ج5 - ف23
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الخامس/ القسم الأول
23- (إسماعيل بن فابي)
11 / 09 / 1944
أرى يسوع يسير بسرعة، على طريق رئيسيّة تكنسها ريح صباح شتويّ باردة، وتُقسّيها. والحقول، على جانبي الطريق، تُشكّل بالكاد زغب حصاد خَجِلاً بدأ لتوّه يتكشّف، وِشاح خُضرة ناعماً يَعِد بالخبز الآتي، ولكنّه وَعد، في الحقيقة، بالكاد ملموس. وفي الظلّ هناك أثلام خالية مِن هذه الخُضرة المولودة والمباركة، فقط الأثلام التي تتمتّع بالشمس تَظهَر عليها هذه الخُضرة الخفيفة، ومع ذلك هي فَرِحة حتّى إنّها تنبئ عن الربيع القادم. ما تزال الأشجار المثمرة عارية، ليس فيها برعم واحد منتفخاً على أغصانها العاتمة. فقط أشجار الزيتون تحتفظ بلونها الأزليّ الرماديّ المخضرّ، وقد ماثَلَ حُزنها في نور هذه الصبيحة الشتويّة حزنها تحت شمس آب (أغسطس). ويُشارِكها اللون الأخضر أوراق الصّبار اللحميّة، باخضرارها الكثيف كالخزف.
يسير يسوع، كالعادة، سابقاً تلاميذه بخطوتين أو ثلاثة. جميعهم متلحفون بمعاطفهم الصوفيّة.
بعد بُرهة، يتوقّف يسوع ويلتفت ليَسأَل تلاميذه: «هل تعرفون الطريق؟»
«هذه هي الطريق، إنّما، بعد ذلك، أين يوجد البيت، لا نعرف، ذلك أنّه داخل الأراضي... قد يكون هناك، حيث غَيضة الزيتون...»
«لا. بل على النقيض، ينبغي أن يكون هناك، في العمق، حيث الأشجار الضخمة العارية...»
«المفروض أن توجد طريق للعربات...»
بالنتيجة، هُم لا يعرفون أيّ شيء بالتحديد. لا أثر لأيّ كان على الطريق أو في الحقول. يتقدّمون بشكل عشوائيّ وهُم يبحثون عن الطريق.
يُصادِفون بيتاً لفقراء صغيراً، يُحيط به حقلان صغيران أو ثلاثة. وطفلة صغيرة تَنتَح الماء مِن بئر.
«السلام لكِ أيّتها الفتاة.» يقولها يسوع وهو يتوقّف عند حدود سياج، له فتحة للمرور.
«ولكَ السلام. ماذا تريد؟»
«أريد الاستعلام عن مكان بيت إسماعيل الفرّيسيّ.»
«أنتَ تائه يا سيّدي. يجب أن تعود إلى التقاطع وتَسلك الطريق المتّجهة إلى الغرب. يجب السير كثيراً كثيراً، ذلك أنّه ينبغي العودة هناك، إلى التقاطع، ثمّ السير، السير. هل أكلتَ؟ الطقس بارد، ويزداد الإحساس بفراغ المعدة. ادخل إذا شئتَ. نحن فقراء. إنّما أنتَ كذلك لستَ بغنيّ. يمكنكَ تدبُّر الأمر. تعال.» وتنادي بصوتها الحادّ: «ماما!»
تُقبِل إلى العَتَبة امرأة في حوالي الخامسة والثلاثين أو الأربعين مِن العمر. وجهها تبدو عليه النزاهة ولكنّه حزين قليلاً. وبين يديها طفل في حوالي الثالثة، شبه عار.
«ادخل. فالنار مشتعلة. سأقدّم لكَ الحليب مع الخبز.»
«لستُ وحدي، بل معي أصدقائي هؤلاء.»
«فليدخل الجميع، وبركة الله مع المسافرين الذين أُضيفهم.»
يَدخُلون إلى مطبخ منخفض ومُعتم، حيث تتراقص نار متّقدة. ويجلسون كيفما اتّفق على صناديق خَشِنة.
«سأجهّز الآن... إنّه الصباح، ولم أُرتّب بعد شيئاً... اعذروني.»
«هل أنتِ وحيدة؟» يَسأَل يسوع.
«بل لي زوج وأولاد. سبعة. الولدان الأكبر سنّاً ما يزالان في سوق نايم. عليهما الذهاب هناك لأنّ زوجي مريض. ألم عظيم!... الفتيات يساعدنني. هذا هو الأصغر، ولديَّ آخر يكبره بقليل.»
الصغير، وقد ارتدى الآن جلبابه، يَهرَع إلى يسوع بقدمين حافيتين، وينظر إليه بفضول. يبتسم يسوع له. وتُعقَد الصداقة. ويَسأَله الطفل بثقة: «مَن أنتَ؟»
«أنا يسوع.»
تلتفت المرأة لتنظر إليه بإمعان. وتبقى بين الموقد والطاولة والرغيف بين يديها. تفتح فمها لتتكلّم، ولكنّها بعدئذ تصمت.
يُتابِع الطفل: «إلى أين تمضي؟»
«على دروب العالم.»
«لتفعل ماذا؟»
«لأُبارك الأولاد الصالحين وبيوتهم حيث الوفاء للشريعة.»
تلتفت المرأة لتقوم بحركة، ثمّ تشير إلى يهوذا الاسخريوطيّ الأقرب إليها. فينحني هو باتّجاه المرأة التي تَسأَل: «مَن تراه يكون صديقكَ؟»
ويُجيب يهوذا، بتعالٍ، (يبدو أنّ مَسيّا قد وصل إلى ما هو عليه بفضل استحقاق منه وبسبب صلاحه): «إنّه رابّي الجليل: يسوع الناصريّ. ألا تعرفينه يا امرأة؟»
«الجليل ليست في متناولنا، وأنا أحمل الكثير مِن الآلام!... هل يمكنني أن أقول له ذلك؟»
«يمكنكِ ذلك.» يقول يهوذا بتعالٍ. وهو يبدو كشخصيّة بارِزة يَمنَح إذناً لمقابلة…
يُتابِع يسوع حديثه مع الولد الذي يَسأَله إذا ما كان هو كذلك لديه أولاد.
وبينما الفتاة التي ظَهَرَت مسبقاً مع أخرى أكبر بقليل تجلبان الحليب والأواني، تذهب المرأة إلى قرب يسوع. تبقى متردّدة قليلاً، ثمّ تُطلِق صرخة مخنوقة: «يا يسوع، ارحم زوجي!»
يَنهَض يسوع. يُهيمن عليها بقامته الكبيرة، ولكنّه يَنظُر إليها بِقَدر مِن الصّلاح والطيبة يجعلها تتجرّأ. «ماذا تريدينني أن أفعل؟»
«إنّه مريض جدّاً. هو مُنتَفِخ مِثل قربة، لا يمكنه الانحناء ليعمل. لا يَجِد راحة، لأنّه يَختَنِق ويضطَرب... ونحن لدينا أولاد ما يزالون صغاراً...»
«هل تريدين أن أشفيه؟ ولكن لماذا تريدين ذلك منّي أنا؟»
«لأنّكَ أنتَ. لم أكن أعرفكَ، ولكنّني سمعتُ عنكَ. ولقد قادَكَ القَدَر إليَّ بعد أن بحثتُ عنكَ ثلاث مرّات في نايم وقانا. في مرّتين كان زوجي معي. كان يبحث عنكَ رغم آلامه التي يتجرَّعها أثناء ركوب العربة... الآن أيضاً ذَهَبَ مع أخيه... قيل لنا إنّ الرابّي، بعد مغادرته طبريّا، كان يقصد قيصريّة فليبّس. وقد مضى إلى هناك في انتظار قدومكَ...»
«لم أذهب إلى القيصريّة. أنا ذاهب إلى الفرّيسيّ إسماعيل، ثمّ سأذهب إلى الأردن...»
«أنتَ، الصالح، إلى بيت إسماعيل؟»
«نعم، لماذا؟»
«لأنّه... لأنّه... يا سيّدي، أعرف أنّكَ تقول بعدم الإدانة، بالمسامحة وبالحبّ. إنّني لم أَرَكَ قط، ولكنّني حاولتُ الاستعلام عنكَ، قدر استطاعتي، وسألتُ الأزليّ أن يجعلني أسمعكَ ولو مرّة واحدة. لا أريد أن أفعل ما لا يرضيكَ... إنّما كيف يمكن للمرء ألّا يدين إسماعيل وأن يحبّه؟ أنا، لا يربطني به شيء، وليس لي ما أسامحه به. الإهانات التي يرمينا بها لدى مصادفته فقرنا على طريقه، ننفضها بالصبر ذاته الذي ننفض به الوحل والغبار الذي يرمينا به أثناء مروره السريع على عربته ذات الحصانين. ولكن أن نُحبّه ولا نُدينه، فهذا صعب للغاية... إنّه شرير إلى أبعد الحدود!»
«هو شرّير إلى أبعد الحدود؟ مع مَن؟»
«مع الجميع. إنّه يَظلم خُدّامه، يُقرِض بربى، يتشدّد بفظاعة. لا يحبّ إلّا ذاته. إنّه الأشرس في المنطقة. لا يستحقّ شيئاً، يا سيّدي.»
«أنا أعرف. تقولين الحقّ.»
«وأنتَ تمضي إليه؟»
«لقد دعاني.»
«لا تثق به، يا سيّدي. لم يفعل ذلك بدافع الحبّ. لا يمكنه أن يحبّكَ. وأنتَ... يمكنكَ أن تحبّه.»
«أنا أُحبّ حتّى الخَطَأة، يا امرأة. لقد جئتُ لِأُخلِّص الضالّين...»
«أمّا هو، فلن تُخلّصه. آه! سامحني للإدانة! أنتَ تَعلَم... كلّ ما تفعله حسن! سامح لساني الأبله ولا تعاقبني.»
«أنا لا أعاقبكِ، ولكن لا تعودي إلى فِعل ذلك. أَحِبّي حتّى الأشرار، ليس لأجل شرّهم، بل لأنّه بالحبّ فقط يمكن الحصول على الرحمة التي تَهديهم. أنتِ صالحة، وترغبين في أن تكوني كذلك بازدياد. تحبّين الحقّ، والحقّ الذي يكلّمكِ يقول إنّه يحبّكِ، إذ بحسب الشريعة، قد نِلتِ رحمة مِن أجل الضيافة والمسافر، وعلى هذا أنشأتِ أولادكِ. سيكون الله مكافأتكِ. عليَّ الذهاب إلى بيت إسماعيل الذي دعاني كي أتقدّم إلى أصدقائه الكثيرين الذين يريدون التعرّف إليَّ. لا يمكنني انتظار زوجكِ الذي، اعلمي ذلك، هو في طريق العودة. ولكن قولي له أن يتحمّل القليل مِن الألم بعد، وأن يأتي إلى بيت إسماعيل في الحال. تعالي أنتِ كذلك. وسوف أُشفيه.»
«آه! يا سيّدي!...» وتجثو المرأة عند قدميّ يسوع وتَنظُر إليه ضاحكة وباكية. ثمّ تقول: «ولكنّه السبت، اليوم!...»
«أعلم ذلك. وأنا في حاجة لأن يكون السبت لأقول شيئاً بهذا الخصوص إلى إسماعيل. فكلّ ما أفعله، أفعله بهدف واضح وجليّ ولا خطأ فيه. اعلَموا ذلك جميعكم، حتّى أنتم، أصدقائي الذين تشعرون بالخوف وتودّون أن أجعل سلوكي يتماشى مع اللياقات البشريّة كي لا يَلحَق بي الأذى. هو الحبّ الذي يقودكم، أعرف ذلك. إنّما عليكم معرفة أن تحبّوا الذي تحبّونه بشكل أفضل، وذلك بألّا تجعلوا اهتمامكم به يتقدّم على اهتمامكم بالله. يا امرأة، أنا ماضٍ وأنتظركِ. فليكن السلام الدائم في هذا البيت الذي يحبّ الله وشريعته، حيث يُحتَرَم الزواج ويُربّى الأولاد على القداسة، وحيث يُحَبّ القريب ويتمّ البحث عن الحقّ. وداعاً.»
يَضع يسوع يده على رأس المرأة والفتاتين، ثمّ ينحني لِيُقبِّل الأولاد الأصغر، ويَخرُج.
شمس شتاء ضعيفة تدفئ الآن برودة الهواء. وصبيّ في حوالي الخامسة عشرة ينتظر في عربة ريفيّة حالتها تعيسة للغاية.
«ليس لديَّ غيرها يا سيّدي. إنّما ستكون بذلك أسرع وأكثر راحة.»
«لا يا امرأة، بل دَعي حصانكِ مرتاحاً لتأتي به إلى بيت إسماعيل. دلّيني فقط على الطريق الأقصر.»
يمشي الولد بجانب يسوع، ويَمضون، عَبْر الحقول والمروج، إلى أراض متماوجة تليها بضعة هكتارات مِن الأراضي المعتنى بها جيّداً، في وسطها يقع بيت جميل، كبير ومنخفض، تحيط به حديقة رائعة.
«ها هو البيت، يا سيّدي.» يقول الولد. «إذا لم يكن لكَ بي حاجة، فسأعود إلى البيت لمساعدة أُمّي.»
«اذهب وكُن وَلَداً صالحاً على الدوام. وليكن الله معكَ.»
يَلِج يسوع بيت إسماعيل الريفيّ المترف. عدد كبير مِن الخُدّام يَهرَعون لملاقاة الضيف، المنتظر بكلّ تأكيد. آخرون يَمضون لإبلاغ المعلّم الذي يَخرُج لملاقاة يسوع منحنياً أمامه انحناءات كبيرة.
«أهلاً وسهلاً بكَ يا معلّم، في بيتي!»
«السلام لكَ يا إسماعيل بن فابي. لقد رغبتَ بمجيئي، وها قد أتيتُ. لماذا دعوتَني؟»
«كي أحظى بشرف نزولكَ في بيتي، وأُقدِّمكَ لأصدقائي. أريد أن يكونوا أصدقاءكَ كذلك، كما أريدكَ أن تكون صديقي.»
«أنا صديق الجميع، يا إسماعيل.»
«أعرف. ولكن، تَعلَم! جيّد أن يكون للمرء صداقات رفيعة المستوى. فصداقتي وصداقة أصدقائي هي كذلك. بينما أنتَ، سامِحني على قولي لكَ ذلك، تُهمِل كثيراً الذين يمكنهم أن يدعموكَ...»
«وأنتَ مِنهم؟ لماذا؟»
«أنا مِنهم. أمّا لماذا؟ فلأنّني معجب بكَ وأريد أن تكون صديقاً لي.»
«صديق! ولكن هل تَعلَم يا إسماعيل ماذا تعني لي هذه الكلمة؟ بالنسبة إلى كثيرين، صديق يعني معرفة، وإلى آخرين يعني شريك، وإلى آخرين يعني خادم. أمّا بالنسبة إليَّ فهو يعني: وفيّ لكلمة الآب. ومَن ليس كذلك لا يمكنه أن يكون صديقاً لي، ولا أنا له.»
«ولكنّني، بالضبط، لأنّني أريد أن أكون وفيّاً، أسعى إلى صداقتكَ، يا معلّم. ألا تصدّق ذلك؟ انظر: ها هو أليعازر يَصِل. سَلْهُ كم دافعتُ عنكَ أمام الشيوخ. أحيّيكَ يا أليعازر. تعال، فالرابّي يريد أن يَسأَلكَ عن أمر.»
تحيّات عميقة ونظرات فاحصة متبادلة.
«أنتَ يا أليعازر، قُل للمعلّم ما قُلتُه عنه أنا في آخر اجتماع لنا.»
«آه! مديح حقيقيّ! دفاع حماسيّ! وكم رغبتُ آنذاك بسماعكَ، لما كان يقوله عنكَ إسماعيل، يا معلّم، وكأنّكَ أعظم نبيّ جاء إلى شعب إسرائيل. أذكر أنّه كان يقول بأنّه لا يمكن لأيّ كان أن يتفوّه بكلام أعمق مِن كلامكَ، أن يكون له تأثير ساحر أعظم مِن الذي لكَ، وأنّكَ لو عَلِمتَ كيفيّة استخدام السيف كعلمكَ بالتكلّم، فلن يكون مَلِك في إسرائيل أعظم منكَ.»
«مملكتي!... هذه المملكة ليست بشريّة، يا أليعازر.»
«ولكنّ مَلِك إسرائيل!؟»
«فلينفتح روحكم ليفهم الكلمات السريّة. سيأتي ملكوت مَلِك الملوك. ولكن ليس بحسب التقييمات البشريّة. ليس مَلِكاً بائِداً، بل هو مَلِك أزليّ. التَوَصّل إليه ليس عبر سبيل مُزهر واحتفاليّ، وليس على سجّادة اكتسبت لونها الأرجوانيّ مِن دم الأعداء، بل على طريق التضحية الوَعِر، وبسلّم المسامحة والحبّ اللطيف. إنّها الانتصارات على ذواتنا التي تمنحنا هذا الملكوت. وإن شاء الله يستطيع أن يَفهَمني أكبر عدد مِن بني إسرائيل. إنّما لن يكون الأمر كذلك. تُفكِّرون بما ليس كائن. سيكون صولجان في يدي، وشعب إسرائيل هو مَن سوف يَضَعه فيها، صولجان مَلَكيّ وأزليّ. ولا يمكن لأيّ مَلِك أن ينزعه مِن بيتي. ولكنّ كثيرين في إسرائيل لن يتمكّنوا مِن رؤيته دون أن يرتَجِفوا مِن الهَلَع، ذلك أنّ اسماً سيكون له هو رهيب بالنسبة لهم.»
«ألا تظنّنا أهلاً لأن نتبعكَ؟»
«إذا أردتم ذلك يكون لكم. ولكنّكم لا تُريدونه. لماذا لا تريدونه؟ وأنتم قد أصبحتم في سنّ متقدمة. ويُفتَرض أن يكون العُمر قد مَنَحَكم الفَهم والعدل والاستقامة. العدل كذلك مِن أجل أنفسكم. الشباب... يمكنهم أن يُخدَعوا وثمّ يتوبون. أمّا أنتم! فالموت دائماً قريب مِن المسنّين. أليعازر، أنتَ أقلّ مِن كثيرين مثلكَ مُلتَحِف بالنظريات. فافتح قلبكَ للنور...»
يَعود إسماعيل ومعه خمسة آخرون مِن الفرّيسيّين ذوي الأبّهة. «هيّا بنا إذن إلى البيت» يقول سيّد البيت. وإذ يغادرون الردهة المزدانة بالمقاعد والسجّاد، يَلِجون غرفة تُقَدَّم لهم فيها اباريق ومَراكِن (مفردها مِركَن ويقال له طست) مِن أجل الاغتسال. ثمّ يَعبُرون إلى غرفة الطعام المهيّأة بشكل مُترَف جدّاً.
«يسوع إلى جانبي، بين أليعازر وبيني» يَأمر السيّد.
ويسوع الذي كان في عمق الغرفة إلى جانب التلاميذ الخائفين قليلاً والـمُهمَلين، عليه الآن الجلوس في مكان الشرف.
تبدأ الوليمة بأطباق متعدّدة مِن اللحم والسمك المشويّ. أصناف مِن النبيذ، وكما يبدو لي، أنواع مِن الشراب، أو أقله عسل وماء، تدور وتدور.
الجميع يُحاوِلون جعل يسوع يتكلّم. أحدهم، وهو عجوز يرتجف، يَسأَل بصوت أجشّ لعجوز هَرِم: «يا معلّم، هل صحيح ما يُقال، بأنّكَ تنوي إدخال تعديلات على الشريعة؟»
«لن أُغيّر حرفاً أو نقطة مِن الشريعة. على النقيض مِن ذلك (ويُشدّد يسوع على كلّ كلمة) فأنا قد جئتُ بالضبط لأجعلها مِن جديد نزيهة كما كانت حينما أُعطيَت لموسى.»
«هل تريد القول إنّها قد تبدَّلَت؟»
«قطعاً لا. فقط إنّ مصيرها كان مصير كلّ شيء انتُزِع ليوضع بين يديّ الإنسان.»
«ما الذي تريد قوله بالضبط؟»
«ما أريد قوله هو أنّ الإنسان، تبعاً للكبرياء القديم، أو لِمَكمَن الشهوة الثلاثيّة القديمة، شاء أن يمسّ الكلمات القويمة وجعل منها ما يَجور على المؤمنين، بينما الذين مسّوها، لم يكن الأمر بالنسبة لهم سوى تكديس جُمَل... أمّا التطبيق فعلى عاتق الآخرين.»
«ولكن، يا معلّم! رابّيونا...»
«إنّه اتّهام!»
«لا تُخيّب أملنا في رغبتنا في أن نكون ذوي فائدة لكَ!...»
«هيه! هيه! إنّهم لعلى حقّ في أن يُسمّوك ثائراً متمرّداً!»
«صمتاً! فيسوع ضيفي. فليتكلّم بكلّ حريّة.»
«بداية، رابّيونا قد بَذَلوا ما في وسعهم، وبنيّة مقدّسة، لجعل تطبيق الشريعة أسهل. الله نفسه بدأ هذا التعليم، عندما أضاف إلى الوصايا العشر شروحات أكثر تفصيلاً. وذلك كي لا يبقى للإنسان عذر في عدم الفهم. إذن فعمل معلّمينا مقدّس هو، إذ كَسَروا الخبز الممنوح مِن الله للنُّفوس، إلى قطع صغيرة، مِن أجل صغار الله. ولكنّه مقدّس عندما كان هدفه مستقيماً وعادلاً. ولم يكن الأمر هكذا دائماً. والآن أكثر مِن ذي قبل. ولكن لماذا تريدون جعلي أقول هذا، أنتم يا مَن تستاؤون إذا ما ذكرتُ لكم أخطاء ذوي السُّلطة؟»
«أخطاء! أخطاء! ليس لدينا نحن سوى أخطاء؟»
«أنا أودُّ لو لا يكون لكم سوى استحقاقات!»
«ولكنّنا لا نمتلكها. هذا ما تفكّر به وما تُفصِح عنه نظرتكَ. يا يسوع، لا يمكن الحصول على صداقة ذوي السُّلطة بالانتقاد. لن تَملِك. أنتَ لا تُجيد فنّه.»
«أنا لا أطلب الـمُلكَ حسب تفكيركم، ولا أستجدي صداقات. الحبّ هو ما أريد، إنّما حبّ نزيه ومقدّس. حبّ يَصدُر عنّي إلى الذين أحبّهم، ويَظهَر باستخدام ما أُبشّر به تجاه المساكين: الرحمة.»
«أنا مُذ سمعتكَ، لم أَعُد أُقرِض بربى.» يقول أحدهم.
«وسوف يجازيكَ الله.»
«يشهد عليَّ الربّ أنّني لم أَعُد أَضرب خُدّامي الذين يستحقّون الجَّلد بالسياط، منذ قالوا لي بعضاً مِن كلامكَ.» يقول آخر.
يَمدَح الفرّيسيّون أنفسهم بكثرة.
لم يتكلّم إسماعيل. فيناديه يسوع: «وأنتَ يا إسماعيل؟»
«آه! أنا! مارستُ الرحمة على الدوام، وليس عليَّ سِوى متابعة ما فعلتُه على الدوام.»
«حسن لكَ! إن كان الأمر كذلك بحقّ، فأنتَ الرجل الذي لا يعرف تبكيت ضمير.»
«آه! طبعاً لا.»
فيخترقه يسوع بِنَظرَة مِن عينه السفيريّة. يَلمس أليعازر ذراع يسوع: «يا معلّم اسمعني. لديَّ حالة خاصّة أعرضها عليكَ. حَصَلتُ مؤخّراً على مُلكيّة لأحد المساكين وقد أفلَسَ بسبب امرأة. ولقد باعَنيها، ولكن دون أن يخبرني بوجود خادمة عجوز، مربّيته، وهي الآن عمياء وتكاد تكون خَرقاء. البائع لا يريدها. وأنا... لا أريدها. ولكن، أن ترمى إلى الشارع... ماذا تفعل أنتَ يا معلّم؟»
«أنتَ، ما الذي تفعله إذا ما كان عليكَ نصح آخر؟»
«أقول: "احتفظ بها. ولن تُفلِس مِن أجل رغيف".»
«ولماذا تقول هذا؟»
«ولكن!... ذلك أنّني أُفكّر أنّني هكذا أتصرّف، وأريد أن يُتَصَرَّف معي هكذا...»
«أنتَ قريب جدّاً مِن الاستقامة يا أليعازر. تصرّف كما تَنصَح أن يكون التصرّف، وإله يعقوب يكون معكَ على الدوام.»
«شكراً يا معلّم.»
يُهمهِم الآخرون فيما بينهم.
«ما لكم تُتَمتِمون؟» يَسأَل يسوع. «ألم أتكلّم بالعدل؟ وهو ألم يتكلّم باستقامة؟ إسماعيل دافِع عَن ضيوفكَ، أنتَ يا مَن تتصرّف برحمة دائماً.»
«يا معلّم، حسناً تقول، ولكن... لو كنّا نتصرّف دائماً هكذا!... لكنّا سنقع فريسة للآخرين.»
«وبحسب رأيكَ، الأفضل أن يكون الآخرون فرائس لنا، أليس كذلك؟»
«لستُ أقول هذا. ولكن توجد حالات...»
«الشريعة توصي بالرحمة...»
«نعم، تجاه الأخ الفقير، تجاه الغريب، المسافر، الأرملة واليتيم. ولكنّ هذه العجوز التي وَقَعَت بين يدي أليعازر، ليست أخته، ولا هي مسافرة، ولا غريبة ولا يتيمة أو أرملة. لا تمثّل شيئاً بالنسبة له. ليست أكثر ولا أقلّ مِن لوحة عتيقة، نَسِيَها معلّمها الحقيقيّ في ملكيّته المباعة. فبإمكان أليعازر صرفها دون تَحَرُّج مِن أيّ نوع. في النهاية فمسؤوليّة موت العجوز لا تقع على عاتقه، بل على عاتق معلّمها الحقيقيّ...»
«...الذي لا يمكنه الاحتفاظ بها لأنّه فقير هو كذلك، وبالتالي هو كذلك مُعفَى مِن الالتزام. حتّى إنّ العجوز، إذا ما ماتت مِن الجوع، تكون هي الـمُذنِبة، أليس كذلك؟»
«هو ذاك يا معلّم. إنّه مصير الذين... لا يَعودون يَخدِمون. فالمرضى والمسنّون والعاجزون محكوم عليهم بالبؤس، وبالاستجداء. والموت هو أفضل ما يكون لهم... هكذا هي الحال منذ أن كان العالَم عالَماً، وسوف يكون هكذا على الدوام...»
«يا يسوع ارحمني!» صيحة شقاء تخترق النوافذ المغلقة، ذلك أنّ الغرفة مُغلَقة والمصابيح مُتَّقِدة، وقد يكون ذلك بسبب البرد.
«مَن يناديني؟»
«أحد الـمُزعِجين. سأجعلهم يطردونه. أو أحد المستجدين، سأجعلهم يعطونه رغيفاً.»
«يا يسوع، أنا مريض. أنقذني!»
«لقد قُلتُها: أحد المزعجين. سوف أعاقِب الخُدّام الذين سمحوا له بالمرور.» ويَنهَض إسماعيل.
ولكن يسوع، الذي يصغره بعشرين سنة على الأقلّ، وهو أطول منه مِن أوّل العُنق إلى قمّة الرأس، يُعيده إلى وضعيّة الجلوس بوضع اليد على كتفه وأَمره: «ابقَ يا إسماعيل. أريد أن أرى الذي يبحث عنّي. دعه يدخل.»
يَدخُل رجل لا يزال أسود الشعر. قد يكون عمره في حوالي الأربعين سنة. ولكنّه مُنتَفِخ كالبرميل ومُصفرّ كالليمون، وشفتاه بنفسجيّتان وشبه مفتوحتين والفم يَلهَث. تُرافِقه المرأة التي ظَهَرَت في جزء هذه الرؤيا الأوّل.
يتقدّم الرجل بصعوبة، بسبب المرض أوّلاً والخوف ثانياً. يَرَى أنّه يُنظَر إليه بلؤم! ولكنّ يسوع تَرَك مكانه وذَهَب إلى البائس مُمسكاً إيّاه مِن يده وهو يقوده إلى منتصف القاعة، إلى المساحة الفارغة بين الطاولات الموضوعة على شكل حدوة حصان. بالضبط تحت المصباح.
«ما الذي تريده منّي؟»
«يا معلّم... لقد بحثتُ عنكَ كثيراً... منذ زمن... وأنا لا طَلَب لي سوى الصحّة... لأولادي وزوجتي... أنتَ، قادر على كلّ شيء... فانظر إلى ما آلت إليه حالي...»
«وهل تؤمن أنّني أستطيع أن أشفيكَ؟»
«بالطبع أؤمن!... كلّ خطوة تُسبِّب لي ألماً... كلّ هزّة تسبب لي عناء... ومع ذلك قطعتُ أميالاً في البحث عنكَ... ثمّ كذلك لحقتُ بكَ بالعربة... ولكنّني لم أكن لأحظى بكَ أبداً... بالطبع أنا أؤمن بذلك!... وأنا مندهش لأنّني لم أُشفَ بعد، مِن اللحظة التي أَصبَحَت يدي في يدكَ، ذلك أنّ كلّ شيء فيكَ مقدّس، يا قدّوس الله.»
ويَلهَث المسكين كالفقمة بسبب الجهد الذي بَذَلَه كي يتكلّم. وتَنظُر المرأة إلى زوجها وإلى يسوع وتبكي.
يَنظُر إليهما يسوع ويبتسم. ثمّ يَلتَفِت ويَسأَل: «أنتَ، أيّها الكاتب العجوز، (يوجّه كلامه للعجوز ذي الصوت المتهدّج الذي تكلَّم أوّلاً) أجِبني: هل مسموح الشفاء في السبت؟»
«في السبت لا يُسمَح بأيّ عمل.»
«ولا حتّى انتشال أيّ إنسان مِن اليأس؟ وهذا ليس عملاً يدويّاً.»
«السبت مُكرَّس للربّ هو.»
«أيّ عمل لائق أكثر بيوم الربّ مِن جعل ابن لله يقول لأبيه: "أُحبّكَ وأُمجدّكَ لأنّكَ شفيتَني"؟!»
«عليه أن يقول ذلك حتّى ولو كان بائساً.»
«حنانيا، هل تَعلَم أنّ الغابة الأجمل لديكَ تحترق الآن، وأن سفح حرمون كلّه يتوهّج احمراراً مِن لَمَعان اللهيب؟»
ويَهبّ العجوز وكأنّ ثُعباناً لَدَغه: «يا معلّم، هل تقول الحقّ أم هذه دعابة؟»
«أقول الحقيقة. أرى وأَعلَم.»
«آه! يا لي مِن بائس! غابتي الأجمل! آلاف الشياقل (مفردها شاقل وهي عملة عبريّة) تحوَّلَت إلى رماد! لعنة! ملعونون هُم الكلاب الذين وَضَعوا لي النار! فلتحترق أحشاؤهم مثل غابتي!» والعجوز يبدو يائساً.
«هي لا تعدو كونها غابة، يا حنانيا، وتتذمّر! لماذا لا تمجّد الربّ، في هذا البؤس؟ هو لا يَخسَر غابة يمكن تعويضها، بل إنّما الحياة وقوت أولاده، وعليه أن يُقدِّم التسابيح التي لا تُقدِّمها أنتَ؟ إذن أيّها الكاتب، هل ما يزال غير مسموح لي أن أُشفيه يوم السبت؟»
«مَلعون أنتَ وهو والسبت! إنّ ذهني الآن مُنشَغِل بأمر آخر...» ويَدفع يسوع الذي كان قد وَضَعَ يده على ذراعه، ويَخرُج غاضباً، ويُسمَع وهو يَزعَق بصوته المتهدّج ليحصل على عربته.
«والآن؟» يَسأَل يسوع وهو يلتفت إلى الآخرين. «والآن أنتم، قولوا لي: هل هذا مسموح به أم لا؟»
لا أحد يُجيب. يَخفض أليعازر رأسه بعد أن يُباعد شفتيه قليلاً، ويعود مع ذلك إلى إغلاقهما لشعوره بالبرد الذي اجتاح الغرفة.
«حسناً، أنا سأتكلّم.» يقولها يسوع، ويُصبِح منظره مُهيمناً وصوته كالرعد كما عندما يريد اجتراح معجزة. «سوف أتكلّم. ها أنا أتكلّم. أقول: أيّها الرجل، فليكن لكَ بحسب إيمانكَ. ها قد برئتَ. مَـجِّد الأزليّ. اذهب بسلام.»
يبقى الرجل مذهولاً. ربّما كان يفكّر أن يعود لَيِّنا كالسابق فجأة. ويبدو له أنّه لم يُبرأ. ولكن مَن يدري بماذا يَشعُر... يُطلِق صيحة فرح، ويرتمي على قدميّ يسوع ويُقبِّلهما.
«اذهب، اذهب! وكن صالحاً دائماً. وداعاً.»
يَخرُج الرجل تتبعه زوجته وهو يلتفت ويلتفت لتحيّة يسوع حتّى آخر لحظة.
«ومع ذلك يا معلّم... في بيتي... يوم السبت...»
«أنتَ غير موافق! أَعلَم ذلك. ولأجل هذا أتيتُ. أنتَ، صديق؟ لا بل عدوّ. أنتَ لستَ صادقاً معي ولا مع الله.»
«أتهينني الآن؟»
«لا، بل أقول الحقّ. أنتَ قلتَ إنّ أليعازر ليس مُجبَر على نجدة تلك العجوز لأنّها لا تَنتمي إلى ممتلكاته. بينما أنتَ، كان لديكَ يتيمان في ممتلكاتكَ. وكانا ابنيّ خادِمَين أمينين ماتا أثناء العمل، الواحد والمنجل في يده، والأخرى ماتت مِن الإرهاق. ذلك أنّها كان عليها أن تُضيف إلى عملها عمل زوجها، لكي تحتفظ بها. كنتَ تقول: "لقد وَقَّعتُ على عقد بعاملين، لذا، ولكي أحتفظ بكِ، أُطالِب بعملكِ وعمل زوجكِ الميت". وقَدَّمَته لكَ، وماتت مع الطفل الذي كان في أحشائها، إذ إنّها كانت حاملاً، ولم تحظَ بالرحمة التي تحظى بها أنثى حيوان أثناء حَملها. أين هما الطفلان الآن؟»
«لستُ أدري... لقد اختفيا ذات يوم.»
«لا تكذب الآن. تكفيكَ الفظاعة. ويجب عدم إضافة الكذب لجعل الله يَمقت أيّام السبت التي لكَ، حتّى ولو كانت خالية مِن الأعمال اليدويّة. أين هما هذان الولدان؟»
«لا أعرف. لم أعد أعرف، ثِق بذلك.»
«أنا أعرف. لقد وجدتُهما في ليلة مِن ليالي تشرين الثاني (نوفمبر)، باردة، ماطرة ومظلمة. وجدتُهما جائِعَين ويرتَجِفان، قرب أحد البيوت، مثل كَلبَين أثناء البحث عن لقمة خبز... وقد عَنَّفَهُما وطَرَدَهما رجل كانت له أحشاء كلب، رجل أسوأ مِن كلب، ذلك أنّ الكلب كانت ستأخذه الشفقة على هذين اليتيمين. وأنتَ وذلك الرجل لم تتحلّيا بالرحمة. لم يَعُد أهلهما في خدمتكَ، أليس كذلك؟ كانا قد ماتا. ولا يمكن للأموات إلّا أن يبكوا في قبورهم، لدى سماعهم بكاء أبنائهم البائسين الذين لم يَعُد أحد يكترث بهم. آنذاك يَحمِل الأموات إلى الله، بروحهم، بكاءهم وبكاء أولادهم اليتامى، ويقولون: "يا ربّ انتقم لنا، لأنّ العالم يَظلِم عندما لا يعود بإمكانه الاستغلال". لم يكن الاثنان في سنّ يسمح لهما بخدمتكَ، أليس كذلك؟ نعم ولا، ذلك أنّ الصغيرة كان بإمكانها الخدمة في التقاط السنابل بعد الحصاد... وطردتَهما، حارماً إيّاهما مِن القليل الذي بقي لهما مِن أبويهما. كان يمكنهما أن يموتا مِن البرد والجوع مثل كلبين على قارعة طريق. وكان يمكنهما أن يعيشا ويُصبِح الواحد لصّاً والأخرى زانية، ذلك أنّ الجوع يقود إلى الخطيئة. ولكن ما الذي كان يهمّكَ؟
منذ برهة كنتَ تستند إلى الشريعة كي تدعم نظرياتكَ. إذن، ألم تقل الشريعة: "لا تُسيئوا إلى الأرملة واليتيم. إذا أسأتم إليهما فإنّ أصواتهما ترتفع إليَّ، وأَسمَع صراخهما فيتأجّج غضبي وأُبيدكم بالسيف، وتظلّ زوجاتكم أرامل وأولادكم يتامى"؟ أليس هذا ما تقوله الشريعة؟ وإذن لماذا لم تتنبّه له؟ لقد دافَعتَ عنّي أمام الآخرين؟ ولكن لماذا إذن لم تأخذ على عاتقكَ الدفاع عن مذهبي؟ هل تريد أن تكون صديقاً لي؟ إذن لماذا تفعل عكس ما أقول؟
أحدكم يجري الآن، وقد انقَطَع نفسه، وهو يَنتف شعره بسبب الخراب الذي لحق بغابته. وهو لن يتخلّص مِن الخراب الذي لحق بقلبه! وأنتَ، ماذا تنتظر لتفعل؟ لماذا تُريدون اعتبار أنفسكم كامِلين، أنتم يا مَن وَضَعَكم مصيركم في أعلى المراكز؟ وإذا كنتم كذلك في أمر ما، لماذا لا تجتهدون في أن تكونوا كذلك في كلّ شيء؟ لماذا تكرهونني لأنّني أكتشف جراحكم؟ أنا طبيب أرواحكم. وهل يمكن لطبيب أن يُشفي دون كشف الجّراح وتنظيفها؟ ولكن ألا تعلمون أنّ أناساً كثيرين، وهذه المرأة التي خَرَجَت هي واحدة منهم، يستحقّون المراكز الأولى في مأدبة الله، بغضّ النظر عن مظهرهم الحقير؟ فليست قيمة الإنسان في مظهره الخارجيّ، بل في قلبه وروحه. الله يَراكم، مِن أعالي عرشه، ويدينكم. وكم يَرى مَن هُم أفضل منكم! بالنتيجة، اسمعوا.
فليكن لكم هذا كقاعدة لتصرّفاتكم على الدوام: عندما تُدعون إلى وليمة عرس، فلتّتخذوا دائماً الأماكن الأخيرة. فيكون تكريمكم مضاعفاً عندما يقول لكم صاحبّ العرس: "صديقي، ارتفع إلى فوق". تكريماً لاستحقاقكَ وتواضعكَ. بينما... يا لتعاسة اللحظة التي يَشعُر فيها المتكبّر بالخجل وهو يسمع: "اذهب هناك إلى العمق لأنّه يُوجَد مَن هو أرفَع منكَ". وافعلوا الشيء ذاته في وليمة عرس روحكم السريّة مع الله. فَمَن وَضَعَ نفسه ارتفع، ومَن رَفَع نفسه اتّضع.
إسماعيل، لا تكرهني، لأنّني أنا أعالجكَ. أنا لا أكرهكَ. لقد أتيتُ لأبرئكَ. فأنتَ أكثر سقماً مِن ذاك الرجل. لقد دعوتَني لتجعل لنفسكَ شُهرة ولإرضاء أصدقائكَ. غالباً تدعو مِن قبيل الكبرياء ولمتعتكَ. لا تفعل ذلك. لا تدعو الأغنياء، الأقارب والأصدقاء. بل إنّما افتح بيتكَ، افتح قلبكَ للفقراء، للمستَجدِين، للمُقعَدِين والعُرج والأيتام والأرامل. فهم لا يعطونكَ بالمقابل سوى البركات. ولكنّ الله يبدلها لكَ بالنِّعم. وفي النهاية... آه! في النهاية، يا للمصير المغبوط الذي ينتظر الرحماء الذين سيكافئهم الله عند قيامة الموتى!
الويل للذين يُداعِبون فقط الأمل بالكسب، ثمّ يُغلِقون قلوبهم في وجه إخوتهم الذين يُصبِحون عاجزين عن الخدمة. الويل لهم! سوف أنتقم للذين أُهمِلوا.»
«يا معلّم... أنا... أنا أريد إرضاءكَ. سآخذ أيضاً هذين الولدين.»
«لا.»
«لماذا؟»
«إسماعيل؟!...»
يَخفض إسماعيل رأسه. يُريد أن يَظهَر بمظهر المتواِضع. ولكنّه ثعبان انتُزِع منه السم ولم يعد يَلسَع لأنّه يَعلَم أنّه لم يَعُد لديه سمّ، ولكنّه مع ذلك ينتظر اللحظة المناسبة ليلسع…
يُحاول أليعازر إعادة السكينة بقوله: «طوبى للذين يشاركون في وليمة الله بروحهم وفي الملكوت الأزليّ. إنّما ثِق يا معلّم، هي الحياة التي تضع لنا العراقيل. المسؤوليّات... الاهتمامات...»
ثمّ يروي يسوع مثل الوليمة (متى 22 / 2-10؛ لوقا 14/ 16-24) ويُنهي الـمَثَل بقوله: «قلتَ المسؤوليّات... والاهتمامات. حقّاً. لأجل ذلك قلتُ لكَ، في بداية هذه الوليمة، إنّ مملكتي تُكتَسب بالانتصارات على الذات وليس بالانتصارات في ساحات الوغى. والمكان في الوليمة العظمى محجوز لهؤلاء المتواضعي القلب الذين يعرفون أن يكونوا عظماء بحبّهم الوفيّ الذي لا قياس لديه للتضحية، والذي يتخطّى كلّ شيء ليصل إليَّ. ساعة واحدة تكفي لِتُغيّر قلباً. شرط أن يريد هذا القلب ذلك. وكلمة تكفي. لقد قلتُ لكم ذلك مراراً. وأَنظُر... في أحد القلوب سوف تَنبُت نبتة مقدّسة. وفي القلوب الأخرى، أشواك لي، وفي هذه الأشواك ثعابين وعقارب. لا يهمّ. أنا أمضي مستقيماً في طريقي. والذي يحبّني يتبعني. أمضي وأدعو ذوي القلب المستقيم أن يأتوا إليَّ. أمضي وأنا أُعلّم. والذين يبحثون عن البرّ فليقبلوا إلى الينبوع. أمّا الآخرون... الآخرون، هو الأب القدّوس الذي سيدينهم.
إسماعيل أحيّيكَ. لا تكرهني. فَكِّر. ولتعتبر صرامتي مِن قبيل الحبّ، وليست من قبيل البُغض. السلام لهذا البيت ولقاطنيه، السلام لكم جميعاً إذا كنتم تستحقّونه.»