ج1 - ف59
أَنَا هُوَ
ماريا فالتورتا
L'EVANGELO COME MI È STATO RIVELATO
THE GOSPEL AS REVEALED TO ME
بالفرنسية: {الإنجيل كما أوحي به إليّ}
L' ÈVANGLE TEL QU’IL M’A ÈTÈ RÈVÈLÈ
MARIA VALTORTA
الترجمة إلى اللغة العربية: فيكتور مصلح.
الجزء الأول
59- (كان الألم رفيقنا الأمين، وقد اتَّخَذَ مختلف الأشكال وكلّ الأسماء)
09 / 05 / 1944
يقول يسوع:
«وهكذا أيضاً هذه المجموعة مِن الرؤى. بكلّ سكينة مع الأحبار المتشدّدين، فقد سَبَقَ وأريناكِ مَشاهِد مما سَبَقَت وعاصَرَت وتَلَت مجيئي إلى هذا العالم، ذلك ليس لأجلها هي؛ فهي معروفة بما فيه الكفاية، إنّما بشكل خاصّ لأنّ معالِمها قد تبدَّلَت بما طَرَأَ عليها مِن إضافات عبر القرون، ودائماً بسبب هذا الأسلوب البشريّ في رؤية الأمور التي، لكي يتمّ تمجيد الله بشكل أفضل، تَجعَل غير حقيقيّ ما كان أجمل لو تُرِك على حقيقته -لأجل هذا كان ذاك مغفوراً- ذلك أنّ إنسانيّتي وإنسانيّة مريم لا تكون منقوصة، وكذلك ألوهتي وعَظَمَة الآب وحبّ الثالوث الأقدس، بهذه الطريقة في رؤية الأمور على حقيقتها، إنّما على العكس، فاستحقاقات والدتي وتَواضُعي الكامل تتألّق، وكذلك صلاح الربّ الأزليّ الكلّيّ القُدرة. وإنّما أريناكِ هذه المشاهد لإمكانيّة تطبيق المعنى الفائق الطبيعة الذي يَنبَعِث منها عليكِ وعلى الآخرين، ومَنحكِ هذا كقاعدة حياة.
الوصايا العشر هي الشريعة، وإنجيلي هو العقيدة التي تجعل تلك الشريعة أكثر وضوحاً وأكثر تحبُّباً لاتِّباعها. فهذه الشريعة وهذه العقيدة كافيتان لتجعلا مِن الناس قدّيسين.
إنّكم متورّطون جدّاً بإنسانيّتكم التي تُسيِطر عليكم بشكل مُبالَغ فيه، والتي تسيطر أيضاً على روحكم بحيث لا تستطيعون اتّباع طُرُقه التي يُعيّنها لكم، وتَقَعون، أو بالأحرى تتوقّفون مُثبَطة عزائمكم. تقولون لأنفسكم وللذين يريدونكم أن ترتقوا برواية أمثال الإنجيل: "ولكنّ يسوع، ولكن مريم، إنّما يوسف (وهكذا لكلّ القدّيسين) لم يكونوا مثلنا، لقد كانوا أقوياء. لقد تعزّوا مباشرة في آلامهم، وحتّى في هذا القليل مِن الألم الذي تَحمَّلونَه لم يكونوا يُحِسّون بالأهواء، لقد كانوا آنئذ كائنات غريبة عن الأرض".
هذا القليل مِن الألم! في مأمن مِن الأهواء!
الألم، بالنسبة لنا، كان الصديق الوفيّ، ولقد اتَّخَذَ كلّ الأسماء وجميع الأشكال على اختلاف أنواعها. "الأهواء"، لا تَستَخدِموا كلمات غير مُلائِمة في تسمية الرذائل التي تُضلّلكم "بأهواء". بل سَمّوها، وبصراحة، "رذائل"، وعلاوة على ذلك، رئيسيّة.
وهذه أيضاً، لا يمكن اعتبار أنّنا كنّا نجهلها. فلقد كانت لنا عيون وآذان لنرى ونَسمَع، وكان الشيطان يجعل هذه الرذائل تَلمَع أمامنا وحولنا بإظهارها بالفعل بكلّ قذارتها، كما كان أيضاً يجرّبنا بتلميحاته. ولكن بما أنّ الإرادة كانت تَنزَع في النيّة إلى أن نكون مَرضيّين لدى الله، فهذه القذارة وهذه التلميحات، بدلاً مِن أن تُحَقِّق هدفها الذي وَضَعَه الشيطان نصب عينيه، فقد أدّت إلى التأثير العكسيّ. وكلّما كان يَجدّ في مطاردتنا، كنّا نلتجئ إلى نور الله بالنفور مِن الظلمات الموحلة التي كان يُقدّمها لعيون جسدنا وروحنا.
أمّا الأهواء، بالمعنى الفلسفيّ لها، فلم نكن نجهلها فينا. لقد كُنّا نحبّ بل نهوى وطننا، بلدتنا الصغيرة الناصرة، أكثر مِن كلّ مدن فلسطين. لقد اجتاحَتنا مشاعر الحنين إلى منزلنا وأهلنا وأصدقائنا. فلماذا لم يكن ينبغي لنا أن نَختَبرها؟ إلاّ أنّنا لم نجعل مِن أنفسنا عبيداً لها، ذلك أنّ لا شيء يمكنه أن يكون معلّماً لنا غير الله. ولكنّنا جَعَلْنا منها رفاقاً صالحين.
أُمّي صَرَخَت عندما عادت إلى الناصرة، بعد حوالي أربع سنوات، صرخة فرح وهي تَدخُل إلى بيتها، وأَخَذَت تُقَبِّل الجدران حيث "النَّعَم" التي قالتها كانت قد فَتَحَت أحشاءها لتستَقبِل بذرة الله فيها. ويوسف صافَحَ بفرح أهله وأولاد إخوته المتزايدين عدداً وحجماً؛ ولقد استمتَعَ بملاحظته مواطنيه وقد تذكّروه وقَصَدوه مباشرة لكفاءته. وأنا كنتُ حسّاساً للصداقات، فتألّمتُ مِن خيانة يهوذا وكأنّها صَلبٌ وجدانيّ. وأكثر مِن ذلك، فلا أُمّي ولا يوسف جَعَلا حبّ البيت يتقدّم على إرادة الله.
وأنا لم أُمسِك الكلمات، عندما كان يتوجّب عليَّ قولها، الكلمات القابلة لأن تَجلب لي حقد اليهود أو عداوة يهوذا. لقد كنتُ أعلَم أنّ الفضّة كانت كافية لربطه فيَّ؛ ليس فيَّ كَفَادي، إنّما كغنيّ. وأنا الذي كَثَّرَ الخبزات، قد كان بإمكاني جعل الفضّة تفيض لو أردتُ -وقد كنتُ فعلاً قادراً على ذلك- إلّا أنّني لم أكن قد جئتُ لأحقّق إشباعات بشريّة لأحد، وخاصّة للذين كنتُ قد دَعَوتُهم. كنتُ أُبَشِّر بالتضحية، بالتجرّد، بحياة العفّة وبالتواضع الأصيل. فأيّ معلّم كنتُ سأكونه، وأي عادل بارّ، لو كنتُ أعطيتُ أحداً فضّة لأتملّق طَمَعه وأحاسيسه باعتبارها الطريقة الوحيدة للتمسّك به؟
في مملكتي يُصبِح المرء "عظيماً" حينما يَجعَل نفسه "صغيراً"، والذي يريد أن يُصبِح "عظيماً" في عيون العالم، فهو غير قادر على التملّك في مملكتي؛ إنّه قشّ لفراش الشياطين. ذلك أنّ العَظَمَة الدنيويّة تُناقِض شريعة الله.
يدعو العالم "عُظماء" أولئك الذين يعرفون أن يَستَحوِذوا لأنفسهم على مراكز جيّدة بوسائل هي غالباً غير مشروعة. ولكي يَصِلوا إلى هذه المراكز يَستَخدِمون القريب سلّماً يدوسونه بأرجلهم ليرتقوا هم. يُسمّي العالم "عُظماء" أولئك الذين يَعرفون أن يَقتُلوا لكي يَملكوا، أن يَقتُلوا معنويّاً أو جسديّاً: الذين يَغتَصِبون الـمَراكِز أو يجتاحون البلاد ويَغتَنون هم أنفسهم بتجريد الآخرين مِن ثرواتهم الخاصّة أو الجماعيّة. وغالباً ما يَمنَح العالم لقب "عُظماء" لمجرمين. لا. "فالعَظَمَة" لا تنسجم مع الإجرام. إنّها تُقيم في الصَّلاح والبرّ، في الشرف وفي الحبّ والاستقامة. انظروا إلى عُظمائكم، أيّة فاكهة مسمومة يُقدِّمون لكم، إنّهم يقطفونها بالفساد الشيطانيّ مِن حديقتهم الداخليّة!
الرؤيا الأخيرة -بما أنّني أريد التحدّث عنها دون التوقّف عن الكلام في أمور أخرى لن يُجدي نفعاً عرضها على عالم لا يريد سماع الحقيقة التي تخصّه- هذه الرؤيا الأخيرة تُوَضِّح نقطة خاصّة وَرَدَت مرّتين في إنجيل متّى، جملة تكرَّرَت مرّتين: "قُم، خُذ الصبيّ وأُمّه وارحل إلى مصر" (2 / 13) "قُم، خُذ الصبيّ وأُمّه وارجع إلى أرض إسرائيل" (2 / 20) ورأيتِ أن مريم كانت وحدها في غرفتها مع الطفل.
لقد هاجَمَها كثيراً أولئك الذين، لكونهم وحلاً ونتانة، لا يتقبّلون أن يستطيع مخلوق بشريّ مثلهم أن يكون كَنَفاً ونوراً، بتوليّة مريم بعد الولادة وعفّة يوسف. لقد انحَطّوا بنفسهم الـمُفسَدَة للغاية، بنفسهم المذلولة للجسد لدرجة أنّهم أصبَحوا عاجزين عن التفكير بأنّ إنساناً يستطيع احترام امرأة بأن يرى فيها الروح لا الجسد، وأن يرتقي لدرجة الحياة في جوّ فائق الطبيعة، راغباً ليس في ما هو جسديّ، بل في ما هو إلهيّ.
إذاً، لهؤلاء المتنكِّرين للجمال الفائق، لهذه الديدان العاجزة عن أن تُصبِح فراشات، لهذه الزواحف المتمرِّغة في لعاب الشهوات، العاجزة عن إدراك جمال الزنبقة، أنا أقول إنّ مريم كانت واستمرَّت عذراء، وإنّ النَّفْس وحدها هي التي اقتَرَنَت بيوسف، كما أنّ روحها فقط هي التي اتَّحَدَت بروح الله، وبِفِعله حَبَلَت بالوحيد الذي حَمَلَت به: أنا، يسوع المسيح، الابن الوحيد لله ولمريم.
هذا ليس تقليداً أزهَرَاً فيما بعد بسبب احترام الطوباويّة التي هي أُمّي إلى حدّ العشق. إنّها حقيقة وقد عُرِفَت منذ الأزمنة الأولى.
لم يُولَد متّى في القرون التالية. بل لقد كان مُعاصِراً لمريم. ومتّى لم يكن جاهلاً مسكيناً، أو مُستَوحِشاً ساذَجاً وقابلاً لتصديق أيّة قصّة. لقد كان مُحَصِّلاً للضرائب (جابياً) كما تُسمّونه الآن، عشّاراً كما كنّا نُسمّيه آنذاك. وكان يَعرِف أن يَنظُر ويَسمَع ويُدرِك ويميّز الحقيقة مِن الباطل. فمتّى لم يَعلَم بالأمور عن طريق قيل عن قال، وإنّما عن طريق أشخاص شَمَلَتهم الأحداث. لقد استقى معلوماته مِن فم مريم حيث حُبّه للمعلّم وللحقيقة دَفَعَه ليطلب المعلومات منها شخصيّاً.
لا أظنّ هؤلاء الناكرين لحصانة مريم يُفكِّرون بأنّها استطاعت الكذب. فأهلي أنفسهم كانوا يستطيعون تكذيبها لو كان لها أبناء آخرون. فيعقوب ويوضاس وسمعان ويوسف كانوا هم أيضاً مُعاصِرين لمتّى. لقد كان مِن السهل على هذا الأخير أن يُقابِل الروايات، لو كانت وُجِدَت عدة روايات. ذلك أنّ متّى لم يقل أبداً: "قُم خُذ امرأتكَ". بل قال: "خُذ الصبيّ وأُمّه". وكان قَبلَها قد قال: "عذراء مخطوبة ليوسف" و "يوسف عروسها".
فلا يأتينّني هؤلاء الناكرون ليقولوا لي إنّها كانت طريقة كلام اليهود كما لو أنّ عِبارة "امرأة" كانت تخلّ بالشرف. لا، أيّها الـمُتنكِّرون للطهارة. مِن العبارات الأولى للكتاب المقدس نقرأ مرّات كثيرة، وفي فصول مختلفة: "...وعَرَفَ امرأته". ذلك أنّ قبل إتمام الزواج بالدخول تُسمّى "مخطوبة" (Compagne) وفيما بعد "زوجة (امرأة)" (Femme). وقد كان هكذا بالنسبة لزوجات أبناء آدم. كذلك لسارة المسمّاة "زوجة إبراهيم"، "سارة زوجتكَ" و "خُذ زوجتكَ وابنتيكَ" قيل ذلك للوط. وفي سفر راعوث كُتِب: "المؤابيّة زوجة محلون"، وفي سفر الملوك الأول: "كان لألقانة امرأتان". وأيضاً "وعَرف ألقانة حنّة زوجته". وأيضاً: "فيبارك العالي ألقانة وزوجته". وكذلك في سفر الملوك قيل: "بتشابع زوجة أوريّا الحتّي أصبَحَت زوجة داود وأنجَبَت له وَلَداً". وماذا نقرأ في سفر طوبيا، سفر اللازورد الذي ترتّله الكنيسة في أعراسكم لتنصحكم بأن تتقدّسوا في الزواج؟ نقرأ: "إذ حين وَصَلَ طوبيّا برفقة زوجته وابنه". وأيضاً: "نجح طوبيا في الهرب مع زوجته وابنه".
وفي الأناجيل، أي في زمن المسيح حيث بالنتيجة كان يُكتَب باللغة المعاصِرة، المعاصِرة لذاك الوقت، وحيث بالنتيجة لم يكن هناك مجال لاحتمال إمكانيّة الخطأ في الكتابة، فلقد قيل بالتحديد في الفصل الثاني والعشرين مِن إنجيل متّى: "...وتزوَّج الأول ومات ولم يكن له نسل فتركَ امرأته لأخيه". وفي مرقس، الفصل العاشر: "مَن طَلَّق امرأته". ولوقا يدعو أليصابات "امرأة زكريّا" أربع مرّات متتالية، وفي الفصل الثامن: "يُوَنّا امرأة خُوزي".
كما تَرَون، فهذه التسمية لم تكن لفظاً محظوراً على الذين يتّبعون طرق الربّ، أو لفظاً نَجِساً يجب عدم نطقه، وأكثر من ذلك عدم كتابته حيث يكون الموضوع يخصّ الله وأعماله البديعة. والملاك بقوله: "الطفل وأُمّه"، يُبيّن لكم أنّ مريم كانت الأُمّ الحقيقيّة ليسوع دون أن تكون امرأة يوسف. وستبقى أبداً عروسة يوسف العذراء.
هذه هي العِبرة الأخيرة مِن هذه الرؤى. إنها هالة نور تتألّق على رأس مريم ويوسف، العذراء التي لم تُمسّ والرجل العفيف البارّ، الزنبَقَتين اللتين تَرَعرَعتُ بينهما وأنا لا أَسمَع غير الكلام العَطِر والطاهر.
لكِ، يا يوحنّاي الصغير، أستطيع أن أتكلّم عن الألم الذي مَزَّق مريم الـمُنتَزَعة مِن بيتها ووطنها، ولكنّ ذلك لا يحتاج إلى كلام، تعرفين ماذا يعني ذلك. أعطيني ألمكِ، فأنا لا أريد سوى ذلك. إنّه أعظم مِن أيّ شيء تُعطينيه. اليوم يوم الجمعة، ماريا: فكّري بآلامي وآلام مريم في الجلجلة لتستطيعي حمل صليبكِ. السلام وحبّنا يَبقَيان معكِ.»