَتَبة خصوماً، بل إنّ البعض يراقبونه كذلك كي يُقدّروا، وبإرادة صادقة يتبعوه إذا ما حَكموا بأنّه الله.

 

«إنّما اخرس يا يوئيل المدعو آلاموت، يا ابن أَبيا! فقط مسخ مثلكَ يمكنه أن يتفوّه بهذا الكلام.» يقول له الآخرون بخبث.

 

الكاتب يغدو محتقناً بفعل الإهانة. إنّما يتمالك نفسه ويجيب بعزّة نَفْس: «إذا كانت الطبيعة لم تعمل على تنمية شخصي، فإنّها لم تبتر ذكائي. على العكس، فهي بمنعي مِن كثير مِن الملذّات، فقد جعلت منّي شخصاً حكيماً. ولو كنتم قدّيسين لما كنتم قد حططتم مِن قدر الإنسان، بل لكنتم احترمتم الحكيم.»

 

«حسناً! لنتحدّث بما يهمّنا. عليكَ واجب شفائها يا معلّم. لأنّها في هذيانها ترعب الناس، وتسيء للكهنوت، للفرّيسيّن ولنا.»

 

«لو أنّها امتدحتكم، فهل كنتم تطلبون منّي أن أشفيها؟» يَسأَل يسوع بلطف.

 

«لا. لأنّ ذلك كان ليفيد في جعل الناس يحترموننا، هذا الشعب المزاجيّ الّذي يكرهنا في قلبه، ويحتقرنا عندما يمكنه ذلك.» يجيب أحد الكَتَبَة دون أن يدرك بأنّه يقع في فخ.

 

«أما تكون لا تزال مريضةً؟ ألن يكون عليَّ واجب شفائها؟» يَسأَل أيضاً يسوع بلطف. إنّه يبدو كتلميذ يَسأَل المعلّم عما يتوجّب عليه فِعله. والكَتَبَة، الّذين يعميهم الكبرياء، لا يدركون أنّهم يكشفون ذواتهم…

 

«في هذه الحال، لا. على العكس! يجب تركها، تركها في هذيانها! القيام بكلّ ما يمكن لجعل الناس يعتقدون بأنّها نبيّة. تكريمها! لفت الانتباه إليها!»

 

«إنّما إن كانت أموراً غير صحيحة؟!...»

 

«آه! يا معلّم! ما أن يُزال ما تقوله ضدّنا، فإنّ الباقي سيفيد كثيراً لاستنهاض حَميّة إسرائيل ضدّ الرومان، وإبقاء كبرياء الشعب نحونا منخفضاً مستواه!»

 

«إنّما لا يمكن القول لها: تكلّمي بهذا، إنّما لا تقولي ذاك.» يقول يسوع بحزم.

 

«ولماذا؟»

 

«لأنّ مَن يهذي يتكلّم دون أن يعرف ما يقول.»

 

«آه! بالمال وبعض تهديدات… يمكن الحصول على كلّ شيء. كان الأنبياء يُضبَطون كذلك...»

 

«ليس على حدّ علمي، بالحقيقة...»

 

«إيه! لأنّكَ لا تُحسِن القراءة بين السطور، ولأنّه لم يُترَك كلّ شيء مكتوباً.»

 

«لكنّ الروح النبويّة لا تعرف التأثير الخارجيّ عليها أيّها الكاتب. إنّها تأتي مِن الله، والله لا يُشترى ولا يُخوَّف.» يقول يسوع مبدّلاً نبرته. إنّها بداية هجومه المضادّ.

 

«لكنّ هذه ليست نبيّة. ما عاد الزمن زمن أنبياء.»

 

«ما عاد الزمن زمن أنبياء؟ ولماذا؟»

 

«لأنّنا لا نستحقّهم. إنّنا فاسدون جدّاً.»

 

«حقّاً؟ وأنت مَن يقول ذلك؟ أنتَ الّذي منذ قليل كنتَ تحكم عليها بأنّها تستحقّ العقاب لأنّها كانت تقول الشيء ذاته؟»

 

الكاتب يلبث مرتبكاً. يأتي آخر ليعينه: «إنّ زمن الأنبياء قد انتهى مع يوحنّا. إنّهم ما عادوا يفيدون.»

 

«ولماذا إذاً؟»

 

«لأنّكَ موجود لتُخبِر بالشريعة وتتكلّم عن الله.»

 

«كذلك في زمن الأنبياء كانت الشريعة، وكانت الحكمة تتكلّم عن الله. ومع ذلك فقد كانوا أيضاً موجودين.»

 

«إنّما بماذا كانوا يتنبّأون؟ بمجيئكَ. وقد جئتَ. فهم ما عادوا يفيدون.»

 

«مئة ومئة مرّة قد سمعتكم تسألونني، أنتم، الكَهَنَة والفرّيسيّن، إن كنتُ أم لم أكن المسيح، ولأنّني كنتُ أؤكّد ذلك فقد اعتُبرتُ مجّدفاً ومجنوناً، والتُقِطت حجارة كي تُرمَى عليَّ. ألستَ أنت صادوق، المدعوّ الكاتب الذهبيّ؟» يقول يسوع مشيراً إلى الكاتب ذي الأنف الضخم الّذي أساء معاملة المرأة بعدما حاول خداعها.

 

«أنا هو. وإذن؟»

 

«وإذن، هو أنتَ، بالضبط أنتَ، مَن كنتَ الأوّل، في جيسكالا كما في الهيكل، في بدء العنف ضدّي. أغفر لكَ. إنّني أُذكّركَ فقط بأنّكَ كنتَ تفعل ذلك قائلاً بأنّه ما كان يمكنني أن أكون المسيح، فيما الآن تتبنّى العكس. وأُذكّركَ أيضاً بالتحدّي الّذي وجّهتُه لكَ في قادش. بعد فترة قصيرة سترى قِسماً منه يتمّ. حين سيكون القمر قد عاد إلى الطَور حيث هو الآن يسطع في السماء، سوف أعطيكَ البرهان، الأوّل. الآخر سوف تحصل عليه حينما الحبوب، الّتي هي الآن تغفو في التربة، تحرّك سنابلها الّتي تكون لا تزال خضراء في ريح نيسان (أبريل). إنّما لأولئك الّذين يقولون أنّ الأنبياء غير مفيدين، أجيب: "ومَن بوسعه فرض حدود على الربّ العليّ". الحقّ، الحقّ أقول لكم سيكون أنبياء طالما يكون البشر. إنّهم المشاعل وسط ظلمات العالم. إنّهم المواقد في جليد العالم. إنّهم صوت الأبواق الّتي توقظ النائمين. إنّهم الأصوات الّتي تذكّر بالله وحقائقه الّتي سقطت في النسيان وأهملت بمرور الزمن، والّتي تحمل إلى البشر الصوت المباشر لله، مثيرةً ارتعاشات انفعال لدى الناسين، أبناء الإنسان اللامبالين. ستكون لهم أسماء أخرى، إنّما رسالة مماثلة ومصير مماثل مِن ألم بشريّ وفرح فائق البشر. الويل لو لم تكن موجودة هذه الأرواح الّتي سيكرهها العالم وسيحبّها الله محبّةً فائقة! الويل لو لم تكن موجودةً للتألّم والغفران، الحبّ والعمل في طاعة الربّ! لكان العالم ليهلك في الظلمات، البرد، في سبات مميت، في بلادة، في جهل هَمَجي وجامح. لذلك فالله سوف يُقيمهم، وسيكون منهم على الدوام. ومَن يمكنه أن يفرض على الله عدم فِعله؟ أنتَ يا صادوق؟ أم أنتَ؟ أم أنتَ؟ الحقّ أقول لكم أنّه ولا حتّى أرواح إبراهيم، يعقوب وموسى، إيليا وأليشع، يمكنها أن تفرض على الله هذه القيود، ووحده الله يعلم كم كانوا قدّيسين، وأيّة أنوار أبديّة يكونون.»

 

«إذن أنتَ لا تريد شفاء المرأة ولا حتّى إدانتها؟»

 

«لا.»

 

«وتعتبرها نبية؟»

 

«مُلهَمَة، نعم.»

 

«أنتَ شيطان مثلها. هيا بنا. لا ينبغي إضاعة المزيد مِن الوقت مع شياطين.» يقول صادوق، دافعاً يسوع باحتقار لإبعاده.

 

كثيرون هم الّذين يتبعونه. البعض يبقون. ومِن بينهم، ذاك الّذي دَعوه يوئيل آلاموت.

 

«وأنتم ألا تتبعونهم؟» يَسأَل يسوع مشيراً إلى الّذين يمضون.

 

«لا يا معلّم. سوف نرحل لأنّ الوقت ليل. لكنّنا نريد أن نقول لكَ بأنّنا نؤمن بحكمكَ. إنّ الله قادر على كلّ شيء، هذا صحيح. وبالنسبة لنا، نحن الّذين نقع في خطايا كثيرة، يمكنه أن يستنهض أرواحاً تدعونا إلى البرّ.» يقول أحدهم وهو مسنّ جدّاً.

 

«لقد أحسنتَ القول. والتواضع الّذي تُظهِره هو في عينيّ الله أعظم مِن علمكَ.»

 

«إذن اذكرني عندما ستكون في ملكوتكَ.»

 

«نعم يا يعقوب.»

 

«كيف تعرف اسمي؟»

 

يسوع يبتسم دون أن يجيب.

 

«يا معلّم، اذكرنا نحن أيضاً.» يقول الثلاثة الآخرون. والأخير الّذي يتكلّم، يوئيل آلاموت، يقول أيضاً: «ولنبارك الربّ الّذي منحنا هذه الساعة.»

 

«لنبارك الربّ.» يجيب يسوع.

 

يتبادلون التحية، يفترقون.

 

يسوع يعاود الانضمام إلى رُسُله ويمضي معهم إلى قرب المرأة، الّتي استعادت مجدّداً الوضعيّة الّتي كانت عليها في البداية: مُتكوّرة حول نفسها على الجذر الناتئ.

 

أُمّها وأبوها يسألان المعلّم بقلق: «أشيطان إذن هي ابنتنا؟ قد قالوا ذلك قبل أن يرحلوا.»

 

«لا، هي ليست كذلك. كونا في سلام. وأَحِبّاها لأنّ مصيرها مؤلم جدّاً. كما كلّ المصائر المماثلة لمصيرها.»

 

«لكنّهم قالوا بأنّكَ حكمتَ هكذا...»

 

«هم قد كذبوا. أنا لا أكذب. كونا في سلام.»

 

يوحنّا الذي مِن أفسس يتقدّم مع سليمان والتلاميذ الآخرين: «يا معلّم، إنّ صادوق قد هدّدهم. أقول لكَ ذلك.»

 

«هما أم هي؟»

 

«هما وهي. أنتما، أليس ذلك صحيحاً؟»

 

«نعم. لقد قالوا لنا، لي ولأُمّها، بأنّنا إن لم نُحسِن إسكات ابنتنا، فالويل لنا. ولصابئة قالوا: "إن تكلّمتِ فسوف نشكوكِ إلى السنهدرين". إنّنا نتوقّع أيامّاً سيّئة لنا… لكن قلبنا في سلام لأجل ما قلتَه لنا… وسوف نحتمل الباقي. إنّما بالنسبة لها… ما الّذي علينا فِعله؟ انصحنا يا ربّ؟»

 

يسوع يفكّر ومِن ثمّ يجيب: «أليس لكم أقارب بعيدين عن بيت ليخي؟»

 

«لا يا معلّم.»

 

...يسوع يفكّر، ومِن ثمّ يرفع وجهه وينظر إلى يوسف، يوحنّا الذي مِن أفسس وفيلبّس الذي مِن أربيلا. يأمر: «سوف تسافرون معهم، ومِن ثمّ مِن بيت ليخي سوف تمضون معها هي وحاجيّاتها إلى عِرا. ستقولون لأُمّ تيمون أن ترعاها باسمي. هي تعلم ما معنى أن يكون أحد الأبناء مُضطَهَداً.

 

«سنفعل يا ربّ. إنّه قرار جيّد. إنّ عِرا بعيدة وخارج متناول يدهم.» يقول الثلاثة.

 

أبو وأُمّ صابئة يقبّلان يديّ المعلّم ويشكرانه ويباركانه.

 

يسوع ينحني فوق المرأة ويلمس رأسها المحجّب ليناديها بلطف: «يا صابئة، أَنصِتي إليَّ!»

 

المرأة ترفع رأسها وتنظر إليه، ومِن ثمّ تنزلق على ركبتيها.

 

يسوع يضع يده على رأسها: «اسمعي يا صابئة. سوف تذهبين إلى حيث أرسلكِ. إلى عند أُمّ. كنتُ لأودُّ أن أرسلكِ عند أُمّي. إنّما ذلك غير ممكن لي. وتابعي خدمة الربّ ببرّ وطاعة. إنّني أبارككِ يا امرأة. امضي في سلام.»

 

«نعم يا ربّي وإلهي. إنّما حين يجب أن أتكلّم، هل أستطيع؟...»

 

«الروح الّذي يحبّكِ سوف يرشدكِ تبعاً للوقت. لا تشكّي بمحبّته. كوني متواضعة، عفيفة، بسيطة وصادقة، وهو لن يتخلّى عنكِ. اذهبي بسلام!»

 

ينضمّ مجدّداً للرُّسُل ولزكّا مع جماعته، الّذين كانوا قد توقّفوا على بعد بضع خطوات، رادعين كذلك فضوليّين آخرين.

 

«هيّا بنا. لقد حلّ الليل. لا أعرف كيف ستفعلون للعودة إلى أريحا، أنتم الّذين عليكم الذهاب إلى هناك.»

 

«لنقل على وجه الخصوص بالنسبة للمرأة وأبويها. إنّما إن اعتقدتَ بأنّها فكرة جيّدة، فنحن سنبقى خارج المنزل، وأنتَ وهم يمكنكم النوم فيه حتّى الصباح.» يقترح أحد أصدقاء زكّا.

 

«فكرة جيّدة. اذهبوا وقولوا لصابئة أن تأتي مع أبويها والتلاميذ. هم سينامون في المنزل. أنا سأبقى معكم. فاللّيلة ليست كثيرة الرياح. سنشعل نيراناً وننتظر الفجر، هكذا أنا أُعلّمكم وأنتم تستمعون لي.»

 

وينطلق على مهل في طليعة نور القمر...