ج6 - ف135

أَنَا هُوَ

ماريا فالتورتا

L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO

THE GOSPEL AS REVEALED TO ME

بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}

L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ

MARIA VALTORTA

الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.

 

الجزء السادس/ القسم الثاني

 

135- (موت جدّ مارغزيام)

 

25 / 05 / 1946

 

لا بدّ أنّ يسوع قد افترق عن النسوة، لأنّه مع الرُّسُل، ومعهم إسحاق ومارغزيام. إنّهم ينزلون المنحدرات الأخيرة باتّجاه مرج ابن عامر فيما المساء يحلّ ببطء.

 

مارغزيام مسرور جدّاً بأنّ يسوع يصطحبه إلى عند جدّه العزيز. الرّسُل ليسوا في غاية السرور، حيث يتذكّرون الحادث الأخير مع إسماعيل. لكنّهم يلتزمون الصمت المطبق، كي لا يُحزِنوا الصبيّ، الذي كان مبتهجاً كونه لم يَمسّ العسل الذي كانت قد أعطته إيّاه بورفيرا، «لأنّني» يقول: «كنتُ آمل بأنّ يحقّق الربّ رغبة قلبي بأن يدعني أرى جدّي. لا أعرف لماذا... إنّما منذ بعض الوقت هو دائماً حاضر في روحي، كما لو أنّه كان يناديني. لقد أخبرتُ بورفيرا وهي قالت لي: "الأمر ذاته يحدث لي، عندما يكون سمعان بعيداً." إنّما لا أعتقد بأنّ الأمر كما تقول، لأنّ ذلك لم يحدث لي أبداً قبلاً.»

 

«لأنّكَ كنتَ طفلاً قبلاً. الآن أنتَ رجل وتُدرِك الأشياء أكثر» يقول له بطرس.

 

«معي أيضاً قُرصَا جُبن مُدوّران صغيران، وبعض الزيتون. فقط ما أمكنني جلبه ممّا هو لي لجدّي الحبيب. ومِن ثمّ معي قميص وثوب مِن قنّب. بورفيرا أرادت أن تخيطهما لي. لكنّني قلتُ لها: "إن كنتِ تحبّينني، فخيطيهما للعجوز." إنّه دوماً بثياب رثّة وممزّقة، ويشعر بالحرّ الشديد بسبب ارتدائه ملابس صوفيّة سميكة!... سوف يحظى ببعض الانتعاش.»

 

«وبهذا فقد غادرتَ دون ملابس منعشة، وها أنتَ تتصبّب عرقاً مثل إسفنجة مبلّلة وأنتَ تلبس هذه الثياب الصوفيّة» يقول له بطرس.

 

«آه! لا يهمّ! غالباً ما ظلّ جدّي بلا طعام كي يعطيني إيّاه، عندما كنتُ أعيش في الأحراج... وأخيراً فأنا أيضاً قد أَصبَحَ بإمكاني أن أعطيه شيئاً ما. أتمنّى لو استطعتُ ادّخار ما يكفي لأعطيه ما يحتاجه كي يَعتق نفسه!»

 

«كم جمعتَ حتّى الآن؟» يَسأَل أندراوس.

 

«القليل. لقد كسبتُ مائة وعشرة دراهم مِن السمك. إنّما قريباً سوف أبيع الحَمَلين، وعندها... لو أستطيع أن أفعل ذلك قبل أن يصبح البرد شديداً!...»

 

«هل أنتَ مَن سيعتني به؟» نثنائيل يَسأَل بطرس.

 

«نعم. فنحن لن نفلّس فيما إذا حصل العجوز المسكين على القليل مِن طعامنا...»

 

«ومِن ثمّ... سوف يكون بمقدوره القيام ببعض الأعمال البسيطة... يمكنه المجيء إلى بيت صيدا، إلى عندنا، أليس كذلك يا فيلبّس؟»

 

«بالتأكيد... سوف نساعدكَ يا سمعان، وبذلك نجعل كلّاً مِن عزيزنا الطيّب مارغزيام والعجوز مَسرورَين...»

 

«لنأمل بألّا يكون جيوقانا هناك...» يقول يوضاس تدّاوس.

 

«أنا سأتقدّمكم وأُعلِمهم» يقول إسحاق.

 

يسيرون بسرعة في ضوء القمر... وفي موضع معيّن ينفصل إسحاق عنهم مُسرِّعاً خطواته، فيما المجموعة تتبعه ببطء أكثر. هناك صمت مطبق في السهل. حتّى عصافير العندليب تصمت.

 

يتابعون سيرهم، حتّى يَرَوا ظِلّين يركضان باتّجاههم. «أحدهما هو إسحاق بالتأكيد... الآخر... ربّما يكون ميخا، أو الوكيل. إنّ الاثنين بطول بعضهما...» يقول يوحنّا.

 

إنّهما الآن قريبان... قريبان جدّاً... إنّه الوكيل ويتبعه إسحاق الذي يبدو مضطرباً.

 

«يا معلّم... يا مارغزيام... أيّها الابن المسكين! تعاليا بسرعة... إنّ جدّكَ مريض يا مارغزيام... مريض جدّاً...»

 

«آه! يا ربّ!...» يَصرخ الشابّ بأسى.

 

«هيّا بنا، هيّا بنا... تحلّى بالشجاعة يا مارغزيام» ويمسك يسوع بيده ويبدأ بالركض إلى حدّ ما فيما يقول للرُّسُل: «يمكنكم أن تتبعونا.»

 

«نعم... إنّما لا تُحدِثوا الكثير مِن الضجّة... فجيوقانا هناك» يصيح الوكيل الذي كان قد أصبح بعيداً.

 

العجوز المسكين في منزل ميخا. حتّى الغافل يمكنه أن يُدرِك بأنّه يحتضر حقّاً. إنّه ممدّد خائراً، عيناه مغمضتان، قَسَماته مرتخية، كما هو الحال لشخص يحتضر. إنّه شديد الشحوب، باستثناء وجنتيه، حيث يظهر لون أحمر مزرقّ.

 

ينحني مارغزيام فوق السرير الصغير منادياً: «جدّي! يا جدّي! أنا مارغزيام! أتسمع؟ مارغزيام! يَعْبيص! عزيزكَ يَعْبيص!... آه يا ربّ! ما عاد يسمعني... تعال إلى هنا يا ربّ... تعال إلى هنا. هلّا تحاول... اشفه... اجعله يراني، اجعله يكلّمني... هل عليَّ أن أرى كلّ أقربائي يموتون هكذا، دونما كلمة وداع لي؟...»

 

يقترب يسوع منه، ينحني فوق المحتضر، يضع يده على رأسه قائلاً: «يا ابن أبي، اسمعني.»

 

ومثلما يستيقظ الشخص مِن نوع عميق، يأخذ العجوز نَفَساً عميقاً، إنّه يفتح عينيه الكابيتين بالأساس، ناظراً بتشتّت إلى الوجهين المنحنيين فوقه. إنّه يحاول أن يتكلّم، لكنّ لسانه خائر القوى. إنّما لا بدّ أنّه قد تعرّف عليهما الآن، لأنّه يبتسم ويحاول الإمساك بيد الاثنين كي يرفعهما إلى شفتيه.

 

«جديّ... لقد أتيتُ... لقد صلّيتُ كثيراً كي آتي!... كنتُ أريد أن أقول لكَ... بأنّه سيكون لديَّ قريباً مال كافٍ... بحيث سيكون بمقدوري أن أعطيكَ ما تحتاجه كي تعتق نفسكَ... وسوف تأتي معي، لعند سمعان وبورفيرا، الصالحَين جدّاً، الطيّبيَن جدّاً مع عزيزكَ يَعْبيص... ومع الجميع...»

 

ينجح العجوز في تحريك لسانه ويقول بصعوبة: «ليكافئهما الله... وليكافئكَ... إنّما قد فات الأوان... أنا ذاهب لعند إبراهيم... كي لا أعود أُعاني...» إنّه يستدير نحو يسوع ويَسأَل بقلق: «إنّها الحقيقة، أليس كذلك؟»

 

«نعم. كُن في سلام!» ويَنتَصِب يسوع بمهابة قائلاً: «بسلطتي كديّان ومخلّص، فإنّني أحلّكَ مِن كلّ ما ارتكبتَه مِن خطايا وإهمال خلال حياتكَ، ومِن أيّة مشاعر في قلبكَ ضدّ المحبّة وضدّ أولئك الذين كرهوكَ. إنّني أغفر لكَ كلّ شيء أيّها الابن. اذهب في سلام!» يسوع كان قد بَسَطَ يديه عالياً فوق السرير الصغير، كما لو كان أمام مذبح، وهو الكاهن الذي يكرّس الضحيّة.

 

مارغزيام يبكي، فيما العجوز يبتسم بهدوء هامساً: «بعونكَ ننام بسلام... شكراً لكَ يا ربّ...» وينهار…

 

«جدّي! جدّي! آه! إنّه يموت! إنّه يموت! لنعطه بعض العسل... إنّ لسانه جافّ... إنّه بارد... العسل سوف يدفّئه...» يصيح مارغزيام ويحاول أن يبحث في الكيس بيد، فيما يسند بيده الأخرى رأس جدّه، الذي يُصبِح أثقل.

 

يَظهَر الرُّسُل عند العتبة... ويراقبون بصمت…

 

«حسناً يا مارغزيام. أنا سوف أسند جدّكَ» يقول يسوع... ومِن ثمّ يخاطب بطرس: «سمعان، تعال إلى هنا...»

 

ويتقدّم سمعان، متأثّراً بشدّة.

 

مارغزيام يحاول أن يعطي القليل مِن العسل للعجوز. إنّه يضع إصبعاً في الوعاء الصغير ويسحبه مغموساً بعسل سائل، ومنّ ثمّ يضعه على شفتي جدّه، الذي يفتح عينيه مجدّداً، ينظر إليه، يبتسم ويقول: «إنّه طيّب.»

 

«لقد حَضَّرتُه لأجلكَ... وثوب القنّب الجديد أيضاً...»

 

يرفع العجوز يده المرتعشة ويسعى لوضعها على الرأس الأسمر الصغير قائلاً: «أنتَ طيّب... أطيب مِن العسل... وأنّ... حقيقة أنّكَ طيّب، هذا ما ينفعني... أما عسلكَ... فلم يعد يفيد... ولا حتّى الثوب المنعش... احتفظ بهما... احتفظ بهما مع بركتي...»

 

مارغزيام يخرّ على ركبتيه ويبكي فيما رأسه مستند إلى حافّة السرير الصغير وينوح: «وحيداً! سأصبح وحيداً تماماً!»

 

يذهب سمعان إلى الجانب الآخر من السرير، إنّه يداعب شعر مارغزيام، وبصوت أجشّ أكثر مِن أيّ وقت مضى بسبب الانفعال يقول: «لا... لستَ وحيداً... أنا أحبّكَ. بورفيرا أيضاً تحبّكَ... التلاميذ... كإخوة لكَ كُثُر... ومِن ثمّ... يسوع... يسوع الذي يحبّكَ... لا تبكِ يا بنيّ!»

 

«إبـ... نكَ... نعم... أنا... سعيد... يا ربّ!... يا ربّ...» العجوز يهمس بتلعثم... إنّه يشعر باقتراب النهاية.

 

يحيطه يسوع بإحدى ذراعيه، يرفعه، ويُنشِد على مهل: «رفعتُ عينيَّ إلى الجبال، مِن حيث يأتي عوني» ويتابع حتّى نهاية المزمور (120). ثمّ يتوقّف مراقباً الرجل الذي يموت بين ذراعيه وقد سَكَنَ بفعل تلك الكلمات... يبدأ بإنشاد المزمور (121)، لكنّه يُنشد القليل منه، لأنّه ما أن يبدأ بالمقطع الرابع حتّى يتوقّف قائلاً: «إذهبي بسلام، أيّتها النّفْس البارّة!» ويمدّده ثانية بهدوء مُسبِّلاً له جفنيه بيده.

 

يا له مِن موت هادئ، بحيث أنّ لا أحد، ما عدا يسوع، قد لاحَظَ الوفاة. لكنّهم يُدركون وقد رأوا حركة المعلّم، ثمّ يتهامسون.

 

يسوع يشير بالصمت. إنّه يذهب قرب مارغزيام، الذي لم يلاحظ شيئاً، حيث أنّه يبكي ورأسه فوق السرير، إنّه ينحني ويعانق الصبيّ ويُحاول أن يُنهضه قائلاً: «إنّه في سلام يا مارغزيام! لم يعد يعاني. إنّها نعمة الله الأعظم له: الموت، وبين يديّ الربّ! لا تبكِ أيّها الابن العزيز. انظر كم هو في سلام... في سلام... قلّة في إسرائيل قد حَظِيَت بالمكافأة التي حَظِي بها هذا البارّ، الموت على صدر المخلّص. تعالَ إلى هنا، بين ذراعيّ... أنتَ لستَ وحيداً. هناك الله، وهو كلّ شيء، وهو يحبّكَ حبّ العالم أجمع.»

 

المسكين مارغزيام هو حقّاً في حالة يُرثى لها، لكنّه لا يزال يجد القوّة ليقول: «شكراً يا ربّ! على مجيئكَ... ولكَ يا سمعان على اصطحابي إلى هنا... ولكم جميعكم، شكراً... على ما أعطيتموني مِن أجله... ولكنّها لم تعد تجدي نفعاً... إنّما... الثوب نعم... إنّنا فقراء... ليس بمقدورنا القيام بتحنيطه... آه! جدّي! ليس بمقدوري حتّى أن أمنحكَ قبراً!... إنّما إن كنتم تَثِقون بي، إذا ما كان باستطاعتكم... سَدِّدوا النفقات، وفي تشرين الأول (أكتوبر) سوف أعطيكم نقود الحَمَلين ونقود السمك...»

 

«مهلاً! لديَّ ما أقول: لا يزال لديكَ أب! أنا سأهتمّ بذلك، ولو كلّف ذلك بيع قارب. العجوز سيحظى بكلّ التكريم. المهمّ هو الحصول على قرض... وأن يُقدِّم أحد ما قبراً...»

 

الوكيل يقول: «في يزرعيل هناك بعض التلاميذ بين الشعب. لن يرفضوا شيئاً. سأذهب في الحال، وسوف أعود بحدود الساعة الثالثة...»

 

«حسناً، لكن... الفرّيسيّ؟»

 

«لا تقلقوا. سوف أُعلِمه بأنّ هناك رجلاً ميتاً، وبذلك هو لن يَخرُج مِن المنزل كي لا يتنجّس. سأنطلق...»

 

وفيما مارغزيام، المنحني فوق جدّه، يبكي ويلامسه، وفيما يسوع يتحدّث بصوت منخفض إلى الرُّسُل وإلى إسحاق، فإنّ ميخا والآخرين مشغولون بالتحضير للتكريم الأخير لرفيقهم المتوفّى.

 

----------

 

وهنا أُبدي ملاحظة شخصيّة. لقد حَدَثَ وكنتُ في ظروف مشابهة عدّة مرات، وغالباً ما لاحظتُ بأنّ الناس الحاضرين -سواء أكان ذلك بِنيّة طيّبة أم بتعصّب مبالغ فيه- يَزجُرون أولئك الذين يُعبّرون عن حزنهم لفقدانهم أحد الأقارب. وأودُّ أن أشير إلى لُطف يسوع، الذي يتعامل برقّة مع حزن اليتيم، ولا يحثّه على أن يتحلّى بشجاعة مصطنعة... كَم مِن الأمور يجب تعلّمها حتّى مِن تصرّفات يسوع الأقلّ بساطة!...