ج9 - ف7

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: ماري حلمي وفيكتور مصلح.

 

الجزء التاسع

 

7- (الإثنين السابق للفصح، II- الليل)

 

31 / 03 / 1947

 

ما يزال يسوع، في المساء، في بستان الزيتون. إنّه مع رُسُله. ومِن جديد يتكلّم.

 

«ومرّ يوم آخر أيضاً. والآن هو الليل ومِن ثمّ الغد، ثمّ غد آخر، ومِن ثمّ العشاء الفصحيّ.»

 

«أين سنقيمه يا ربّي؟ ستكون النساء كذلك هذه السنة.» يَسأَل فليبّس.

 

«ولم نعدّ شيئاً بعد، المدينة مزدحمة فوق الحدّ. يبدو كأنّ إسرائيل كلّها هذه السنة، حتّى المتهوّدين الّذين هم مِن أبعد الأماكن، قد هرعوا لأجل الطقس.» يقول برتلماوس.

 

ينظر إليه يسوع، وكما لو أنّه كان يتلو أحد المزامير، يقول: «اجتمعوا، أسرعوا، اركضوا مِن جميع الجهات نحو ذبيحتي الّتي أضحّي بها مِن أجلكم، نحو الذبيحة العظيمة الّتي يُضحّى بها على جبال إسرائيل، كي تأكلوا جسدها، كي تشربوا دمها.»

 

«ولكن أيّ ذبيحة؟ أيّ ذبيحة؟ إنّكَ تبدو كمن استحوذ عليه جنون مُحكَم. أنتَ لا تتكلّم سوى عن الموت... وتحزننا.» يقول برتلماوس بحدّة.

 

يلتفت إليه يسوع مرّة أخرى، مبتعداً بعينيه عن سمعان الّذي ينحني ويتكلّم مع يعقوب بن حلفى وبطرس، ويقول: «كيف؟ أنتَ تسألني ذلك؟ أنتَ لستَ واحداً مِن أولئك الصغار الّذين، لكي يتعلّموا، يجب أن يتلقّوا النور السباعيّ. فأنتَ قد درستَ الكتاب بالفعل، قبل أن أدعوكَ بواسطة فليبّس، في ذلك الصباح الربيعيّ اللطيف. مِن ربيعي. وأنتَ تسألني بعد عن الذبيحة الـمُضحّى بها على الجبال، تلك الّتي سيُقبِل إليها جميع الناس ليقتاتوا منها؟ وتقول عنّي مجنوناً جنوناً مُحكَماً لأنّني أتكلّم عن الموت؟ آه! برتلماوس! مثل صيحة الحرّاس، قد أَطلَقتُ في ظلماتكم الّتي لم تنفتح أبداً على النور، مرّة، واثنتين وثلاث، الصيحة الـمُنذِرة، إنّما أنتم لم تريدوا أبداً فهمها. لقد تألّمتم منها وقتها، ومِن ثمّ... مثل أطفال قد نسيتم بسرعة الكلام عن الموت وعدتم بفرح إلى عملكم، واثقين مِن أنفسكم وممتلئين بالرجاء أنّ كلامي وكلامكم سيقنعان العالم أكثر فأكثر كي يتبع ويحبّ فاديه.

 

كلا. فقط بعد أن تكون هذه الأرض قد ارتكبت الخطيئة ضدّي -وتذكّروا أنّها كلمات الربّ لنبيّه- فقط بعد أن يبدأ الشعب، وليس فقط هذا الشعب على وجه الخصوص، بل شعب آدم العظيم، يبدأ بالأنين: "لنقصد الربّ. فهو الّذي جرحنا سيشفينا". وعالم المفتدين سيقول: "بعد يومين، أي زمانين مِن الأبديّة، اللذين سيكون قد تركنا خلالهما تحت رحمة العدوّ، الّذي بكلّ أسلحته سيكون قد ضربنا وقتلنا مثلما نحن ضربنا وقتلنا القدّوس -ونحن نضربه ونقتله، ذلك أنّه سيكون على الدوام مَن هم مِن نسل قايين الّذين سيقتلون بلعناتهم وبأعمالهم السيّئة ابن الله، الفادي، راشقين سهاماً مميتة ليس على شخصه الأبديّ الممجّد، إنّما على نَفْسهم التي افتداها، لكي يقتلوها، ويقتلوه هو بالتالي في نفوسهم- فقط بعد هذين الزمنين سيأتي اليوم الثالث، فنقوم مِن الموت بحضوره في ملكوت المسيح على الأرض ونحيا بحضرته في انتصار الروح. سوف نعرفه، وسنتعلّم معرفة الربّ لنتأهّب، بفضل هذه المعرفة الحقيقيّة لله، للثبات في آخر معركة يشنّها لوسيفوروس على الإنسان قبل صوت البوق السابع للملاك الّذي سيفتتح الجوقة المطوّبة لقدّيسي الله، للعدد الكامل للأبديّة -ولا يمكن لأصغر رضيع، ولا لأكبر كهل أن يضاف إلى العدد- الجوقة التي ستنشد: ’لقد انتهت مملكة الأرض البائسة، وقد مثل العالم مع كلّ سكّانه أمام القاضي المنتصر. والمختارون هم الآن بين يدي ربّنا ومسيحه، وهو ملكنا إلى الأبد. المجد للربّ الإله كليّ القدرة، الكائن والذي كان والذي سيكون، لأنّه أخذ سلطانه العظيم وتسلّم زمام ملكوته.‘"

 

آه! مَن منكم سيُحسِن تذكّر كلمات تلك النبوءة، التي أضحت ترنّ متوارية في كلام دانيال، والتي تدوّي الآن بصوت الحكيم أمام العالم المذهول وأمامكم، أنتم الأكثر ذهولاً مِن العالم؟!

 

"مجيء الـمَلِك -العالم سيستمرّ وهو يئن في جراحه ومحبوساً في قبره، شرّيراً في الحياة وبائساً في الموت، حبيس رذائله السباعيّة وبدعه الّتي لا تنتهي، روح العالم المحتضر الحبيس مع آخر نزاعاته داخل كينونته، والمائت بالبرص بسبب كلّ أخطائه- مجيء الـمَلِك المهيّأ كمجيء الفجر، وكمطر الربيع والخريف سيأتي إلينا."

 

إنّ الفجر يسبقه الليل ويعدّ له. هذا هو الليل. ليل الحاضر. وماذا أصنع لكِ يا أفرايم؟ ماذا أصنع لكِ أيا يهوذا؟… سمعان، برتلماوس، يهوذا، وابنا العم، أنتم الأكثر معرفة بالكتاب، هل تعرفون هذه الأقوال؟ هي ليست مِن روح مجنون، بل هي متأتّية ممّن يمتلك الحكمة والعِلم. فأنا أتلو الأنبياء كالـمَلِك الذي يفتح بثقة خزائنه الحديديّة، لأنّه يعلم أين هي الجوهرة التي يفتّش عنها، بعدما وضعها بيده داخلها. أنا الكلمة. خلال أجيال تكلّمتُ عبر شفاه بشريّة، ولأجيال سأتكلّم عبر شفاه بشريّة. ولكنّ كلّ ما قيل ممّا هو فائق الطبيعة هو كلمتي. فلا يستطيع الإنسان، حتّى الأكثر علماً وقداسة، الصعود بنَفْس نسر إلى ما وراء حدود العالم الأعمى، لكي يدرك ويقول الأسرار الإلهيّة.

 

المستقبل ليس "حاضراً" إلاّ في الفِكر الإلهيّ. حُمق هو لدى الّذين لم يرتقوا بإرادتنا، ادعاء الوحي والتنبّؤ. والله يُكذّبهم ويضربهم، لأنّ واحداً فقط بإمكانه أن يقول: "أَنَا هُوَ" ويقول: "أنا أرى" ويقول: "أنا أعلم". إنّما عند وجود إرادة بغير قياس، بغير حكم، والّتي يجب قبولها مع انحناءة مِن الرأس، قائلةً: "ها أنا ذا"، فإنّه يقول، بلا نقاش: "تعالي، اصعدي، اسمعي، انظري، كرّري"، حينئذ، غارقة في حاضر إلهها الأبديّ، فإنّ النَّفْس المدعوّة مِن الربّ لتكون "صوتاً"، ترى وترتعش، ترى وتبكي، ترى وتتهلّل، حينئذ، النَّفْس المدعوّة مِن الربّ لتكون "الكلمة"، تسمع، وإذ تبلغ إلى النشوة أو تَعَرُّق الاحتضار، تردّد الكلام الرهيب لله الأبديّ. لأنّ كلّ كلمة لله رهيبة هي، حيث هي آتية مِن ذاك الذي منه الحُكم ثابت والعدل لا هوادة فيه، وحيث هي موجّهة إلى البشر الّذين قليلون جدّاً منهم يستحقّون المحبّة والبركة وليس صواعق وإدانة. الآن هذه الكلمة، المعطاة والمحتقَرة، أليست هي سبب خطيئة رهيبة وعقاب للّذين، إذ سمعوها، قد رفضوها؟ إنّها كذلك.

 

«وماذا عليّ أن أصنع لكم أيضاً أيا أفرايم، ويا يهوذا، ويا أيّها العالم، ولم أصنعه؟ لقد أتيتُ لأحبّكِ أيا أرضي، وكلمتي قد كانت لكِ سيفاً يقتل لأنّكِ مقتّها. آه! أيّها العالم الّذي تقتل مخلّصكَ ظانّاً أنّكَ تفعل أمراً صائباً، كم تشيطنتَ بحيث أنّكَ لم تعد تدرك حتّى ماهيّة الأضحية الّتي يطلبها الله، أضحية الخطيئة الشخصيّة، لا دابّة مذبوحة ومضحّى بها والنَّفْس قذرة! إنّما ما الذي قُلتُه لكَ خلال هذه السنوات الثلاث؟ وبماذا بشّرتُ؟ لقد قلتُ: "اعرفوا الله في شرائعه وطبيعته". وأنا قد يبستُ، مثل آنية خزفيّة مساميّة قد وُضِعَت في الشمس، وأنا أنشر فيكم المعرفة الحيويّة للشريعة ولله. وأنتَ مستمرّ في المحرقات دونما إتمام للشيء الوحيد الضروريّ: التضحية بإرادتكَ السيّئة لله الحقّ!

 

الآن يقول لكِ الله الأبديّ، أيّتها المدينة العاصية، أيّها الشعب المرتد -وفي ساعة الحكم عليكِ سيُستخدَم لكِ سوط لن يُستخدَم لروما وأثينا، الغبيّتين اللتين لا تعرفان الكلمة والمعرفة، إنّما اللتين عندما، مِن طفلين أبديّين أسيء الاعتناء بهما مِن قِبَل مربّيتهما ولبثا حيوانيّين في قدراتهما، يعبران إلى ذراعيّ كنيستي المقدّسين، عروستي السامية الوحيدة الّتي ستلد لي عدداً لا يحصى مِن الأبناء المستحقّين للمسيح، سيصبحان في سنّ الرشد وقادرين، ويعطياني قصوراً وحشوداً، معابد وقدّيسين كي تعمر بهم السماء كما نجوم- الآن يقول لكِ الله الأبديّ: "ليست لي مسرّة بكم ولا أقبل تقدمة مِن يدكم. بالنسبة لي هي شبيهة بقذارة، وأرميها في وجوهكم فتعلق بها. اتقزّز مِن مظهريّة احتفالاتكم الخارجيّة. أفسخ العهد مع نسل هارون وأحيله لأبناء لاوي، لأنّ هذا هو لاوي الّذي لي، وقد قطعتُ معه إلى الأبد عهد سلام وحياة وقد كان أميناً لي عبر الدهور، حتّى التضحية. كانت له مخافة الآب المقدّسة، وقد ارتجف بسبب حنقه كمُهان، لمجرّد سماع اسمي الـمُهان. شريعة الحقّ كانت في فِيه، ولم يكن مِن إثم على شفتيه، سار معي في السلام والاستقامة، وردّ كثيرين عن الإثم. لقد بلغ الزمان الّذي يُضحّى ويُقرَّب فيه لاسمي في كلّ مكان، وليس بعد على مذبح صهيون الوحيد ذلك أنّكم غير جديرين لأن تقدّموها عليه، التقدمة الطاهرة، الّتي بلا عيب، المرضيّة للربّ."

 

هل تعرفون الكلمات الأبديّة؟»

 

«نعرفها، أيا ربّنا. وثق، بأنّنا مُنهَكون كما لو كنّا قد ضُرِبنا. إنّما ألا يمكن تغيير المصير؟»

 

«أتسمّيه مصيراً يا برتلماوس؟»

 

«لا أعرف له أيّ اسم آخر...»

 

«تكفير. هذا هو الاسم. فإهانة الربّ تستلزم تكفيراً عنها. والله الخالق قد أُهين مِن أوّل مخلوقاته. ومِن ذاك الحين، لم تتوقّف الإهانة عن التعاظم. لم يـُجْدِ فيضان نوح، ولا إمطار النار على صادوم وعامورة في جعل الإنسان قدّيساً. لا الماء ولا النار. فالأرض هي صادوم بلا حدود يسرح فيها لوسيفر حُرّاً ومَلِكاً. فليأتِ إذاً ثالوث لغسلها: نار الحبّ، ماء الألم، دم الضحيّة. ها هي ذي عطيّتي أيا أيّتها الأرض. لقد أتيتُ لأعطيها لكِ. والآن هل أتملّص مِن إتمامها؟ إنّه الفصح، ولا يمكن الفرار.»

 

«لماذا لا تذهب إلى لعازر؟ لن يكون فراراً، إنّما عنده لا يَمسّكَ أحد.»

 

«سمعان يُحسِن القول. أتوسّل إليكَ يا ربّ، افعل ذلك!» يهتف يهوذا الاسخريوطيّ مرتمياً عند قدميّ يسوع.

 

يستجيب لحركته بكاء شديد مِن قِبَل يوحنّا، ورغم تحكّم ابنيّ العم ويعقوب وأندراوس بألمهم، فإنّهم يبكون كذلك.

 

«أتؤمن أنّني’الربّ‘؟ انظر إليّ!» ويخترق يسوع بنظره وجه يهوذا القَلِق، ذلك أنّه قَلِق حقّاً، ولا يصطنع ذلك. ربّما كانت هذه آخر معارك نَفْسه مع الشيطان، ولا يُحسِن الانتصار. يسوع يدرسه ويتابع المعركة كما يدرس عَالِـم نوبة مريض. ثمّ ينهض فجأة وبعنف لدرجة أنّ يهوذا، المستند على ركبتيه، يُدفَع ويَسقُط جالساً على الأرض. يتراجع يسوع أيضاً، وقد تغيّر وجهه ويقول: «لكي يُقبَض على لعازر أيضاً؟ فريستان وبالتالي فرح مزدوج. لا، فلعازر يُحفَظ لأجل مسيح المستقبل، المسيح المنتصر. واحد فقط يُلقى خارج الحياة ولن يرجع. أنا، سأرجع. أمّا هو فلن يرجع. لكنّ لعازر يبقى. أنتَ، أنتَ يا مَن تعرف أموراً كثيرة، تعرف أيضاً هذا. إنّما أولئك الذين يأملون في منفعة مزدوجة، القبض على النسر مع فرخه، في العُشّ وبلا صعوبة، يمكنهم الوثوق مِن أنّ عينيّ النسر على الجميع، وأنّه بدافع حبّه لصغيره سيذهب بعيداً عن العُشّ، كي يُلقى القبض عليه وحده مُخلّصاً إيّاه. إنّ الكراهية ستقتلني ومع ذلك أستمرّ في الحبّ. امضوا. أنا سأبقى للصلاة. لم أكن أبداً محتاجاً لأرفع نفسي نحو السماء كما الساعة التي أحياها.»

 

«دعني أبقى معكَ يا ربّ.» يتوسّل يوحنّا.

 

«لا. أنتم جميعاً في حاجة إلى الراحة. اذهب.»

 

«أتبقى بمفردكَ؟ وإن أذوكَ؟ كذلك يبدو عليكَ الألم... أنا سأبقى.» يقول بطرس.

 

«أنتَ اذهب مع الآخرين. اتركوني أنسى البشر لساعة! دعوني أتواصل مع ملائكة أبي! إنّهم يحلّون محلّ أُمّي، الّتي تُنهِكها الدموع في الصلاة، والّتي لا أريد أن أُحمّلها ألمي الـمُوحِش. امضوا.»

 

«ألا تمنحنا السلام؟» يَسأَل ابن عمّه يوضاس.

 

«أنتَ على حقّ. ليحلّ سلام الربّ على الّذين ليسوا عاراً في عينيه. الوداع.» وينفذ يسوع، صاعداً عبر منحدر صغير، وسط شجر الزيتون.

 

«ومع ذلك... ما يقوله مكتوب حقّاً! وحينما نسمعه منه، نفهم لماذا ومِن أجل مَن قِيل.» يدمدم برتلماوس.

 

«أنا قد قلتُ ذلك لبطرس خلال خريف السنة الأولى...» يقول سمعان.

 

«هذا صحيح... ولكن... لا! طالما أنا على قيد الحياة لن أدع أحداً يقبض عليه. غداً...» يقول بطرس.

 

«ما الذي ستفعله غداً؟» يَسأَل الاسخريوطيّ.

 

«ما الذي سأفعله؟ إنّني أتكلّم مع نَفْسي. إنّه زمن المكائد. أنا لن أبوح بما في فِكري حتّى للهواء. وأنتَ القادر، وقد قلتَ ذلك مراراً، لماذا لا تبحث عن حماية ليسوع؟»

 

«سأفعل يا بطرس. سأفعل. لا تندهشوا إن غبتُ أحياناً. فأنا أعمل مِن أجله. ومع ذلك لا تقولوا له.»

 

«اطمئنّ، ولتكن مباركاً. أحياناً كنتُ أرتاب فيكَ، فأعتذر. أرى أنّكَ أفضل منّا في اللحظة الحاسمة. أنتَ تتصرّف... وأنا لا أُحسِن سوى الكلام الفارغ.» يقول بطرس، متواضعاً وصادقاً.

 

ويضحك يهوذا كما لو كان التبجيل يسرّه. ويبتعدون عن جَثْسَيْماني صوب الطريق المؤدّية إلى أورشليم.